مقدّمة المركز

لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.

وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.

ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد


الصفحة 6
والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها، ثم يخضع ذلك الموضوع ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج.

ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً.

كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.

وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان «سلسلة الندوات العقائدية» بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.

وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.

سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.

مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون   


الصفحة 7

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الاولين والاخرين.

موضوع بحثنا الليلة حديث المنزلة، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)لامير المؤمنين (عليه السلام): «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى»، وقوله في بعض الالفاظ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»، أو «علي منّي بمنزلة هارون من موسى».

يمتاز هذا الحديث عن كثير من الاحاديث في أنّه حديث أخرجه البخاري ومسلم أيضاً، إلى جنب سائر المحدّثين الذين أخرجوا هذا الحديث الشريف، وهو حديث اتّفق عليه الشيخان باصطلاحهم.


الصفحة 8
ومن جهة أُخرى يستدلّ بهذا الحديث على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) من جهات عديدة، لوجود دلالات متعدّدة في هذا الحديث.

لذلك اهتمّ بهذا الحديث علماؤنا منذ قديم الايام، كما اهتمّ به الاخرون أيضاً في مجال رواية هذا الحديث بأسانيدهم، وفي مجال الجواب عن هذا الحديث بطرقهم المختلفة.


الصفحة 9

رواة حديث المنزلة

قبل كلّ شيء نذكر أسامي عدة من الصحابة الرواة لهذا الحديث، وأسماء أشهر مشاهير الرواة له، من محدّثين ومفسّرين ومؤرخين في القرون المختلفة.

على رأس الرواة لهذا الحديث من الصحابة:

1 ـ أمير المؤمنين (عليه السلام).

ويرويه أيضاً:

2 ـ عبدالله بن العباس.

3 ـ جابر بن عبدالله الانصاري.

4 ـ عبدالله بن مسعود.

5 ـ سعد بن أبي وقّاص.

6 ـ عمر بن الخطّاب.

7 ـ أبو سعيد الخدري.


الصفحة 10
8 ـ البراء بن عازب.

9 ـ جابر بن سمرة.

10 ـ أبو هريرة.

11 ـ مالك بن الحويرث.

12 ـ زيد بن أرقم.

13 ـ أبو رافع.

14 ـ حذيفة بن أسيد.

15 ـ أنس بن مالك.

16 ـ عبدالله بن أبي أوفى.

17 ـ أبو أيّوب الانصاري.

18 ـ عقيل بن أبي طالب.

19 ـ حُبشي بن جنادة.

20 ـ معاوية بن أبي سفيان.

ومن جملة رواة هذا الحديث من الصحابيات:

1 ـ أُم سلمة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها.

2 ـ أسماء بنت عميس.

رواة هذا الحديث من الصحابة أكثر من ثلاثين، وربّما يبلغون الاربعين رجل وامرأة.


الصفحة 11
يقول ابن عبد البر في الاستيعاب عن هذا الحديث: هو من أثبت الاخبار وأصحّها.

قال: وطرق حديث سعد بن أبي وقاص كثيرة جدّاً.

فذكر عدّة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث، ثمّ قال: وجماعة يطول ذكرهم(1) .

وهكذا ترون المزي يقول بترجمة أمير المؤمنين (عليه السلام) في تهذيب الكمال(2) .

وذكر الحافظ ابن عساكر بترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق كثيراً من طرق هذا الحديث وأسانيده من عشرين من الصحابة تقريباً(3) .

ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري بعد أن يذكر أسامي عدّة من الصحابة، ويروي نصوص روايات جمع منهم يقول: وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي(4) .

فهذا الحديث مضافاً إلى أنّه متواتر عند أصحابنا من الاماميّة،

____________

(1) الاستيعاب 3/1097 ـ دار الجيل ـ بيروت ـ 1412 هـ.

(2) تهذيب الكمال 2/483 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1413 هـ.

(3) انظر ترجمة الامام علي (عليه السلام) 1/306 ـ 393.

(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7/60 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.


الصفحة 12
من الاحاديث الصحيحة المعروفة المشهورة عند أهل السنّة، بل هو من الاحاديث المتواترة عندهم كذلك.

يقول الحاكم النيسابوري: هذا حديث دخل في حدّ التواتر(1) .

كما أنّ الحافظ السيوطي أورد هذا الحديث في كتابه الازهار المتناثرة في الاخبار المتواترة(2) ، وتبعه الشيخ علي المتقي في كتابه قطف الازهار المتناثرة في الاخبار المتواترة.

وممّن اعترف بتواتر هذا الحديث شاه ولي الله الدهلوي محدّث الهند في كتابه إزالة الخفاء في سيرة الخلفاء.

ولنذكر أسماء عدة من أشهر مشاهير القوم الرواة لهذا الحديث في القرون المختلفة، منهم:

1 ـ محمّد بن إسحاق، صاحب السيرة.

2 ـ سليمان بن داود الطيالسي أبو داود الطيالسي، في مسنده.

3 ـ محمّد بن سعد، صاحب الطبقات.

4 ـ أبو بكر ابن أبي شيبة، صاحب المصنف.

5 ـ أحمد بن حنبل، صاحب المسند.

____________

(1) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب للحافظ الكنجي: 283.

(2) الازهار المتناثرة في الاحاديث المتواترة: حرف الالف.


الصفحة 13
6 ـ البخاري، في صحيحه.

7 ـ مسلم، في صحيحه.

8 ـ ابن ماجة، في صحيحه.

9 ـ أبو حاتم بن حبّان، في صحيحه.

10 ـ الترمذي، في صحيحه.

11 ـ عبدالله بن أحمد بن حنبل، هذا الامام الكبير الذي ربّما يقدّمه بعضهم على والده، يروي هذا الحديث في زيادات مسند أحمد وزيادات مناقب أحمد.

12 ـ أبو بكر البزّار، صاحب المسند.

13 ـ النسائي، صاحب الصحيح.

14 ـ أبو يعلى الموصلي، صاحب المسند.

15 ـ محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير.

16 ـ أبو عوانة، صاحب الصحيح.

17 ـ أبو الشيخ الاصفهاني، صاحب طبقات المحدثين.

18 ـ أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.

19 ـ أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك على الصحيحين.

20 ـ أبو بكر الشيرازي، صاحب كتاب الالقاب.


الصفحة 14
21 ـ أبو بكر بن مردويه الاصفهاني، صاحب التفسير.

22 ـ أبو نعيم الاصفهاني، صاحب حلية الاولياء.

23 ـ أبو القاسم التنوخي، له كتاب في طرق أحاديث المنزلة.

24 ـ أبو بكر الخطيب، صاحب تاريخ بغداد.

25 ـ ابن عبد البر، صاحب الاستيعاب.

26 ـ البغوي، الملقّب عندهم بمحي السنّة، صاحب مصابيح السنّة.

27 ـ رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصّحاح.

28 ـ ابن عساكر، صاحب تاريخ دمشق.

29 ـ الفخر الرازي، صاحب التفسير الكبير.

30 ـ ابن الاثير الجزري، صاحب جامع الاُصول.

31 ـ أخوه ابن الاثير، صاحب أُسد الغابة.

32 ـ ابن النجّار البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

33 ـ النووي، صاحب شرح صحيح مسلم.

34 ـ أبو العباس محب الدين الطبري، صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرة.

35 ـ ابن سيّد الناس، في سيرته.

36 ـ ابن قيّم الجوزية، في سيرته.


الصفحة 15
37 ـ اليافعي، صاحب مرآة الجنان.

38 ـ ابن كثير الدمشقي، صاحب التاريخ والتفسير.

39 ـ الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.

40 ـ جمال الدين المزّي، صاحب تهذيب الكمال.

41 ـ ابن الشحنة، صاحب التاريخ المعروف.

42 ـ زين الدين العراقي المحدّث المعروف، صاحب المؤلفات، صاحب الالفية في علوم الحديث.

43 ـ ابن حجر العسقلاني، صاحب المؤلفات.

44 ـ السيوطي، صاحب المؤلفات كالدر المنثور وغيره.

45 ـ الدياربكري، صاحب تاريخ الخميس.

46 ـ ابن حجر المكّي، صاحب الصواعق المحرقة.

47 ـ المتقي الهندي، صاحب كنز العمّال.

48 ـ المناوي، صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير.

49 ـ ولي الله الدهلوي، صاحب المؤلفات ككتاب حجة الله البالغة وإزالة الخفاء.

50 ـ أحمد زيني دحلان، صاحب السيرة الدحلانيّة.

وغير هؤلاء من المحدّثين والمؤرّخين والمفسّرين من مختلف القرون والطبقات.


الصفحة 16

الصفحة 17

نصّ حديث المنزلة وتصحيحه

أمّا نصّ الحديث في صحيح البخاري: حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا غندر، حدّثنا شعبة، عن سعد قال: سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه [ أي سعد بن أبي وقّاص ] قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلي: «أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى»(1) .

قال: وحدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب ـ مصعب بن سعد بن أبي وقّاص ـ عن أبيه: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج إلى تبوك فاستخلف عليّاً فقال: أتكلّفني بالصبيان والنساء ؟ قال: «ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبي»(2) .

وأمّا لفظ مسلم، فإنّه يروي هذا الحديث بأسانيد عديدة لا

____________

(1) صحيح البخاري 5/24 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

(2) صحيح البخاري 6/3.


الصفحة 18
بسند وسندين:

منها: ما يرويه بسنده عن سعيد بن المسيّب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي».

قال سعيد: فأحببت أنْ أُشافه بها سعداً، فلقيت سعداً فحدّثته بما حدّثني به عامر فقال: أنا سمعته، قلت: أنت سمعته ؟ قال: فوضع إصبعيه على أُذنيه فقال: نعم، وإلاّ أُستكّتا(1) .

في هذا الحديث، وفي هذا اللفظ نكت يجب الالتفات إليها.

وبسند آخر في صحيح مسلم: عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أنْ تسبّ أبا التراب ؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله فلن أسبّه.... فذكر الخصال الثلاث ومنها حديث المنزلة(2) .

فهذا حديث المنزلة في الصحيحين، وأنتم تعلمون بأنّ المشهور بينهم قطعيّة أحاديث الصحيحين، فجمهورهم على أنّ جميع أحاديث الصحيحين مقطوعة الصدور، ولا مجال للبحث عن

____________

(1) صحيح مسلم 4/1870 رقم 2404 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1398 هـ.

(2) صحيح مسلم 4/1871 رقم


الصفحة 19
أسانيد شيء من تلك الاحاديث، وللتأكّد من ذلك يمكنكم الرجوع إلى كتبهم في علوم الحديث، فراجعوا مثلاً كتاب تدريب الراوي في شرح تقريب النوّاوي للحافظ السيوطي، وبإمكانكم الرجوع إلى شروح ألفيّة الحديث كشرح ابن كثير وشرح زين الدين العراقي وغير ذلك، وحتّى لو راجعتم كتاب علوم الحديث لابي الصلاح لرأيتم هذا المعنى، ويزيد شاه ولي الله الدهلوي في كتاب حجة الله البالغة، وهو كتاب معتبر عندهم ويعتمدون عليه، يزيد الامر تأكيداً عندما يقول ـ وبعد أنْ يؤكّد على وقوع الاتفاق على هذا المعنى ـ يقول: اتفقوا على أنّ كلّ من يهوّن أمرهما [ أي أمر الصحيحين ]فهو مبتدعٌ متبع غير سبيل المؤمنين.

فظهر أنّ من يناقش في سند حديث المنزلة بحكم هذا الكلام الذي ادّعى عليه الاتفاق شاه ولي الله الدهلوي، كلّ من يناقش في سند حديث المنزلة فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين.

وعندما تراجعون كتب الرجال، هناك اتفاق بينهم على قبول من أخرج له الشيخان، حتّى أنّ بعضهم قال: من أخرجا له فقد جاز القنطرة. بهذه العبارة !

ومن هنا نراهم متى ما أعيتهم السبل في ردّ حديث يتمسّك به الامامية على إثبات حقّهم أو على إبطال باطل، عندما أعيتهم


الصفحة 20
السبل عن الجواب يتذرّعون بعدم إخراج الشيخين لهذا الحديث، ويتّخذون عدم إخراجهما للحديث ذريعة للطعن في ذلك الحديث الذي ليس في صالحهم.

أذكر لكم مثالاً واحداً، وهو حديث: «ستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة»، هذا الحديث بهذا اللفظ غير موجود في الصحيحين، لكنّه موجود في السنن الاربعة، يقول ابن تيميّة في مقام الردّ على هذا الحديث(1) : الحديث ليس في الصحيحين ولكن قد أورده أهل السنن ورووه في المسانيد كالامام أحمد وغيره. ومع ذلك لا يوافق على هذا الحديث متذرّعاً بعدم وجوده في الصحيحين.

إلاّ أنّ الملفت للنظر لكلّ باحث منصف، أنّهم في نفس الوقت الذي يؤكّدون على قطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ويتخذون إخراج الشيخين للحديث أو عدم إخراجهما للحديث دليلاً وذريعة ووسيلة لردّ حديث أو قبوله، في نفس الوقت إذا رأوا في الصحيحين حديثاً في صالح الاماميّة يخطّئونه ويردّونه وبكلّ جرأة.

____________

(1) منهاج السنة 3 / 456.


الصفحة 21
ولذا لو راجعتم إلى كتاب التحفة الاثنا عشرية(1) لوجدتم صاحب التحفة يبطل حديث هجر فاطمة الزهراء أبا بكر وأنّها لم تكلّمه إلى أن ماتت، يبطل هذا الحديث ويردّه مع وجوده في الصحيحين.

وينقل القسطلاني في إرشاد الساري في شرح البخاري(2) ، وأيضاً ابن حجر المكي في كتاب الصواعق(3) ، ينقلان عن البيهقي أنّه ضعّف حديث الزهري الدال على أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يبايع أبا بكر مدّة ستّة أشهر، فالبيهقي يضعّف هذا الحديث ويحكي غيره كالقسطلاني وابن حجر هذا التضعيف في كتابه، مع أنّ هذا الحديث موجود في الصحيحين.

وقد رأيتم أنّ الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي الحنبلي أدرج حديث الثقلين في كتابه العلل المتناهية في الاحاديث الواهية، مع وجود حديث الثقلين في صحيح مسلم، ومن هنا اعترض عليه غير واحد.

فيظهر: أنّ القضيّة تدور مدار مصالحهم، فمتى ما رأوا الحديث

____________

(1) التحفة الاثنا عشرية: 278.

(2) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6 / 363.

(3) الصواعق المحرقة: 90.


الصفحة 22
في صالحهم وأنّه ينفعهم في مذاهبهم، اعتمدوا عليه واستندوا إلى وجوده في الصحيحين، ومتى كان الحديث يضرّهم ويهدم أساساً من أُسس مذهبهم ومدرستهم، أبطلوا ذلك الحديث أو ضعّفوه مع وجوده في الصحيحين أو أحدهما، وهذا ليس بصحيح، وليس من دأب أهل العلم وأهل الفضل، وليس من دأب أصحاب الفكر وأصحاب العقيدة الذين يبنون فكرهم وعقيدتهم على أُسس متينة يلتزمون بها ويلتزمون بلوازمها.

وعندما نصل إلى محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة أو المناقشة في سنده، سنرى أنّ عدّةً منهم يناقشون في سند هذا الحديث أو يضعّفونه بصراحة، مع وجوده في الصحيحين، فأين راحت قطعية صدور أحاديث الصحيحين ؟ وما المقصود من الاصرار على هذه القطعية ؟

ونحن أيضاً لا نعتقد بقطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ونحن أيضاً لا نعتقد بوجود كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن الكريم.

لكن بحثنا معهم، وإنّما نتكلّم معهم على ضوء ما يقولون وعلى أساس ما به يصرّحون.

فإذا جاء دور البحث عن سند حديث المنزلة سترون أنّ عدّةً


الصفحة 23
منهم من علماء الاصول ومن علماء الكلام يناقشون في سند حديث المنزلة ولا يسلّمون بصحّته، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجأون إليها دائماً ويلتزمون بها دائماً، وإنّما هي أهواء يرتّبونها بعنوان قواعد، يذكرونها بعنوان أُسس، فيطبّقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا.

ولا بأس بذكر عدة من ألفاظ حديث المنزلة في غير الصحيحين من الكتب المعروفة المشهورة، وفي كلّ لفظ أذكره توجد خصوصية أرجو أنْ لا تفوت عليكم، وأرجو أنْ تتأمّلوا فيها:

في الطبقات لابن سعد، يروي هذا الحديث بطرق، ومنها: بسنده عن سعيد بن المسيّب، هذا نفس الحديث الذي قرأناه في صحيح مسلم، فقارنوا بين لفظه في الطبقات ولفظه في صحيح مسلم يقول سعيد:

قلت لسعد بن مالك ـ هو سعد بن أبي وقّاص ـ: إنّي أُريد أنْ أسألك عن حديث، وأنا أهابك أنْ أسألك عنه ! قال: لا تفعل يا ابن أخي، إذا علمت أنّ عندي علماً فاسألني عنه ولا تهبني، فقلت: قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي حين خلّفه في المدينة في غزوة تبوك،


الصفحة 24
فجعل سعد يحدّثه الحديث(1) .

لماذا عندما يريدون أن يسألوا عن حديث يتعلّق بعلي وأهل البيت يهابون الصحابي أن يسألوه، أمّا إذا كان يتعلّق بغيرهم فيسألونه بكلّ انطلاق وبكلّ سهولة وبكلّ ارتياح ؟

ويروي محمّد بن سعد في الطبقات(2) باسناده عن البراء بن عازب وعن زيد بن أرقم قالا:

لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)لعلي بن أبي طالب: «إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم».

يظهر أنّ في المدينة في تلك الظروف حوادث، وهناك محاولات أو مؤامرات سنقرأها في بعض الاحاديث الاتية، وكان لابدّ أنْ يبقى في المدينة إمّا رسول الله نفسه وإمّا علي ولا ثالث، أحدهما لابدّ أنْ يبقى، وأمّا الغزوة أيضاً فلابدّ وأنْ تتحقّق، فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: «إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم»، فخلّفه.

فلمّا فَصَلَ رسول الله غازياً قال ناس ـ وفي بعض الالفاظ: قال ناس من قريش، وفي بعض الالفاظ: قال بعض المنافقين ـ: ما خلّفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلاّ لشيء كرهه منه، فبلغ ذلك عليّاً، فأتبع

____________

(1) طبقات ابن سعد 3/24 ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1405 هـ.

(2) طبقات ابن سعد 3/24.


الصفحة 25
رسول الله حتّى انتهى إليه، فقال له: «ما جاء بك يا علي ؟» قال: لا يا رسول الله، إلاّ أنّي سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته منّي، فتضاحك رسول الله وقال: «يا علي أما ترضى أن تكون منّي كهارون من موسى إلاّ أنّك لست بنبي ؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «فإنّه كذلك».

وفي رواية خصائص النسائي(1) قال الناس: قالوا ملّه، أي ملّ رسول الله عليّاً وكره صحبته.

وفي رواية: قال علي لرسول الله: زعمت قريش أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي، وبكى علي، فنادى رسول الله في الناس: «ما منكم أحد إلاّ وله خاصة، يابن أبي طالب، أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ؟» قال علي: رضيت عن الله عزّوجلّ وعن رسوله.

وإذا راجعتم سيرة ابن سيّد الناس(2) ، وكذا سيرة ابن قيّم الجوزية(3) ، وسيرة ابن إسحاق(4) ، وأيضاً في بعض المصادر

____________

(1) الخصائص للنسائي: 67 رقم 44 و77 رقم61.

(2) عيون الاثر 2/294 ـ مكتبة دار التراث ـ المدينة المنوّرة ـ 1413 هـ.

(3) زاد المعاد 3/559 مـ 560 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1408 هـ.

(4) سيرة ابن هشام 2 / 519 ـ 520.


الصفحة 26
الاُخرى: إنّ الذين قالوا ذلك كانوا رجالاً من المنافقين، ففي بعض الالفاظ: الناس، وفي بعض الالفاظ: قريش، وفي بعض الالفاظ: المنافقون، ومن هنا يظهر أنّ في قريش أيضاً منافقين، وهذا مطلب مهم.

وفي المعجم الاوسط للطبراني عن علي (عليه السلام): إنّ النبي قال له: «خلّفتك أنْ تكون خليفتي»، قلت: أتخلّف عنك يا رسول الله ؟ قال: «ألا ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(1) .

ففيه: «خلّفتك أنْ تكون خليفتي».

وروى السيوطي في جامعه الكبير(2) عن كتب جمع منهم: ابن النجار البغدادي، وأبو بكر الشيرازي في الالقاب، والحاكم النيسابوري في كتابه الكنى، والحسن بن بدر ـ الذي هو من كبار الحفّاظ ـ في كتابه ما رواه الخلفاء، هؤلاء يروون عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطّاب: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب [ لماذا كانوا يذكرون عليّاً وبم كانوا يذكرونه ؟ حتّى نهاهم عمر عن ذكره ؟ أكانوا يذكرونه بالخير وينهاهم ؟ قائلاً: كفّوا عن ذكر علي بن أبي

____________

(1) المعجم الاوسط 4/484 رقم 4248.

(2) الجامع الكبير 16/244 رقم 7818 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1414 هـ.


الصفحة 27
طالب ] فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول في علي ثلاث خصال لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس.

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح [ هؤلاء الثلاثة هم أصحاب السقيفة من المهاجرين ] ونفر من أصحاب النبي، وهو متّكىء [ أي النبي ] على علي بن أبي طالب، حتّى ضرب بيده على منكبيه ثمّ قال: «يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».

وفي تاريخ ابن كثير(1) : «أو ما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة».

وفرق بين عبارة «إلاّ النبوّة» وبين عبارة «إلاّ أنّك لست بنبي» و «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» فرق كثير بين العبارتين، يقول ابن كثير: إسناده صحيح ولم يخرجوه.

وفي تاريخ ابن كثير أيضاً(2) في حديث معاوية وسعد: إنّ معاوية وقع في علي فشتمه [ بنصّ العبارة ] فقال سعد: والله لانْ تكون لي إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ ممّا يكون لي ما طلعت

____________

(1) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء 7/340 ـ دار الفكر ـ بيروت.

(2) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء 7/340.


الصفحة 28
عليه الشمس...، فيذكر منها حديث المنزلة.

إلاّ أن الزرندي الحافظ يذكر نفس الحديث يقول: عن سعد: إنّ بعض الاُمراء قال له: ما منعك أنْ تسبّ أبا تراب(1) .

فأراد أنْ لا يذكر اسم معاوية محاولةً لحفظ ماء وجهه وماء وجههم.

وفي تاريخ دمشق والصواعق المحرقة وغيرهما: إنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عنها عليّاً فهو أعلم، قال الرجل: جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي، قال معاوية: بئس ما قلت، لقد كرهت رجلاً كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغرّه بالعلم غرّاً، ولقد قال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه(2) .

وتلاحظون أنّ في كلّ لفظ من هذه الالفاظ التي انتخبتها خصوصية، لابدّ من النظر إليها بعين الدقّة والاعتبار.

وانتهت الجهة الاُولى، أي جهة البحث عن السند والرواة.

____________

(1) نظم درر السمطين: 107.

(2) ترجمة الامام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/396 رقم 410، الرياض النضرة 3/162 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت، مناقب الامام علي (عليه السلام) للمغازلي: 34 رقم 52 ـ دار الاضواء بيروت ـ 1403.


الصفحة 29

دلالات حديث المنزلة

الجهة الثانية: في دلالات حديث المنزلة، وكما أشرنا من قبل، دلالات حديث المنزلة متعددة، وكلّ واحدة منها تكفي لان تكون بوحدها دليلاً على إمامة أمير المؤمنين.

قبل كلّ شيء لابدّ أنْ نرى ما هي منازل هارون من موسى حتّى يكون علي نازلاً من النبي منزلة هارون من موسى، لنرجع إلى القرآن الكريم ونستفيد من الايات المباركات منازل لهارون:

المنزلة الاُولى: النبوّة

قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً)(1) .

____________

(1) سورة مريم: 53.


الصفحة 30

المنزلة الثانية: الوزارة

قال تعالى عن لسان موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي)(1) ، وفي سورة الفرقان قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً)(2) ، وفي سورة القصص عن لسان موسى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)(3) .

المنزلة الثالثة: الخلافة

قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لاَِخِيه هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(4) .

المنزلة الرابعة: القرابة القريبة

قال تعالى عن لسان موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(5) .

____________

(1) سورة طه: 29.

(2) سورة الفرقان: 35.

(3) سورة القصص: 34.

(4) سورة الاعراف: 142.

(5) سورة طه: 31.


الصفحة 31
ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبر في حديث المنزلة عن ثبوت جميع هذه المنازل القرآنية لهارون وغيرها كما سنقرأ، عن ثبوتها جميعاً لعلي ما عدا النبوة، لقد أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)النبوة بعد شمول تلك الكلمة التي أطلقها، هي تشمل النبوة إلاّ أنّه أخرجها واستثناها استثناءً، لقيام الضرورة على أنْ لا نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبقى غير هذه المنزلة باقياً وثابتاً لعلي (عليه السلام)، وبيان ذلك:

إنّ عليّاً (عليه السلام) وإنْ لم يكن بنبي، وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين هارون في المراتب والمقامات والمنازل المعنوية الثابتة لهارون، وإنْ لم يكن بنبي، إلاّ أنّه (عليه السلام) يعرّف نفسه ويذكر بعض خصائصه وأوصافه في الخطبة القاصعة، نقرأ في نهج البلاغة يقول (عليه السلام):

«ولقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يَضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالَم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم


الصفحة 32
من أخلاقه عَلَما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما».

لاحظوا هذه الكلمة: «أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته».

ثمّ لاحظوا ماذا يقول الرسول لعلي: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير»(1) .

أرجو الانتباه إلى ما أقول، لتروا كيف تتطابق الايات القرآنيّة والاحاديث النبويّة وكلام علي في الخطبة القاصعة، إنّ عليّاً وإنْ لم يكن بنبي لكنّه رأى نور الوحي والرسالة وشمّ ريح النبوّة.

أترون أنّ هذا المقام وهذه المنزلة تعادلها منازل جميع الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم في المنازل الثابتة لهم ؟ تلك المنازل لو وضعت في كفّة ميزان، ووضعت هذه المنزلة في كفّة، أترون أنّ تلك المنازل كلّها وتلك المناقب، تعادل هذه المنقبة الواحدة ؟

____________

(1) نهج البلاغة 2/182 ـ مطبعة الاستقامة بمصر (محمّد عبده).


الصفحة 33
فكيف وأنْ يُدّعى أنّ شيئاً من تلك المناقب المزعومة يترجّح على هذه المنقبة ؟

علي لم يكن بنبي، لكنّه شمّ ريح النبوّة، لكنْ ما معنى هذه الكلمة بالدقّة، لا نتوصّل إلى معناها، وعقولنا قاصرة عن درك هذه الحقيقة، لم يكن بنبي إلاّ أنّه شمّ ريح النبوّة، وأيضاً: لم يكن علي نبيّاً إلاّ أنّه كان وزيراً، لمن ؟ لرسول الله الذي هو أشرف الانبياء وخير المرسلين وأكرمهم وأعظمهم وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأين هذه المرتبة من مرتبة هارون بالنسبة إلى موسى الذي طلب أن يكون هارون وزيراً له، إلاّ أنّ كلامنا الان في دوران الامر بين علي وأبي بكر.

ومن الاحاديث الشاهدة بوزارة علي (عليه السلام) لرسول الله، الحديث الذي ذكرناه في يوم الدار، يوم الانذار، حيث قال: «فأيّكم يوآزرني على أمري هذا ؟» قال علي: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فقال: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا»(1) .

وفي رواية الحلبي في سيرته: «إجلس، فأنت أخي ووزيري

____________

(1) تفسير البغوي 4 / 278، ومصادر أُخرى.


الصفحة 34
ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي»(1) .

وفي تاريخ دمشق، وفي المرقاة، وفي الدر المنثور، وفي الرياض النضرة، يروون عن ابن مردويه وعن ابن عساكر وعن الخطيب البغدادي وغيرهم، عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي موسى: اللهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي أخي عليّاً، اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنّك كنت بنا بصيراً»(2) .

وأيضاً، هذه دلالات حديث المنزلة، لاحظوا كيف تتطابق الايات والروايات وكلام علي بالذات ؟

إنّ لعلي (عليه السلام) موضعاً من رسول الله يقول: «قد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة»، هذه القرابة القريبة في قصّة موسى وهارون قول موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي) ، ومن هنا سيأتي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ذكر حديث المنزلة في قصة المؤاخاة بينه وبين علي عليهما الصلاة والسلام.

____________

(1) السيرة الحلبيّة 1 / 461.

(2) ترجمة الامام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/120 ـ 121 رقم 147، الدر المنثور 5/566 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1403 هـ، الرياض النضرة 3/118 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.


الصفحة 35
مضافاً إلى قوله تعالى: (وَأُولُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ)(1) .

فإنّ الاوصاف الثلاثة هذه ـ أي الايمان والهجرة وكونه ذا رحم ـ لا تنطبق إلاّ على علي، فيظهر أنّ القرابة القريبة هي جزء من مقوّمات الخلافة والولاية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد ذكر الفخر الرازي بتفسير الاية المذكورة استدلال محمّد ابن عبدالله بن الحسن بن الحسن المجتبى (عليه السلام) بالاية المباركة هذه، في كتاب له إلى المنصور العباسي، استدلّ بهذه الاية على ثبوت الاولوية لعلي، وأجابه المنصور بأنّ العباس أولى بالنبي من علي، لانّه عمّه وعلي ابن عمّه، ووافق الفخر الرازي الذي ليس من العباسيين، وافق العباسيين في دعواهم هذه، لا حبّاً للعباسيين، وإنّما ؟

والفخر الرازي نفسه يعلم بأنّ العباس عمّ النبي، ولكن العباس ليس من المهاجرين، إذ لا هجرة بعد الفتح، فكان علي هو المؤمن المهاجر ذا الرحم، ولو فرضنا أنّ في الصحابة غير علي من هو مؤمن ومهاجر، والانصاف وجود كثيرين منهم كذلك، إلاّ أنّهم لم

____________

(1) سورة الاحزاب: 6.


الصفحة 36
يكونوا بذي رحم، ويبقى العباس وقد عرفتم أنّه ليس من المهاجرين، فلا تنطبق الاية إلاّ على علي.

وهذا وجه استدلال محمّد بن عبدالله بن الحسن في كتابه إلى المنصور، وقد كان الرجل عالماً فاضلاً عارفاً بالقرآن الكريم، والفخر الرازي في هذا الموضع يوافق العباسيين و المنصور العباسي، ويخالف الهاشميين والعلويين حتّى لا يمكن ـ بزعمه ـ الاستدلال بالاية على إمامة علي أمير المؤمنين.

فقوله تعالى: (وَأُولُوا الاَْرْحَامِ) دليل آخر على إمامة علي، ومن هنا يظهر: أنّ استدلال علي (عليه السلام) وذكره القرابة القريبة كانت إشارة إلى ما في هذه الناحية من الدخل في مسألة الامامة والولاية.

مضافاً إلى أنّ العباس قد بايع عليّاً (عليه السلام) في الغدير وبقي على بيعته تلك، ولم يبايع غير أمير المؤمنين، بل في قضايا السقيفة جاء إلى علي، وطلب منه تجديد البيعة، فيسقط العباس عن الاستحقاق للامامة والخلافة بعد رسول الله، ولو تتذكرون، ذكرت لكم في الليلة الاُولى أنّ هناك قولاً بإمامة العباس، لكنّه قول لا يستحق الذكر والبحث عنه عديم الجدوى.


الصفحة 37

ومن منازل هارون

أعلميّته بعد موسى من جميع بني إسرائيل ومن كلّ تلك الاُمّة، وقد ثبتت المنزلة هذه بمقتضى تنزيل علي منه بمنزلة هارون من موسى لامير المؤمنين (عليه السلام)، وإلى الاعلميّة هذه يشير علي (عليه السلام) في الاوصاف التي ذكرها لنفسه في هذه الخطبة وفي غير هذه الخطبة.

في هذه الخطبة يقول: «كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به».

ويقول (عليه السلام) في خطبة أُخرى بعد أنْ يذكر العلم بالغيب يقول: «فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله، وما سوى ذلك [ أي ما سوى ما اختصّ به سبحانه وتعالى لنفسه ] فعلم علّمه الله نبيّه، فعلّمنيه ودعا لي بأنْ يعيه صدري وتضْطَمّ عليه جوانحي».

وأيضاً: تظهر أعلميّته (عليه السلام)من قوله في نفس هذه الخطبة عن رسول الله حيث خاطبه بقوله: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى».

وأيضاً: رسول الله يقول في علي: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها».

هذا الحديث هو الاخر من الاحاديث الدالة على إمامة أمير


الصفحة 38
المؤمنين سلام الله عليه، وكان ينبغي أن نخصّص ليلة للبحث عن هذا الحديث الشريف، لنتعرّض هناك عن أسانيده ودلالاته، ولنتعرّض أيضاً لمحاولات القوم في ردّه وإبطاله، وما ارتكبوه من الكذب والدسّ والتزوير والتحريف.

أمّا ثبوت الاعلميّة لهارون بعد موسى، فلو أردتم، فراجعوا التفاسير في قوله تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أُوْتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدِي)(1) عن لسان قارون، في ذيل هذه الاية، تجدون التصريح بأعلميّة هارون من جميع بني إسرائيل إلاّ موسى، فراجعوا تفسيرالبغوي(2) ، وراجعوا تفسير الجلالين(3) ، وغير هذين من التفاسير.

من دلالات حديث المنزلة العصمة

وهل من شك في ثبوت العصمة لهارون ؟ وقد نزّل رسول الله أمير المؤمنين منزلة هارون، ولم يدّع أحد من الصحابة العصمة، كما لم يدّعها أحد لواحد من الصحابة، سوى أمير المؤمنين (عليه السلام).

____________

(1) سورة القصص: 78.

(2) تفسير البغوي 4/357 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1405 هـ.

(3) تفسير الجلالين 2/201 ـ نشر مصطفى البابي الحلبي بمصر ـ 1388 هـ.


الصفحة 39
وحينئذ هل يجوّز عاقل أن يكون الامام بعد رسول الله غير معصوم مع وجود المعصوم ؟

وهل يجوّز العقل أنْ يجعل غير المعصوم واسطة بين الخلق والخالق مع وجودالمعصوم ؟

وهل يجوز عقلاً وعقلاءاً الاقتداء بغير المعصوم مع وجود المعصوم ؟

وإلى مقام العصمة يشير علي (عليه السلام) عندما يقول ويصرّح بأنّه كان يرى نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوة.

وهل يعقل أن يترك مثل هذا الشخص ويقتدى بمن ليس له أقلّ قليل من هذه المنزلة ؟

ولا يخفى عليكم أنّ الذي كان يسمعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ الذي كان يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو أسمى وأجلّ وأرقى وأرفع ممّا كان يراه ويسمعه غيره من الانبياء السابقين عليه، فكان علي يسمع ويرى ما يسمع ويرى النبي، وعليكم بالتأمّل التام في هذا الكلام.

من خصائص هارون ومنازله

أنّ الله سبحانه وتعالى أحلّ له ما لم يكن حلالاً لغيره في المسجد الاقصى، وبحكم حديث المنزلة يتمّ هذا الامر لعلي وأهل


الصفحة 40
بيته بالخصوص، ويكون هذا من جملة ما يختصّ بأمير المؤمنين