الصفحة 21

الدليل على حجّيّة سنّة أهل البيت (عليهم السلام) من الكتاب

استدلّوا من الكتاب بآيات عدّة، نكتفي منها بما اعتبروه دالا على عصمتهم، لأنّه هو الذي يتصل بطبيعة بحوثنا هذه، وأهمها آيتان:

آية التطهير ودلالتها على العصمة

الأُولى: آية التطهير، وهي: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1).

وتقريب الاستدلال بها على عصمة أهل البيت (عليهم السلام): ما ورد فيها من حصر إرادة إذهاب الرجس ـ أي الذنوب ـ عنهم بكلمة ( إنّما )، وهي من أقوى أدوات الحصر، واستحالة تخلّف المراد عن الإرادة بالنسبة له تعالى من البديهيات لمن آمن بالله عزوجل وقرأ في كتابه العزيز: ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (2).

وتخريجها على أساس فلسفي من البديهيات أيضاً لمن يدرك أنّ إرادته هي العلّة التامة أو آخر أجزائها بالنسبة لجميع مخلوقاته،

____________

1- الأحزاب: 33.

2- يس: 82.


الصفحة 22
واستحالة تخلّف المعلول عن العلّة من القضايا الأولية، ولا أقلّ من كونها من القضايا المسلّمة لدى الطرفين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وليس معنى العصمة إلاّ استحالة صدور الذنب عن صاحبها عادة.

شبهات حول الآية ودفعها

[الشبهة ـ كلام حول الإرادة:]

1 ـ وقد يقال: إنّ الإرادة ـ كما يقسمها علماء الأصول ـ إرادتان: تكوينية وتشريعية، وهي وإن كانت من حيث استحالة تخلّف المراد عنها واحدة، إلاّ أنها تختلف بالنسبة إلى المتعلّق، فإن كان متعلّقها خصوص الأمور الواقعية من أفعال المكلفين وغيرها سمّيت تكوينية، وإن كان متعلّقها الأمور المجعولة على أفعال المكلّفين من قِبل المشرّع سميت إرادة تشريعية.

والإرادة هنا لا ترتبط بالإرادة التكوينية، لأنّ متعلّقها الأحكام الواردة على أفعالهم، فكأنّ الآية تقول: إنّما شرعنا لكم الأحكام يا أهل البيت لنذهب بها الرجس عنكم ولنطهركم بها تطهيراً.

[الجواب:]

ولكن تفسير الإرادة هنا بالإرادة التشريعية يتنافى مع نصّ الآية بالحصر المستفاد من كلمة ( إنما )، إذ لا خصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم، وليست لهم أحكام مستقلّة عن أحكام بقية

الصفحة 23
المكلّفين، والغاية من تشريعه للأحكام إذهاب الرجس عن الجميع، لا عن خصوص أهل البيت (عليهم السلام)، على أنّ حملها على الإرادة التشريعية يتنافى مع اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله) بأهل البيت وتطبيق الآية عليهم بالخصوص، كما يأتي ذلك فيما بعد.

[الشبهة ـ] كلام حول الجبر والاختيار:

2 ـ وقد يقال أيضاً: إنّ حملها على الإرادة التكوينية وإن دلّ على معنى العصمة فيهم لاستحالة تخلف المراد عن إرادته تعالى، إلاّ أنّ ذلك يجرّنا إلى الالتزام بالجبر وسلبهم الإرادة فيما يصدر عنهم من أفعال ما دامت الإرادة التكوينية هي المتحكّمة في جميع تصرفاتهم، ونتيجة ذلك حتماً حرمانهم من الثواب، لأنه وليد إرادة العبد، كما تقتضيه نظرية التحسين والتقبيح العقليين، وهذا ما لا يمكن أن يلتزم به مدّعوا الإمامة لأهل البيت (عليهم السلام).

[الجواب:]

والجواب على هذه الشبهة يجرنا إلى الحديث حول نظرية الجبر والاختيار عند الشيعة.

وملخص ما ذهبوا إليه: أنّ جميع أفعال العبيد وإن كانت مخلوقة لله عز وجل ومرادة له بالإرادة التكوينية، لامتناع جعل الشريك له في الخلق، إلاّ أن خلقه لأفعالهم إنما هو بتوسط إرادتهم الخاصة غالباً وفي طولها، وبذلك صحّحوا نسبة الأفعال للعبيد ونسبتها لله،

الصفحة 24
فهي مخلوقة لله عزوجل حقيقة، وهي صادرة عن إرادة العبيد حقيقة أيضاً، وبذلك صحّحوا الثواب والعقاب، وذهبوا إلى الحلّ الوسط الذي أخذوه من أقوال أئمتهم (عليهم السلام): "لا جبر ولا تفويض، وإنما هو أمر بين أمرين" (1).

وبهذا سلموا من مخالفة الوجدان في نفي الإرادة وسلبها عنهم، كما هو مفاد مذهب القائلين بالجبر.

كما سلموا من شبهة المفوضة في عزل الله عن خلقه وتفويض الخلق لعبيده، كما هو مذهب المفوضة.

وبناء على هذه النظرية، يكون مفاد الآية: أنّ الله عزوجل لمّا علم أنّ إرادتهم تجري دائماً على وفق ما شرعه لهم من أحكام، بحكم ما زوّدوا به من إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم على وفق مبادئ الإسلام تربية حوّلتهم في سلوكهم إلى إسلام متجسّد، ثم بحكم ما كانت لديهم من القدرات على إعمال إرادتهم وفق أحكامه التي استوعبوها علماً وخبرة، فقد صح له الإخبار عن ذاته المقدسة بأنه لا يريد لهم بإرادته التكوينية إلاّ إذهاب الرجس عنهم، لأنه لا يفيض الوجود إلاّ على هذا النوع من أفعالهم ما داموا هم لا يريدون لأنفسهم إلاّ إذهاب الرجس والتطهير عنهم.

وبهذا يتضح معنى الاصطفاء والاختيار من قبله لبعض عبيده في

____________

1- أصول الكافي 1/60 ح 13.


الصفحة 25
أن يحملوا ثقل النهوض برسالته المقدسة، كما هو الشأن في الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام).

على أنّ الشبهة لو تمّت فهي جارية في الأنبياء جميعاً، وثبوت العصمة لهم ـ ولو نسبياً ـ موضع اتفاق الجميع، فما يجاب به هناك يجاب به هنا من دون فرق، والشبهة لا يمكن أن تحل إلاّ على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في نظرية الأمر بين الأمرين على جميع التقادير.

[الشبهة ـ] بيان المراد من أهل البيت (عليهم السلام):

3 ـ وشبهة ثالثة أثاروها حول المراد من أهل البيت، فالذي عليه عكرمة ومقاتل ـ وهما من أقدم من تبنّى إبعادها عن أهل البيت في عرف الشيعة ـ نزولها في نساء النبي (صلى الله عليه وآله) خاصة.

وكان من مظاهر إصرار عكرمة وتبنّيه لهذا الرأي: أنه كان ينادي به في السوق (1)، وكان يقول: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) (2).

والذي يبدو: أنّ الرأي السائد على عهده كان على خلاف رأيه، كما يشعر فحوى ردّه على غيره: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو

____________

1- أسباب النزول: 268.

2- الدرّ المنثور 5 / 198.


الصفحة 26
نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) (1).

وقد نَسَبَ هذا الرأي الى ابن عباس، ويبدو أنّه المصدر الوحيد في النسبة إليه، وإن كان في أسباب النزول للواحدي رواية عن ابن عباس يرويها سعيد بن جبير دون توسط عكرمة هذا (2)، إلاّ أنّ رواية ابن مردويه لها عن سعيد بن جبير عنه (3) ـ أي عن عكرمة ـ عن ابن عباس يقرب أن يكون في رواية الواحدي تدليس، وهما رواية واحدة.

وقد استدلّ هو ـ أو استدلّوا له ـ بوحدة السياق، لأنّ الآية إنّما وردت ضمن آيات نزلت كلّها في نساء النبي، ووحدة السياق كافية لتعيين المراد من أهل البيت.

[الجواب:]

والحديث حول هذه الشبهة يدعونا إلى تقييم آراء كلّ من عكرمة ومقاتل، ومعرفة البواعث النفسية التي بعثت بعكرمة على كلّ هذا الإصرار والموقف غير المحايد، حتى اضطره الموقف إلى الدعوة إلى المباهلة والنداء في الأسواق، وهو موقف غير طبيعي منه، ولا أُلف في غير هذا الموقف المعين.

والظاهر أنّ لذلك كلّه ارتباطاً بعقيدته التي تبنّاها يوم اعتنق

____________

1- الدرّ المنثور 5 / 198.

2- أسباب النزول: 267.

3- الدرّ المنثور 5 / 198.


الصفحة 27
مذهب الخوارج، وبخاصة رأي نجدة الحروري.

وللخوارج موقف مع الإمام علي (عليه السلام) معروف، فلو التزم بنزول الآية في أهل البيت بما فيهم علي، لكان عليه القول بعصمته، ولأهار على نفسه أسس عقيدته التي سوّغت لهم الخروج عليه ومقاتلته وبررت لهم ـ أعني الخوارج ـ قتله.

وقد استغل علائقه بابن عباس وسيلة للكذب عليه، وكان ممن يستسيغون الكذب في سبيل العقيدة فيما يبدو، ومَن أولى من ابن عباس في الكذب عليه فيما يتصل بهذا الموضوع الحساس؟!

وقد اشتهرت قصة كذبه على ابن عباس بين خاصّته حتى كان يضرب المثل فيه:

فعن ابن المسيب أنّه قال لمولى اسمه برد: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

وعن ابن عمر أنّه قال ذلك أيضاً لمولاه نافع.

وقد حاول علي بن عبدالله بن عباس صدّه وردعه عن ذلك، ومن وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه:

يقول عبدالله بن أبي الحرث: دخلتُ على ابن عبدالله بن عباس وعكرمة موثق على باب كنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟! فقال: إنّ هذا يكذب على أبي!

وحقده فيما يبدو لم يختصّ بأهل البيت (عليهم السلام)، وإنّما تجاوزهم إلى

الصفحة 28
جميع المسلمين عدا الخوارج:

فعن خالد بن عمران قال: كنا في المغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم، فقال: وددتُ أنّ بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالا.

وعن يعقوب الحضرمي عن جدّه قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلاّ كافر (1).

وأما مقاتل، فحسابه من حيث العداء لأمير المؤمنين (عليه السلام) حساب عكرمة، ونسبة الكذب إليه لا تقل عن نسبتها إلى زميله عكرمة، حتى عدّه النسائي في جملة الكذابين المعروفين بوضع الحديث.

وقال الجوزجاني ـ كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهبي ـ: كان مقاتل كذاباً جسوراً.

وكان يقول لأبي جعفر المنصور: أنظر ما تحب أن أحدّثه فيك حتى أحدثه.

وقال للمهدي: إن شئتَ وضعت لك أحاديث في العباس، قال: لا حاجة لي فيها (2).

____________

1- راجع: ميزان الاعتدال 5/116 رقم 5722، تهذيب التهذيب 5/630 رقم 4812، وفيات الأعيان 1/320.

2- راجع: تهذيب التهذيب 8 / 320 ـ 325 رقم 7146، ميزان الاعتدال 6 / 505 ـ 506 رقم 8747، وفيات الأعيان 5 / 255 ـ 256 رقم 733.

وراجع مصادر قوله للمهدي: إن شئت وضعتُ لك أحاديث في العباس: تاريخ بغداد 13/168، مختصر تاريخ دمشق 25/197، الكامل في ضعفاء الرجال 6/435.


الصفحة 29
وإذا كان كلّ من مقاتل وعكرمة بهذا المستوى لدى أرباب الجرح والتعديل، فأمر روايتهما ورأيهما لا يحتاج إلى إطالة حديث، وبخاصّة في مثل هذه المسألة التي تمسّ مواقع العقيدة أو العاطفة من نفسيهما.

ولكن هذه البواعث ـ فيما يبدو ـ خفيت على بعض الأعلام، فأقاموا لرأيهما وروايتهما وزناً، ولذلك نرى أن نعود إلى التحدّث عن ذلك بعيداً عن شخصيتهما، لنرى قيمة هذه الرواية أو هذا الرأي:

1 ـ والذي لاحظته من قسم من الروايات أنّ لفظة "الأهل" لم تكن تطلق في ألسنة العرب على الأزواج إلاّ بضرب من التجوّز:

ففي صحيح مسلم: أنّ زيد بن أرقم سُئل عن المراد بأهل البيت هل هم النساء؟ قال: لا وأيم الله، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلّقها، فترجع إلى أبيها وقومها (1).

وفي رواية أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) وفي البيت سبعة: جبرئيل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وأنا على باب البيت، قلت: ألست من أهل البيت؟

____________

1- صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة ح 4425.

2- الأحزاب: 33.


الصفحة 30
قال: "إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) " (1).

فدفعها عن صدق هذا العنوان عليها وإثبات الزوجية لها يدلّ على أنّ مفهوم الأهل لا يشمل الزوجة، كما أنّ تعليل زيد بن أرقم يدل على المفروغية عن ذلك، ولا يبعد دعوى التبادر من كلمة أهل خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربى ثابتة غير قابلة للزوال، والزوجة وإن كانت قريبة من الزوج إلاّ أنّ وشائجها القريبة قابلة للزوال بالطلاق وشبهه، كما ذكر زيد.

2 ـ ومع الغض عن هذه الناحية، فدعوى نزولها في نساء النبي شرف لم تدّعه لنفسها واحدة من النساء، بل صرّحت غير واحدة منهن بنزولها في النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين:

أخرج: الترمذي وصححه (2)، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه (3)، وابن مردويه، والبيهقي في سننه (4) من طرق عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: في بيتي نزلت: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ... ) (5)، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجلّلهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بكساء كان عليه، ثم قال: "هؤلاء

____________

1- الدر المنثور 5 / 198.

2- سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن ح 3129 و: كتاب المناقب ح 3719.

3- المستدرك للحاكم 3 / 146.

4- سنن البيهقي 2 / 169.

5- الأحزاب: 33.


الصفحة 31
أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" (1).

وفي رواية أم سلمة الأُخرى، وهي صحيحة على شرط البخاري: في بيتي نزلت: ( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ...)، فأرسل رسول الله إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: "هؤلاء أهل بيتي" (2).

وحديث الكساء ـ الذي كاد أن يتواتر مضمونه لتعدّد رواته لدى الشيعة والسنة في جميع الطبقات ـ حافل بتطبيقها عليهم بالخصوص:

تقول عائشة: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3).

والذي يبدو أنّ الغرض من حصرهم تحت الكساء وتطبيق الآية عليهم ومنع حتى أم سلمة من الدخول معهم ـ كما ورد في روايات كثيرة ـ هو التأكيد على اختصاصهم بالآية وقطع الطريق على كلّ ادعاء بشمولهم لغيرهم.

____________

1- الدر المنثور 5 / 198.

2- المستدرك للحاكم 3 / 146.

3- صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة ح 4450.


الصفحة 32
وهناك آيات آحاد تُوسع بعضها في الجالسين تحت الكساء إلى ما يشمل جميع أقاربه وبناته وأزواجه، وبعضها تخصّهم بالعباس وولده، حيث اشتمل النبي (صلى الله عليه وآله) على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال: "يا ربّ، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي، فاسترهم من النار كستري إياهم"، فأمّنت أسْكُفَّة (1) الباب وحوائط البيت، فقالت: آمين ثلاثاً (2).

وهي لعدم طبعيتها وضعف أسانيدها ومجافاتها لواقع الكثير منهم لا تستحق أن يطال فيها الحديث، ومن رغب في الاطلاع عليها فليقرأها مع محاكماتها في كتاب دلائل الصدق (3)، وحسبها وهناً أن لا يستدل بها أو يستند إليها أحد من أولئك أو أحد أتباعهم مع ما فيها من الشرف العظيم لأمثالهم.

وكأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) وقد خشي أن يستغل بعضهم قربه منه فيزعم شمول الآية له، فحاول قطع السبيل عليهم بالتأكيد على تطبيقها على هؤلاء بالخصوص، وتكرار هذا التطبيق حتى تألفه الأسماع وتطمئن إليه القلوب.

يقول أبو الحمراء: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمانية أشهر

____________

1- الأسكُفَّة: عتبة الباب.

2- الصواعق المحرقة: 2/224، الدلائل لأبي نعيم: 370، مختصر تاريخ دمشق 11/335.

3- دلائل الصدق 4 / 373.


الصفحة 33
بالمدينة، ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلاّ أتى إلى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب، ثم قال: "الصلاة الصلاة، ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )" (1).

وفي رواية ابن عباس قال: شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كلّ يوم باب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عند وقت كل صلاة، فيقول: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )" (2).

ومع ذلك كلّه، فهل تبقى لدعوى عكرمة وروايته مجال لمعارضة هذه الصحاح وعشرات من أمثالها حفلت بها كتب الحديث والكثير من صحاحها؟ (3).

3 ـ أما ما يتصل بدعوى وحدة السياق، فهي لو تمّت لما كانت أكثر من كونها اجتهاداً في مقابلة النصّ، والنصوص السابقة كافية لرفع اليد عن كلّ اجتهاد جاء على خلافها.

على أنّها في نفسها غير تامة، لأنّ من شرائط التمسك بوحدة السياق أن يعلم وحدة الكلام ليكون بعضه قرينة على المراد من البعض الآخر، ومع احتمال التعدّد في الكلام لا مجال للتمسّك بها

____________

1- الدر المنثور 5 / 199.

2- الدر المنثور 5 / 199.

3- لاستيعاب روايات آية التطهير راجع: دلائل الصدق 4 / 351 ـ 380 بحث آية التطهير، والكلمة الغراء الملحقة بكتاب الفصول المهمة: 217.


الصفحة 34
بحال.

ووقوع هذه الآية أو هذا القسم منها ضمن ما نزل في زوجات النبي لا يدلّ على وحدة الكلام، لما نعرف من أنّ نظم القرآن لم يجر على أساس من التسلسل الزمني، فربّ آية مكية وضعت بين آيات مدنية وبالعكس، فضلا عن إثبات أنّ الآيات المتسلسلة كان نزولها دفعة واحدة.

ومع تولّد هذا الاحتمال لا يبقى مجال للتمسّك بوحدة السياق، وأي سياق يصلح للقرينية مع احتمال التعدّد في أطرافه وتباعد ما بينها في النزول؟

على أنّ تذكير الضمير في آية التطهير وتأنيث بقية الضمائر في الآيات السابقة عليها واللاحقة لها يقرّب ما قلناه، إذ أنّ وحدة السياق تقتضي اتحاداً في نوع الضمائر، ومقتضى التسلسل الطبيعي أن تكون الآية هكذا إنّما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت، لا عنكم.

والظاهر من روايات أم سلمة ـ وهي التي نزلت في بيتها هذه الآية ـ أنها نزلت منفردة، كما توحي به مختلف الأجواء التي رسمتها رواياتها، لما أحاط بها من جمع أهل البيت وإدخالهم في الكساء ومنعها من مشاركتهم في الدخول إلى ما هنالك.

والحقّ الذي يتراءى لنا من مجموع ما رويناه: من نزول الآية،

الصفحة 35
وحرص النبي (صلى الله عليه وآله) على عدم مشاركة الغير لهم فيها، واتخاذه الاحتياطات بإدخالهم تحت الكساء ليقطع بها الطريق على كل مدع ومتقوّل، ثم تأكيده هذا المعنى خلال تسعة أشهر في كلّ يوم خمس مرات يقف فيها على باب علي وفاطمة (عليهما السلام)، كلّ ذلك مما يوجب القطع بأنّ للآية شأناً يتجاوز المناحي العاطفية، وهو مما يتنزه عنه مقام النبوة، لأمر يتصل بصميم التشريع من اثبات العصمة لهم، وما يلازم ذلك من لزوم الرجوع إليهم والتأثر والتأسي بهم في أخذ الأحكام، على أنّ الآية لا يتضح لها معنى غير ذلك كما أوضحناه في بداية الحديث.

آية أولي الأمر

الآية الثانية: قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1).

استدلال الرازي بها على العصمة:

وقد قرّب الفخر الرازي دلالتها على عصمة أولي الأمر في تفسيره لهذه الآية بقوله: إنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على

____________

1- النساء: 59.


الصفحة 36
سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنه محال، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً (1).

[الشبهة:]

ولكن الفخر الرازي خالف الشيعة في دعواهم في إرادة خصوص أئمتهم من هذه الآية، وقرّب أن يكون المراد منها أهل الإجماع بالخصوص، واستدلّ على ذلك بقوله: ثم نقول: ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة، لأنا بيّنا أنّ الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين

____________

1- التفسير الكبير 10 / 144.

ويؤيد هذا التقريب مساواتهم لله والرسول في وجوب طاعتهم، مما يدل على أنّ جعل الإطاعة لهم ليس من نوع جعلها للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بل هي من نوع إطاعة الله والرسول التي تجب على كلّ حال.


الصفحة 37
على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك، علمنا أنّ المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأمة ولا طائفة من طوائفهم، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: ( وَأُولِي الأَمْرِ ) أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الأمة حجة (1).

ثم استعرض بعد ذلك الأقوال الأخر في الآية وناقشها جميعاً مناقشات ذات أصالة وجهد، حتى انتهى إلى رأي من أسماهم بالروافض فقال: وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد، لوجوه: أحدها: ما ذكرناه أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطاً، وظاهر قوله: ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) يقتضي الإطلاق، وأيضاً ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال، وذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة الله وطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة، وهو قوله: ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )،

____________

1- التفسير الكبير 10 / 144.


الصفحة 38
واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معاً، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر. الثاني: أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر، وأولو الأمر جمع، وعندهم لا يكون في الزمان إلاّ إمام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر. وثالثها: أنه قال: ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (1) ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام، فثبت أنّ الحق تفسير الآية بما ذكرناه (2).

[رد الشبهة:]

والذي يردّ على الفخر الرازي ـ في استفادته وجوب إطاعة أهل الاجماع وأنّهم هم المراد من كلمة أولي الأمر لا الأئمة ـ بناؤه هذه الاستفادة على اعتبار معرفة متعلّق الحكم من شروط نفس التكليف، وبانتفاء هذا الشرط ـ لتعذّر معرفة الأئمة والوصول إليهم ـ ينتفي المشروط.

وهذا النوع من الاستفادة غريب في بابه، إذ لازمه أن تتحوّل جميع القضايا المطلقة إلى قضايا مشروطة، لأنه ما من قضية إلاّ ويتوقّف أمتثالها على معرفة متعلّقها، فلو اعتبرت معرفة المتعلّق

____________

1- النساء: 59.

2- التفسير الكبير 10 / 146.


الصفحة 39
شرطاً فيها لزمت أن تكون مشروطة.

والظاهر أنّ الرازي خلط بين ما كان من سنخ مقدّمة الوجوب وما كان من سنخ مقدمة الواجب، فلزوم معرفة المتعلّق إنّما هو من النوع الثاني، أي من نوع ما يتوقف عليه امتثال التكليف لا أصله، ولذلك التزم بعضهم بوجوبه المقدمي، بينما لم يلتزم أحد فيما نعلم بوجوب مقدمات أصل التكليف وشروطه، إذ الوجوب قبل حصولها غير موجود ليتولد منه وجوب لمقدماته، وبعد وجودها لا معنى لتولد الوجوب منه بالنسبة إليها، للزوم تحصيل الحاصل.

وعلى هذا، فوجوب معرفة المتعلّق للتكاليف لا يمكن أخذه شرطاً فيه بما هو متعلّق لها، لتأخره رتبة عنها، ويستحيل أخذ المتأخر في المتقدّم، للزوم الخلف أو الدور.

على أنّ هذا الإشكال وارد عليه نقضاً، لأنّ إجماع أهل الحلّ والعقد هو نفسه مما يحتاج إلى معرفة، وربّما كانت معرفته أشق من معرفة فرد أو أفراد، لاحتياجها إلى استيعاب جميع المجتهدين، وليس من السهل استقراؤهم جميعاً والاطلاع على آرائهم، وعلى مبناه يلزم تقييد وجوب الإطاعة بمعرفتهم، ويعسر تحصيل هذا الشرط، والإشكال نفس الإشكال.

والغريب في دعواه بعد ذلك ادعاء العجز عن الوصول إلى الأئمة ومعرفة آرائهم! مع توفر أدلة معرفتهم وإمكان الوصول إلى ما يأتون به من أحكام بواسطة رواتهم الموثوقين.


الصفحة 40
ثم إنّ استفادة الإجماع من كلمة (أُولِي الأَمْرِ) مبنية على إرادة العموم المجموعي منها، وحملها على ذلك خلاف الظاهر، لأنّ الظاهر من هذا النوع من العمومات هو العموم الاستغراقي المنحل في واقعه إلى أحكام متعدّدة بتعدّد أفراده، ومن استعرض أحكام الشارع التي استعمل فيها العمومات الاستغراقية يجدها مستوعبة لأكثر أحكامه، وما كان منها من قبيل العموم المجموعي نادر نسبياً، فلو قال الشارع: اعطوا زكواتكم لأولي الفقر والمسكنة مثلا، فهل معنى ذلك لزوم اعطائها لهم مجتمعين واعطاء الزكوات مجتمعة أم ماذا؟ وعلى هذا فحمل (أُولِي الأَمْرِ) في الآية على العموم المجموعي حمل على الفرد النادر من دون قرينة ملزمة، وما ذكره من القرينة لا تصلح لذلك ما دام أهل الاجماع أنفسهم مما يحتاجون إلى المعرفة كالأئمة، ومعرفة واحد أو آحاد أيسر بكثير من معرفة مجموع المجتهدين كما قلنا، وبخاصة بعد توفر وسائل معرفتهم وأخذ الأحكام عنهم.

وقد اتضحت الإجابة بهذا على ما أورده على الشيعة من اشكالات.

أما الإشكال الأول:

فهو بالإضافة إلى وروده نقضاً عليه ـ لأنّ إطاعة الله والرسول وأهل الحل والعقد كلّها مما تتوقف على المعرفة ـ أنّ المعرفة لا يمكن أخذها قيداً في أصل التكليف، لما سبق بيانه، ولو أمكن

الصفحة 41
فالوجوبات الواردة على إطاعة الله والرسول كلّها مقيدة بها، فلا يلزم التفرقة في التكليف الواحد كما يقول.

والإشكال الثاني:

يتضح جوابه مما ذكرناه في اعتبار هذا النوع من الجموع من العمومات الاستغراقية التي ينال فيها كلّ فرد حكمه، فإذا قال المشرع الحديث ـ مثلا ـ: حكم الحكام نافذ في المحاكم المدنية، فإنّ معناه أنّ حكم كلّ واحد منهم نافذ، لا حكمهم مجتمعين; نعم يظهر من إتيانه بلسان الجمع أنّ أولي الأمر أكثر من فرد واحد، وهذا ما تقول به الشيعة، ولا يلزمه أن يكونوا مجتمعين في زمان واحد، لأنّ صدق الجمع على الأفراد الموزعين على الأزمنة لا ينافي ظاهره.

يبقى الإشكال الثالث:

وهو عدم ذكره لأولي الأمر في وجوب الردّ إليهم عند التنازع، بل اقتصر في الذكر على خصوص الله والرسول.

وهذا الإشكال أمره سهل، لجواز الحذف اعتماداً على قرينة ذكره سابقاً، وقد سبق في صدر الآية أن ساوى بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة، ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الآية الثانية ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ

الصفحة 42
مِنْهُمْ ) (1).

والإشكال الذي يرد على الشيعة ـ بعد تسليم دلالتها على عصمة أولي الأمر كما قال الفخر: أنّ القضية لا تثبت موضوعها، فهي لا تعين المراد من أولي الأمر، وهل هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) أو غيرهم؟ فلابدّ من إثبات ذلك إلى التماس أدلة أخرى من غير الآية، وسيأتي الحديث حول ذلك في جواب سؤال: (من هم أهل البيت).

والآيات الباقية التي استدلّوا بها على العصمة، حساب ما يدلّ منها عليها حساب هذه الآية من حيث عدم تعيينها للإمام المعصوم، فالمهم أن يساق الحديث إلى أدلّتهم من السنة النبوية.

____________

1- النساء: 83.