مقدمة الطبعة الثانية:
والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد..
إن هذا الكتاب «مراسم عاشوراء» قد جاء جواباً على تلك الأسئلة التي كثرت، وتوالت، ربما لأن البعض لم يزل يحارب هذه المراسم، ويهاجم حتى مواكب اللطم، بشتى الأساليب، ومختلف الوسائل، وهو يصفها باستمرار بأنها من مظاهر الجهل والتخلف(1)..
بل لقد ادعى بعضهم: أن أي شيء يُلحق بالجسد أذى، أو ألماً، فهو حرام شرعاً حرمة ذاتية..
والأدهى والأمر من ذلك: أن ثمة من يحاول أن يدّعي للناس: أن هذا هو نفس ما يقوله سماحة آية الله السيد الخامنه إي [مد ظله]، مع أن ما يقوله سماحته [حفظه الله] في هذا المجال، لا يلتقي مع هذا القول، لا
____________
(1) راجع على سبيل المثال، كتاب: حديث عاشوراء ص106. وراجع: فكر وثقافة العدد 17 ص4.
إذ أنه [حفظه الله]، لم يمنع من اللطم ـ مهما كان نوعه ـ ولا رأى أنه من موارد الإيذاء للجسد المحرم ذاتاً..
وحتى بالنسبة للتطبير ـ وهو ضرب الرؤوس بالسيوف ـ فإنه حفظه الله لم يقل: إنه حرام ذاتاً وقبيح عقلاً، بل هو قد حرَّمه من حيث أنه موجب لتوهين المذهب في الوقت الراهن.. كما ذكره في إجابة له على استفتاء بتاريخ 24/3/2002م رقم 18046..
فقوله [حفظه الله]: في الوقت الراهن.. ظاهر الدلالة على أنه بصدد تشخيص الحالة الخارجية الموجودة فعلاً، وقد أصدر حكمه المذكور، لا لأجل أن ضرب الرأس حرام ذاتاً، بل من حيث إنه رآه متعنوناً بعنوان ثانوي، هو ما يستلزمه من وهن في المذهب في هذه الأيام.
فما يقوله سماحته، يوافق، من حيث مرتكزه، ما يقوله سائر علماء ومراجع الأمة..
وما ورد في هذا الكتاب من نصوص قد جاء ليؤكد صحة ما قاله مراجع الأمة، ومنهم سماحة السيد القائد في هذا الصدد. ويوضح مدى الخطل الذي وقع فيه ذلك البعض، حيث اعتبر:
أولاً: أن كل أذى حرام ذاتاً..
وثانياً: أن السيد القائد [حفظه الله] يقول بهذه المقالة..
مع أن الحقيقة هي أنه لا يصح نسبة ذلك إلى فقهاء الأمة، وعلمائها.. فلماذا وإلى متى يتم التعاطي مع هذا الأمر بهذه الطريقة؟!
وقبل أن أترك القارئ الكريم مع هذا الكتاب، فإنني أستميحه العذر، فيما يرتبط بالطبعة الأولى، التي جاءت غير وافية بالمقصود، وفيها الكثير
أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت للتقليل من معانات القارئ الكريم، وإليه أقدم عذري وعظيم امتناني وشكري..
عصمنا الله من الزلل، في الفكر، وفي القول, وفي العمل. والحمد الله، والصلاة والسلام على محمد وآله..
جعفر مرتضى العاملي
15/11/1423 للهجرة.
تقديم:
والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأشرف بريته، محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
وبعد..
فقد جاءت الآيات الشريفة لتأمر بالتذكير بأيام الله، وبتعظيم شعائر الله سبحانه.
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(1).
وورد عن الأئمة الأطهار [عليهم السلام] أوامر كثيرة تحث على إحياء أمرهم [عليهم السلام]، (2) خصوصاً ذكرى عاشوراء..
ولا يصغى إلى الشبهات التي تثار حول كون عاشوراء من هذه
____________
(1) سورة الحج الآية 32.
(2) وسائل الشيعة ج 14 ص 501، والأمالي للطوسي ج 2 ص 228 والبحار ج 1 ص 200 وراجع كامل الزيارات ص 175 وقرب الإسناد ص 18 وتفسير القمي ج 2 ص 292 وثواب الأعمال ص 223.
هذا، وقد ظهرت عبر التاريخ أساليب متنوعة تهدف إلى إحياء أمرهم، من قبل المتمسكين بكتاب الله، الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، والمعتصمين بولاية أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة..
وكان من هذه الأساليب: مواكب الحزن، التي قد يكون فيها لطم الخدود والصدور، وضرب الظهور بالسلاسل. وحتى جرح الرؤوس.
وهي أمور لم يستسغها البعض، فأثار عاصفة من التنفير منها ـ زاعماً أنها من مظاهر الجهل والتخلف تارة.. وأن فيها أذى للجسد أخرى، وأن الأذى يدخلها في دائرة الضرر، والضرر حرام عقلاً، وشرعاً. مدعياً: أن حرمة الأذى كحرمة الظلم وحرمة شرب الخمر، وأكل الميتة، وما إلى ذلك. بمعنى أنه كلما تحقق عنوان الضرر لحقته الحرمة..
أما قول من يقول: إن هذه الأساليب توجب وهناً في المذهب، وإساءةً لسمعته، وتنفيراً للناس منه..
فهو ليس موضع نقاش، لأن معناه: أن ذلك إذا لم يتعنون بهذا العنوان، فهو جائز في حد نفسه، فتكون حرمته، أو وجوبه، أو استحبابه، أو كراهيته، رهناً بما يعرض له من عناوين، وما يترتب عليه من آثار.
لكن المهم هو اكتشاف الواقع، ومعرفة إن كانت قد تعنونت تلك المراسم بأي من تلك العناوين الموجبة لهذا الحكم أو ذاك، وربما يصيب الفقيه أو غيره في تشخيص ذلك، وربما يخطئ.
وفي جميع الأحوال نقول: إن هذا القول ليس هو محط نظرنا هنا.
فمست الحاجة إلى معالجة هذا الموضوع، معالجةً تميط اللثام عن الواقع والحقيقة من خلال النصوص الإسلامية، التي لابد أن يكون أي رفض، أو قبول، مستنداً إليها، ومرتكزاً عليها.
فتتبعنا تلك النصوص، حتى التاريخية منها، وأوردنا منها ما يصلح أن يكون حجة ودليلاً.
فكانت نتيجة سعينا هذا: هو هذا البحث المقتضب الذي بين يدي القارئ الكريم، فنحن نقدمه إليه، ورجاؤنا الأكيد هو أن يتحفنا بملاحظاته، وينبهنا ويلفت نظرنا إلى ما يمكن أن نكون قد غفلنا عنه، إن رأى أن هناك ما يلزم التنبيه عليه، ولفت النظر إليه، وسوف نكون من الشاكرين.
والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطاهرين.
7 / 12 / 1422 هـ
جعفر مرتضى العاملي
بداية وتوطئة:
لقد ورد إلينا سؤال عن مشروعية جرح الرأس، وإيذاء الجسد باللطم، وبضرب السلاسل على الظهور، ونحو ذلك مما يجري في مراسم عاشوراء، حيث إن البعض يصّر على الإعلان بتحريمه، مدعياً أنه من الضرر الحرام، ثم هو لم يزل يرمي من يفعل ذلك بالجهل والتخلف. مع مزيد من الإصرار على التشنيع على ما يجري في موسم عاشوراء، بأسلوب مرّ وكريه، وشرس، يختزن في طياته خلجات وانفعالات متراكمة، تفوح منها روائح الحقد الكريه، الذي أريد التنفيس عنه بهذه الطريقة.
ومهما يكن الحال، فإن هذا الأمر يحتاج في إيضاح وجه الحق فيه إلى جهات من البحث والبيان، نوجزها في ضمن ما يلي من مطالب:
الفصل الأول
أدلة الحرمة، وما فيها
توطئة:
إن من المعروف: أن الأمور كلها على الإباحة ما لم يرد الدليل الدال على أن للمورد حكماً خاصاً به.. وعلى هذا الأساس نقول: إن من يدَّعي حرمة هذا اللطم المؤلم، أو ضرب السلاسل، وجرح الرؤوس، فعليه أن يأتي بالدليل، لننظر فيه.. وقد أورد القائلون بالتحريم، أدلة على مدَّعاهم، هي:
أدلة القائلين بالحرمة:
استدل القائلون بحرمة جرح الرؤوس، بالأدلة التالية:
الدليل الأول على التحريم:
النواهي الشرعية عن إلقاء النفس في التهلكة. وعمدة أدلتهم على ذلك(1) هو الآية الشريفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..}(2).
____________
(1) قد ذكر هذه الأدلة الشيخ الأنصاري [رحمه الله] في فرائد الأصول ج1 ص176 ط مؤسسة النعمان ـ بيروت سنة 1411 هـ.
(2) سورة البقرة/ 195.
وبقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}(2)، ونحو ذلك..
المناقشة:
أولاً:
إنه ليس في اللطم العنيف، وجرح الرأس، وضرب السلاسل هلاك، ليقال: إنه إذا لطم أو جرح رأسه، فإنه يلقي بنفسه إلى التهلكة.
ثانياً:
إنه لو سلم أن ذلك قد يحصل، فإن الحرام منه يكون خصوص ما يؤدي إلى ذلك، أو خيف أن يؤدي إليه.. أو احتمل ذلك احتمالاً يعتدّ به العقلاء، ويقفون عنده ولا يتجاوزونه، وإلا للزم تحريم ركوب الدابة، والسيارة، والقطار، والطائرة، فإن احتمالات الهلاك فيها أكثر من اللطم المؤلم، وضرب السلاسل، وجرح الرأس.
ثالثاً:
إن قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(3)، ناظر إلى التهلكة في الآخرة، لأنها تتحدث عن الإنفاق في أمر الجهاد، وأن الامتناع عن هذا الإنفاق يعرِّض الإنسان لعقاب الله سبحانه، وللهلاك في الآخرة..
رابعاً:
وأما سائر الآيات التي ذكروها دليلاً فهي لا تدل على ذلك، إذ هي ناظرة إلى العذاب الإلهي في الآخرة، كما يظهر لمن يرجع إليها..
فإن الله سبحانه حين يحذر الناس نفسه، إنما يحذرهم من العذاب
____________
(1) سورة النور/ 63.
(2) سورة آل عمرآن/ 28.
(3) سورة البقرة / 195.
كما أنه قد حذّرهم من الفتنة من جهة، ومن العذاب الأليم من جهة أخرى، والعذاب الأليم إنما هو في الآخرة، وأما الفتنة فليست هي الهلاك والموت، وذلك ظاهر..
الدليل الثاني على التحريم:
إن ضرب الرؤوس بالسيوف، والظهور بالسلاسل، ونحو ذلك.. فيه توهين للمذهب، ومن موجبات السخرية والاستهزاء به..
مناقشة هذا الدليل:
ونقول:
إن هذا الدليل غير مقبول لأكثر من جهة وسبب..
أولاً:
إنه لا يدل على الحرمة الذاتية للجرح، والضرب بالسلاسل واللطم، بمعنى أن الضرب والجرح لو خليِّ وطبعه فهو حرام.. بل هو على ضد ذلك أدل وأظهر، لأنه يعتبر أن الحرمة إنما نشأت من عنوان عارض على الضرب، واللطم المؤلم وجرح الرأس، هو وهن المذهب، وإيجاب السخرية..
فمعنى ذلك: أن الضرب نفسه لو أوجب عز المذهب، لكان راجحاً ومطلوباً شرعاً، فأين هي الحرمة الذاتية لنفس الضرب، واللطم، والجرح؟!..
أليس هذا ظاهر الدلالة على أن نفس الفعل، لا اقتضاء فيه لشيء، ولكن التحريم قد كان بسبب الوجوه، والاعتبارات العارضة عليه..
ثانياً:
إن وظيفة الفقيه هي أن يخبر عن الحكم الشرعي، على سبيل الاشتراط والتعليق، فيقول: إن لزم من هذا الفعل توهين المذهب، فحكمه كذا..
والمكلف هو الذي يتولى تطبيق هذا الحكم على مورده، حين يرى أنه قد تعنون بذلك العنوان.
فإن كان العنوان هو توهين للمذهب فعلاً، فإن عليه أن يلتزم بحكم التوهين، وإن كان هو الإعزاز للمذهب، فإنه يؤدي واجبه في فعل ما فيه هذا الإعزاز..
وإذا رأى الفقيه أن المورد قد تعنون بعنوان التوهين للمذهب، فإن رؤيته هذه لا تلزم الآخرين في شيء، بل يكون في ذلك كواحد من الناس، يطبق لنفسه، وقد يخطئ في التطبيق، وقد يصيب.. وليس لصفة الاجتهاد أثر في تطبيقه هذا، ولا هي توجب ميزة له..
إلا إذا كان هذا الفقيه حاكماً، ورأى أن ثمة مصلحة للإسلام في المنع عنه، وأصدر حكماً ولائياً ـ لا مجرد فتوى ـ فإنه يطاع في هذه الحالة..
ولكن ذلك لا يصيّره حراماً ذاتاً، ولا قبيحاً عقلاً.. بل تبقى حرمته تابعة للعناوين العارضة له..
ثالثاً:
إننا إذا أردنا مجاراة بعض الناس في الحديث عن التطبيقات الخارجية، باعتبارنا من أفراد هذا المجتمع، فإننا نقول:
إن دعوى لزوم التوهين قد تكون صحيحة في بعض المواطن، لا
وسيأتي المزيد من توضيح هذه النقطة إن شاء الله تعالى..
الدليل الثالث على التحريم:
إن ضرب الرؤوس، واللطم المؤلم، وضرب السلاسل، فيه إيذاء للنفس، وإضرار بها، وهو محرم عقلاً وشرعاً.
مناقشة هذا الدليل:
ونقول: إن هذا الدليل لا يمكن قبوله، وذلك للأمور التالية:
أولاً:
إن من الواضح: أن جرح ولطم الإنسان نفسه وإيلامها، ليس من قبيل الظلم القبيح ذاتاً، والحرام شرعاً.. إذ لو كان كذلك لم يجز الحكم باستحباب الجرح في بعض الموارد، كالحجامة، والختان، وثقب أذن المولود.
ولم يجز نتف شعر الحاجبين للمرأة، وغير ذلك مما ورد في الروايات.
فإن الحرام والقبيح لا يصير مستحباً.
وتجويز ارتكابه في مورد التزاحم لا يغيره عن صفة القبح والحرمة الواقعية..
كما أنه لو كان ضرراً حراماً، أو كان قبيحاً عقلاً، كالظلم، لم يجز الإقدام عليه، في موارد المعالجة، خصوصاً في الأمور التي هي غير ذات
بل إن بعض أنواع هذا الجرح، ومستوياته، ليس فيه اقتضاء القبح، فليس هو من قبيل الكذب الذي إن لم يطرأ عليه عنوان حسن، فإنه يبقى على صفة القبح الذي تقتضيه طبيعته.
بل هو خاضع في حسنه وقبحه للعناوين الطارئة عليه، فقد يحسن، وقد يقبح، وقد يرجح، وقد يكون مرجوحاً.. كما سيتضح.
وستأتي شواهد ذلك إن شاء الله تعالى.
ثانياً:
إن جعل اللطم، والجرح من مصاديق الضرر غير ظاهر الوجه، فإن للألم مراتب، ولا شك في أن بعض مراتب الألم ليست ضرراً.
بل إن بعض مراتب وموارد الجرح أيضاً، ليست ضرراً فالتعميم على سبيل ضرب القاعدة، والقول بأن الضرر حرام بقول مطلق، في غير محله..
ثالثاً:
ما هو الدليل على حرمة الضرر والإيذاء، فإن كان الدليل على حرمة الضرر، هو حكم العقل بوجوب دفع ما يقطع بأن فيه مضرة على الإنسان.. بل حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون، بل والمحتمل أيضاً.. فهو أيضاً لا يمكن القبول به، ولا الالتفات إليه. كما سيتضح في الفصل التالي:
الإضرار.. والإقدام على الضرر..
بداية نقول:
هناك حالتان يختلف الحكم فيها:
الأولى:
الإضرار بالغير، بأن يتعمد شخص الإضرار بالغير، فهذا لا
غير أن الشارع قد أذن ببعض التصرفات المرتبطة بالغير، منها ما يصل إلى حد الجرح، مثل الختان، وثقب أذن المولود..
بل هو قد أذن أو أوجب القتل أيضاً ـ كما في حالات الجهاد، والقصاص، ونحو ذلك..
الثانية:
الإضرار بالنفس، بأن يفعل الإنسان بنفسه ما يؤلمها، ويؤذيها، أو يدخل النقص عليها، ولهذا الضرر والأذى حالات ومراتب..
فإن كان مجرد أذى وألم، فإنه ليس من الأمور التي يحكم العقل بقبحها، كما أنه لا دليل على حرمته شرعاً.. بل لقد صرح الشارع للإنسان بإيلام بل بجرح نفسه في موارد كثيرة. وستأتي أمثلة ذلك..
وهذا يكشف عن أن مجرد الألم ليس ضرراً على الحقيقة، أو أنه ليس ضرراً في أكثر موارده، وأن إطلاق الضرر عليه، فيه مسامحة..
وحتى لو كان ضرراً على الحقيقة، فإنه ليس حراماً شرعاً، ولا قبيحاً عقلاً..
نعم، لو كان الضرر ليس مجرد ألم أو جرح، بل هو بمستوى قطع الأعضاء أو التسبب ببعض الأمراض الصعبة، فذلك مما لم يأذن الشارع به.. إلا في موارد معينة كما سنرى..
وبعد ما تقدم نقول:
العقلاء واحتمالات الضرر:
إننا حين نراقب السلوك العام للعقلاء، وهم يواجهون المخاطر، بهدف أن نتلمس ما فيه تنوع، يفيد في إعطاء صورة عن جهات البحث وموارده، فإننا نقول:
إن العقلاء يقدمون على الكثير من الموارد التي يحتمل فيها الهلاك، ومنها ما هو من سنن الحياة فيهم، التي ليس فقط لم يمنع عنها الشارع، بل هو قد حث عليها، وعمل على تنظيمها، والحفاظ على استمرارها، مثل:
إقدام النساء على الحمل، مع وجود احتمال حصول الموت حال الولادة، وقد حصل ذلك بالفعل كثيراً، وقد اعتبر الشارع من تموت حال الولادة بمثابة شهيدة..
وفي سياق آخر، فإن العقلاء يمارسون ركوب القطارات، والطائرات، والسيارات, والصعود إلى مواضع خطرة في الأشجار الباسقة، أو الأبنية الشاهقة، لمعالجة الأعمال فيها، وفي ذلك ما فيه من تعريض للنفس إلى المهالك، وقد حصل ذلك بالفعل، فهلكت أنفس كثيرة، ولم يمتنع العقلاء عن تلك الأمور، كما لم يمنعهم الشارع عنها أيضاً.
بل إن بعض الناس يعطي إحدى كليتيه لمريض آخر يعز عليه.. أو في مقابل مال يحتاج إليه..
وهذا يدل على أن احتمال الضرر ـ ولو كان هذا الضرر هو الهلاك ـ لا يوجب امتناع العقلاء عن السعي نحو أهدافهم، فكيف إذا كان هذا الضرر، مجرد جرح، لا يلبث أن يندمل، أو ألم لا يلبث أن يزول..
فلو كان ذلك مما تمنعه العقول، لتوقفت كثير من الأعمال، ولفشلت
وهذا يدل على أن ثمة حيثيات أخرى تدخل في حسابات العقلاء، في إقدامهم وإحجامهم، حيث يكون للمنافع والمضار، وللعناوين العامة، وغير ذلك دور في القبول وأثر في الرفض، وأثر في الإقدام والإحجام..
العقلاء والضرر المحتم:
بل إننا نشاهد في هذه العقود المتأخرة، فريقاً من الناس يقدمون على أمور فيها الهلاك المحتم لأنفسهم، مثل الإضراب عن الطعام حتى الموت، وذلك من أجل الضغط على حكامهم لتلبية مطالب لهم، معيشية، أو سياسية، أو غيرها.. ولا يستقبح ذلك الناس منهم، ولا ينكرونه عليهم، بل هم يعطونهم كل الحق في ذلك..
بل أصبح ذلك من الأساليب الشائعة.. فلو كان قبيحاً عقلاً لوجب أن يكون الأمر مختلفاً.
الشرع لا يشرع القبيح:
وواضح: أن الأمور القبيحة عقلاً، لا يمكن أن يشرعها الله سبحانه، ولا أن يأمر أنبياءه بممارستها، فهو تعالى لا يأمر بالظلم، ولا بكفران النعمة، ولا بالإساءة إلى محسن..
وها نحن نجد أن الله تعالى، قد أمر نبيه إبراهيم [عليه السلام] بذبح ولده النبي إسماعيل [عليه السلام]، رغم أن مقام النبي إسماعيل [عليه السلام] هو مقام النبوة..
ولم يطلب النبي إبراهيم [عليه السلام] من ربه البيان، ولا اعترض النبي إسماعيل [عليه السلام]، على أبيه، بأن هذا الذي تريد أن تفعله
قاعدة وجوب دفع الضرر:
وعلى كل حال، فإن القدر المتيقن هو وجوب دفع الضرر، في صورة ما إذا كان الضرر كبيراً يصل إلى حدّ التسبيب بالهلاك، أو الابتلاء بمرض صعب، دون أن يكون في مقابل ذلك ما هو أهم وأعظم.. من المصالح والقضايا التي تحتم عليهم التضحية والإقدام..
وذلك موضع إجماع، كما ذكره علماؤنا قدس الله أسرارهم(1). ويمكن القبول بأن مقتضى الحرمة موجود، كالحفاظ على النوع الإنساني، أو نحو ذلك.. إلا إذا زوحم بمقتضي آخر أقوى منه، فالتأثير يكون للأقوى..
ولكن الضرر الذي هو دون ذلك، كالجرح اليسير الذي لا يؤدي إلى إتلاف عضو، والمرض اليسير كالزكام ونحوه، فقد يقال: إن العقل لا يحكم بلزوم دفعه، وليس فيه اقتضاء لشيء بعينه، بل الأمر تابع فيه للعناوين والحالات الطارئة. في كل مورد بخصوصه..
للتوضيح فقط:
ولمزيد من التوضيح لمراتب الضرر وحالاته، نقول:
1 ـ إن هناك ما هو قبيح ذاتاً، فلا يمكن أن يكون حسناً، مهما طرأ عليه من أحوال. وذلك مثل الظلم، ومجازاة الإحسان بالإساءة،. وهناك ما هو حسن كذلك كالعدل وشكر المنعم.. فإن الظلم قبيح في جميع
____________
(1) راجع: الجواهر ج5 ص104 و105.
وجرح النفس واللطم ليس من هذا القبيل حتماً وجزماً، فقد يكون الجرح حسناً ومحبوباً للشارع، كالحجامة ونحوها..
2 ـ هناك ما فيه اقتضاء القبح، بمعنى أنه لو خلي وطبعه، لكان على ما هو عليه من الاقتضاء المؤثر.. إلا إذا زاحمه مقتضٍ آخر، كأن طرأ عليه عنوان يحبه الشارع، فإنه يصيّره بذلك حسناً، وذلك كالكذب، فإنه إذا طرأ عليه عنوان نجاة نبي من القتل مثلاً، فإن اقتضاءه للحرمة يزول، ويحل محله اقتضاء آخر، فيصير نفس الإخبار بخلاف الواقع حسناً وواجباً..
وكذلك الحال بالنسبة إلى ما يكون فيه اقتضاء الحسن، كالصدق مثلاً. فقد يصبح حراماً، كالمثال المذكور آنفاً..
وقتل النفس من هذا القبيل، فإنه ليس قبيحاً ذاتاً.. إذ لو كان كذلك لم يصح الأمر به على سبيل العقوبة، أو القصاص، ولم يصح أمر الله سبحانه نبيه إبراهيم [عليه السلام].. فإن القبيح ذاتاً لا يمكن أن يصبح حسناً أصلاً، تماماً كما هو الحال في الظلم مثلاً، فإنه كلما وجد، يوجد على صفة القبح، وحين يزول عنه القبح، فإنه لا يعود ظلماً، بل يصير عدلاً، أو إحساناً.
وقطع الأعضاء أيضاً كذلك، فإن فيه اقتضاء القبح، ولكن إذا توقف العلاج على قطعها، أصبح ذلك سائغاً، وربما لازماً، وواجباً أيضاً..
3 ـ وهناك ما لا اقتضاء فيه لحسن ولا لقبح، بل هو في ذلك تابع للعناوين التي تطرأ عليه، وذلك مثل القيام، الذي قد يكون مبغوضاً حراماً، كما إذا كان تعظيماً لفاجر، وقد يكون راجحاً محبوباً كما إذا كان تعظيماً لمؤمن..