تمهيد
وبعد، لقد وفّقني الله تعالى لإعداء موسوعة كاملة عن العالم الجليل، الفقيه الأُصولي الكبير، "باعث النهضة الشيعيّة في ايران"، و"واضع الأُسس الدستوريّة للدولة الصفويّة"، الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي، المعروف بـ"المحقّق الثاني"، و"المحقّق الكركي".
استغرق وضع هذه الموسوعة ـ التي تقع في 6500 صفحة، موزوعةً على اثني عشر مجلّداً ـ عشر سنوات، ابتداءً من جمع المخطوطات التي تجاوز عددها مائة وعشرين نسخة، تمّ تحقيقها وتنقيحها، ومروراً بكتابة ترجمة مفصّلة لحياة هذا العالم الكبير، وانتهاءً بطبعاعتها وعمل فهارس كاملة لها.
وقد طلبت منّي اللجنة المشرفة على المؤتمر العلمي الذي يقام في بيروت، تكريماً لهذا العالم الجليل وجهوده الجبّارة في إعلاء كلمة الحقّ، أن أضع مختصراً لهذه الموسوعة، وتعريفاً موجزاً لها; ليكون بين أيدي المشاركين فيه، فاستجبتُ لطلبهم ووضعتُ هذا الكُتيّب تحت عنوان "مقتطفات من موسوعة حياة المحقّق الكركي
محمّد الحسّون
بلدة قم الطيّبة
شعبان 1424هـ
المقدّمة
التراث: هو المرآة التي ترى الاُمَّةُ من خلالها ذاتَها وحضارتَها، وتطّلع على تأريخها، وبه تتعرّف على تجاربها عَبْرَ القرون الماضية; كي تستفيد منها في أيّامها الحاضرة.
وهو العدسة التي ينظر العالَمُ من خلالها إلى أيّ اُمّة، فيُقيِّم حضارتها جذوراً واُصولا واُسساً.
وممّا لا يشكّ فيه أحد أنّ تراثنا الإسلامي مخزون هائل، مودع بين طيّات المخطوفات والوثائق، وفي زوايات وأطراف بقاع العالم. فلا تكاد تخلو من تراثنا قارّة من القارّات، ولا مكتبة من مكتبات العالم. هذا التراث المقدّس الذي يضمّ عدداً من المصاحف المخطوطة، وكتب السنّة الشريفة، ومؤلّفات سلفنا الصالح، التي أورثونا إيّاها بسخاء منقطع النظير، لكن ومن المؤسف جدّاً أن نجد إهمالا كبيراً لهذا التراث القيّم، هذا الإهما الذي أدّى إلى إخراج الآلاف من النسخ الخطيّة إلى بلاد الغرب، فلا تكاد مكتبة من مكتبات الغرب تخلو من مخطوطاتنا الإسلاميّة.
وهذا الإهمال هو الذي أدّى إلى ابتعاد الجيل الناشيء عن مطالعة الكتب الإسلاميّة; لرداءة خطّها وطبعها، وتوجَّه ـ هذا الجيل ـ إلى الكتب الإلحاديّة التي تتّصف بجودة الطبع وجمال الإخراج.
والذي يبعث في القلب الأمل هو اهتمام جمع من الفضلاء والأساتذة في الوقت الحاضر بتحقيق هذا التراث، ومن ثمّ طبعة ونشره بالشكل اللائق به، فنشأت عدّة مؤسسات ومراكز تحقيقيّة لأجل ذلك.
ومساهمة مع الآخرين الذين ساروا على هذا الطريق النبيل، قُمنا بعون الله تعالى بإحياء هذه الموسوعة المباركة المتعلّقة بأحد أعلام الطائفة الحقّة، المحقّق الثاني الشيخ علي بن الحسين بن عبدالعالي الكركي (ت 940هـ).
وتعود علاقتي بتراث هذا الرجل العظيم إلى سنة 1407هـ حينما كلّفتني مؤسسة آل البيت (عليه السلام) في مدينة قم المقدّسة بمسؤوليّة تحقيق كتاب "جامع المقاصد"، يساعدني في ذلك ثلّة من الإخوة الفضلاء المحقّقين، وقد خرج هذا الكتاب بحمد الله تعالى في ثلاثة عشر مجلّداً، نال استحسان العلماء وأصحاب الفنّ الفضلاء، وحصلَ على جائزة تقديريّة من وزراة الإرشاد في ايران باعتباره أفضل كتاب محقّق مطبوع في سنة 1408هـ.
وخلال السنوات الخمس التي قضيتُها في تحقيق هذا الكتاب الفقهي العظيم ـ حيث انتهينا منه سنة 1411هـ ـ كنتُ اُتابع مؤلّفات المحقّق الكركي، سواء المطبوع منها أم المخطوط، للوقوف على آرائه الفقهيّة والتي كانت تساعدنا في حلّ الكثير من العبارات الغامضة في "جامع المقاصد"، فوجدتُ أنّ أكثر مصنّفات الكركي ـ والتي جاوزت الثمانين مؤلّفاً ـ لا زالت مخطوطة، ولم يطبع منها سوى رسائل صغيرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
ومن ذلك الوقت عزمتُ بعون الله تعالى وقوّته، على إحياء آثار هذا الفقيه الكبير، فقمتُ بتحقيق مجموعة من رسائله، طبعتْ المكتبة المرعشيّة العامّة في مدينة ثم المقدّسة
إلاّ أنّ نفسي الطموحة، والتي تَعرَّفَتْ من خلال تحقيق هذه الرسائل، على أفكار الكركي ونظرياته الجديدة في مختلف العلوم الإسلاميّة، لم تقتنع بهذا الحدّ المتواضع من العمل، خصوصاً وقد شاهَدَتْ أنّ الكثير من مظريات الكركي الكلاميّة والاُصوليّة والرجاليّة وفوائده التأريخيّة وشواهده الشعريّة مبعثرة في طيّات مؤلّفاته الكبيرة والصغيرة، ويُضاف إلى ذلك كلّه أنّ أكثر رسائله وحواشيه لم تُطبع بعد.
ومن ذلك الحين توكّلت على الله القدير وقرّرتُ إحياء تراث هذا العالم الألمعي، مع ما فيه من صعوبات جمّة، يقدّرها أصحاب الفنّ الإخوة المحقّقين، وقد قسّمت هذا العلم إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: كتابة ترجمة كاملة لحياته المباركة وعلى مختلف الأصعدة: الشخصيّة، والإجتماعيّة، والسياسيّة، والعلميّة. وقد استفدتُ كثيراً من تحقيق مؤلّفاته والوقوف على إجازاته في ضبط سنوات حياته، حيث قسّمتها إلى عدّة مراحل، وبيّنتُ نشاطاته السياسيّة والعمليّة والاجتماعيّة في كلّ مرحلة منها.
ففي البحث عن حياته الشخصيّة تحدّثتُ عن اسمه، ومولده، وموطنه، واُسرته، وأخلاقه وسجاياه، وآثاره، ومآثره، وكراماته، ومراحل حياته المختلفة، ثمّ مدحه وإطرائه، وأخيراً وفاته ومدفنه.
وفي حياته السياسيّة تعرّضتُ لعدّة مواضيع لها صلة بالكركيّ وعصره: كالتصوّف والصوفيّة، وموقف العلماء من الحكّام، ونشوء الدولة الصفويّة وكيفيّة تعامل العلماء معها، ثمّ تحدّثتُ بشكل مفصّل عن علاقة الكركي بهذه الدولة ابتداءً من تأسيسها حتّى سنة 940هـ، حيث عاصر الكركي حاكمين من حكّامها هما الشاه إسماعيل وابنه الشاه
وفي حياته العلميّة سلّطتُ الضوء على بعض المجالات التي كان للكركي دور فعّال فيها، فتحدّثتُ عن عصره ومعاصريه، وأساتذته وشيوخه، والروايات التي حصل عليها والتي منحها، ومؤلّفاته، والكتب التي قرأها والتي قُرئت عليه، ومكانته العلميّة، ونشاطه العلميّ، والمحاورات والردود العلميّة التي جرت بينه وبين بعض الأعلام، وقد احتلّ هذا القسم المجلّدين الأوّل والثاني من هذه الموسوعة.
الثاني: استخراج آرائه ونظرياته المودعة في مؤلّفاته والتي لم يُفرد لها تصنيفاً مستقلاّ، حيث أجريتُ عمليّة استقصاء كاملة لكافّة مؤلّفاته واستخرجتُ منها هذه الآراء والنظريات، وهي: آراؤه الكلاميّة، والاُصوليّة، والرجاليّة، وفوائده التأريخيّة، وملاحظاته عن بعض الكتب، وشواهده الشعريّة، والجداول والرسوم التي استعملها، وقد احتلّ هذا القسم المجلّد الثالث من هذه الموسوعة.
الثالث: تحقيق كلّ ما وصل إلينا من مؤلّفاته ـ عدا جامع المقاصد ـ سواء الصغيرة منها المتمثّلة بالرسائل والأجوبة على الأسئلة والاستفتاءات الواردة عليه من مختلف البلدان الإسلامية، أم الكبيرة المتمثّلة بشروحه وحواشيه على اُمّهات الكتب الفقهيّة المعتمدة عند علمائنا، كشرائع الإسلام والمختصر النافع للمحقّق الحلّي، والقواعد والإرشاد والمختلف للعلاّمة الحلّي، والألفيّة للشهيد الأوّل.
وقد استطعتُ بفضل الله تعالى من تحقيق أربعة وخمسين مؤلَّفاً، معتمداً على مائة وعشرين نسخة خطيّة، جمعتها من سبع مخافظات في إيران هي: قم المقدّسة، مشهد المقدّسة، طهران، همدان، يزد، خوانسار، أصفهان. وقد احتلّ هذا القسم ثمانية أجزاء من هذه الموسوعة، ابتداءً من الجزء الرابع وانتهاءً بالجزء الحادي عشر.
أمّا الجزء الثاني عشر فقد خصّصناه للفهارس العامّة.
وختاماً فإنّي أحمد الله سبحانه وتعالى على توفيقه إيّاي لإهتمام هذه الموسوعة، بعد عمل متواصل وجهد مضني دام عشر سنوات، تجوّلت خلالها في عدّة مدن باحثاً عن النسخ الخطيّة لمؤلّفات هذا العالم الجليل، وقد شددّت الرحال مؤخّراً إلى لبنان لرؤية البلدة التي نشأ فيها الكركي، وشاهدتُ بقايا آثار المدرسة العلميّة الكركيّة التي كانت يوماً ما معهداً علميّاً يضمّ فقهاءَ كبار، شهد التأريخ لهم بالفضل والعلم.
اللهمّ هذه بضاعتي المُزجاة اُقدّمها بين يدي طلاّب العلم والمعرفة، لتكون ذخراً لي في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، معترفاً بقصوري، راجياً العفو والمغفرة عمّا زاغ عنه البصر، وأنا أتمثل بقول القائل:
قد بذلتُ فيه الطاقة، واستفرَغْتُ الجهد، وقطعت كثيراً من الأشغال لاجله، لم أبخل عليه بضياء عين ثمين، ولا وقت عزيز، ولا تدقيق أو تمحيص، فليعذر القارىء العالمُ من خطأ مُتَأَتٍّ عن ذهول، أو سبق قلم، أو انزلاق أجهده طول النظر في صور المخطوطات، وليُقدّم النصح; فإنّ العقل للنصح مفتوح، والصدر رحبٌ إن شاء الله تعالى(1).
____________
1 ـ تهذيب الكمال 1:89 ـ 90 "المقدّمة".
الفصل الأوّل: حياته الشخصيّة
اسمه ونسبه:
اسمه: لا يوجد اختلاف في اسمه، فقد صرّح هو في كثير من المواضع بأنّ اسمه "علي"، وكافّة المصادر التي ذكرته وترجمت له، ابتداءً من القرن العاشر وحتّى عصرنا الحاضر، سمّته بذلك أيضاً.
نسبه: الصحيح في نسبه ـ كما صرّح به الكركي بنفسه، والذي وجدته في أكثر المصادر ـ هو: علي بن الحسين بن عبد العالي، نسبة إلى أبيه وجدّه. وقد يُنسب اختصاراً إلى جدّه فيقال: علي بن عبد العالي. أمّا إضافة أسماء أُخر في نسبه وإن وردت في بعض المصادر، إلاّ أنّي لم أتيقّن من صحّتها، وقد أوردتها مع مناقشة بعضها في أصل الكتاب.
كنيته: له كنية واحدة، وهي "أبو الحسن"، ذكرها بعض معاصريه والقريبين من عصره.
ألقابه: للمحقّق الكركي ألقاب كثيرة، بعضها اختُصّت به ولازمته فلا يتبادر الذهن إلى غيره عند إطلاقها، وبعضها عُرف بها عند العلماء والمؤلّفين وأصحاب التراجم والسير، وبعضها ألقاب نادرة أطلقها عليه نفر أو نفران من العلماء.
وهذه الألقاب منها ما يرتبط بنسبه، ومنها ما يتعلّق بالمكان الذي وُجد فيه ردحاً من الزمن، ومنها ما يشير إلى المكانة العلميّة التي وصل إليها هذا الرجل والدور المشرّف الذي أدّاه في الدفاع عن المذهب الحقّ وترسيخ قواعده.
وقد أوردتُ في أصل الكتاب ما تعرّفت عليه من ألقابه حسب الترتيب الزمني، ذاكراً علّة تلقيبه، ومن لقّبه به، وهي: زين الدين، نور الدين، خاتم المجتهدين، علاء الدين، الكركي، العلائي، الشامي، العاملي، مروّح المذهب، المولى المروّج، المحقّق
مولده وموطنه:
تأريخ ولادته:
لم أعثر على تأريخ ولادته في المصادر التأريخيّة وكتب التراجم والسير التي بن أيدينا، والغريب في الأمر أنّ كافّة المصادر الرئيسيّة المعنيّة بسيرته لم تتعرّض له حتّى على وجه الاحتمالات، شأنه في ذلك شأن الكبير من علمائنا الأعلام ورجالاتنا العصاميين الذين يبرزون من بين الغمار.
نعم، يمكن الإشارة إلى تأريخ تقريبي لولادته، مستفاد من المقارنة بين تأريخ وفاته وسنيّ حياته المباركة، مع ما فيها من اختلاف وتضارب آراء، فيكون الصحيح من تأريخ ولادته هو سنة 870هـ.
مسقط رأسه:
لم أتعرّف بشكل دقيق مستند إلى مصادر معتبرة على مكان ولادته، شأنه في ذلك شأن تأريخ ولادته المجهول. وكلّ من ذكره وتراجم له نسبه إلى قرية صغيرة في لبنان تُسمّى "الكرك" أو "كرك نوح"، والظاهر أنّ مسقط رأسه كان فيها.
أُسرته:
آل الكركي: أُسرة من أُسر العلم ودوحة من دوحات الفضل، وهم من الأُسر المشهورة في العلم والسابقة في الكمال والمحلّقة في التقوى والصلاح، انتشروا في الشام والعراق وايران.
وأُسرة المحقّق الكركي من مشاهير العلماء وأفاضل أهل الفضل، لم تُكل أيامهم في النجف الأشرف، لبثوا فيها مدّة قصيرة وسرعان ما تفرّقوا عنها.
ونورد هنا تعريفاً موجزاً لبعض أفراد أُسرة المحقّق الكركي:
والده: الشيخ الجليل عزّ الدين الحسين بن عبد العالي الكركي العاملي، كان عالماً
جدّه: الشيخ الجليل الفقيه عبد العالي الكركي العاملي، ترجمَ له شكل مستقلّ السيّد حسن الصدر (ت 1354هـ)(2)، والسيّد محسن الأمين (ت 1371هـ)(3). وذكره ضمن ترجمة علي بن هلال الجزائري كلّ من الميرزا عبد الله أفندي الأصفهاني (ت حوالي 1134هـ)(4)، والسيّد محمّد باقر الخوانساري الأصفهاني (ت 1313هـ)(5).
ولداه:
الأوّل: تاج الدين أبو محمّد عبد العالي الكركي، ولد في ليلة الجمعة 19 ذي القعدة سنة 926هـ، وتوفّي في أصفهان سنة 993هـ، ودفن في الزاوية المنسوية للإمام زين العابدين (عليه السلام)(6).
والتأريخ لم يحدّثنا بشكل وافر عن كيفيّة نشأته ودراسة، بل لم يذكر لنا من أساتذتة سوى والده(7). والظاهر أنّه كان بصحبته عند هجرته الثانية إلى إيران في زمن الشاه طهماسب الصفوي سنة 936هـ، وبقي معه هناك يتعلّم منه الكثير، ويُدرك ما يجري حوله من أحداث هامّة في دولة فتيّة كان والده محورها الدينيّ وشيخ الإسلام فيها
____________
1 ـ بحار الأنوار 105:20، رياض العلماء 3:442، أعيان الشيعة 8:66، ماضي النجف وحاضرها 3:237، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 71.
2 ـ تكملة أمل الآمل: 264.
3 ـ أعيان الشيعة 8:17.
4 ـ رياض العلماء 4:281.
5 ـ روضات الجنّات 4:357.
6 ـ تأريخ عالم آرا عباسى 1:154، روضات الجنّات 4:199، تكملة أمل الآمل: 265، ماضي النجف وحاضرها 3:239، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 161.
7 ـ نقد الرجال: 189، أمل الآمل 1:110، ورضات الجنّات 4:199، أعيان الشيعة 8:18.
وهل رجع الابن مع أبيه إلى مدينة العلم والعلماء النجف الأشرف، أم بقي في ايران يواصل دروسه؟
وبعد وفاة والده سنة 940هـ كيف عاد إلى إيران، ومعَ مَن، وهل اصطحب اُسرة والده معه أم لا؟
وكيف بدأ حياته ودراسته بعد وفاة والده وهو ابن أربع عشرة سنة؟
كلّ هذه الأسئلة وغيرها بقيت دون جواب، لم يتعرّض لها المؤرّخون وأصحاب التراجم والسّير في كتبهم المتوفّرة لدينا.
والذي نجده في المصادر أنّه أصبح بعد والده من أشهر العلماء في زمن الشاه طهماسب، ونال رتبة الاجتهاد واعترف بفضله وعلمه جلّة علماء عصره، وبرز في العلوم العقليّة والنقليّة، وجلس على كرسيّ التدريس في كاشان لمدّة طويلة، وكان يعيّن جماعة من العلماء لحلّ القضايات الشرعيّة والإصلاح بين الناس، وكان الشاه طهماسب يحترمه كثيراً ويجلّه ويعظّمه ويكرمه(1).
وبعد وفاة الشاه طهماسب سنة 984هـ واستلام ابنه الشاه اسماعيل السلطة، والّذي كان عاقّاً لوالده بسبب ميله إلى مذهب التسنّن، نُشاهد الشيخ عبد العالي يقف موقفاً بطولياً يوجه هذا المتعنّد الّذي حاول تغيير مذهب الدولة الصفويّة من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إلى مذهب السنّة، يُساعده في ذلك جماعة من العلماء كالميرزا مخدوم
____________
1 ـ تأريخ عالم آراء عباسي 1:154.
فيتصدّى الشيخ عبد العالي للميرزا مخدوم، وتجري بينهما مناظرات ومباحثات في الإمامة، يظهر فيها فضل الشيخ عبد العالي وعجز الميرزا مخدوم عن الجواب. وهنا يتدّخل الشاه إسماعيل ليقضي على خصومه بالقوّة التي هي منطق حكّام الجور وملجؤهم عند عجزهم، فيحاول قتل الشيخ عبد العالي بالسمّ، فيفرّ هذا الشيخ الجليل إلى همدان(1).
وقد تخرّج من عالي درسه عدد من العلماء والفضلاء منهم(2):
الشيخ أبو الحسن القائيني، والقاضي حبيب الله بن علي الطوسي، والسيّد حسين بن حيدر بن قمر الكركيّ، والقاضي معزّ الدين حسين الأصفهاني، والشيخ محمّد بن أحمد الأردكاني، والسيّد محمّد باقر الحسيني الميرداماد، والشيخ محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي البهائي، والشيخ نور الدّين محمّد النسّابة الأصفهاني، والشيخ معاني التبريزي، والشيخ يوسف التبريزي،
وله مؤلّفات عديدة منها:
1 ـ تعليقات على رسالة الشيخ علي بن هلال الجزائري ـ شيخ رواية والده ـ في مسائل الطهارة(3).
2 ـ تعليقات على كتاب "المختصر النافع" للمحقّق الحلّي، إلى أواخر كتاب الوقف، يقرب من ثلاثة آلاف بيت تخميناً(4).
____________
1 ـ رياض العلماء 3:132.
2 ـ لمعرفة المزيد عن تلامذته انظر: رياض العلماء 3:131، أعيان الشيعة 8:18، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 123.
3 ـ روضات الجنّات 4:200، تكملة أمل الآمل: 266، أعيان الشيعة 8:18.
4 ـ روضات الجنّات 4:200، أعيان الشيعة 8:18، ريحانة الأدب 5:248.
4 ـ رسالة في عدم وجوب صلاة الجمعة عيناً في زمن الغيبة، وهي مختصرة(2).
5 ـ رسالة في البلوغ وبيان حدّه وما يتعلّق به(3).
6 ـ رسالة في القبلة عموماً، وفي قبلة خراسان خصوصاً(4).
7 ـ الرسالة النظاميّة في أحكام الصلاة، ألّفها باسم نظام شاه الهندي، وسمّاها "هادي المضلّين ومرشد المصلّين"(5).
8 ـ شرح الألفيّة للشهيد الأوّل، وسمّاه بالحاشية(6).
9 ـ شرح إرشاد الأذهان للعلاّمة الحلّي، نسبه إليه ابن اخته السيّد محمّد باقر الميرداماد في كتابه "شارع النجاة". وكتبَ الفاضل الهندي على ظهر "شرح الإرشاد" للشهيد الثاني: إنّ لولد الشيخ علي الكركي حواشيَ على الإرشاد(7).
10 ـ كتاب مناظراته مع الميرزا مخدوم الشريف(8).
الثاني: الشيخ الجليل حسن الكركي(9)، كان عالماً فاضلا جليلا متكلّماً(10).
____________
1 ـ تكملة أمل الآمل: 266، أعيان الشيعة 8:18.
2 ـ رياض العلماء 3:132.
3 ـ الذريعة 11: 132/820.
4 ـ أمل الآمل 1:110، روضات الجنّات 4:200، هديّة الأحباب: 236، ريحانة الأدب 5: 248.
5 ـ الذريعة 24:195/1023.
6 ـ رياض العلماء 3:132، روضات الجنّات 4:200، تكملة أمل الآمل: 266، أعيان الشيعة 8:18، ريحانة الأدب 5:248.
7 ـ رياض العلماء 3:132، روضات الجنّات 4:200، تكملة أمل الآمل: 266، أعيان الشيعة 8:18، ريحانة الأدب 5:248.
8 ـ روضات الجنّات 4:200، تكملة أمل الآمل: 266.
9 ـ رياض العلماء 1:260، تكملة أمل الآمل: 154، أعيان الشيعة 5:186، ماضي النجف وحاضرها 3:239، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 57.
10 ـ رياض العلماء 1:260.
والّذي عثرتُ عليه أنّه كان من علماء دولة الشاه طهماسب الصفوي، كما قاله الميرزا عبد الله أفندي الأصفهاني والسيّد حسن الصدر(1). وأنّه كان في إيران في مدينة مشهد المقدّسة بين عامي 964هـ و972هـ، حيث ألّف في الأوّل رسالته "المنهج القويم في التسليم"، وفي الثاني ألّف كتابه "عمدة المقال في كفر أهل الضلال". وفي سنة 966هـ ألّف رسالته "البلغة في لزوم إذن الإمام في وجوب الجمعة".
بناته:
إنّ معرفة بنات المحقّق الكركي يتوقّف على معرفة أصهاره، إذ أنّ المؤرّخين وأصحاب التراجم والسير يذكرون بنات العلماء ويفردون لهنّ ترجمة خاصّة إذا كان لهنّ دور فعال في المجتمع أو مستوى علمي رفيع، فقد ترجموا في كتبهم لبنتي الشيخ الطوسي، ولبنت الشهيد الأوّل ولزوجته، ولبنت العلاّمة المجلسي وغيرهن.
وبما أنّ بنات الكركيّ لم يتمتعن بذلك، فقد أهملهنّ التأريخ، كما أهمل الكثير من أمثالهن، ولم يضبط لنا عددهن على الأقل. فهناك من يذهب إلى أنهنّ اثنان، وآخر يجعلهنّ ثلاثاً، وثالث يزيد عليهن واحدة فيجعلهنّ أربعاً، ويُبالغ آخر فيجعلهنّ خمساً. ونحن نُثبت هنا ما صحّ لدينا من عددهنّ، اعتماداً على ذكر المصادر لأزواجهنّ:
الاُولى: تزوّجها في لبنان السيّد ضياء الدين أبو تراب الحسن بن السيّد شمس
____________
1 ـ رياض العلماء 1:260، تكملة أمل الآمل: 154.
الثانية: تزوّجها السيّد زين العابدين الموسويّ الحسيني العلويّ العامليّ الكركيّ الأصفهانيّ، وأنجبت له السيّد أحمد صهر السيّد محمّد باقر الميرداماد وتلميذه وابن خالته(2).
الثالثة: تزوّجها السيّد شمس الدين محمّد الحسيني الاسترابادي، المعروف بـ "الداماد"، وماتت في حياته ولم تنجب له(3).
الرابعة: تزوّجها أيضاً السيّد الداماد بعد وفاة اُختها، وأنجبت له السيّد محمّد باقر المعروف بـ "الميرداماد"(4).
أخلاقه وسجاياه:
من الطبيعي جدّاً أن يتّصف المحقّق الكركيّ بأخلاق عالية وتكون له سجايا محمودة، كيف لا؟! وهو من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والسائر على منهجهم القويم،
____________
1 ـ تأريخ عالم آرا عباسي 1:145، بحار الأنوار 1:11، رياض العلماء 1:331 و2:62، عليقه أمل الآمل: 45 و127، عوائد الأيام: 720 عائدة 66، روضات الجنّات 2:320، تكملة أمل الآمل: 137 و174، الفوائد الرضويّة: 133، أعيان الشيعة 5:473، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 57 و71.
2 ـ أمل الآمل 1:33/20، رياض العلماء 1:39، تتميم أمل الآمل: 62، تكملة أمل الآمل: 95 و225، أعيان الشيعة 2:593، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 71 و(الروضة النضرة في علماء المائة الحادية عشرة): 67.
3 ـ تعليقه أمل الآمل: 59، روضات الجنات 2:62.
4 ـ تأريخ عالم آرا عباسي 1:146، رياض العلماء 5:40، رياض الشعراء "مخطوط" ورقة 27 أ، جواهر الكلام 29:323، روضات الجنّات 2:62، أعيان الشيعة 9:189، ريحانة الأدب 6:56، طبقات أعلام الشيعة (إحياء الداثر من القرن العاشر): 71 و205، و(الروضة النضرة في علماء المائة الحادية عشرة): 67.