وقال ابن إدريس: «إن أصحابنا مجمعون عليها في تصانيفهم وفتاواهم»(2).
7 ـ وقد روى الصدوق بأسانيده، وروى غيره: أن دعبل الخزاعي أنشد الإمام الرضا [عليه السلام] تائيته المشهورة، ومنها قوله:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً | وقـد مات عطشاناً بشط فرات |
إذن للطمت الخد فاطم عنـده | وأجريت دمع العين في الوجنات |
فلم يعترض عليه الإمام [عليه السلام]، ولم يقل له: إن أمنا فاطمة [عليها السلام] لا تفعل ذلك لأنه حرام، بل هو [عليه السلام] قد بكى. وأعطى الشاعر جائزة، وأقره على ما قال(3).
8 ـ وذكر في اللهوف: أنه لما رجع السبايا إلى كربلاء في طريقهم الى المدينة، «وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وجماعة من بني هاشم، ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين، فتوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء، والحزن، واللطم، وأقاموا المآتم المقرحة
____________
(1) جواهر الكلام ج4 ص371.
(2) الجواهر أيضاً ج33 ص184 وراجع أيضاً كشف الرموز ج2 ص263.
(3) راجع على سبيل المثال: عيون أخبار الرضا ج2 ص263 و264 والبحار ج49 ص237 و239 ـ 252 مقتل الحسين للخوارزمي ج2 ص131 والغدير للعلامة الأميني، وغير ذلك كثير..
فهل كان الإمام السجاد [عليه السلام] غائباً عن كل هذا؟
ألم يكن معهم في كربلاء حين رجوع السبايا؟
أليس قد لطموا، وأقاموا على ذلك أياماً والإمام السجاد [عليه السلام] معهم؟ فلماذا لم ينههم عن ذلك؟!
فلو أنه كان [عليه السلام] قد اعترض عليهم بمخالفة ذلك لأحكام الشريعة، لذكروا لنا ذلك، ولكانوا أطاعوه، ولم يقيموا أياماً، وهم يفعلون ذلك..
9 ـ تقدم أنه حين وصل السبايا إلى الكوفة، واجتمع الناس، وخطبهم الإمام السجاد [عليه السلام] وفاطمة بنت الحسين [عليه السلام]، وأم كلثوم بنت علي [عليه السلام]، بكى الناس..
كما أن النساء «خمشن وجوههن، ولطمن خدودهن، ودعون بالويل والثبور».
10 ـ في كامل الزيارات: «أن الحور قد لطمت على الحسين في أعلى عليين»، فراجع(2).
11 ـ وتقدم في زيارة الناحية المقدسة، قوله: «تلطم عليك فيها
____________
(1) اللهوف ص112 و113 ط صيدا والبحار ج45 ص146، وجلاء العيون ج2 ص272 و273.
(2) كامل الزيارات ص80 والبحار ج45 ص201.
وقد فسر الإمام الباقر [عليه السلام] الجزع بما يشتمل على لطم الوجه والصدر..
فقد روى الكليني عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، والحسن بن علي جميعاً، عن أبي جميلة، أن جابراً قال للإمام الباقر [عليه السلام]: ما الجزع؟!
فقال [عليه السلام]: أشد الجزع الصراخ بالويل، والعويل، ولطم الوجه والصدر الخ..(2) وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن أبي جميلة، عن جابر مثله.
فإن قيل: إنه [عليه السلام] قد فسر الجزع، لكنه لم يصرح بجوازه..
فالجواب هو: أن الروايات الصحيحة التي صرحت باستحباب الجزع، على الإمام الحسين [عليه السلام] كافية في إثبات جوازه بجميع مراتبه، حيث لم يقيد فيها الجزع بشيء..
استطراد تاريخي:
وثمة نصوص كثيرة لا تدخل في سياق الاستدلال، غير أننا نذكرها
____________
(1) تقدمت مصادر ذلك حين ذكر الرواية تحت عنوان: احتمالات الهلاك لا تمنع..
(2) راجع: وسائل الشيعة ط المكتبة الإسلامية ج2 ص915.
1 ـ إنه قد حصل اللطم في بيت يزيد بالذات، فقد ذكروا: أنه لما أدخل السبايا على يزيد، «قالت فاطمة ابنة الحسين: يا يزيد، أبنات رسول الله سبايا؟!.
قال: بل حرائر كرام، ادخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت.
قالت: فدخلت إليهن، فما وجدت منهن إلاّ سفيانية متلدمة»(1).
(واللدم هو اللطم)..
2 ـ ويقولون: إن سليمان بن قتة العدوي التيمي مر بكربلاء، فنظر إلى مصارع الشهداء، فبكى حتى كاد أن يموت..وكان مروره هذا بعد استشهاد الإمام الحسين [عليه السلام] بثلاثة أيام(2).
3 ـ إن ابن عمر قد ضرب على رأسه لما بلغه خبر قتل الحسين [عليه السلام](3).
4 ـ وقد ذكر في البحار قصة الأسد الذي كان يأتي كل ليلة إلى الجثث الطاهرة، فيمرغ وجهه فيها..فراقبه ذلك الرجل الذي رآه ـ وهو من بني أسد ـ حتى اعتكر الظلام.
وإذا الشموع معلقة، ملأت الأرض. وإذا ببكاء، ونحيب، ولطم
____________
(1) إقناع اللائم ص153، عن العقد الفريد لابن عبد ربه، عن المدائني.
(2) أعيان الشيعة ج25 ص 368 ط أولى.
(3) الخصائص الحسينية: ص 187.
5 ـ ونذكر هنا: أنه في سنة 346 هجرية لطم الناشي [الشاعر] لطماً عظيماً على وجهه، حينما علم أن البعض قد رأى السيدة الزهراء [عليها السلام] في المنام. وأشارت إلى قصيدة كان الناشي قد نظمها في الإمام الحسين [عليه السلام]، ولطم أيضاً أحمد المزوّق، والناس كلهم. وكان أشد الناس في ذلك: الناشي، وأحمد المزوّق(2).
6 ـ ويذكرون أيضاً أن السيد المرتضى [رحمه الله] قد زار الإمام الحسين [عليه السلام] بكربلاء في يوم عاشوراء سنة 396 هجرية، مع جمع من أصحابه وتلامذته، فوجد هناك جمعاً من الأعراب، يضربون على الخدود، ويلطمون على الصدور، وينوحون ويبكون، فدخل معهم السيد وتلامذته، وهو يلطم على صدره. ورأوه ينشد:
كربلا لا زلت كرباً وبلا..
إلى آخر القصيدة التي هي من نظم أخيه الشريف الرضي(3).
7 ـ وفي سنة 352 هجرية أمر معز الدولة البويهي بتعطيل الأسواق في عاشوراء.. «وأن يخرج الرجال والنساء، لاطمي الصدور والوجوه».
ويذكر هذا اللطم أيضاً في سنة 402 هجرية، فراجع(4).
____________
(1) البحار ج45 ص194 وجلاء العيون ج2 ص292 و293.
(2) تاريخ النياحة ج2 ص22، عن بغية النبلاء ص161.
(3) تاريخ النياحة ج2 ص26 عن كتاب المواكب الحسينية لعبد الرزاق الحائر الإصفهاني، عن كتاب عمدة الأخبار ص43.
(4) البداية والنهاية ج11 ص254 و245، وتاريخ ابن الوردي ج1 ص 402.
ونكتفي بهذا المقدار، فإن المقصود هو مجرد الإشارة.
الإضراب عن الطعام في عاشوراء:
وورد أيضاً ما يدل على جواز الإضراب عن الطعام في يوم عاشوراء، حتى تظهر آثار ذلك في الوجه..
فعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبدالله بن حماد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري، قال:
«قال لي أبو عبد الله [عليه السلام]: يا مسمع، أنت من أهل العراق.. إلى أن قال: فتجزع؟!
قلت: إي والله، واستعبر لذلك، حتى يرى أهلي أثر ذلك علي، فامتنع من الطعام حتى يتبين ذلك في وجهي.
قال: رحم الله دمعتك، أما إنك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا الخ..»(2).
وذلك معناه: أنه يجوز فعل ما فيه أذى للنفس ومشقة عليها في عاشوراء، بل يستحب ذلك..
____________
(1) راجع: تاريخ كاظمين [فارسي] لعباس فيض ص84.
(2) كامل الزيارات ص101، وغير ذلك.
تواتر الأخبار:
وبعدما تقدم نقول: إن ما ذكرناه فيما تقدم من آيات وروايات، رغم أننا اكتفينا منه بما تيسر لنا، يوضح بجلاء نظرة الإسلام في هذا الاتجاه.. وقد ظهر أن النصوص كثيرة جداً، ودعوى تواترها لابد أن ينظر إليها بجدية، وبخوع تام..
الفصل الرابع
توضيحات حول المراسم
تعظيم الشعائر.. وإحياء أمرهم [عليهم السلام]:
وبعد.. فإن يوم عاشوراء، هو من أعظم أيام الله أثراً في إحياء الدين وحفظه، وحفظ جهود الأنبياء، وهو من أجلى مصاديق شعائر الله، التي أمرنا الله سبحانه بتعظيمها: {وَمَنْ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ}..
وإن المواكب الحسينية، ومراسم العزاء في هذا اليوم من أظهر مفردات هذا التعظيم، كما أنها من سبل إحياء أمرهم [عليهم السلام]، وقد أمروا [عليهم السلام] بهذا الإحياء.
وضرب السلاسل، واللطم، وجرح الرؤوس، لم يأت تشهياً، وبدون هدف، بل هو قد جاء على سبيل التعظيم، وبهدف إحياء أمرهم [عليهم السلام]؛ فيكون محبوباً لله سبحانه..
جواز الجرح، واللطم مطلق:
ولأجل ذلك نقول: إن حلية اللطم، وضرب السلاسل، وجرح الرؤوس لا تحتاج إلى التهاب الأفئدة بحرقة المصاب إلى درجة ينتج عنها هذه الأفعال.. كما يزعم بعض الناس..
بل إن نفس الظهور على هذه الحالة، وإظهار هذه الكيفية أو تلك،
ويدل على ذلك أيضاً، وجود أحاديث كثيرة تأمر بالتباكي على الإمام الحسين [عليه السلام]، مما يعني: أن الثواب يترتب على البكاء الحقيقي تارة.. وعلى التظاهر بالبكاء تارة أخرى.
وكذلك الحال في المراسم، فإن الثواب يكون على نفس فعل هذه الكيفيات التي هي مصداق للتعظيم، أو لعنوان إحياء أمرهم [عليهم السلام].
النوايا في المواكب الحسينية:
وبعدما تقدم نقول:
قد يقول البعض: إنه لا بد للفقيه من أن يحرم اللطم، وضرب الرؤوس، لأن كثيرين ممن يمارسون ذلك، إنما يفعلون ذلك للاستعراض. وبعضهم لا يلتزم بأحكام الشريعة..
والجواب هو: أن وظيفة الفقيه هي أن يعطي حكم الله في الواقعة، وليس له، ولا هو مطالب بأن يفتش عن نوايا الناس، وعن قصودهم..
فهو يقول للناس: عظموا شعائر الله، وأحيوا أمر أهل البيت [عليهم السلام]، والناس هم الذين يختارون كيفيات ذلك ومفرداته، كل بحسب حاله.
ويقول: إن في المواكب الحسينية تعظيماً لشعائر الله، وفيها أيضاً إحياء لأمرهم [عليهم السلام]، وعلى الناس أن يقوموا بها لهذا الغرض، تحقيقاً للأهداف الإلهية، وانصياعاً لأوامره سبحانه..
ولنفترض وجود مرائين أو منحرفين، فإن ذلك لا يجوِّز لنا الدعوة إلى إلغاء تلك الشعائر من الأساس، وإلا لساقنا ذلك إلى إلغاء الواجبات حتى الصلاة. فإن هناك من يحاول المراءات فيها، وخداع الناس عن طريق التظاهر بالعبادة والتقى من خلالها.
وهل يجوز لنا أن نمنع الناس من الحج، لعلمنا بأن بعضهم يرائي فيه؟!
وهل تمنع الصلاة جماعة لأجل ذلك أيضاً؟! إذا علمنا بوجود أمثال هؤلاء..
وإذا كان هناك أفراد يراؤون الناس بهذه الشعائر، فإنما هم أفراد قلائل، وتبقى الكثرة الكاثرة من المشاركين فيها ـ لا شك بأنهم من أهل الخير، والإيمان، وطهارة النية..
فإذا كان لا بد من التحريم، والمنع، فإنما يمنع من يُعْلَم أنه يفعل ذلك رياء وسمعة.. دون من لا يُعلم منه ذلك..
إن المطلوب هو: أن ندعو الناس إلى القيام بواجباتهم، وبإحياء أمر أهل البيت [عليهم السلام]، وبتعظيم الشعائر، بهذه المراسم، وسواها، ثم نربي الناس، ونهيئ نفوسهم لإخلاص النوايا لله تعالى، بالدعوة إليه بالحكمة، والموعظة الحسنة.
المعترضون.. ودوافعهم:
وإذا أردنا أن ندرس واقع الذين يثيرون الانتقادات على هذه المراسم، فسوف نخرج بحقيقة: أن من ينتقدونها، ويشنِّعون عليها، تختلف دوافعهم، وأغراضهم من ذلك..
فهناك من لمس وجود خلل في فهم هذه المراسم لدى فريق من الناس الغرباء عن الدين، وخاف أن يؤثر ذلك صدوداً منهم عن الحق، وعناداً في قبول حقائقه.. فأراد أن يحتفظ بفرصة تمكن من فتح قلوبهم على الهدى وعقولهم، على الحق..
فهذا النوع من أهل الغيرة على الدين، لا بد أن يشكر على هذا الوعي، وعلى تلك الغيرة.. مع لفت نظره إلى أننا نوافقه على ذلك من حيث المبدأ، غير أننا نقول: إن ما يفكر به، وإن كان صحيحاً في بعض الموارد، ولكنه لا يمكن تعميمه لكل زمان ومكان..
وهناك من يرفض كل مظاهر الحزن في عاشوراء، انطلاقاً من هوىً مذهبي، أو تعصباً لرأي، أو لجهة يرى أن عليه أن يمنع من إفشاء ما يرتبط بها من حقائق تدينها، أو تقلل من احترام الناس لها..
وهناك فريق ثالث يهاجم مظاهر الحزن في عاشوراء، سعياً منه إلى تشكيك الناس بدينهم، وإضعاف حالة الاندفاع نحو الإلتزام بأحكامه. وإسقاط محله في نفوسهم، وإبعادهم عن حالة التعبد والانقياد، والتقديس لمقدساتهم..
وقد يكون الرفض من البعض بسبب أنه يرى: أن مظاهر الحزن على الحسين [عليه السلام]، تنتج فكراً يضر بمصالحه، وتربي مشاعر، وتثير وجداناً، وتعمق وعياً، لا يؤمن به، ويلزم نفسه برفضه، وبمحاربته،
ولا يقتصر نشاط هذا النوع من الناس، على محاربة عاشوراء والإمام الحسين [عليه السلام]، بل هم أيضاً يحاولون السخرية بمن يصلي، وبمن يلتزم بالزكاة، ويهزأون أيضاً بأحكام الحج ومناسكه، وبالطواف حول البيت، ورجم الجمار، وذبح الأضاحي. و.. و.. الخ..
بل هناك من حاول المنع من تعليم بعض سور القرآن التي تتحدث عن اليهود، وهناك من حرفوا بعض آيات القرآن النازلة في بني إسرائيل واليهود.
وهناك أناس تحدث القرآن لنا عن سخريتهم بالأنبياء، وذكر لنا كيف أن الأنبياء قد واجهوا السخرية بمثلها، في قوله تعالى فيما حكاه عن نبيه نوح [عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام]: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}(1).
إنهم يرون أن حربهم هذه، قادرة على التأثير في إسقاط إرادتنا، وإضعاف صلابتنا خصوصاً حين يتهموننا بالجهل، والخرافية، والسقوط، والتخلف، والقسوة، و.. و..
وأخيراً، فإن هناك من يهاجم، ويدين، وينتقد، ولكن بحسن نية، وسلامة طوية، دون أن يعرف حقيقة الأمر، ودون أن يقف على موارده ومصادره، فهو واقع تحت تأثير أعلام هؤلاء وأولئك، يظن صحة ما قالوه، فيبادر ـ مخلصاً ـ إلى المطالبة بتصحيح ما يراه خطأ خطيراً، أو الخروج مما يراه مأزقاً كبيراً..
____________
(1) سورة هود /38.
ماذا لو استجبنا لمطالبتهم:
ولو أردنا أن نخضع لهذا الجو الضاغط، الذي يثيره الحاقدون.. فإن علينا أن نتوقع: أن نطالَب ربما بالخروج عن ديننا إلى دينهم، والعياذ بالله، فإن جميع أعداء الدين والمذهب لا يرضون بما نحن عليه وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(1).
ولو أردنا أن نخضع لهذه الأجواء، فإن علينا أن نلغي رجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، والحكم بعدم جواز تزويج المطلقة ثلاث مرات إلا بعد أن تنكح زوجاً آخر، وغير ذلك من التشريعات التي يعلن العلمانيون رفضها، ويجاهرون بنقدها، ويهتمون بتسفيهها، ويتابعهم على ذلك كثير من الناس البسطاء، الذين لا حظ لهم من العلم، ويأخذون الأمور، بسلامة نية، وحسن طوية..
إن ما يجري في عاشوراء، حتى جرح الرؤوس، وضرب السلاسل، واللطم، وغير ذلك لم تثبت حرمته الشرعية، ولا هو مما يحكم العقل بقبحه، وتلك هي الشواهد والدلائل تشير إلى مشروعيته..
فلماذا يقال: إن فيه توهيناً للمذهب، في كل جيل، وكل قبيل؟!.
ولماذا تطلق التعميمات بهذه الصورة؟!..
ولماذا لا يقال: إنه حيث يلزم التوهين، فلا بد من الامتناع عنه، وحيث يلزم الإعزاز، فلا حرج فيه، ولا جناح؟!..
نعم.. ربما يكون في ذلك بعض الحرج النفسي لدى فريق من الناس، ممن يفاجأون بمشاهد صعبة وغريبة عما عرفوه، وألفوه.. فلا بد
____________
(1) سورة البقرة/ 120.
.. ولا يكفي مجرد الشعور بالخوف والرهبة لدى من يشاهد جرح الرؤوس، لإصدار الحكم بالتحريم.. إذ لو كان ذلك كافياً للزم أن نمنع من ذبح البقر والغنم أيضاً، لأن كثيراً من الناس يتألمون من مشاهدتها وهي تذبح.. كما أن علينا أن لا نقتل القاتل. وأن لا نجلد الزاني، أو أن نرجمه، وأن لا نرضى بقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1) فإن هناك الكثير من الناس يخافون، ويرهبون حالات كهذه، كما أن كثيرين منهم لا يرضون بالالتزام، ولا بإلزامهم بمثل هذه الأمور..
وفيما عدا ذلك، فإننا قد قلنا آنفاً: إنه لو كان فعل ذلك في بعض المواضع موجباً لصدود الناس عن التفكير بالإسلام، فلا بد من مراعاة حالهم، عملاً بالآية الشريفة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2).
لكن ذلك لا يعني أن تشن حملة على كل من يريد ممارسة هذه الشعائر، بحيث تشمل هذه الحملة حتى المواضع التي ليس في ممارستها فيها أي محذور.
خلاصة وتوضيح:
وختاماً نقول: إن مسألة العزاء والمواساة والجزع على الإمام
____________
(1) سورة النور/ 2.
(2) سورة النحل/ 125.
وله أثر عظيم أيضاً في ربط الإنسان عاطفياً، ووجدانياً، وإنسانياً بأهل البيت [عليهم السلام]، وتفاعله مع قضاياهم، وتسليمه لهم بكل وجوده، وبكل مشاعره وأحاسيسه، فيحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم..
وهل أعظم من واقعة كربلاء مناسبة يعبر فيها الإنسان عن هذا الارتباط، وتلك العلاقة بهم [عليهم السلام]؟
وقد يكون التعبير عن هذا الحزن والجزع بأشكال وطرق مختلفة، يظهر من خلالها ذلك الشعور الإنساني، الفطري، المرتكز إلى قداسة الأهداف، والى مقام من ضحى من أجلها، ومعرفة منازل كرامته، وقداسة شخصيته، وحساسية موقعه من هذا الدين.
وقد جاءت الأوامر الشرعية لتعطي الإنسان فسحة ومجالاً واسعاً، من خلال تسجيل الأمر بإقامة العزاء على عناوين عامة، مثل: «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا».
حيث تركت لكل إنسان، الحرية في اختيار الأسلوب والطريقة التي تناسبه، بشرط أن يكون ذلك وفق أحكام الشرع، وحيث لا يصاحب ذلك أية مخالفة أو إساءة، فإنه لا يطاع الله من حيث يعصى..
فالإنسان هو الذي يختار، كل حسب حاله، وظرفه، وخصوصيته.
فأحياها الشاعر بشعره.
وأحياها الأديب بنثره.
ورابع آثر أن يسقي الناس الماء، ليذكرهم بعطش الحسين [عليه السلام].
وخامس علق قطعة سوداء على الطريق العام.
وسادس نظم مسيرة تحمل فيها الشموع في ليالي عاشوراء.
وهكذا.. تستمر قائمة وسائل التعبير تتنامى وتتكاثر باطراد..
وكان منها تنظيم المواكب مِن قِبَل مَن آثر أن يعظم شعائر الله، ويحيي أمرهم صلوات الله وسلامه عليهم، بطريقة جرح رأسه بآلة حادة, أو آثر ضرب ظهره بالسلاسل، أو اللطم في المواكب والمجالس.
وقد حاول كثير من المخالفين لأصل إحياء ذكرى عاشوراء، تهجينها، والتنفير منها، وأثيرت مؤخراً أسئلة حول هذه الموضوعات الأخيرة، وبذلت محاولات جادة أيضاً لتهجينها، والتنفير منها، والتشكيك بمشروعيتها، رغم وجود فتاوى لأكثر مراجع الأمة في هذه العصور المتأخرة بالمشروعية..
وإذا كان ثمة من تحفظ، فإنما هو في الموارد التي يلزم فيها عكس ما قصد منها.. كالموارد التي تؤدي إلى صد الناس عن الحق.. وتضييع فرصة الهداية عليهم..
واللافت هنا، ما تظهره لنا شاشات التلفزة في هذه الأيام، من ممارسة المسيحيين لأساليب حادة جداً للتعبير في هذا المجال، إلى حد دق المسامير في أيديهم، وهم على الصليب، لمواساة النبي المسيح عليه السلام، فيما يعتقدون أنه جرى عليه، هذا عدا عن حملهم الصليب مسافات طويلة على الظهر، تعبيراً عن الآلام!!
فلماذا نستسلم نحن لحملات التشنيع المغرضة على عاشوراء، والتي تأتينا من جهات حاقدة ومغرضة من غربيين وغيرهم، ممن يعادون عاشوراء، ويعملون على إخماد جذوتها، وإطفاء نورها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويتم حجته، وينصر دينه وأولياءه..
وبعد أن ظهر أنه لا مشكلة في أن يجرح الإنسان رأسه، لغرض عقلائي شخصي، دنيوي، وأنه ليس حراماً ذاتاً، ولا هو قبيح عقلاً.. دون ما لم يكن له أي غرض أصلاً, كأن يكون لأجل العبث واللعب مثلاً..
بعد أن ظهر هذا وسواه، مما تقدم في ثنايا هذا البحث، نقول:
أي غرض أعظم، وأسمى وأشرف، من إحياء أمرهم [عليهم السلام]، إذا كانت هذه المراسم موجبة لعز الدين، وتثبت اليقين.. وفي المواضع الخالية من خطر التوهين، والصد عن سبيل الهداية، وليس فيها أي أثر لإثارة الذعر في النفوس، وإخافتهم، وجعلهم يهربون من هذا الدين، مع أن اللازم هو مراعاة حالهم، والرفق بهم، على قاعدة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}..
إعادة.. وإفادة:
ونعود فنلخص بعض ما تقدم على النحو التالي:
إنه تارة يكون تعظيم الشعائر بالوسائل والكيفيات التي قررها الشارع مباشرة، وأخرى يكون الأمر الشرعي متعلقاً بعنوان عام، وقد ترك
مثال ذلك:
لو أن الشارع أمرك بتعظيم والديك واحترامهما، فعنوان الاحترام هو المأمور به، وأنت الذي تختار، أو تخترع وسيلة ذلك، فتكرمهما بالهدية تارة، وبتقبيل اليدين أخرى، وبإجلاسهما في صدر المجلس ثالثة، وهكذا..
وكذلك حين أمرك بالتحية، فقد تكون تحيتك بالسلام، أو برفع اليد، أو بكلمة مرحباً، أو صباح الخير، أو يوم سعيد، أو برفع القبعة، أو بالتحية العسكرية، أو بضم اليدين مع انحناءة يسيرة، وما إلى ذلك.
وكذلك الحال إذا أمرك بإحياء أمر الحسين [عليه السلام]..
فتارةً يحدد لك هو الوسيلة، كالزيارة، والاغتسال لها، وعقد مجالس العزاء، ونحو ذلك. فلا بد أن تفعل نفس ما أمرك به. ولو أن العالم كله غضب واستاء لذلك، فإن غضبهم واستيائهم لا يعنيك، ولا يمنعك منه احتقارهم، واستهزاؤهم، وشتمهم وأذاهم، وحتى قتالهم لك، لأن الله قد حدد الطريقة، فوجب القيام بها كما أمر سبحانه..
ولهذا فنحن لا نصغي لأي انتقاد منهم لصلاتنا، أو لحجنا، أو لملايين الأضاحي التي نذبحها قرباناً في كل سنة في موسم الحج، أو لرمي الجمرات، أو للطواف، أو غير ذلك..
وتارة يعطي لنا نحن الدور والخيار في اختيار الأسلوب والوسيلة، كما هو الحال في الأوامر الشرعية بتعظيم شعائر الله وإحياء أمرهم [عليهم السلام]..
فالأمر إذن بالنسبة إلى اختيار الأسلوب والوسيلة يكون متوقفاً على النتيجة، وما يترتب عليها، لا على نفس العمل من حيث هو..
وعلى هذا نقول: إن موضوع جرح الرؤوس، وضرب الظهور بالسلاسل، قد يختلف الحكم فيه بحسب الأحوال، والأزمان، والأمكنة، فيكون مورداً للأحكام الشرعية الخمسة: «الإباحة، والوجوب، والاستحباب، والكراهة، والحرمة».
فقد يكون هذا العمل مستحباً هنا، ومكروهاً هناك، وقد يكون واجباً هنا، ومحرماً هناك.
والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين..
كلمة أخيرة:
وقبل أن نودع القارئ الكريم، شاكرين له ثقته، ومقدِّرين له صبره، وتحمُّله معاناة قراءة هذا البحث.. فإننا نسأل الله أن يوفقنا وإياه للسير على هدى أئمتنا [عليهم السلام]، وأن يجعل عواقب أمورنا خيراً، وأن لا يخرجنا من الدنيا حتى يرضى عنا، إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول..
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
بيروت في 12 ذي الحجة 1422 هـ.ق
جعفر مرتضى العاملي