وإذا كان في علماء النفس من قال: "إن الدين غريزة في الإنسان"، فإنّ هذا القول لم يفارق الحقيقة، لا لأنّه صدر عن عارفين بواقعها، وإنّما لأنّ الجاذب للنظر أنّ الأطوار التي مرّت بها البشرية منذ القدم، وما تركته حضارات الأُمم السابقة، يقطع الطريق على أُولئك الذين يقولون باختراع الدين الناتج عن حاجة الإنسان الظاهرية إلى قوّة يرهبها.
ومن المتيقن أنّ مثل هذه الحاجة ليست ظاهرية، بل هي ـ إنما وجدت ـ للتعبير عن التعلق الكامل، وليس عن التعلّق الناقص، وهنا ينبغي لنا أن نعترف بأنّ هذا الدافع نحو التعلق بأيّ شيء هو ناتج عن حاجة، لأنه لو لم تكن هنالك حاجة لانتفى وجود التعلق، والأمر بهذا اللحاظ غير منقطع إلى حاجة دون سواها، بل هو مسار تتابعي.
فإن ذهبت الرغبة نحو طعام مثلاً فإن مجرد الحصول عليه وتناوله يكفي لقضاء هذه الحاجة، وبالتالي لا تكون هدفاً سامياً يتوجه إليه الإنسان بالكلّية، وهكذا سائر الحاجات مما يمكن تلبيتها، أو تحصيلها أو القبض عليها، من قبيل المال والسلطان واللذائذ جميعها، فإن إمكان الحصول عليها لا يجعلها هدفاً نبيلاً يستحق أن يسقط الشهداء من أجله مثلاً مع الاحتفاظ بما يبذله
ولا يمكن بلوغ مثل هذا الشعور إلاّ عبر التجرّد، لأن شعوراً ينبع من حاجة تلح دائماً ولا تشبعها اللذائذ المادية، هو ميل في الواقع نحو مطلق لا تقيده قيود، ولا يكتفى منه، ولا يستغنى عنه، وهو بعدئذ ليس اختراعاً يصوب نحوه سهم الخطأ أو الصواب، إنما هو الذي يضع ـ بعد التجرد ـ اللبنة الأُولى في مقام المعرفة، وهو المقام الذي يشير إليه الإمام علي(عليه السلام) عند قوله في معرفة الله تعالى: "أوّل الدّين معرفته"(2).
وعلينا أن نقف عند هذه الجملة هنا لأهميتها، فهي تشير بوضوح إلى أنّ المعرفة بذاتها على درجات، ولسنا هنا بهذا الصدد، وإنّما نلفت إلى أمر آخر، وهو أنّ الإمام علي(عليه السلام)، عندما قال: "أوّل الدين"، لم يقصد به فقط الدين الإسلامي الحنيف، وإن كان هذا الأمر مقصوداً بلا شك، لكننا نستفيد هنا من إطلاقه لكلمة الدين أنّه يشير إلى ذاك الجانب من ذات الإنسان الذي يبعث له تلك الحاجة،
____________
1ـ انظر: سر الصلاة أو صلاة العارفين، الإمام الخميني، تعريب أحمد الفهري مؤسسة الإعلام الإسلامي، المقدمة.
2ـ أنظر: نهج البلاغة: الخطبة 1.
وهذا ما قلناه عن (غريزة التدين عند الإنسان)، وهذه المرتبة الابتدائية التي يحققها المرء بعد التجرّد الأوّلي، ثم تليها المراتب التي يشير إليها(عليه السلام) تتابعياً: "وكمال معرفته التصديق به"(1)، وهي المسيرة التي يقطعها الباحث متدرجاً في إزاحة العوائق والحجب.
وإذا أردنا أن نلاحظ عن كثب الكيفية التي يتناول فيها هذه المراتب، سنجده يوصل مراحل التطور البشري بعضها بالبعض الآخر، وقبل أن نقف على هذه الحقائق التي سوف نفرد لها مكاناً من هذا الكتاب، نود أن ننجز ما نمهّد به نظرياً لذلك.
والذي يبتدئ من هنا، هو بلوغ منطق الميل الذي يحفز قلب الإنسان نحو هذه المعارف، ونحن أشرنا إلى أنّ الإنسان هنا غير مرتهن بعرق أو قومية أو دين، إنّما نقصد العنصر البشري الذي يستحكم فيه أمران: أحدهما غريزي، تسير معه آلته الجسدية إلى منتهياتها، والثاني عقلي، ينطلق نحو المعارف والتأملات التي يحدث منها جملة منافعه وسواها في مسيرته الحياتية.
ولمّا كان التدين بالمعنى العام، اعتقاداً يستلزم الفكر المجرد مثلما يستلزم التعلق العاطفي الذي يؤدي دوراً من أدوار إشباع الغرائز، كان بذلك متناغماً مع الإنسان، بما تشتمل عليه الضرورات
____________
1ـ المصدر نفسه.
منشأ وجذر الميول
في المساحات التي يشغلها البشر فوق الأرض، وفي الأماكن القابلة للحياة منذ القدم، ثمة ما ينضح بالعلاقة الناجزة بيننا وبين مجهول محبّب، لا ينفر منه القلب، ولا تخاله المشاعر.
ويرى "وليم جيمس" أنه: "مهما كانت دوافعنا وميولنا نابعة من هذا العالم، فإنّ أغلب ميولنا وآمالنا تنبع من عالم ما وراء الطبيعة"(1)، أي من مكان آخر غير مرئي لكنه قائم على اتصال ما بهذا العالم، وهذا الاتصال وإن بدا وكأنه مجهولا لا يخامر الحواس الخارجية، لكن العلم يعوّل عليه كثيراً عند الذهاب نحو التحقق من نوازع الإنسان، لكن إذا صح قول "جيمس" كان الذي يترتب عليها بلا شك هو البحث عن الوسيلة التي يستقبل عبرها الإنسان هذه الميول من عوالم أُخرى، ليس فقط الميول وإنما الآمال أيضاً.
ويرى "كانت" في تبرير هذا الأمر عند إحالته إلى إدراك الوجود ووعيه، أنّ ثمة ارتباط ضروري غير طارئ، محايث للوجود زماناً
____________
1ـ الدين والنفس، ضمن الإنسان والإيمان، مرتضى المطهري، منظمة الإعلام الإسلامي، ط2، ص43.
ولا شك أيضاً أنّ هذا الإدراك موصل إلى حقيقة، ولهذه الحقيقة عمق في النفس "الذات البشرية" بين الفينة والأخرى تتصدع الحجب دونها، فتظهر غير عابئة بالطريق، ويلهج بها اللسان، أو يعبر عنها القلم، ولهذا الارتباط الكوني امتداد كما لهذا الامتداد رموز وإشارات، تعوز الإنسان كي يلتقطها من ناحية الكيفية والحالة، بحيث يصبح بمستطاعه التعرف على الطرائق التي يتلقى عبرها ذاك الشعور بالميل والدافع من منبعه الأصلي.
ودعونا قبل أن تنحرف الفكرة عن محجتها، أن نؤكد أنّ الميل الذي تعنى به هذه الأسطر، هو ذاك البعد من الفطرة، والتي تشير إليها كلمات الإمام عليّ(عليه السلام)عند مواصلة إفصاحه عن طبيعة الكون والخلق، ولعلّنا نجد في كلماته هنا المنهل الأكثر عذوبة في دراسة الأحوال النفسية التي تتراكم فوقها الحاجات فتحيد بالمرء عن بلوغ قصاراه، ونقرأ هنا هذا الشاهد.
يقول(عليه السلام): "واصطفى سبحانه من ولده ـ أي آدم ـ أنبياء أخذ على
____________
1ـ نقد العقل العملي، عمانؤيل كانت، أحمد شيباني، دار اليقظة العربية ـ بيروت 966، ص62.
لكن الواقع أن تسمية هذا الأمر هي محل العناية، فبأي طرائق المعرفة يصل إدراك وجوده، لعله بطريق الاستماع إلى الإيقاع الكوني الذي يهدد داخله ولا يفصح له عن لغة يصور بها الحالة التي هو عليها، لكن الكلام الآتي للإمام عليّ(عليه السلام)يمكننا من التقاط خيط هذه المعرفة.
يقول(عليه السلام): "فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه (ليستأدوهم ميثاق فطرته)، ويذكروهم منسيّ نعمته"(3)، إن ما بين القوسين هنا يشير إلى أن الأنموذج البشري جميعاً وهو الذي يمتلك خاصيات مشتركة تؤهله لأن يبلغ مراتب المعرفة، ويزيح عن ذاته براقع النسيان، ومن المعروف في علم النفس أنّ ثمّة مصطلح يستخدم للتدليل على أنّ الناس يتوارثون الذكريات، إضافة إلى عناصر الميراث الأُخرى فيما يطلق عليه اسم (الذاكرة السلالية)، وعند الرجوع إلى مراحل نمو البشر الحضارية، فإن الآثار تشير إلى أن
____________
1ـ اخذ عليهم الميثاق أن يبلغوا ما اوحي اليهم، ويكون ما بعده بمنزلة التأكيد له وأخذ عليهم أن لا يشرعوا للناس إلاّ ما يوحي إليهم وهو المقصود. بميثاق الفطرة.
2ـ انظر: نهج البلاغة: الخطبة 1.
3ـ المصدر نفسه.
وقد سبق وأشرنا إلى مقولة الإمام عليّ(عليه السلام) في أولية الدين، وهو يشير إلى كل أولية دينية، أي معرفة الله، وقلنا: أن هذا الكلام ينسحب على أي دين أو عقيدة، ترتكز في فكرتها على "الله"، وهذا متوفر في الأثر البشري، مثلما يدلّل عليه كلامه(عليه السلام).
ويدلّل عليه بالدرجة الأولى قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)(1) والذي يفهم منها أن العهد الأوّل للإنسان، هو عهد الفطرة التي لا اختلاف بين البشر حولها، ومع تقادم الأزمنة وتباعد الأيام، اختلف الناس تدريجياً إلى أن بلغوا من الاختلاف مبلغاً احتاجوا معه إلى تدخل العون الإلهي فزوّد الله رسله بالكتاب الذي يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، لكن الاختلاف بعد قيامه، أصبح يلبس لباس الاستمرار، وصار الإنسان أو قسم من بني الإنسان إلى النسيان، وإلى ما يحجب بينه وبين ميثاقه، بينه وبين فطرة الله التي فُطر عليها. وقسم آخر استجاب لداعي الرحمة، فمنّ الله عليه بالثبات على عهده بحسب ما
____________
1ـ البقرة: 213.
ويمكن التقاط بعض مميزاته في الإبداع أكثر من المجالات الأُخرى، كالفن والشعر مثلاً وأصناف أُخرى من الأدب، وهنا نجد كلاماً لـ "اليوت" الشاعر والناقد الأميركي، يقول: "لا شاعر ولا فنان يملك معناه الكامل لوحده... أن الذي يجري عند إبداع عمل فني جديد، هو شي ما يحدث بشكل متزامن لكلّ أعمال الفن التي سبقته"(2).
____________
1ـ انظر نهج البلاغة: الخطبة 1.
2ـ مقالات منتخبة، ت، س اليوت. ط لندن ص289 (النسخة الإنجليزية).
____________
1ـ للتوسع في هذا المجال، يرجى الرجوع إلى كتابنا، جدلية النفس والشعر عند العرب، ط دار يعقوب دمشق 2000، عدة أماكن، وبالخصوص ينظر بحث تحت عنوان في النفس (الروح) والشعر.
فإذا كان الإبداع يجسد هذه الحركة المترامية الأطراف بين أزمنة الناس، وهي تملك هذه القدرة على تمثيل هذه الحالة، فإن أكثر ما يقربها من الحقيقة انتماؤها إلى ما يمكن أن نطلق عليه البعد الفطري في الإنسان.
قوة الفطرة في معرفة الإمام
إنّ هذه القوّة الموجودة في الأعماق والتي يشترك فيها أفراد هذا الجنس، هي قوة ذات بعد فطري، ولعل هذا البعد هو الذي يعوِّل عليه عندما يشتد البحث عن الهدف الذي تبحث عنه أو تنزع نحوه الميول والحاجات الدفينة في أعماق الناس.
وانّنا سوف نثير هنا في نفسية القارئ الكريم رغبة أو شهوة معرفة ما تؤول إليه حقيقته، أياً كان الدين الذي يعتنقه، أو المذهب أو التيار، لأن الواقع الذي تجري وراءه هذه الفكرة، هو مجال الإنسانية
____________
1ـ مقدمة سوريال، أورخان ميسر، ضمن نظرية الشعر، محمد كامل الخطيب ط1، وزارة الثقافة 1997، مرحلة شعر ق2 ص701.
ونحن سوف نعتمد على هذه القوة في السؤال عن (ما هو الإمام).
وبداية نقول أن هذه القوة مزوّدة بالقدرة على المعرفة التي تجتاز ظواهر الأشياء والنفاذ إلى ماهيتها، فيما لو تشكلت غير آبهة بالشوائب، وبمعنى آخر: فيما لو أمكن إزاحة ما يعلق فيها من تراكمات تسدل عليها طبقات من الحجب، بحيث يصعب معها تحديد الغاية الحقيقية التي تهفو إليها.
وهذا البعد في الجوهر يساوي العقل الذي يصل من خلال الخبرات إلى تلك المقدرة على الحكم، والفصل بين ما هو نافع وما هو ضار في الحقيقة، فبوسع العقل وحده في بعض الأحيان أن يتخطّى حدود التجربة، فينفذ إلى جواهر الأشياء ويقف عليها كما هي موجودة في الحقيقة بصورة مستقلة عنا، فإن مهمة العقل الوصول بالمعرفة إلى الوحدة المطلقة النهائية(1).
لكن أليس العقل هو ميزة الإنسان! أليس جميع الأسوياء يمتلكون هذه القوة! إذن فما هو الفارق بين الناس في بلوغ هذه المعرفة، وفيما يختلف الكل، كل من وجهته؟
وإذا كان عند "هيغل" يقف العقل على الوحدة الداخلية العميقة للجوانب المتضادة، ويتيح بذلك إمكانية معرفة الموضوعات في
____________
1ـ المعجم الفلسفي، م. س. ص92.
لم تحن الإجابة عن هذا السؤال بعد، لكن نود أن نشير إلى أنّ الخطاب الإلهي في كل الأحوال، يتّجه نحو الجوهر الإنساني السليم، أو الأكثر سلامة، ذاك الذي يعي ويدرك ويمتلك خاصة سبر ومعرفة أغوار الأشياء، ويمكن أن نجمله هنا بمصطلح (النفس) الذي يرسل إليها الخطاب القرآني، ومجمل أنواع المخاطبات الإنسانية، أي تلك القوة العاقلة التي تتمتع بالفهم والفكر والمشاعر، وهذه القوة لا مجال لمعرفتها أو التعرف عليها عبر الأدوات التي تختبر بها القوانين والأنظمة، كالكيمياء والطاقة والتشريح وما إلى ذلك، لا لأنّها ليست حقيقة ملموسة، بل على العكس يمكن أن تكون هي الحقيقة الأشد نصاعة بين جملة أشياء هذا الكون، لقدرتها على التأمل والخلق وترتيب المقدمات التي توصل إلى نتائج.
يقول عالم الأحياء "أدلوف بورتمان": "ما من كمية من البحث على النسق الفيزيائي أو الكيميائي، يمكنها أن تقدم لنا صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية"(2).
ومن خلال ما تقدم تبين لنا، أن هذا الجوهر الإنساني لا يخضع في حركته الفكرية لأية سلطة، أو لا توجد هنالك من سلطة تمنعه من
____________
1ـ نفس المصدر: 92.
2ـ العلم من منظوره الجديد، روبرت اغروس، جورج ستانسيو، ت: كمال خلايلي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 134، ص42 ـ 43.
هذا ما يؤكده عمل الإنسان المبكر على إنشاء علائق تقوم ما بينه وبين الموجودات الشاخصة أمامه، بل تحرك الإنسان أعمق من ذلك وذهب نحو الماهيات وجرّد الأشياء من الأطراف الزوائد التي تلحق بها ليصل إلى اللب، أو ليبحث عن الخالد، ولا يعبأ كثيراً بالآيل إلى الزوال.
والذي يدفع الإنسان نحو هذا المنهج، هو شغف أزلي يسوقه نحو معرفة بدايته ونهايته، ويُجري أعماله على خلق ظروف ومناخات تلائم المراحل التي يقطعها ما بين هذه البداية التي يحياها، وتلك النهاية التي ينحصر ختام تجربته فوق التراب بها، بجميع ما يشوبها من الغموض، وما ينتظره فيها من المجهول.
وبمناسبة هذا المجهول، فإننا نعطف هنا على أن التعلق والحنين والبحث عن المجهول بالنسبة للنوع الإنساني، هو أمر له علاقة ذات حدّين:
الحدّ الأوّل: هو الذي يخضع للتساؤلات عن المنشأ والولادة والبداية.
الحدّ الثاني: هو الذي تجري عليه جميع اختبارات عمره في طريق بلوغه النهاية التي حتمت عليه، وهو يعرفها لكنّه يغض الطرف
والوازع والهاتف الداخلي الذي يحفز الإنسان على المعرفة يرتبط بشكل وثيق بالحدّ الثاني، حدّ معرفة مجهول النهاية، وذلك لما يتعلق به في مسيرته الحياتية من آمال تجعله لا يرغب بانقضائها، مع علمه يقيناً بهذا الانقضاء، ولهذا اوصى أمير المؤمنين(عليه السلام) برفض هذه الدنيا، قائلا: "وإن لم تحبوا تركها، والمبلية لأجسامكم، وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأمّوا عَلَماً فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها، وما عسى أن يكون بقاء من له يومٌ لا يعدوه، وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها"(1).
نتيجة
الواقع أنّ ثمة اتصال يربط ما بين هذه الحياة الخارجية، وبين حياة أخرى يُسعى لا محالة لبلوغها، وهي حياة أزلية محكوم بها الإنسان، ومحتاج للتعرف عليها واكتشافها، لكنّه يعترف دائماً أنه بمفرده لا يتمكن ـ مع ما يمتلكه من شعور عميق ـ من الوصول إليها، وكذلك يندفع به هذا الشعور نحوها، غير أن هذا الشعور يتدخل في
____________
1ـ انظر: نهج البلاغة: الخطبة 98.
لكن الفرد قد يتمكن من الوصول إلى المواءمة بين ما يتلقاه من العالم الخارجي، وبين ما يتدفق من أعماقه، وهو هنا عند هذه المرحلة من التمكن سوف يستطيع يقيناً أن يلتقط إشارات دقيقة التأثير، تصل به إلى معرفة مرضية بالمعنى الحقيقي لوجوده والغاية من هذا الوجود، وبذات المنطقة من المعرفة هذه سوف ينجذب باتجاه ملاذه الذي يدرك بالفطرة المصفاة أنه هو القادر على حمايته من أي سقوط، مثلما يحميه من مغبة الغفلة عن هذا الذي بلغه من المعرفة، وهذا الانجذاب مسربل بعناية إلهية، وهي في هذه الهنيهة بالذات معنية بهدايته، وإنما تكون هذه الهداية في النتيجة هي انكشافه على إمامه الذي يحمي كليته في هذه الحياة.
هذا ما يمكن أن نسميه الوصول الفطري إلى معرفة الإمام!
وهنالك منحىً آخر يمكن تناوله هنا، ونحن نؤسس للتعرّف على الإمام في الماهية والمفهوم بمعناه الإنساني الكلي، أي فوق الفئوي أو القومي والعرقي، وسنجد بعدئذ بحول الله الموقع الذي يشغله علي بن أبي طالب(عليه السلام) من هذه الدنيا برمتها، والمنحى الآخر هو:
تلقي معرفة الإمام
بعد أن تجوّلنا في أرجاء المعرفة النابعة من الفطرة المتجسمة
لهذا نجد أنّ القرآن الكريم لا يلمح بإشارات عابرة إلى مثل هذه الظاهرة، وإنّما يتحدث عن معتقدات اختلقها الناس اختلاقاً ما أنزل الله بها من سلطان، ثم راحت الأجيال تتوارثها كابراً عن كابر، سواء كانت من ذلك الذي يتوافق مع أهوائهم أم تلك التي تخالفها.
وفي نظر الإسلام بملاحظة الموقف القرآني من هذا المشهد، فإنه يشكل أكبر العوائق التي تقطع الطريق على الصفاء الذي يقود نحو منازل رفيعة يطلبها، بل يرجوها الأنبياء للناس، ومثالاً لنا على ذلك: قوله تعالى (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)(1)، وهو على لسان أولئك الذين صنع لهم آباؤهم من خلال مواءماتهم مع متطلبات ورغائب تلزمهم في سير أو منحى معين، صنعوا لهم قيماً
____________
1ـ المائدة: 104.
ويجدر بي هنا أن أورد هذا المقتبس الذي يشير بوضوح إلى أنّ هذه الآية ومجمل الخطاب القرآني إلى بشر لم يستمعوا يقيناً إلى داعي الرحمة الإلهية، واستأثروا بتراث آبائهم وأجدادهم، دون عناء الفحص عن علم والتدقيق عن معرفة، يلفتون النظر إلى أنه ليس كل ما يكسبه المرء من تعاليم هي بالضرورة مقدسة، بخاصة تلك التي تصبح مع التقادم نظاماً، أو قانوناً، أو قيمة من القيم الاجتماعية.
والمقتبس من خطبة لأحد زعماء الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وهو يعبر بشدّة ووضوح عن فقدان العدد الأوفر من الهنود الحمر، نتيجة لاعتقادهم بأشياء يصعب الثبات عليها، عندما تقتضي الضرورة الحفاظ على الإنسان، حتى وإن كانت تلك الأشياء مقدّسة لا يجب المساس بها، نستمع هنا إلى كلمات زعيم "دواميش chief seattie" والتي قالها أمام ممثل الحكومة الأمريكية سنة 1858.
"يخبرنا الزعيم الأبيض أن (الزعيم الكبير)(1) في واشنطن يهدينا تحيات الصداقة والمشاعر الطيبة، وذلك لطف منه، فنحن من جهتنا
____________
1ـ رئيس الولايات المتّحدة الأمريكية.
لن أسهب في الحديث عن اندثارنا قبل الآوان، ولن اندب، أخوتنا شاحبي الوجوه(1) بتعجيلهم في حدوثه، فالملامة تطاولنا جميعاً (أرجو من القارئ الكريم الانتباه هنا!) ربكم ليس ربنا، ربكم يؤثر قومه ويبغض قومي، إنّه يلف الوجه الشاحب بذراعيه الصلبتين الحاميتين، ويحنو عليه ويأخذه بيده كما يقود الوالد ولده الغر، لكنه نبذ أبناءه الحمر، إذا كانوا أبناءه حقاً، كذلك يلوح، أن ربنا (الروح الأكبر) قد نبذنا بدوره.
ربكم يشد في أزر قومه كل يوم، ولن يطول الأمد حتى تحفل بهم الأرض، قومنا ينحسرون مثل مدّ سريع النكوص، بلا إياب، ورب الرجل الأبيض غير قادر على محبّة قومنا، ولابسط حمايته عليهم، أنّهم أشبه بأيتام لن يعثروا على معين لهم أينما ولوا وجوههم، فكيف لنا أن نتآخا والحال هذه؟
نحن جنسان مختلفان افترقت أُصولهما، وتخالفت أقدارهما... دينكم كتبته أصابع ربكم الحديدية على ألواح من حجر، خشية أن يغلبكم النسيان، هذه حكاية لا يفهمها الرجل الأحمر، ولا يتذكرها،
____________
1ـ لقب الرجل الأبيض عند الهنود.
وفي كلام آخر لزعيم آخر هو "الصقر الأسود" زعيم قبائل "سوك وفوكس" نجد الآتي:
"تطاير الرصاص من حولنا مثل طيور في الفضاء، وكان الأزيز يخترق آذاننا... خرّ المحاربون صرعى من حولي، وأدركت أن ساعة الشؤم آتية... شخصنا بأبصارنا إلى (الروح الأكبر) وقصدنا أبانا الكبير فتزودنا بالشجاعة... دعونا إلى مجلس كبير وأوقدنا ناراً عظيمة، نهضت أرواح أسلافنا فتحدثت إلينا وطالبتنا بالثأر لمظالمنا أو الفناء"(2).
وفي أماكن متفرقة من النصوص، نلحظ أنّ المعتقدات التي لم يتمكن أصحابها من التخلص من بعض الأخطاء التي سادت فيها، قد قادت أصحابها إلى الهلاك، فطريقة القتال الهندية طريقة مقدسة ويصعب تبديلها، بحيث كان بإمكانه في البداية من شراء الرصاص، لكن بقي الرمح والخنجر أو السكين هو سلاحه، بينما الأبيض
____________
1ـ من نصوص لهنود أمريكا الشمالية، ت: صبحي الحديدي، الكرمل ع45، 1992، ص83 ـ 84.
2ـ م. ن. ص. 85 ـ 86.
كذلك لا يحق له أن يحفر الأرض! لأنها أمه، بحسب ما يرد في النصوص، يقول "ووفوكا": تريدونني أن أفلح الأرض، هل أمتشق خنجري وأفرق صدر أمي!! فإذا مت فهل ستضمني إلى صدرها كي أستريح، تريدونني أن أحفر بحثاً عن الحجارة، هل أحفر تحت جلدها بحثاً عن عظامها؟! فإذا مت فهل أستطيع دخول جسدها كي أولد من جديد، تريدونني أن أحصد العشب وأصنع القش وأبيعه لأصبح ثرياً مثل الرجل الأبيض، فهل أجرؤ إلى قص شعر أمي... الأموات سيبعثون من جديد... ينبغي أن ننتظر هنا في بيوت آبائنا، استعداداً للقائهم من صدر أمنا"(1).
قمنا بنقل بعض هذه الأفكار والمقبوسات بغية إيضاح أمر في غاية الأهمية، وهو أنّ القصائد والنظم وبعض العادات الاجتماعية التي إن دخلت مقام التقديس، فإنّ صعوبة محاكمتها لا تكمن في المساس بهذا المقدس وحسب، لكن في أنّ معتنقيها قد يصلوا إلى حيّز الفناء دفاعاً عنها، وهذا ما لا يريده القرآن في الواقع.
ومن هنا نجد أن القول إنّها ما هي (إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)(2)، يدعوا إلى الانتباه أن قدسيتها لم تأت من الله، وإنما أتت من تراكم عادات، فهي بذلك ضارة، والنفع كل النفع بالالتفات
____________
1ـ نصوص الهنود، م. س. ص89 ـ 90.
2ـ النجم: 23.
في عدد من المواضع التي تقرأ من هذه النصوص، يشعر القارئ بالأسى نتيجة الظلم الذي يقع على الهندي الأحمر، ويشعر بمدى احتقار الذين يغزون بلاده له، ولكن الأمر الأشد إيلاماً، هو أنهم من الزعيم وحتى أصغر المحاربين، يخسرون المعارك بأشكال متتالية، ويفنون بأشكال متتالية، كما عبر أحدهم مثل موج البحر، لكنهم يلتصقون بعدم التخلي عن ذاك الذي شكل مقدساً، ولا نقصد أي معنى هنا مخالف لروح الأديان، إنما لا نعتقد أنّ الله سبحانه يتخلّى عن مخلوقاته، مثلما قرأنا في ورقة زعيم "دواميش"، وإنما الذي يجري هو التقيد بنظام الحرب وفق المنهج الذي رسمه الشيوخ القدماء، وهو بلغ كذلك رتبة التقديس، فاستغل الأبيض بقاء هذا الإيمان وراح يفني القبائل.
إذاً لقد شكلت هذه الظواهر عائقاً كبير في طريق الصفاء الذي يقود نحو منازل رفيعة، يتخلصون مع الالتفات إليها مما هو ضار بالضرورة وينجون ـ أي جميع الناس ـ وليس فقط هذا القوم أو ذاك ـ من الذي أشار إليه القرآن الكريم في مقام توارث العقائد بدون هدىً حين قوله: (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)(1)، بل هي شاملة للعنصر الإنساني جميعاً.
____________
1ـ المائدة: 104.
وهذا الجدار من الصلابة بحيث يستمر مع الأجيال تتوارثه وتقدسه، وكلما أوغل في القدم كلما ازدادت قسوته وقوته، وازدادت صعوبة اختراقه، ويقول القرآن الكريم على لسان أنصار هذا الجدار: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)(1).
ونعتقد بصدد عدم الخروج عما يورثه الآباء للأبناء، وبالخصوص في مسألة العقائد والقيم التي تعتنقها الفئات والمجتمعات أحياناً، أنّها تبلغ مع التقادم من الرسوخ ما يجعل صاحبها غاضاً بصره عن أي مناقشة تؤثر في بنيتها، خصوصاً إذا كان ثمة سؤال يحفر في أعماقها، ويصل مع هذا الغض إلى الانغلاق أمام أية مكاشفة محتملة، بل ويشكل حاجزاً دفاعياً غير قابل للتسامح أو الأخذ والرد، لماذا..؟ لأن هذا الكائن البشري ما عاد يصغي إلى ندائه الداخلي، وبالتالي فقد أراح نفسه من مشقة البحث وعناء التطلع إلى ما يمكن
____________
1ـ الزخرف: 23.
وقد انهمك في الأشياء التي توفر له مساحة العيش غير القلق بحسب ما يظن، بيد أنّ الله سبحانه لا يتجاوز عن إنسان غير آبه بما سيؤول إليه حاله نتيجة عدم بلوغه هذا الاطمئنان عن طريق إعمال جميع ملكاته الواعية، وعدم الاكتفاء بما ورثه عن آبائه أو غيرهم، مهما كان حظ هذا الميراث من الصحة كبيراً، لأن مصيره لا يرتهن بمن سلف، إنما هو مضطر لأن يذهب في تأمله، باحثاً عن حقيقة انغمست في أعماقه، مستجيباً لندائها دائم التنبيه، وانه بغير هذه الاستجابة وبسوى هذا الطريق سوف ينطبق عليه فيما نرى قوله تعالى: (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين)(1).
هذا الجانب الذي ركب جراء جملة العناصر التي من أهمها: الرغبة في الإجابة على الأسئلة القلبية، والتي غالباً ما تجد لها نصيراً في الحياة العامة التي يعيشها الناس، وبالخصوص عندما يدرك الموت أحد الأشخاص، فيقف الآخرون وقد أطبق عليهم العجز من تفسير هذا المشهد!، ومنها الاستئثار والتمسك بالموروث كأحد أهم الإجابات على هذه الأسئلة، بالطبع إن هذه المواصفات، والموروثات تجد لها سدنة يحمونها من الزوال ويعملون على
____________
1ـ الأنبياء: 54.
وقد التفت إلى هذه الظاهرة العلماء، وعلماء الاجتماع بالخصوص، ويمكن أن ننظر إلى عالم اجتماع عربي بكّر في تشخيص مثل هذا الأمر.
يقول الرحّالة وعالم الاجتماع "ابن بطوطة"(1): "إن المجتمع مسرح لطائفتين من الظواهر:
الطائفة الأولى: هي الظواهر الطبيعية، والمجتمع بصدد هذه الظواهر لا يخلقها ولا ينشئها، ولكن يجدها مستقلة بطبيعتها.
والطائفة الثانية: هي الظواهر الاجتماعية، والمجتمع بصدد هذه الظواهر يخلقها خلقاً وينشئها انشاءاً، وهي لا توجد منفصلة، بل تكون متماسكة الأجزاء، ووحدة حية تتفاعل عناصرها، وتشتبك آثارها، فينتج عن ذلك ما نسميه بالدوافع والتيارات الاجتماعية"(2).
وإذا دار البحث حول الإنسان والمجتمع، فذلك لقراءة البناء النفسي الذي يربط المرء بالعالم، ويربطه بذاته أيضاً، هذه الذات التي تشغل مساحة وجوده وهي التي تتمكن من معرفة الخيط الذي
____________
1ـ ابن بطوطة، محمد بن إبراهيم الطنجي (1302 ـ 1377) من الذين بكّروا في دراسات المجتمع، وله أسفار كثيرة، دوّن بعد أسفار دامت ثلاثين عاماً كتاباً ضمنه خلاصتها أسماه (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).
2ـ معجم علم الاجتماع، دينكن ميتشل د: إحسان الحسن ط2، دار الطليعة ـ بيروت 1986 ص116.