الصفحة 61
الحوض"، ثم قال: "إنّ الله عزّ وجلّ مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن"، ثم أخذ بيد عليّ فقال: "من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعادِ من عاداه" (1).

ثم قال في مرض موته بعد ذلك مؤكداً: "أيها الناس، يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً، فينطلق بي، وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم، ألا أ نّي مخلّف فيكم كتاب ربي عزّ وجلّ، وعترتي أهل بيتي"، ثم أخذ بيد علي فرفعها فقال: "هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض، فأسألهما ما خلفت فيهما" (2).

على أنّ الأحاديث الدالّة على عصمته كافية في تعيينه، أمثال:

قوله (صلى الله عليه وآله): "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار" (3).

وقوله (صلى الله عليه وآله) لعمار: "يا عمار، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلّك على ردى ولن يخرجك من هدى" (4).

____________

1- مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي 3 / 109، وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بطوله.

2- الصواعق المحرقة 2 / 368.

3- مجمع الزوائد 7 / 235.

4- تاريخ بغداد 13 / 188، تاريخ مدينة دمشق 42 / 472، البداية والنهاية 7 / 340، كنز العمال 11 / 613.


الصفحة 62
وقوله (صلى الله عليه وآله): "اللهم أدر الحق مع عليّ، حيث دار" (1).

إلى غيرها من الأحاديث.

ومن هنا قال أبو القاسم البجلي وتلامذته من المعتزلة: لو نازع علي عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلَّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه وتقدّم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنّه مالك الأمر وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار" (2)، وقال له غير مرة: "حربك حربي، وسلمك سلمي" (3).

وإذا كانت هذه الأحاديث التي مرّت تعيّن علياً وولديه، فما الذي يعيّن بقية الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)؟

____________

1- المستصفى في علم الأصول: 170، المحصول في علم أصول الفقه 6 / 134.

2- ورد حديث "علي مع الحق والحق مع علي، وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض" في: تاريخ بغداد 14/322، تاريخ مدينة دمشق 42/449، البداية والنهاية 7 / 398، الإمامة والسياسة 1 / 98.

وراجع: بحار الأنوار 33 / 332.

3- شواهد التنزيل 1 / 416، ينابيع المودّة 1 / 172 و 253.

وراجع قول البجلي في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 296.


الصفحة 63
هناك روايات مأثورة لدى الشيعة وأخرى لدى السنة، يذكرها صاحب الينابيع (1) وغيره، تصرح بأسمائهم جميعاً.

ولكن الروايات التي حفلت بها الصحاح والمسانيد لا تذكرهم بغير عددهم:

ففي رواية البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "يكون اثنا عشر أميراً"، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: "كلّهم من قريش" (2).

وفي صحيح مسلم بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله): "لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم أثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش" (3).

وفي رواية أحمد عن مسرور قال: كنا جلوساً عند عبدالله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبدالله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله: "اثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل" (4).

وفي نظير هذه الأحاديث مع اختلاف في بعض المضامين، حدّث

____________

1- ينابيع المودة 3 / 99.

2- صحيح البخاري: كتاب الأحكام ح6682.

3- صحيح مسلم: كتاب الامارة ح3393.

4- مسند أحمد: مسند المكثرين من الصحابة ح3593.


الصفحة 64
كلّ من: أبي داود والبزار والطبراني (1) وغيرهم، وطرقها في هذه الكتب كثيرة، وبخاصّة في صحيح مسلم (2) ومسند أحمد (3).

والذي يستفاد من هذه الروايات:

1 ـ أنّ عدد الأُمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر، وكلّهم من قريش.

2 ـ وأنّ هؤلاء الأُمراء معيّنون بالنصّ، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل، لقوله تعالى: (وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَي عَشَرَ نَقِيباً ) (4).

3 ـ أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي، أو حتى تقوم الساعة، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة، وأصرح من ذلك روايته الأُخرى في نفس الباب: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان" (5).

وإذا صحّت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلاّ مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله (صلى الله عليه وآله)، وهي

____________

1- راجع سنن أبي داود 4 / 106 رقم 4280، سنن الترمذي 4 / 106 رقم 2223، المعجم الكبير 2 / 196 رقم 1794.

2- صحيح مسلم: كتاب الإمارة ح 3393 و3394 و3398.

3- مسند أحمد: مسند المكثرين من الصحابة.

4- المائدة: 12.

5- صحيح مسلم: كتاب الإمارة ح 3392، ومسند أحمد: مسند المكثرين من الصحابة ح 4600 و5419.


الصفحة 65
منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقائهما حتى يردا عليه الحوض.

وصحة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة بالاستحقاق، لا السلطة الظاهرية، لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله، وهي في حدود السلطنة التشريعية لا التكوينية، لأنّ هذا النوع من السلطنة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلّط الآخرين عليهم.

على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلّينا عن حملها على هذا المعنى، لبداهة أنّ السلطنة الظاهرية قد تولاّها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلا عن انقراض دولهم وعد النص على أحد منهم ـ أمويين وعباسيين ـ باتفاق المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة، فلا يحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور، على أنّ جميع رواتها من أهل السنة ومن الموثوقين لديهم.

ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التاريخي كان منشؤها عدم تمكنّهم من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.

والسيوطي بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء، وهو:


الصفحة 66
وعلى هذا، فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وهؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم اليهم المهدي من العباسيين، لأنّه فيهم كعمر بن عبدالعزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أُوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران أحدهما: المهدي لأنه من أهل بيت محمد (1).

ولم يبيّن المنتظر الثاني، ورحم الله من قال في السيوطي: إنّه حاطب ليل (2).

وما يقال عن السيوطي يقال عن ابن روزبهان في ردّه على العلاّمة الحلي وهو يحاول توجيه هذه الأحاديث.

والحقيقة أنّ هذه الأحاديث لا تقبل توجيهاً إلاّ على مذهب الإمامية في أئمتهم، واعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الإخبار بالمغيبات أولى من محاولة إثارة الشكوك حولها، كما صنعه بعض الباحثين المحدثين، متخطياً في ذلك جميع الاعتبارات العلمية، وبخاصة بعد أن ثبت صدقها بانطباقها على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

على أنّا في غنى من هذه الروايات وغيرها بحديث الثقلين نفسه، فهو الذي ترك بأيدينا مقياساً لتشخيص العصمة في أصحابها،

____________

1- تاريخ الخلفاء: 12.

2- أضواء على السنة المحمدية: 212.


الصفحة 67
وقديماً قيل: "اعرف الحق تعرف أهله" (1).

والمقياس في العصمة هو عدم الافتراق عن القرآن، فلنمسّك بأيدينا هذا المقياس، ونسبر به الواقع السلوكي لجميع من تسمّوا بالأئمة لدى فرق الشيعة، ونختار أجدرهم بالانطباق عليه لنتمسّك بإمامته.

وأظن أنّ الأنسب والأبعد عن الادعاء أن نهمل كتب الشيعة على اختلافها، وننزع إلى كتب إخواننا من أهل السنة ونجعلها الحكم في تطبيق هذا المقياس عليهم، فإنّها أقرب إلى الموضوعية عادة من كتب قد يقال في حق أصحابها أنّ كل طائفة تريد التزيّد لأئمتها بالخصوص.

ولنا من ابن طولون مؤرخ دمشق في كتابه الأئمة الاثنا عشر، وابن حجر في صواعقه، والشيخ سليمان البلخي، وغيرهم، رادة لأمثال هذه البحوث.

ولنترك قراءة تراجمهم جميعاً للأخ أبي زهرة، ليرى أيّهم أكثر انسجاماً في واقعه مع المقياس الذي استفدناه من حديث الثقلين؟!

يقول أحمد ـ وهو يعلّق على حديث الإمام الرضا عن آبائه (عليهم السلام)

____________

1- ذكر الغزالي في المنقذ من الضلال ما هذا لفظه: والعاقل يقتدي بسيّد العقلاء علي (عليه السلام) حيث قال: "لا يعرف الحق بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله".

راجع: بحار الأنوار 40 / 125.


الصفحة 68
حين مرّ بنيسابور ـ: لو قرأتُ هذا الإسناد على مجنون لبرىء من جِنَّته (1).

____________

1- الصواعق المحرقة 2 / 595.

وفي الحلية لأبي نعيم 3 / 192: كان بعض سلفنا من المحدّثين إذا روى هذا الإسناد قال: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لأفاق.

والحديث كما رواه أبو نعيم في الحلية 3 / 192، وابن عساكر في تاريخه كما في التهذيب 2/82، والزبيدي في الاتحاف 3/146، والشجري في الأمالي 1/41، وابن حجر الهيتمي في الصواعق 2/594 ـ 595، واللفظ للأخير.

ولمّا دخل [الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)] نيسابور ـ كما في تاريخها ـ وشق سوقها، وعليه مظلة لا يرى من ورائها، تعرّض له الحافظان أبو زُرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم والحديث ما لا يحصى، فتضرّعا إليه أن يريهم وجهه ويروي لهم حديثاً عن آبائه، فاستوقف البغلة وأمر غلمانه بكف المظلة، وأقرّ عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة، فكانت له ذؤابتان مدليتان على عاتقه، والناس بين صارخ وباك ومتمرّغ في التراب ومقبّل لحافر بغلته، فصاحت العلماء: معاشر الناس أنصتوا، فأنصتوا، واستملى منه الحافظان المذكوران، فقال:

"حدثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم)، قال حدّثني جبرئيل، قال: سمعت ربّ العزّة يقول: لا إله إلاّ اللّه حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي".

ثم أرخى الستر وسار.

فعُدّ أهل المحابر والدوى الذين يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً.


الصفحة 69
والذي نرجوه ونأمل أن لا ننساه ونحن نستعرض تراجمهم، أنّ هؤلاء الأئمة الاثني عشر قد ادعوا لأنفسهم الإمامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم ـ كما اتخذهم الملايين من أتباعهم ـ قادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمنهم، وكانوا عرضة للسجون والمراقبة، وكثير منهم قتل بالسم، وفيهم من استشهد في ميدان الجهاد على يد القائمين بالحكم.

وفي هؤلاء الأئمة من تولّى الإمامة وهو ابن عشرين سنة كالحسن العسكري، بل فيهم من تولّى منصبها وهو ابن ثمان كالإمامين الجواد والهادي.

ومن المعروف عن الشيعة ادعاؤهم العصمة لأئمتهم الملازمة لدعوى الإحاطة في شؤون الشريعة جميعها، بل ادعوا الأعلمية لهم في جميع الشؤون، وهم أنفسهم صرحوا بذلك.

ومن كلمات أئمتهم في ذلك كلّه ما ورد عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في نهجه الخالد: " نحن شجرة النبوة، ومحطّ الرسالة، ومختَلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة" (1)، وقوله (عليه السلام): "أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم؟! بنا يُستعطى الهدى، ويستجلى العمى، أنّ الأئمة من قريش غُرسوا في هذا

____________

1- نهج البلاغة: 198، ذيل الخطبة 108.


الصفحة 70
البطن من هاشم، لا تصلُح على سواهم، ولا تصلُح الولاة من غيرهم" (1).

وقول علي بن الحسين السجاد: "وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن، فتأوّلوا بآرائهم واتهموا مأثور الخبر فينا"، إلى أن يقول: "فإلى مَن يفزع خلف هذه الأمّة، وقد درست أعلام هذه الملّة، ودانت الأُمة بالفرقة والاختلاف، يكفّر بعضهم بعضاً، والله تعالى يقول: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ) (2)؟ فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلاّ أعدال الكتاب وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده ولم يدع الخلق سدى من غير حجة؟ هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً؟" (3).

ومع هذه الأقوال ونظيرها صادر عن أكثر الأئمة، وهم مصحرون

____________

1- نهج البلاغة: 246، الخطبة 144.

2- آل عمران: 105.

3- أخرجه الثعلبي في تفسير آية 103 من سورة آل عمران، وعنه في الصواعق 2/444، وفيه تحريف واضح لقوله (عليه السلام): "فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلاّ أعدال الكتاب"، حيث حرّف إلى: "فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلى أهل الكتاب"، فتأمّل.

ولمعرفة المزيد من هذه الأقوال راجع: المراجعات: 19 ـ 25، المراجعة 6.


الصفحة 71
بمبادئهم، أما كان بوسع السلطة وهي تملك ما تملك من وسائل القمع أن تقضي على هذه الجبهة من المعارضة ذات الدعاوى العريضة من أيسر طرقها، وذلك بتعريض أئمتها لشيء من الامتحان العسير في بعض ما يملكه العصر من معارف، وبخاصة ما يتصل منها بغوامض الفقه والتشريع، ليسقط دعواها في الأعلمية من الأساس، أو يعرضهم إلى شيء من الامتحان في الأخلاق والسلوك ليسقط ادعاءهم العصمة؟

وإذا كان في الكبار منهم عصمة وعلم، نتيجة دربة ومعاناة، فما هو الشأن في ابن عشرين عاماً أو ابن ثمان، فهل تملك الوسائل الطبيعية تعليلا لتمثّلهم لذلك كلّه؟

ولو كان هؤلاء الأئمة في زوايا أو تكايا، وكانوا محجوبين عن الرأي العام، كما هو الشأن في أئمة الإسماعيلية أو بعض الفرق الباطنية، لكان لإضفاء الغموض والمناقبية على سلوكهم من الأتباع مجال، ولكن ما نصنع وهم مصحرون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر؟ والتأريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم وتعريضهم لمختلف وسائل الاغراء والاختبار، ومع ذلك فقد حفل التأريخ بنتائج اختباراتهم المشرّفة وسجلها بإكبار.

ولقد حدّث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة،

الصفحة 72
وبخاصة مع الإمام الجواد (عليه السلام)، مستغلّين صغر سنه عند تولي الإمامة (1).

وحتى لو افترضنا سكوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فإنّ من غير الطبيعي أن لا تحدث أكثر من مرة، تبعاً لتكرّر الحاجة إليها، وبخاصة أنّ المعارضة كانت على أشدّها في العصور العباسية.

وطريقة إعلان فضيحتهم بإحراج أئمّتهم فيما يدّعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى ـ لو أمكن ذلك ـ أيسر بكثير من تعريض الأمّة إلى حروب قد يكون الخليفة نفسه من ضحاياها، أو تعريض هؤلاء الأئمة إلى السجون والمراقبة أو المجاملة أحياناً.

وإذا كان بوسع الأخ أبي زهرة أن يعلّل هذه الظاهرة بتعليل منطقي يخضع لما نعرف من عوامل طبيعية ـ أعني ظاهرة تفوّقهم في مجالات الاختبار والتمحيص ـ بالنسبة إلى الكبار من الأئمة بإرجاعها إلى الجهد والدراسة والتجربة السلوكية سراً، فهل يوسع فضيلته أن يعلّلها في ابن عشرين سنة أو في ابن ثمان، كما هو الشأن في الأئمة الثلاثة: الجواد، والهادي، والعسكري؟

وما لنا نبعد والأخ أبو زهرة، وهو من الأساتذة الذين عانوا

____________

1- اقرأ موقفه من امتحان الخليفة له على يد يحيى بن أكثم في الصواعق المحرقة 2 / 596 ـ 597.


الصفحة 73
مشاكل التدريس في الجامعات، هل يستطيع أن يعطي الضمانة لنجاح أي أُستاذ ـ لو عرض لامتحان عسير ـ في خصوص ما ألفه من كتب من دون سابق تحضير؟ فكيف إذا وسعنا الامتحان إلى مختلف مجالات المعرفة ـ وهي المدعاة لأئمّة أهل البيت في مذهب الشيعة الإمامية ـ ودون سابق تحضير؟!

وإذا كان للصدفة ـ وهي مستحيلة ـ مجالها في امتحان ما بالنسبة إلى شخص ما، فليس لها موقع بالنسبة إليه في مختلف المجالات، فضلا عن تكرّرها بالنسبة إلى جميع الأئمة صغارهم وكبارهم، كما يحدّث في ذلك التاريخ.

وأظن أنّ في هذه الاعتبارات التي ذكرناها مجتمعة ما يغني عن استيعاب كلّ ما ذكر في تشخيص المراد من أهل البيت.

دلالة الحديث على الإمامة في الفقه والسياسة

أما الدعوى الثالثة:

وهي دلالته على إمامة الفقه لا السياسة، فهي ما لا أعرف لها وجهاً يمكن الركون إليه، لافتراضها فصل السلطتين الدينية والزمنية عن بعضهما، مع أنّ الاسلام لا يعترف بذلك، لما فيه من تجاهل لوظائف الإمامة، وهي امتداد لوظائف النبي، إلاّ فيما يتصل بعالم الاتصال بالسماء، وبخاصة فيما يتصل في الشؤون التطبيقية.

لأنّ الفكرة ـ أية فكرة ـ لا يكفي في تحقيق نفسها أن تشرع

الصفحة 74
وتعيش على صعيد من الورق، بل لابدّ أن تضمن لها تطبيقاً تتلاءم فيه الوسائل والأهداف، وإلاّ لما صحّ نسبة النجاح لتجربتها بحال من الأحوال.

ولقد كتبتُ فصلا مطولا في البحث الذي يتصل بانبثاق فكرة الإمامة والضرورات الداعية إليها في محاضراتي عن تاريخ التشريع الإسلامي في كلية الفقه، ومما جاء فيه مما يتصل بحديثنا هذا:

والذي أخاله أنّ من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق أن يكون القائم على تطبيقها شخصاً تتجسّد فيه مبادئ فكرته تجسّداً مستوعباً لمختلف المجالات التي تكفلّت الفكرة تقويمها من نفسه.

ولا نريد من التجسّد أكثر من أن يكون صاحبها خلياً عن الأفكار المعاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى، ومتى كان الإنسان بهذا المستوى استحال في حقه من وجهة نفسية أن يخرج على تعاليمها بحال.

وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الإيمان بها، وكانت لديه رواسب على خلافها، لم يكن بالطبع أميناً على تطبيقها مائة بالمائة، لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير واستئثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطّلها عن التأثير ككل، وربّما استجاب الرأي العام له تخفيفاً لحدّة الصراع في أعماقه بين ما جدّ من تعاليم

الصفحة 75
هذه الفكرة وما كان معاشاً له ومتجاوباً مع نفسه من الرواسب.

على أنّ الناس ـ كلّ الناس ـ لا يكادون يختلفون إلاّ نادراً في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها، فالتشريع الذي يحرم الرشوة أو الربا أو الاستئثار لا يمكن أن يأخذ مفعوله من نفوس الناس متى عرف الارتشاء أو المراباة أو الاستئثار في شخص المسؤول عن تطبيقه ولو في آن ما، أو احتمل فيه ذلك.

وبما أنّ الإسلام يعالج الإنسان علاجاً مستوعباً لمختلف جهاته داخلية وخارجية، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول، ثم العصمة في الذي يتولّى وظيفته من بعده.

وعلى هذا يتضح سرّ إصرار النبي على تعيين أهل بيته الذين أعدّهم الله لهذه المهمّة إعداداً خاصاً، بالإضافة إلى مواهبهم الإرادية للقيام بشؤونها.

وما لنا نبعد بالأُستاذ أبي زهرة وطبيعة النص ـ الذي تحدّث حوله ـ تقتضيه، وهل وراء التعبير بلفظ: "مخلّف" ولفظ "خليفتين" ما يؤدّي هذا المعنى؟

على أنّ الأخ أبا زهرة حاول أن يقتطع النص من أجوائه إلى تسلّط الأضواء على تحديد مفاهيمه، ويدرسه بعيداً عنها، فوقع فيما وقع فيه.

وهل نسي حضرته مجيئه في معرض التمهيد لحديث النصّ في يوم الغدير، ومما جاء فيه: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"،

الصفحة 76
وصفة الأولوية لا تكون إلاّ لمن له الولاية العامة على الأمّة ليستطيع التصرّف بما تقتضيه مصلحتها، ثم تعقيبها بإعطاء الولاية له بقوله: "من كنت وليه فهذا علي وليه" ولحوقها بالدعاء الذي لا يناسب إلاّ الولاية العامة: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره".

ثم ورودها بعد ذلك في معرض تأكيد النصّ قبيل وفاته، كما سبق التحدّث في ذلك، مما يوجب القطع بشمولها للجانب السياسي إذا لوحظت بمجموع ما لابسها من قرائن وأجواء.

على أنّ شمولها للجانب السياسي وعدم شمولها لم يعدّ موضعاً لحاجتنا اليوم لنطيل التحدث فيه، لأنّ البحث في هذا الجانب لا يثمر ثمرة فقهية، ومجاله التاريخ، وإثباته هناك لا يتوقّف على دلالة هذه الرواية فحسب، لتضافر أدلة النصّ وتكثرها في التاريخ.

وإنّما الذي يتّصل بصميم رسالتنا ـ كمقارنين ـ إثبات لزوم الرجوع إليهم في الفقه وأصوله، والحديث واف في الدلالة عليه كما ذكر أبو زهرة وغيره.

وأظنّ أنّ تحدّثنا عن هذا الحديث وما انطوى عليه من عرض كثير من الأحاديث المعتبرة ذات الدلالة على حجية رأيهم يغني عن استعراض بقية الأحاديث ودراستها، فليرجع إليها في مظانها من الكتب المطولة.


الصفحة 77

الأدلة العقلية على حجّية سنّة أهل البيت (عليهم السلام)

ودليل العقل على اعتبار العصمة لهم لا يختلف عما استدل به على اعتبارها في النبي، لوحدة الملاك فيهما، وبخاصة إذا تذكّرنا ما قلنا من أنّ الإمامة امتداد للنبوة من حيث وظائفها العامة، عدا ما يتصل بالوحي، فإنّه من مختصات النبوة، وهذا الجانب لا يستدعي العصمة بالذات إلاّ من حيث الصدق في التبليغ، وهو متوفّر في الإمام.

ولعلّ في شرحنا السابق لوظائف الإمامة ما يغني عن معاودة الحديث فيها.

وقد صوّر هذا الدليل على ألسنتهم بصور ننقلها عن دلائل الصدق بنصها:

الأُولى:

أنّ الإمام حافظ للشرع كالنبي، لأنّ حفظه من أظهر فوائد إمامته، فتجب عصمته لذلك، لأنّ المراد حفظه علماً وعملا، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلاّ معصوم، إذ لا أقل من خطأ غيره، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر مُلغىً بنظر الشارع، وهو

الصفحة 78
خلاف الضرورة، فإنّ النبي قد جاء لتعليم الأحكام كلّها وعمل الناس بها على مرور الأيام.

والثانية:

أنّ الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد ـ يشير إلى ما ذكره العلاّمة من فوائد الإمامة كإقامة الحدود وحفظ الفرائض وغيرها ـ توجب عصمته، وإلاّ لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل (1).

والثالثة:

أنّ الإمام لو عصى لوجب الإنكار عليه والايذاء له من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مفوّت للغرض من نصبه ومضادّ لوجوب طاعته وتعظيمه على الاطلاق المستفاد من قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2).

والرابعة:

لو صدرت المعصية منه لسقط محلّه من القلوب، فلا تنقاد لطاعته، فتنتفي فائدة النصب.

والخامسة:

أنّه لو عصى لكان أدون حالا من أقل آحاد الأمة، لأنّ أصغر الصغائر من أعلى الأمة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب

____________

1- للدليل تتمة مطولة فيها دفع شبه أوردها المصنف على نفسه وأجاب عليها.

2- النساء: 59.


الصفحة 79
المعاصي، أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الأمة (1).

وهذه الأدلة لو تمّت جميعاً فهي غاية ما تثبته عصمة الأئمة، ولازمها اعتبار كلّ ما يصدر عنهم موافقاً للشريعة، وهو معنى حجيته.

إلاّ أنّها لا تعين الأئمة ولا تشخّصهم، فتحتاج إلى ضميمة الأدلة السابقة من كتاب وسنة لتشخيصهم جميعاً.

والدخول في عرض ما أورد أو يورد عليها وما أجيب عنها من الشبه يخرج البحث من أيدينا إلى بحث كلامي لا نرى ضرورة الخوض فيه هنا، وهو معروض في جل كتب الشيعة الكلامية.

والخلاصة:

أنّ دلالة الكتاب والسنة على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) وأعلميتهم وافية جداً، وأنّ ما ورد من انسجام واقعهم التأريخي مع طبيعة ما فرضته أدلة حجيتهم من العصمة والأعلمية ـ وبخاصة في الأئمة الذين لا يمكن اخضاعهم للعوامل الطبيعية التي نعرفها كالأئمة الثلاثة الجواد والهادي والعسكري ـ خير ما يصلح للتأييد.

فتعميم السنة إذن لهم في موضعه.

وما أروع ما نسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي من الاستدلال

____________

1- دلائل الصدق 4 / 217 ـ 219.


الصفحة 80
على إمامة الإمام علي (عليه السلام) بقوله: استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه دليل إمامته.

وهو دليل يصلح للاستدلال به على إمامة جميع الأئمة، إذ لم يحدّث التاريخ في رواية صحيحة عن احتياج أحد منهم إلى الاستفسار عن أي مسألة أو أخذها أو دراساتها من الغير مهما كان شأنه عدا المعصوم الذي سبقه، ولو وجد لحفلت بذكره أحاديث المؤرخين كما هو الشأن في نظائره من الأهمية، وبخاصة وأنّ الشيعة يفترضون لهم ذلك.


وتمام ما انتهينا إليه من بداية الحديث عن السنة إلى هذا الموضع: أنّ حجية السنة في الجملة من ضروريات الإسلام، بل لا معنى للإسلام بدونها، فإطالة الحديث في التماس الحجج لها من التطويل غير المستساغ لوسط اسلامي، وإن كنا محتاجين في الجملة لإطالة التحدّث حول بعض ما ورد من التعميمات فيها إلى الصحابة أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام).