وروى الإمام أحمد أنه: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر، فقالت: أأنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أهله؟ فقال: بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله - عز وجل - إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين) (2).
ولقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن أبا بكر أبى أن يعطي فاطمة - رضي الله عنها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، وذلك لما عنده من حديث لم يروه غيره. وفي عهد عمر روى البخاري ومسلم أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة دفعها عمر إلى علي بن أبي طالب والعباس، وأمسك خيبر وفدكا (3)، وذلك أيضا لما عنده من حديث، وروي أن أهل البيت ردوا إلى عمر ما دفعه إليهم لأنهم وجدوه دون حقهم الذي بينه رسول الله لهم، فعن يزيد بن هرمز أن نجدة الحروري أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى، ويقول: لمن تراه؟ فقال ابن عباس: لقربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله (4).
____________
(1) رواه البخاري، الصحيح: 2 / 186، وأحمد ومسلم والبيهقي، كنز: 7 / 242.
(2) رواه أحمد بإسناد صحيح، الفتح الرباني: 23 / 63.
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي، كنز: 7 / 242.
(4) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي، الفتح الرباني: 14 / 77.
أما في ما يختص بحقوق الجنود، فقد بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سئل: ما تقول في الغنيمة؟ قال: (لله خمس، وأربعة أخماس للجيش) (3)، لكن عمر بن الخطاب اجتهد في هذا، وأمر بوضع جميع الغنائم في بيت المال، ثم قام بتقسيم هذه الغنائم وفقا بما يراه، ودون على ذلك الدواوين، وعدم قسمة عمر للغنائم يشهد به ما روي عن إبراهيم أنه قال: لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر اقسمها بيننا فإنا فتحناها، فأبى عمر وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ (4) وقال عمر: (لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله خيبر سهمانا، ولكني أردت أن يكون جزية تجري على المسلمين، وكرهت أن يترك آخر المسلمين لا شئ لهم) (5)، وفي رواية قال: (ولكني أتركها خزانة لهم) (6).
____________
(1) رواه البخاري، الصحيح: 2 / 196.
(2) رواه أحمد، الفتح الرباني: 14 / 76، وأبو داود حديث رقم 2980.
(3) رواه البغوي، كنز العمال: 4 / 375.
(4) رواه أبو عبيد وابن زنجويه، كنز: 4 / 574.
(5) رواه أحمد والبخاري وابن خزيمة في صحيحه وابن الجارود والطحاوي وأبو يعلى وابن أبي شيبة وأبو عبيد، كنز: 4 / 555.
(6) رواه البخاري وأبو داود، كنز: 4 / 514.
وكان هناك العديد من الصحابة الذين عارضوا سياسة عدم قسمة الغنائم على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منهم الزبير بن العوام، فعن سفيان بن وهب قال:
(لما فتحنا مصر بغير عهد، قام الزبير فقال: اقسمها يا عمرو بن العاص، فقال: لا أقسمها، فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله خيبر، فقال: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب عمر إليه: أقرها حتى تغزوا منها حبل الحبلة) (1)، قال المفسرون في رد عمر: (يريد حتى يغزوا أولاد الأولاد ويكون عاما في الناس)، وقيل: (أو يكون أراد المنع من القسمة حيث علقه على أمر مجهول).
ويشهد التاريخ أن عمرو بن العاص بسط يده على مصر كلها، وكان خراجها له طيلة حياته في عهد معاوية بن أبي سفيان، وذلك عندما تكاتف عمرو مع معاوية على علي بن أبي طالب، فكافأه معاوية بأن تكون مصر له طعمة، ومن الذي اعترضوا على قرار عمر: بلال بن رباح، فقد قال لهم عندما افتتحوا أرضا: اقسمها بيننا وخذ خمسها، فقال عمر: لا، هنا عين المال، ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه:
اقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال راوي الحديث: فما حال الحول ومنهم عين تطرف (2)، أي: ماتوا بفضل دعاء عمر.
وكان بلال كثير الاعتراض على سياسة عمر، عن ابن أبي حازم قال:
(جاء بلال إلى عمر حين قدم الشام، وعنده أمراء الأجناد، فقال: يا عمر،
____________
(1) رواه الشيخان وابن عساكر وابن زنجويه وأبو عبيد، كنز: 4 / 557.
(2) المغني، لابن قدامة: 2 / 716.
أما قسمة عمر بن الخطاب بين الناس، فلقد فضل عمر المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم، وروي أنه قال: (من أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما، ألا وإني بادئ بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي فمعطيهم، ثم بادئ بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان فمعطيهم، ثم بادئ بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمعطيهن)، وفي رواية: (ففرق لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا جويرية وصفية وميمونة: فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر)، ثم قال عمر: (من أسرعت به الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ به عن العطاء، فلا يلومن أحدكم إلا مناخ راحلته) (4).
وبالجملة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما قرية افتتحها الله ورسوله فهي لله ورسوله، وأيما قرية افتتحها المسلمون عنوة، فخمسها لله ولرسوله وبقيتها لمن قاتل عليها) (5)، كان صلى الله عليه وآله وسلم يسوي بين الجنود في القسمة، ولم يخص أحدا بشئ دون الآخر (6)، ولقد أخبر بالغيب عن ربه بما سيحدث من بعده،
____________
(1) مكيال معروف بالشام.
(2) رواه أبو عبيد، كنز العمال: 4 / 575.
(3) رواه البيهقي، كنز العمال: 4 / 578.
(4) رواه أبو عبيد وابن شيبة والبيهقي وابن عساكر، كنز: 4 / 556.
(5) رواه البخاري ومسلم، كنز العمال: 4 / 378.
(6) أنظر: الفتح الرباني: 13 / 72، كنز العمال: 4 / 375.
وذا كان الاجتهاد قد أخرج أهل البيت والجنود الذين شاركوا في المعارك من قسمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الاجتهاد قد أخرج المؤلفة قلوبهم من القسمة التي قسمها الله تعالى.
ولقد ذكرنا من قبل أن الله - تعالى - هو الذي قسم الصدقات، بين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره، وجزأها - سبحانه - ثمانية أجزاء، لا تقبل تغيير المغير، قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله) (التوبة: 60)، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم، وهم صنفان: صنف كفار، وصنف أسلموا على ضعف، وذلك ليأمن شرهم وفتنتهم، لأن من شأن الصدقة أنها تؤلف بين القلوب وتبسط الأمن، وظل النبي (ص يعطي هذا السهم للمؤلفة قلوبهم ليعاونوا المسلمين أو ليقوى إسلامهم، حتى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان أبو سفيان (3) وابنه معاوية (4) من الذين أعطاهم النبي من سهم المؤلفة قلوبهم، وروي (أن عمرو بن العاص حين جزع عن موته، فقيل له:
قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدينك ويستعملك، فقال: أما - والله - ما أدري أحبا
____________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن سعد، كنز العمال: 4 / 373، 374.
(2) رواه الطبراني عن معاذ، وابن عساكر عن ابن مسعود، وأبو داود عن أبي مطير باختصار، كنز 1 / 216، وأبو داود حديث رقم 2958.
(3) أنظر: صحيح مسلم: 7 / 156، البداية والنهاية: 4 / 359، كنز العمال: 9 / 176.
(4) أنظر: البداية والنهاية: 4 / 359.
(هذه فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء) (3)، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى قريشا حين أفاء الله عليه أموال هوازن، فقال الناس من الأنصار: يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فعندما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقالتهم، أرسل إلى الأنصار فجمعهم ولم يدع أحدا غيرهم، فقال: (إني لأعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله إلى رحابكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا:
أجل يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم: إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني فرطكم على الحوض) (4).
لقد كان في سهم المؤلفة امتحان وابتلاء، ولكن الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتهدوا فيه.
وروي (أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين، وكانا من المؤلفة قلوبهم، جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر، فكتب بذلك خطا، فمزقه عمر بن الخطاب، وقال: هذا شئ كان يعطيكموه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأليفا لكم، فأما
____________
(1) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، الفتح الرباني: 22 / 310، الزوائد:
9 / 353، وابن سعد، الطبقات: 1 / 263.
(2) رواه مسلم، الصحيح: 16 / 16.
(3) رواه مسلم، شرح النووي: 16 / 16.
(4) رواه البخاري ومسلم وأحمد، الفتح الرباني: 14 / 89.
وعن الشعبي أنه قال: (كنت المؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ولي أبو بكر انقطعت) (2)، واعترض ابن قدامة على انقطاع سهم المؤلفة وقال: إن الله - تعالى - سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء)، وكان - عليه الصلاة والسلام - يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة، لم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقراض زمن الوحي، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن، وليس في القرآن نسخ لذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم، أو بقول صحابي أو غيره؟ (3).
والخلاصة، ختم الله - تعالى - آية الأنفال بقوله: (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال: 1)، وفي هذا تحذير من الاختلاف، وإخبار بأن طاعة الرسول طاعة لله، وختم - سبحانه - آية الخمس بقوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (الأنفال: 41،) قال ابن كثير: (أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزلنا على الرسول في القسمة) (4)، وختم سبحانه آية الزكاة بقوله: (فريضة من الله والله عليم حكيم) (التوبة: 60)، قال ابن كثير:
____________
(1) الفتح الرباني: 9 / 62، الدر المنثور: 2 / 252، تفسير المنار: 10 / 496، فقه السنة، سيد سابق: 1 / 425.
(2) رواه ابن أبي شيبة والطبراني، تحفة الأحوازي: 3 / 335.
(3) المغني، ابن قدامة: 2 / 666.
(4) تفسير ابن كثير: 2 / 313.
والمسيرة قد اجتهدت تحت سقف الامتحان والابتلاء، ولكن أحاديث الإخبار بالغيب، وحركة التاريخ، تثبت أن بعض هذه الاجتهادات انتهت في نهاية المطاف إلى دائرة لا تحقق الأمان بصورة من الصور، قد تكون بيوت المال قد امتلأت بالذهب والفضة عند المقدمة، ولكن عند النتيجة نرى أن تفضيل هذا عن ذاك في القسمة، أدى إلى الصراع القبلي بين ربيعة ومضر، وبين الأوس والخزرج (2)، وأشعل الصراع العنصري بين العرب والعجم، والصريح والموالي (3)، كما أدى الاجتهاد في الخمس إلى اختلاف الأمة في من هم عشيرة النبي الأقربون؟ ومن هم أهل بيته وعترته؟ وأدى الاجتهاد في الأربعة أخماس الخاصة بالجنود، إلى استيلاء الأمراء في الأمصار على معظم هذه الأموال، وكان لهذا أثر سيئ على امتداد المسيرة، وأدى الاجتهاد في سهم المؤلفة، إلى استواء ضعيف الإيمان مع قويه، وأدى إلى تهييج النفوس على الانتقام بأي وسيلة، لأن الصدقة من خصائصها أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة، وتؤلف بين القلوب، وتبسط الأمن، فإذا أمسكت - وكان تحت سقف الأمة منافقون، منهم: اثنا عشر رجلا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، ولن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط - كان إمساكها سببا في فتح طرق الفساد.
رابعا: من معالم المسيرة
في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة، ثم لم تزل بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلم تنقص وتسقط حكما فحكما، يوم فيوما، بيد الحكومات الإسلامية، على امتداد
____________
(1) تفسير ابن كثير: 2 / 366.
(2) تاريخ اليعقوبي: 2 / 106.
(3) شرح نهج البلاغة: 8 / 111.
وحركة الدعوة الخاتمة في اتجاه الشعوب هي حركة المنقذ للفطرة من الانحراف والضلال، ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفكرة الصحيحة الداعية للفتح الإسلامي، وبين أن الفتح ليس للقتل أو الانتقام، وإنما هو رحمة وشفقة على البلاد المفتوحة، ولتخليصها من نير العبودية، وتطبيق النظام الإسلامي الفطري فيها، ولم تكن الغنائم هي غاية الفتح، فالغنائم ليس لها أهمية تذكر بجانب هدف الفتح الأسمى، فرفع الظلم عن البلد المفتوح هو المقصد، سواء غنم الجيش أو لم يغنم، والإسلام ينظر إلى الغنيمة على أساس أنها من قبيل جوائز التشجيع على القتل في سبيل الله، لأن المقصود من الحرب الظفر على الأعداء، فإن غلبوا فقد حصل المطلوب، وتكون الأموال التي غنمها المقاتلون زيادة على أصل الغرض، ولما كانت الغنيمة حصيلة القتال في سبيل الله، وبما أن الله - تعالى - وضع أحكاما خاصة بالقتال في سبيله، فإنه - تعالى - قسم الغنيمة على الجيش المنتصر لرفع معنوياته، وترغيبا له بالتكرار. وبالجملة، الغنيمة زيادة على أصل الغرض الذي من أجله يقاتل الجيش، وهي ملك لله ورسوله، وتوضع حيثما أراد الله ورسوله.
واجتهد الصحابة في غنائم الحرب، فصب هذا الاجتهاد - في نهاية المطاف - في دائرة التنافس والتحاسد وغير ذلك، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه في ما رواه مسلم عن عبد الله، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو غير ذلك،
والطريق إلى البغي كان عليه أمراء لا يمتازون إلا بالسواعد القوية، وروي أن حذيفة قال لعمر بن الخطاب: (إنك تستعين بالرجل الفاجر، فقال له عمر: إني لأستعمله لأستعين بقوته، ثم أكون على قفائه) (3)، وقال في فتح الباري: (والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة بالسياسة، فلأجل هذا استخلف معاوية، والمغيرة بن شعبة، وعمروا بن العاص، مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم) (4).
وذكر ابن حجر (أن عمر ولى إياس بن صبيح القضاء في البصرة، وكان إياس من أصحاب مسيلمة الكذاب) (5)، و (كتب عمر إلى الأمراء أن يشاوروا طليحة بن خويلد، وكان طليحة قد أسلم ثم ارتد ثم أسلم، وكان قد ادعى النبوة) (6)، وروي أن (ابن عدي الكلبي قال لعمر: أنا امرؤ نصراني، فقال
____________
(1) رواه مسلم، الصحيح: 18 / 97.
(2) رواه الحاكم وصححه، كنز العمال: 3 / 526.
(3) رواه أبو عبيد، كنز العمال: 5 / 771.
(4) فتح الباري: 1 / 116.
(5) الإصابة: 1 / 120.
(6) البداية والنهاية: 7 / 130.
وإذا كان طريق البغي من علاماته التنافس والتحاسد والتدابر والتباغض، فإنه يختزن في أحشائه معالم الضلال، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلا، حتى نشأ فيهم المولدون، وأبناء سبايا الأمم التي كانت بنو إسرائيل تسبيها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) (2)، فأبناء الأمم إذا لم يجدوا الرعاية والتربية الصحيحة، أصبحوا من العوامل التي تساعد على الهدم، وهؤلاء ترعرعوا في المسيرة الإسلامية تحت سقف الدولة الأموية، ثم امتدوا بامتداد المسيرة، وذكر الطبري: (إن أول سبي قدم المدينة من العجم كان في عهد أبي بكر) (3)، وذكر البلاذري: (إن معاوية حاصر قيسارية حتى فتحها فوجد من المرتزقة سبعمائة ألف، ومن السامرة ثلاثين ألفا، ومن اليهود مائتي ألف) (4)، فبعث إلى عمر عشرين ألفا من السبي (5).
فالطريق كان عليه ضعيف الإيمان، وكان عليه أبناء الأمم، وكان عليه أمراء التنافس والتحاسد، والتدابر، والتباغض، والبغي، وكان عليه المنافقون، ومنهم اثنا عشر رجلا حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا، وعلى طريق كهذا، لا نستبعد أن تضيع الصلاة، وقد سجل حذيفة البادرة الأولى قبل وفاته، فقال: (ابتلينا، حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا) (6)، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بالغيب عن ربه، أن الصلاة في طريقها إلى الضياع، فعن
____________
(1) الإصابة: 1 / 116.
(2) رواه الطبراني، كنز العمال: 1 / 181.
(3) تاريخ الأمم: 4 / 27.
(4) فتوح البلدان، ص: 147.
(5) البداية والنهاية: 7 / 54.
(6) المصدر نفسه.
وروي أن الوليد بن عقبة - وكان أخا عثمان لأمه - حين كان واليا لعثمان ابن عفان على الكوفة أخر الصلاة، فقام عبد الله بن مسعود فصلى بالناس، فأرسل إليه الوليد وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ أجاءك من أمير المؤمنين أمر أم ابتدعت؟ فقال: لم يأتني من أمير المؤمنين أمر ولم أبتدع، ولكن أبى الله - عز وجل - علينا ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك (3).
وبينما كان الإمام يؤدي الصلاة، كانت الصلاة تؤدى بروحها خلف علي بن أبي طالب، روى مسلم عن مطرف قال: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما انصرفنا من الصلاة، أخذ عمران بيدي ثم قال: صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (4)، وفي رواية: قال عمران: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وروي أن عمران بن حصين مات سنة اثنتين وخمسين هجرية (5) ولما كان حذيفة قد صلى سرا، ولما كان ابن مسعود قد شهد تأخير الصلاة، فإن أبا الدرداء قد شهد شيئا آخر، فعن أم الدرداء قالت: (دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: من أغضبك؟ قال: والله لا أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا) (6)، ومات أبو الدرداء في خلافة عثمان.
____________
(1) رواه مسلم والترمذي وصححه، تحفة الأحوازي: 1 / 524.
(2) المصدر نفسه.
(3) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، الزوائد: 1 / 324.
(4) رواه مسلم، باب: قراءة الفاتحة، الصحيح: 2 / 8.
(5) الإصابة: 5 / 26.
(6) رواه أحمد وإسناده جيد، الفتح الرباني: 1 / 200.
(ويل للعرب من شر قد اقترب على رأس الستين تصير الأمانة غنيمة، والصدقة غرامة، والشهادة بالمعرفة، والحكم بالهوى) (2)، فرأس الستين تطوير للعربة التي تنطلق بوقود الرأي، ورأس الستين هو الوعاء الذي يصب فيه إماتة الصلاة من العهود التي سبقته، وينطلق منه وقود إضاعة الصلاة، وقراءة القرآن بلا تدبر، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه: (يكون خلف بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق، وفاجر) (3)، وعن أبي سعيد قال: (المنافق كافر به، والفاجر يتأكل منه، والمؤمن يؤمن به) (4).
ومن الدلائل على أن جيل الستين أخذ وقوده ممن سبقه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في حديث آخر بأن كثرة المال هي الخلفية الأساسية التي يتم عليها تفريخ هؤلاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مما أتخوف على أمتي أن يكثر فيهم المال حتى يتنافسوا فيقتلون عليه، وإن مما أتخوف على أمتي أن يفتح لهم القرآن، حتى يقرأه المؤمن والكافر والمنافق) (5).
فالمال أنتج التنافس، والتحاسد والتدابر، والتباغض، والبغي، وفتح القرآن أمام العامة - مع عدم وجود العالم به - أدى إلى ترتيله في زحام الأسواق، حيث لا مستمع ولا منصت، ومن الأصاغر أخذ العلم الذي أدى
____________
(1) رواه أحمد وأبو يعلى، كنز العمال: 11 / 119.
(2) رواه الحاكم وصححه المستدرك: 4 / 483.
(3) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، الزوائد: 6 / 231، وقال ابن كثير: رواه أحمد وإسناده على شرط السنن، البداية: 6 / 228، التفسير: 3 / 128 ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، والبيهقي، كنز: 11 / 195، المستدرك: 4 / 507.
(4) رواه الحاكم وصححه، وأقره الذهبي، المستدرك: 4 / 507.
(5) رواه الحاكم وصححه، كنز: 10 / 200.
(إن من أشراطها أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، قال ابن المبارك: (الأصاغر الذين يقولون برأيهم) (1)، وعن ابن مسعود قال: (لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإن أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا) (2)، وعن أنس قال: (قيل: يا رسول الله، متى ندع الائتمار بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا كانت الفاحشة في كباركم، والملك في صغاركم، والعلم في رذالكم) (3).
وإذا كان أبو الدرداء قد شهد قبل وفاته أنه لا يعرف في الناس من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، فإن أنس بن مالك شهد عام ستين، حيث مقدمة الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، روى البخاري عن الزهري قال: (دخلت على أنس فوجدته يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: ما أعرف شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت) (4)، ومات أنس سنة ثلاث وتسعين، وكان يقول: (لم يبق أحد صلى القبلتين غيري) (5).
وفي الخلف الذين يضيعون الصلاة بعد أنبياء الله، يقول تعالى:
(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا * فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (مريم: 58 - 59)، قال المفسرون: ذكر الله حزب السعداء،
____________
(1) رواه ابن عبد البر، جامع العلم: 1 / 190.
(2) المصدر نفسه: 1 / 192.
(3) قال البوصيري: رواه ابن ماجة وإسناده صحيح، ورواه أحمد، الفتح الرباني: 19 / 177.
(4) رواه البخاري، الفتح الرباني: 1 / 200.
(5) الإصابة: 1 / 171.
أما القتال على الملك، فيشهد به أبو برزة الأسلمي، روى البخاري عن أبي المنهال قال: (لما كان ابن زياد ومروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة، انطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي، فقال أبي: يا أبا برزة، ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فقال: إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم - يا معشر العرب - كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالاسلام وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم،
____________
(1) تفسير ابن كثير: 3 / 128.
ونتيجة القتال على الملك، أنه لم تستطع الدولة البقاء تحت حكم إدارة مركزية واحدة، فعند بداية المسيرة اتسعت الدولة من شواطئ المحيط الأطلسي في المغرب إلى نهر السند في الشرق، ومن بحر مازندران في الشمال إلى منابع النيل في الجنوب، وكما توسعت الدولة بسرعة، تجزأت بسرعة أيضا، فإذا نظرنا على امتداد المسيرة لنرصد معالم الاختلاف والتفريق على الأرض، نجد أن عبد الرحمن الداخل، وهو أحد أفراد الأسرة الأموية، قد أسس دولة مستقلة في إسبانيا سنة 138 ه، ورفع يد الحاكم العباسي عن ذلك الجزء من الدولة العباسية، ثم ظهر الأدارسة وأسسوا دولتهم، ثم جاء الأغالبة واستولوا على بقية مناطق إفريقيا عام 184 ه، ثم ظهر ابن طولون في مصر والشام وفصلهما عن الدولة، وعند حلول سنة 323 ه أسس الأخشيد حكمه في مصر، ولم يبق تحت نفوذ الدولة العباسية السياسي من بلاد المغرب سوى رمزها.
أما في المشرق، فتم تأسيس الدولة الطاهرية بخراسان عام 204 ه، وتتابع ظهور الدويلات الصغيرة بعد ذلك شرق إيران، كالصغاريين والسامانيين والغزنويين، ثم قامت الدولة البويهية في الجزء المتبقي لهم في إيران، ثم جاء المغول عام 334 ه وأنزل الستار على الدولة العباسية، وكان للدولة فرع يحكم رمزيا في مصر، قضى عليه سليم الأول من سلاطين آل عثمان، بعد استيلائه على مصر عام 922 ه.
وعلى امتداد المسيرة كانت الأصابع اليهودية تعمل في الخفاء، كانت تثقب في الجدار بواسطة أبناء الأمة، وتحطم الأقفال بواسطة الحروب
____________
(1) رواه البخاري، الصحيح: 4 / 230.
لقد بدأ الطريق من عند البحث عن الدرهم والدينار، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن ربه جل وعلا، فقال: (كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارا ولا درهما؟
قالوا: ولم ذاك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله، فيشد الله قلوب أهل الذمة فيمنعون ما بأيديهم) (1)، وقال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: يا رسول الله، فمن قلة بنا يومئذ؟ قال:
لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) (2)، وقال صاحب عون المعبود: (أي يدعو بعضهم بعضا لمقاتلتكم وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال، ولقد وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغثاء السيل، لقلة شجاعتهم ودناءة قدرهم، وغثاء السيل: أي كالذي يحمله السيل من زبد ووسخ) (3).
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن فتنة أمته في المال، وأن الدرهم والدينار سيهلكهم كما أهلك الذين من قبلهم، وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضع كل مال في الإسلام، وأمر الأمة بأن تتمسك بالكتاب والعترة، وأن تأخذ بأسباب الحياة التي تحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، فيأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولكن القافلة تركت الأمراء الصبيان يعبثون بكل شئ،
____________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد، الفتح الرباني: 23 / 36.
(2) رواه أحمد بسند جيد، الفتح الرباني: 24 / 32، وأبو داود.
(3) عون المعبود: 11 / 405.
____________
(1) رواه مسلم، الصحيح: 18 / 20، وأحمد، الفتح الرباني: 24 / 37.
الفصل الثالث
فجر الضمير
أولا: الظلم والجور
الظلم هو: وضع الشئ في غير موضعه، وقال في لسان العرب: ومن أمثال العرب في الشبه: من استرعى الذئب فقد ظلم، وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد، ومنه حديث الوضوء: (فمن زاد أو نقص، فقد أساء وظلم)، أي أساء الأدب بتركه السنة والتأدب بأدب الشرع، وظلم نفسه بما نقصها من الثواب من ترداد المرات في الوضوء، وفي التنزيل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن) (الأنعام: 82)، قال ابن عباس: أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك، والظلم: الميل عن القصد. والعرب تقول: إلزم هذا الصوب ولا تظلم عنه، أي لا تجر عنه، وقوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: 13)، يعني أن الله - تعالى - هو المحيي المميت، الرازق المنعم وحده لا شريك له، فإذا أشرك به غيره، فذلك أعظم الظلم، لأنه جعل النعمة لغير ربها (1).
وبينت الدعوة الخاتمة أن الافتراء على الله كذبا، والتكذيب بآياته أو الإعراض عنها، والصد عن سبيله - سبحانه - من أعظم الظلم، لأن الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به، وإذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم، وأخبر - سبحانه - في كتابه بأنه أهلك القرون الأولى لما ظلموا، ووعد - سبحانه - رسله بهلاك الظالمين، قال تعالى: (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم) (إبراهيم: 13 - 14).
وبالنظر إلى المسيرة البشرية، تجد أن الظلم، في نهاية المطاف، تدثر بأكثر من دثار من حرير وزخرف، وأصبح له عقائد وثقافات وقوانين، تشرف عليها حكومات وهيئات وجمعيات، والخارج عن هذه العقائد والقوانين هو
____________
(1) لسان العرب، مادة: ظلم، ص: 2757.
وبالنظر إلى مسيرة الشعوب في عصرنا هذا، نجد للوثنية أعلاما، وهذه الوثنية استترت وراء التقدم العلمي والاختراعات الحديثة، وقد يكون التقدم مفيدا في عالم المادة، ولكن إذا كان للدنيا عمل، فلا بد أن يستقيم هذا العمل مع الزاد الفطري، ولقد ذم القرآن الكريم الذين لا يذعنون بيوم الحساب، ويعملون للدنيا بسلوكهم الطريق الذي يغذي التمتع بالدنيا المادية فحسب، قال تعالى:
(ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون) (هود: 18 - 19)، فالآية فسرت من هم الظالمون، وبينت أنهم الذين يصدون عن الدين الحق ولا يتبعون ملة الفطرة، وبالآخرة هم كافرون، وهذه الوثنية لها جماعاتها ومؤسساتها وبنوكها التي تمول مخططاتها.
وبالنظر إلى مسيرة بني إسرائيل، نجد أنها أنتجت في عصرنا الحاضر عنكبوتا ضخما تختفي وراء خيوطه العديد من مؤسسات الظلم والجور، التي تعمل على امتداد التاريخ من أجل تغذية الأمل، الذي حلم به بنو إسرائيل ليلا طويلا، وهو مملكة داود، وعاء العهد الابراهيمي، وراء هذه الخيوط تختفي جمعيات مسيحية تعمل من أجل ذات الهدف، نظرا لأن المسيحية الحاضرة خرجت من تحت عباءة بولس، الذي ادعى أنه أوحي إليه، وهو لم ير المسيح، ولم يكن من تلاميذه، ولقد وضعه القرآن وأمثاله تحت سقف الظلم، في قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) (الأنعام: 93)، وهذه الجمعيات التي تعمل ظاهرة أو من وراء ستار، لها مؤسساتها وبنوكها وأساطيلها التي تمول وتحمي مخططاتها وأهدافها.
وبالنظر إلى المسيرة الخاتمة، نجد أن الظالمين فيها قد أخذوا بذيول الذين من قبلهم واتبعوهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ومن اتبع أحدا يصل معه إلى حيث يصل، وما الله بظلام للعبيد.
1 - مسيرات وثنية
أ - البوذية
أسسها سدهار تاجوتاما الملقب ببوذا (560 - 480 ق. م)، ونشأ بوذا في بلدة على حدود نيبال، ويعتقد البوذيون أن بوذا هو ابن الله، وهو المخلص للبشرية من مآسيها وآلامها، وأنه يتحمل عنهم جميع خطاياهم، ويعتقدون أن تجسد بوذا كان بواسطة حلول روح القدس على العذراء مايا، ويعتقدون أن بوذا سيدخلهم الجنة، وأنه صعد إلى السماء بجسده بعد أن أكمل مهمته على الأرض، ويؤمنون برجعة بوذا ثانية إلى الأرض ليعيد السلام والبركة إليها، ويعتقدون أنه ترك فرائض ملزمة للبشر إلى يوم القيامة، والصلاة عندهم تؤدي إلى اجتماعات يحضرها عدد كبير من الأتباع، والديانة البوذية منتشرة بين عدد كبير من الشعوب الآسيوية، وهي مذهبان كبيران المذهب الشمالي، وقد غالى أهله في بوذا حتى ألهوه، والمذهب الجنوبي، وهؤلاء معتقداتهم أقل غلوا في بوذا، وكتبهم منسوبة إلى بوذا أو حكايات لأفعاله سجلها بعض أتباعه (1).
ب - الهندوسية
الهندوسية: ديانة وثنية يعتنقها معظم أهل الهند، لا يوجد لها مؤسس معين، ولا يعرف لمعظم كتبها مؤلفون معينون، فقد تم تشكيل الديانة، وكذلك الكتب، عبر مراحل طويلة من الزمن، وقيل: إن الآريين الغزاة الذين
____________
(1) أنظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب، ط. الرياض، ص: 110.
وكانت الديانة الهندوسية تحكم شبه القارة الهندية، ولكن المسافة الشاسعة بين المسلمين والهندوس، في نظريتهما إلى الكون والحياة، وإلى البقرة التي يعبدها الهندوس ويذبحها المسلمون ويأكلون لحمها، وكان ذلك سببا في حدوث التقسيم، حيث أعلن عن قيام دولة الباكستان بجزءيها الشرقي والغربي، الذي معظمه من المسلمين، وبقاء دولة هندية معظم سكانها من الهندوس، والمسلمون فيها أقلية كبيرة (1).
ج - السيخية
السيخ: مجموعة دينية من الهنود الذين ظهروا في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي داعين إلى دين جديد، فيه شئ من الديانتين الإسلامية والهندوسية، تحت شعار (لا هندوس ولا مسلمون)، ولقد عادوا المسلمين - خلال تاريخهم - بشكل عنيف، كما عادوا الهندوس بهدف الحصول على وطن خاص بهم، وذلك مع الاحتفاظ بالولاء الشديد للبريطانيين خلال فترة استعمار الهند.
____________
(1) أنظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، والندوة العالمية للشباب،
ط. الرياض، ص: 537.