فمنهم من يشنف المسامع ويشرف الجوامع بالحكم النبوية والمواعظ العلوية، أو يتلو أولاً من كلام أئمة أهل البيت ما يقرب المستمعين إلى الله ويأخذ بأعناقهم إلى تقواه.
ومنهم من يتلو أولاً من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وتاريخ أوصيائه (عليهم السلام) ما يبعث المستمعين على مودتهم ويضطرهم إلى بذل الجهد في طاعتهم.
ومنهم مَن ينبّه الافكار أولاً إلى فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومقام أوصيائه (عليهم السلام) بما يسرده من الاحاديث الصحيحة والايات المحكمة الصريحة.
ومنهم من يتلو أولاً من الاحكام الشرعية والعقائد الدينية ما تعمّ به البلوى للمكلفين ولا مندوحة عن معرفته لاحد من العالمين.
هذه سيرتهم المستمرة أيام حياتهم، فهل ترى بجدك للعوام مدرسة تقوم مقامها في جسيم فوائدها وعظيم مقاصدها؟ لا وسرّ الحكماء الذين بعثوا شيعتهم عليها
ومنها: الارتقاء في الخطابة والعروج إلى منتهى البراعة، كما يشهد به الوجدان، ولا نحتاج فيه إلى برهان.
ومنها: العزاء عن كلّ مصيبة، والسلوة لكلّ فادحة، إذ تهون الفجائع بذكر فجائعهم، وتنسى القوارع بتلاوة قوارعهم، كما قيل في رثائهم (عليه السلام):
أنست رزيّتكم رزايانا التي | سلفت وهوّنت الرزايا الاتية |
ومنها: إن المصلحة التي استشهد الحسين ـ بأبي وأمي
وبيان ذلك: إنّ المنافقين حيث دفعوا أهل البيت عن مقامهم، وأزالوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، ظهروا للناس بمظاهر النيابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأظهروا التأييد لدينه والخدمة لشريعته، فوقع الالتباس واغترّ بهم أكثر الناس، ولمّا ملكوا من الامة أزمتها واستسلمت لهم برمتها، حرّموا ـ والناس في سِنة عن سوء مقاصدهم ـ من حلال الله ما شاؤوا، وحلّلوا من حرامه ما أرادوا، وعاثوا في الدين وحكموا في القاسطين، فسلموا أعين أولياء الله، وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوهم على جذوع النخل، ونفوهم عن عقر ديارهم، حتّى تفرقوا أيدي سبا، ولعنوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وكنّوا به عن أخيه الصادق الامين (صلى الله عليه وآله وسلم).
فلو دامت تلك الاحوال، وهم أولياء السلطة المطلقة والرئاسة الروحانية، لما أبقوا للاسلام عيناً ولا أثراً، لكن ثار الحسين (عليه السلام) فادياً دين الله عز وجل بنفسه وأحبائه
إن كان دين محمّد لم يستقم | إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني |
إذ لم يكتفوا بقتل الرجال من بنيه عطاشاً والماء تعبث فيه خنازير البرّ وكلابه، ولم يقنعوا بذبح الاطفال من أشباله أحياء وقد غارت أعينهم من شدّة العطش، ولا اكتفوا باستئصال العترة الطاهرة ونجوم الارض من شيبة الحمد.
حتى وطأوا جثثهم بسنابك الخيل، وحملوا رؤوسهم على أطراف الاسنة، وتركوا أشلاءهم الموزعة عارية بالعراء مباحة لوحوش الارض وطير السماء.
ثم أبرزوا ودائع الرسالة وحرائر الوحي مسلبات، وطافوا البلاد بهنّ سبايا، كأنّهن من كوافر البربر، حتى أدخلوهن تارة علي ابن مرجانة، وأخرى على ابن آكلة
فلم تبق بعدها وقفة من عداوتهم لله، ولا ريبة بنفاقهم في دين الاسلام.
[ما كان ليزيد أن يرتكب ما ارتكب لولا ما مهّده سلفه]
وعَلِمَ حينئذ أهلُ البحث والتنقيب من أولي الالباب أنّ هذه أمور دبرت بليل، وأنّها عن عهد السلف بها إلى خلفه، وما كانت ارتجالاً من يزيد، وما المسبب لو لم ينجح السبب.
ثم لم تزل أنوار هذه الحقيقة تتجلّى لكلّ مَن نظر نظراً فلسفياً في فجائع الطف وخطوب أهل البيت، أو بحث بحث مدقق عن أساس تلك القوارع وأسباب هاتيك الفظائع.
وقد علم أهلُ التدقيق من أولي البصائر أنّه ما كان لهذا الفاجر أن يرتكب من أهل البيت ما ارتكب، لولا ما مهّده
[لولا ما بذله الحسين لامسى الاسلام خبراً من الاخبار]
وتالله لولا ما بذله الحسين (عليه السلام) في سبيل إحياء الدين من نفسه الزكية ونفوس أحبّائه بتلك الكيفية، لامسى الاسلام خبراً من الاخبار السالفة(1)، وأضحى المسلمون
____________
(1) كما شهد به العظماء من فلاسفة الغرب، وإليك ماذكره المسيو ماربين في كتابه (السياسة الاسلامية) بعين لفظ المعرب، قال من جملة كلام طويل:
لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذلك العصر، وكيفية نجاح بني أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين، أنّ الحسين قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الاسلام، وإن لم تقع تلك الواقعة ولم تظهر تلك الحسيّات الصادقة بين المسلمين لاجل قتل الحسين، لم يكن الاسلام على ماهو عليه الان قطعاً، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه، حيث كان يومئذ حديث العهد.
عزم الحسين إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضدّ بني أمية من يوم توفي والده، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسين من المدينة، وكان يظهر مقصده العالي ويبث روح الثورة في المراكز المهمة الاسلامية كمكة والعراق وأينما حلّ، فازداد به نفرة قلوب المسلمين التي هي مقدمة الثورة من بني أمية، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسين، وكان يعلم أنّ الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموماً من حكومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الانظار إلى الحسين، عمّت جميع البلاد، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم، فعزم يزيد قبل كلّ شيء من يوم بويع على قتل الحسين.
ولقد كان هذا العزم أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية، الذي جعلهم نسياً منسياً، ولم يبق منهم أثر ولا خبر.
وأعظم الادلّة على أنّ الحسين أقدم على قتل نفسه، ولم تكن في نظره سلطنة ولا رئاسة، هو: أنّه مضافاً إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليه زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية، كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الاسباب له واقتدار يزيد لا يمكنه المقاومة والغلبة، وكان يقول من يوم توفي والده إنه يقتل، وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل، وأظهر ذلك لاصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة، حتّى يتفرق الذين التفوا حوله طمعاً بالدنيا، وطالما كان يقول: خير لي مصرع أنا ملاقيه.
ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالماً عامداً، لَجَمَعَ الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده، لا أن يفرق الذين كانوا معه.
ولكن لمّا لم يكن له قصد إلاّ القتل، مقدمة لذلك المقصد العالي وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد، رأى أنّ خير الوسائل إلى ذلك الوحدة والمظلومية، فإن أثر هكذا مصائب أشدّ وأكثر في القلوب.
من الظاهر أنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان، لو كان يطلب قوة واستعداداً لامكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشاً جراراً، ولكنه لو وضع ذلك لكان قتله في سبيل طلب السلطنة والامارة، ولم يفز بالمظلومية التي انتجت تلك الثورة العظيمة، هذا هو الذي سبب أن لا يبقي معه أحداً إلاّ الذين لا يمكن انفكاكهم عنه، كأولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتى أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة، وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة.
نعم، إن الحسين بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية، واظهار عداوتهم لبني هاشم، وسلك في ذلك كل طريق، لما كان يعلم من عداوة بني أمية له ولبني هاشم، ويعرف أنهم بعدقتله يأسرون عياله وأطفاله، وذلك يؤيد مقصده، ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين، سيما العرب، كما وقع ذلك حملهم معه وجاء بهم من المدينة.
نعم، إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الاسلام وسلوكهم مع المسلمين، سيّما ذراري نبيهم.
لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر: إني أمضي الى القتل.
ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدهم في منعه، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم: شاء الله ذلك، وجدّي أمرني به، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والاطفال؟ فقال: إن الله شاء ان يراهن سبايا، ولما كان بينهم رئيساً روحانياً لم يكن لهم بد عن السكوت.
ومما يدلّ على أنه لم يكن له غرض إلاّ ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وامارة، ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودراية، كما يصوره بعض المؤرخين من أنّه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة على سبيل التسلية: إنّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة يبعث الله رجالاً يعرفون الحق من الباطل يزورون قبورنا ويبكون على مصابنا ويأخذون بثأرنا من أعدائنا، وأولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدّي، وأنا وجدّي نحبهم، وهم يحشرون معنا يوم القيامة.
ولو تأمّل المتأمّل في كلام الحسين وحركاته، يرى أنّه لم يترك طريقاً من السياسة إلاّ سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدلّ على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره، حتى أنّه في آخر ساعات حياته عمل عملاً حيّر عقول الفلاسفة، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة الرضيع، لما كان يعلم أنّ بني أمية لا يرحمون له صغيراً، رفع طفله الصغير تعظيماً للمصيبة على يده أمام القوم، وطلب منهم أن يأتوه شربة من الماء، فلم يجيبوه إلاّ بالسهم.
ويغلب على الظن أنّ غرض الحسين من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم، وأنّها إلى أي درجة بلغت، ولا يظن أحد أنّ يزيد كان مجبوراً على تلك الاقدامات الفجيعة لاجل الدفاع عن نفسه، لانّ قتل الطفل الرضيع في ذلك الحال بتلك الكيفية ليس هو إلاّ توحش وعداوة سبعية منافية لقواعد كل دين وشريعة.
ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية في افتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم الفاسدة بين العالم، سيما المسلمين، وأنّهم يخالفون الاسلام في حركاتهم، بل يسعون بعصبية جاهليه إلى اضمحلال آل محمد وجعلهم أيدي سبا.
ونظراً لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسين، مضافاً إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان، لم يرتكب أمراً يوجب مجبورية بني أمية للدفاع، حتّى أنّه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر، لم يسع في تسخير البلاد الاسلامية وضمّها إليه، ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد، إلى ان حاصروه في واد غير ذي زرع، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية، أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية.
لم يقل الحسين يوماً سأكون ملكاً أو سلطاناً وأصبح صاحب سلطة، نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إن دام ذلك الحال، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور.
ولما حوصر في تلك الارض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجّة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله، وخرج من سلطة يزيد، ولقد كان لهذا الاظهار الدال على سلامة نفس الحسين في قلوب المسلمين غاية التأثير.
قتل قبل الحسين ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الاعداء، كما وقع مكرراً في بني إسرائيل، وقصة يحيى من أعظم الحوادث التأريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع.
إذ لو بقي المنافقون على ماكانوا عليه من الظهور للعامة بالنيابة عن رسول الله والنصح لدينه (صلى الله عليه وآله) وهم أولياء السلطة المطلقة والارادة المقدسة، لغرسوا من شجرة النفاق ما
[لولا ما تحمّله الحسين ما قامت لاهل البيت قائمة]
وأمّا ـ وشيبة الحسين المخضوبة بدمه الطاهر ـ لولا ما تحمّله سلام الله عليه في سبيل الله، ما قامت لاهل البيت (عليهم السلام) ـ وهم حجج الله ـ قائمة، ولا عرفهم ـ وهم أولو الامر ـ ممن تأخر عنهم أحد، لكنه ـ بأبي وأمي ـ فضح المنافقين، وأسقطهم من أنظار العالمين، واستلفت الابصار بمصيبته إلى سائر مصائب أهل البيت، واضطر الناس بحلول هذه القارعة إلى البحث عن أساسها، وحملهم على التنقيب عن أسبابها، والفحص عن جذرها وبذرها، واستنهض الهمم إلى حفظ مقام أهل البيت (عليهم السلام)وحرّك الحمية على الانتصار لهم، لان الطبيعة البشرية والجبلة الانسانية تنتصر للمظلومين وتنتقم بجهدها من
فاندفع المسلمون إلى موالاة أهل البيت، حتّى كأنهم قد دخلوا ـ بعد فاجعة الطف ـ في دور جديد، وظهرت الروحانية الاسلامية بأجلى مظاهرها، وسطع نور أهل البيت بعد أن كان محجوباً بسحائب ظلم الظالمين، وانتبه الناس إلى نصوص الكتاب والسنة فيهم (عليهم السلام)، فهدى الله بها من هدى لدينه، وضلّ عنها من عمى عن سبيله.
[علم الامام الحسين بما سيجري في كربلاء]
وكان الحسين ـ بأبي وأمي ـ على يقين من ترتب هذه الاثار الشريفة على قتله، وانتهاب رحله، وذبح أطفاله، وسبي عياله، بل لم يجد طريقاً لارشاد الخلق إلى الائمة بالحق واستنقاذ الدين من أئمة المنافقين ـ الذين خفي مكرهم وعلا في نفوس العامة أمرهم ـ إلاّ الاستسلام لتلك الرزايا والصبر على هاتيك البلايا.
وما قصد كربلاء إلاّ لتحمل ذلك البلاء عهد معهود عن
ويرشدك الى ذلك ـ مضافاً إلى أخبارنا المتواترة من طريق العترة الطاهرة ـ دلائل أقواله وقرائن أفعاله، فانها نصّ فيما قلناه.
وحسبك منها جوابه لاُم سلمة، إذ قالت له ـ كما في البحار وجلاء العيون وغيرهما ـ: يا بني، لا تحزن بخروجك إلى العراق، فاني سمعت جدّك (صلى الله عليه وآله) يقول: «يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلاء»، فقال لها: «يا أُماه، وأنا والله أعلم ذلك، وإنّي مقتول لا محالة، وليس لي منه بدّ... وقد شاء الله عز وجلّ أن يراني مقتولاً... ويرى حرمي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين...»(1).
وجوابه لاخيه عمر، إذ قال له حين امتنع من البيعة ليزيد: حدثني أخوك أبو محمد عن أبيه، ثم بكى حتى
____________
(1) بحار الانوار 44 / 331.
والرؤيا التي رآها في مسجد جدّه (صلى الله عليه وآله)، حين ذهب ليودعه، وقول النبي له فيها ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ: «بأبي أنت، كأني أراك مرمّلاً بدمك بين عصابة من هذه الامة يرجون شفاعتي مالهم عند الله من)خلاق»(2).
____________
(1) الملهوف: 99 ـ 100، وتكملة الحديث: «وإنّه لا أعطي الدنية من نفسي أبداً، ولتلقين فاطمة أباها شاكية مالقيت ذرّيتها من أمّته، ولا يدخل الجنة أحدٌ آذاها في ذرّيتها».
(2) أمالي الصدوق: 150 المجلس 30.
وراجع: البحار 44 / 313.
وخطبته ليلة خروجه من مكة،وقوله فيها ـ كما في الملهوف وغيره ـ: «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء...» إلى أن قال: «ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته موطئاً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»(2).
وقوله ـ كما في الملهوف وغيره ـ: «لولا تقارب الاشياء وهبوط الاجل، لقاتلتهم بهؤلاء، ولكني أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلا ولدي علي»(3).
____________
(1) الملهوف: 129.
(2) الملهوف: 126 ـ 127.
(3) الملهوف: 126.
وجوابه لابن عباس وابن الزبير إذ أشارا عليه بالامساك، فقال لهما ـ كما في الملهوف وغيره ـ: «إنّ رسول الله قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه»، فخرج ابن عباس وهو يقول: واحسيناه(2).
وجوابه لعبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد إذ حاولا منه الرجوع، فأبى وقال لهما ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن
____________
(1) الملهوف: 128.
(2) الملهوف: 101.
وقوله في كلام له مع ابن الزبير ـ كما في تاريخي ابن جرير وابن الاثير وغيرهما ـ: «وأيم الله، لو كنتُ في حجر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، ووالله ليعتُدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت»(2).
وقوله في مقام آخر ـ كما في كامل ابن الاثير وغيره ـ: «والله لا يَدَعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فاذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذلّ من فَرْم المرأة»(3)، يعني: من خرقة الحيض.
وقوله لابي هرة ـ كما في تاريخ ابن جرير وغيره ـ: «وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية».
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 388، الكامل في التاريخ 4 / 40 ـ 41.
(2) تاريخ الطبري 5 / 385، الكامل في التاريخ 4 / 38.
(3) الكامل في التاريخ 5 / 39، وراجع: تاريخ الطبري 5 / 394.
وقوله لما أُخبر بقتل قيس بن مسهر الصيداوي ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً)(2)»(3).
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 407 ـ 408.
(2) الاحزاب: 23.
(3) تاريخ الطبري 5 / 405.
إذ لم ير السبط للدين الحنيف شفا | إلاّ إذا دمه في نصره سفكا |
وما سمعنا عليلاً لا علاج له | إلاّ بنفس مداويه إذ هلكا |
بقتله فاح للاسلام طيب هدى | فكلّما ذكرته المسلمون ذكا |
وصان ستر الهدى عن كلّ خائنة | ستر الفواطم يوم الطف إذ هتكا |
نفسي الفداء لفاد شرع والده | بنفسه وبأهليه وماملكا |
قد آثر الدين أن يحيى فقحمها | حيث استقام القنا الخطي)واشتبكا(1) |
فقال له أخوه محمد بن الحنفية ـ كما في الملهوف وغيره ـ: يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فان رأيت أن تقيم فانك أعزّ مَن في الحرم
____________
(1) هذه الابيات من قصيدة للشريف الفاضل السيد جعفر الحلي، يرثي بها جدّه (عليه السلام) «المؤلّف».
وأتاه ابن عباس فقال: يا ابن عم قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: «إنّي قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى»، فقال له ابن عباس ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ: فانّي أُعيذك بالله من ذلك، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟! فان كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعمّاله تجبي بلادهم، فانهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك، فردّه الحسين (عليه السلام) ردّ رحمة وحنان فقال له:
____________
(1) الملهوف: 127 ـ 128.
فخرج ابن عباس ثم جاءه مرة أخرى فقال له ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ: يا ابن عم إنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غُدُر فلا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز، فان كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثم أقدم عليهم، فان أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن، فان بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض طويلة عريضة، ولابيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك، فاني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية، فقال له الحسين (عليه السلام): «يا ابن عم، إني والله لاعلم أنّك ناصح مشفق، ولكن قد أزمعت وأجمعت على المسير»(2).
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 383، الكامل في التاريخ 4 / 37.
(2) تاريخ الطبري 5 / 383 ـ 384، الكامل في التاريخ 4 / 38 ـ 39.
وكتب إليه عبد الله بن جعفر بعد خروجه من مكة ـ كما في تاريخي الطبري وابن الاثير وغيرهما ـ: أما بعد، فاني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا، فاني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، وإن هلكت اليوم طفىء نور الارض، فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فاني في أثر كتابي، والسلام.
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 382، الكامل في التاريخ 4 / 37.
وقال له عبد الله بن مطيع إذ إجتمع به في الطريق على بعض مياه العرب ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ: أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمةَ الاسلام أن تنهتك، أُنشدك الله في حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنشدك الله في حرمة العرب، فو الله لئن طلبت مافي أيدي بني أمية ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرَّض لبني أمية، قال: فأبى إلاّ أن
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 388، الكامل في التاريخ 4 / 40.
ولقيه أحد بني عكرمة ببطن العقبة ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له: أُنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلاّ على الاسنة وحدّ السيوف، فانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الاشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فانّي لا أرى لك أن تفعل، قال: فقال له: «يا عبد الله، إنه ليس يخفى عليّ، الرأيُ ما رأيتَ، ولكن الله لا يُغْلَب على أمره»(2).
ولقيه بعض بني تميم قريباً من القادسية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له: إرجع، فإني لم أدع لك خيراً أرجوه.
وكان قد لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر في الصفاح ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ فقال له: قلوب الناس معك
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 395.
(2) تاريخ الطبري 5 / 399.
وما التقى في الطريق بأحد إلاّ التمسه على الرجوع، إشفاقاً عليه من لؤم بني أمية وغدر أهل العراق، وما كان ليخفى عليه ماظهر لاغلب الناس، لكنه وهؤلاء كما قيل: أنت بواد والعذول بوادي.
ما نزل بأبي وأمي منزلاً ولا ارتحل منه ـ كما في الارشاد وغيره ـ إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله.
وقال يوماً: «من هوان الدنيا على الله إن رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل».
فهل تراه أراد بهذا غير الاشارة إلى أن سبيله في هذا الوجه إنما هو سبيل يحيى (عليه السلام)؟!
وأخبره الاسديان وهو نازل في الثعلبية ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ بقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وأنّهما يجران بأرجلهما في الاسواق بلا نكير(2).
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 386.
(2) تاريخ الطبري 5 / 397.
وقد كتب وهو نازل بزبالة كتاباً قرىء بأمره على الناس وفيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فانه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بُقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذِمام».
قال محمد بن جرير الطبري في تاريخ الاُمم والملوك: فتفرق الناس عنه تفرقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة.
قال: وإنّما فعل ذلك، لانه ظنّ إنما اتبعه الاعراب، لانهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون.
قال: وقد علم أنهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ من يريد
وذكر أهل الاخبار: إن الطرماح بن عدي لما اجتمع به في عذيب الهجانات دنا منه فقال له ـ كما في تاريخ الطبري وغيره ـ: والله إنّي لانظر فما أرى معك أحداً، ولو لم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك ـ يعني: الحر وأصحابه ـ لكان كفى بهم، وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس مالم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه، فسألت عنهم؟ فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحوا إلى حرب الحسين، فأُنشدك الله إن قدرتَ على أن لا تقدم عليهم شبراً إلاّ فعلت، فان أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أُنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الاسود والاحمر، والله ما دخل
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 398 ـ 399.
وأنت تعلم أنه لو كان له رغبة في غلبة أو ميل إلى سلطان لكان لكلام الطرماح وقع في نفسه (عليه السلام)، ولظهر منه الميل إلى ما عرضه عليه، لكنه ـ بأبي وأمي ـ أبى إلاّ الفوز بالشهادة، والموت في إحياء دين الاسلام.
وقد صرّح بذلك فيما تمثل به، إذ قال له الحر: أذكرك الله في نفسك فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال (عليه السلام) ـ كما
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 406، وتكملة الحديث: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علامَ تنصرف بنا وبهم الامور في عاقبه».
سأمضي وما بالموت عار على الفتى | إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً |
وآسى الرجال الصالحين بنفسه | وفارق مثبوراً يغُشّ ويُرغما(1) |
إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بقتله في شاطىء الفرات بموضع يقال له كربلاء.
وبكائه عليه.
ونداء أمير المؤمنين (عليه السلام) لما حاذى نينوى وهو منصرف الى صفين: «صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله بشاطىء الفرات».
وقوله إذ مرّ بكربلاء: «هاهنا مناخ ركابهم، وهاهنا
____________
(1) تاريخ الطبري 5 / 404.
وقول الحسين (عليه السلام) لاخيه عمر: «حدثني أبي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بقتله وقتلي، وأنّ تربتي تكون بقرب تربته».
وقول الحسن للحسين (عليهما السلام) ـ كما في أمالي الصدوق وغيره ـ من جملة كلام كان بينهما: «ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها يحل الله ببني أمية اللعنة».
إلى غير ذلك من الاخبار الدالة على أن قتل الحسين (عليه السلام) كان معروفاً عند أهل البيت منذ أخبر الله به نبيه (صلى الله عليه وآله)، بل صريح أخبارنا أن ذلك مما أوحي إلى الانبياء السابقين(1)، وقد سمعت ما أشرنا إليه من بكائهم (عليهم السلام).
ويظهر من بعض الاخبار أن قتل الحسين كان معروفاً
____________
(1) راجع: بحار الانوار 44 / 223 ـ 249 الباب 30.
وحسبك ما نقله ابن الاثير، حيث ذكر مقتل عمر بن سعد في كامله، عن عبد الله بن شريك، قال: أدرك أصحاب الاردية المعلمة وأصحاب البرانس السود من أصحاب السواري، إذ مرّ بهم عمر بن سعد، قالوا: هذا قاتل الحسين، وذلك قبل أن يقتله.
قال: وقال ابن سيرين: قال علي لعمر بن سعد: «كيف أنت إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار»(1).
أترى الحسين (عليه السلام) كان جاهلاً بما عليه أصحاب السواري؟ كلاّ والله ما علم أصحاب البرانس السود ذلك إلاّ منه، أو من أخيه، أو من جدّه، أو من أبيه.
وقد أطلنا الكلام في هذا المقام، إذ لم نجد من وفاه حقه وخرج من عهدة التكليف بايضاحه، والحمد لله على التوفيق لتحرير هذه المسألة، وتقرير شواهدها وأدلّتها، على وجه تركن النفس إليه، ولا يجد المنصف بدّاً من البناء عليه، بل لا أظن أحداً يقف على ما تلوناه ثم يرتاب فيما قررناه.
|
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
____________
(1) الكامل في التاريخ 4 / 242.