مقــــدمـــة

     

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

 

لماذا تثار المسألة مجدداً؟

يبدو أن الاعتبارات التي أملت علينا القيام بالردّ على كثير من الأفكار والآراء التي طرحت من قبل بعض الذين يحسبون أنفسهم هم الطليعة التي تقود تيار التغيير والثورة على الموروث والقديم، ويحملون راية الانفتاح والانطلاق نحو المستقبل، والدخول إلى عالم العصر الحديث، بكل خصائصه وسماته التي يمتاز بها ـ يبدو أن هذه الاعتبارات ـ لا تزال قائمة، ولا تزال مبررات وجودها تحث علىمتابعة القضية، ولو احتاج الأمر إلى التكرار والإعادة.

فقد كان يفترض أن تقف المجابهة عند حدودها الطبيعية التي ينبغي أن تقف عندها، ذلك أن المسائل التي أثيرت، والردود التي تلتها وعقبت عليها، كان الظن أنها كافية لإقفال هذا الملف، باعتبار أن الحديث إذا ما جرى خارج إطار الموضوع المحدّد، فسيُفقد المسألة قيمتها العلمية والموضوعية.

من هنا، فإن قيام هذا التيار بإطالة المشهد الجدالي زمنياً يبدو مثيراً للريبة، وباعثاً على التفكير ملياً بإعادة النظر في أصل المشكلة، والبحث عن جذورها، فإن ذلك من شأنه أن يلقي الضوء، وينير طريق معرفة الأسباب الكامنة وراء الحرص الشديد من قبل هؤلاء على عدم إقفال هذا الملف، وتحريكه من حين إلى آخر، وإذكاء ناره وتأجيجها، لأن المتابع والمستقرىء لكل نتاج ذلك "البعض"، بل ونتاج الآخرين المؤيدين له، يبدو له أن هناك منهجاً واضحاً، ومسلكاً يتّسم بالإصرار على المضي قدماً في هذا النهج، والتمسك بكل خيوطه، الخفي منها والمعلن، ولأجل الوصول إلى مرحلة يتم معها ترسيخ هذه الأفكار باعتبارها تمثل الأطروحة الفكرية الكبرى التي يعمل على إيجادها منذ زمن ليس بالقصير، وهذا ما يعترف به هو نفسه.

 

إنحراف لا يمكن تجاهله

ولا يضرّ المرء قيامه بإلقاء نظرة سريعة على تلك المقولات، مستعرضاً بشكل سريع ومتسلسل، أهم عناوينها وسماتها الكبرى والرئيسية التي يمكن من خلالها تمييز المسلك الفكري والمنهجي عنده. ولا نشك بأن القارىء سيخرج بنتيجة مفادها: أنه لا يمكن اعتبار ذلك المنهج إخلالاً في مسألة من المسائل التاريخية أو العقيدية أو الفقهية، إذ لو كانت المسألة بهذا الحجم وبهذا المقدار، لكانت الأمور أسهل، وطريقة معالجتها أيسر، وأن هذا يحصل عند أكثر العلماء إن لـم يكن كلهم، وهذا من الأمور التي لا شك أنها تساعد على تنمية وتطوير المباحث العلمية في جميع فروعها وتشعباتها.

أما عندما يلاحظ المتتبع لكل نتاج هؤلاء، ويرصد أن الذي يُطرح، إنما هو برنامج متكامل، ونسيج فكري محكم الترابط تجمع بين خطوطه مفاصل أساسية تبرز بوضوح حجم هذا المشروع الذي يراد تثبيته وترسيخه، فإن ذلك أمر يبعث على القلق، ويثير الارتياب والشك، مما يضعِّف إمكانية تجاهله أو السكوت عنه.

 

خطر السقوط إلى الهاوية

على أن تضاؤل إمكانية السكوت على ما يجري، نابع من معطيات باعثة على الخشية من أن تكون هناك إرادة واعية وراء هذا المشروع، الذي يفضي إلى انتزاع منشآت، وبنى فكرية وثقافية من مصادرها الغربية، مع ما يرافق ذلك من مخاطر ومصاعب جمّة، ويحويه من سقطات ومهاوي، وبالتالي ارتفاع احتمالات القول بأننا مقبلون على انتكاسات خطيرة وشنيعة بخطورة إلتماس إسقاط هذه المقولات المستوردة على ثقافتنا وفكرنا وتراثنا بشكل اعتباطي غير مدروس، ولا منتقى بشكل جيد وكفؤ ومتلائم مع حاجاتنا، وبخاصة إذا كان اللجوء إلى مثل هذه الاسقاطات يطال الفكر الديني برمّته، والمنظومة القيمية بأكملها.

 

الأصالة والمعاصرة والنموذج المرعب

ولعل في الإطلالة على المعركة التي تدور حول إشكالية الأصالة والمعاصرة، أو ما يعرف بظاهرة الحداثة وما بعدها وأثرها على التراث الفكري والثقافي، يشكل التماساً لرؤية الحقيقة كما هي.

فقد بات واضحاً حجم المشكلة التي أثارتها زوبعة الحداثة في الوعي النهضوي في التاريخ الحديث للأمة العربية والإسلامية، وراحت تتخبّط فيه النخب الثقافية والعلمية بين مؤيد لها، وآخر معترض عليها بشدة، وثالث يقف حائراً بين هذا وذاك، ولا تزال المشكلة قائمة إلى الآن، ولا يبدو أنها تؤذن بالأفول بسبب عجز المثقف العربي عن إيجاد نوع من التوازن والموائمة بين محاولات الالتحاق بركب الحداثة والمعاصرة من جهة، والمحافظة على مخزونه الأصيل والمتميز من جهة أخرى.

على أن الذي ينذر بتحولات خطيرة أن مصاعب الموائمة بين الأصالة والمعاصرة، أو فلنقل "الأصيل والمعاصر" لا تنبع من ضعف في أركانها وأسسها ومنطلقاتها من حيث ذاته، وإنما من العقلية التي يتحرّك بها دعاة المعاصرة، أعني عقلية "الإقصاء" و"الإستبعاد" و"الحجر"، تلك العقلية التي جعلت الحداثة تظهر وكأنها يراد لها ومنها أن تكون أداة في عملية هدم وتخريب وإبادة لتاريخ باسره ولمفاهيم، وقيم، وحقائق راهنة وقائمة.

وهذه العقلية هي التي أدّت إلى حصول شرخ بين التيارين بحيث بات يصعب تصور التوفيق بينهما، إذ مع هذه العقلية باتت الحداثة تعني:

الانقطاع المطلق أو شبه المطلق عن التراث وعن الممارسة التراثية.

 

إقتحام المسلمات

من هنا نجد، أن هذا "البعض"، وفي أول خطوة عملية له لإظهار ولائه للحداثة، وإبراز صدقه في أنه في عداد "الحداثويين"، صرّح بأنه "يسعى لاقتحام المسلمات". حيث أن هذا الاقتحام يمثل "بطاقة" الدخول إلى عالم الحداثة والمجتمع الحداثوي المميز!!

 

مفارقات حداثوية

ولكن ثمّة مفارقة تبدو واضحة في خطاب هؤلاء وسلوكهم العلمي. فإن هؤلاء الداعين إلى "تنقية التراث" من الشوائب، وإعادة النظر في النصوص المقدسة وفق المناهج العلمية الحديثة، والآليات الإجرائية المستحدثة، مدّعين أن ما قدم من نصوص ليس نهائياً ولا يصح جعله كذلك، فالمتقدمون رجال ونحن رجال على حدّ تعبيرهم، ففي الوقت الذي يقولون فيه ذلك، يعتبرون أن ما يحاولون إرساءه من قواعد ومبادىء عقلانية بزعمهم، هي قضايا راسخة ونهائية، لا يجوز المساس بها، ولا تصح مناقشتها أو توهينها، لأن ذلك مساس بأصحابها، ومحاولات للنيل من رموزها الذين هم بنظرهم رموز الدين والإسلام، فيصبح التراث فجأة وسيلة لإضفاء نوع من القداسة عليهم، وبطاقة حماية وحصانة لهم من أي نقد.

 

ذاتية بلباس الموضوعية

وعلى هذا وذاك، تصبح ممارساتهم التي تهدف إلى توهين المعتقد والركائز الاعتقادية للناس تمثل أقصى حالات الانفتاح الفكري، وأرقى مراتب الحوار العلمي، أما مناقشة أفكارهم وإظهار زيفها وبطلانها فيمثل "أبشع حالات العدوان" وأكثر المناهج "تخلفاً"، لأنها تريد النيل من "الرموز" بتصوّرهم، و"إسقاط الساحة" في ظلام "الفتن والتخلف"!!

فتتلبس الذاتية بلباس الموضوعية، وترتدي "الأنا" رداء "النحن"، ويغدو التحجّر "انفتاحاً"، والتخلف "حداثة"..

 

أبواب الحوار الكرتونية

ثم بعد ذلك كله، يدعونك للولوج في أبواب الحوار التي يدّعون أنها مشرعة فإذا ما حاول أحدهم ولوجها ارتطم بسدود منيعة، وجدران محصنة، وانكشفت له الحقيقة، حقيقة تلك الأبواب التي سرعان ما سيتضح أنها ليست سوى أبواب كتلك التي تظهر في الأفلام الكرتونية، أعني رسومات لأبواب مفتوحة مرسومة على جدران من الحديد والإسمنت المسلح بشتى أنواع الممانعات.

 

صخب أجوف

ومن جهة أخرى فإن ذلك الذي يدعو إلى إعادة النظر بالموروث، مدعياً احتواء هذا الموروث على الكثير من الخرافات لا نجد له عملاً واحداً تحقيقياً، ولا محاولة جدّية واحدة تدلل على عمله بما يدعو الناس إليه.

بل إننا لو تأملنا فيما يقدمه للناس من تشكيكات وما يرسمه من علامات استفهام على أنه من إبداعاته الفكرية، لألفيناه قديماً قد "أكل عليه الدهر وشرب" وابطله علماؤنا منذ عشرات أو مئات السنين، وهو في الواقع، وبعد تصفيته من المفردات اللفظية الجديدة، وفصله عن الصخب الذي يثير في القارىء إحساساً بالرهبة والإحباط معا، ليس إلا شراباً معتقاً قدم في قوارير جديدة وملمعة. وتكون النتيجة هي: أن هؤلاء يرفضون ما عندهم ويسقطونه، ثم لا يقدمون أي شيء سواه مما يدّعونه أو يدعون الناس إليه، ورغم ذلك لا يتوقف ضجيجهم وصخبهم.

 

الشاذ  المطلوب

والمتأمل في نصوص هؤلاء التي تحدثوا فيها عن التراث، يجد أنهم قد أنزلوا أنفسهم المنزلة التي لا يستحقون، فتكلموا بما لا يعرفون، وتطاولوا على البتّ فيما لا يفقهون مع إيجابهم على الناس قبول كلامهم فيه وترك ما يؤثر من خلافه.

والحق أن قلة اطلاعهم على معارفه، وضعف استيناسهم بمقاصده، لا ينازع فيهما إلا من هو أقل علماً وأضعف أنساً.

ولا أدل على ذلك ولا أوضح من اتباعهم للشاذ والغريب من الأقوال إذ لا يطلب الشاذ إلا من يريد الزيغ عن الحق، ولا يطلب الغريب إلا من يريد المخالفة والظهور.

تحقير العظيم وتعظيم الحقير

من هنا نجد أن ما كان يجب أن يعظم من معانٍ اصيلة عمدوا إلى تحقيره، وما كان يجوز أو يجب تحقيره من وسائل مقتبسة عمدوا إلى تعظيمه، وكأنهم يتنافسون في تثبيط العزائم والهمم، وتمزيق العقول عند مخاطبيهم، وكأنهم لا يعلمون أنهم لا يعظمون بالتنكر للتراث، ولا يظهرون بالقدح في أهله وأتباعه.

 

أخطار فوق أخطار

ثم إن هذه الحملة على العقيدة وأصولها، وعلى المفاهيم الدينية فضلاً عن كونها تمثل خطراً على الركائز الإيمانية والأسس العقدية للإنسان المؤمن، فإن لها من ناحية خطرها، بعداً آخر يتمثل في دفع الكتّاب والباحثين، والعلماء والمثقفين للنكوص إلى الخلف للدفاع عن خطوطهم الخلفية وأصولهم الفكرية بدلاً من التقدم إلى الأمام للتصدّي وإبداء الرأي والنظر في المستجدات الفكرية والثقافية والاجتماعية وغيرها، مما يخاطب عقول الناس، ويؤثر في سلوكهم وتجربتهم العملية.

على أن القضية ليست قضية ضعف في "الخطوط الخلفية الفكرية" للأصل الديني، بحيث يمكن لأي عابث أن يخلخل بنيانه أو يضعف أركانه، وإنما القضية هي: أن المتصدين للعبث في مفاهيم الناس الإيمانية، إنما يعبثون فيها باسم الدين، ويقدمون ما يقدمونه لهم على أنه الأصل والمعتمد في المفاهيم والمعتقد، في الوقت الذي لا يعدو أن يكون مجرد آراء غريبة وشاذة لهم، علماً أن الناس إنما يطلبون منهم أن يعرّفوهم ـ فقط ـ بما هو متفق ومتسالم عليه في المذهب، مما دل عليه الدليل والبرهان لا ما تجترحه الأوهام والخيالات في أجواء العجيج والضجيج، وفي صخب الزغاريد والأهازيج..

 

العقل والغيب

ومهما يكن من أمر، فإن من كان هذا حاله، كيف يجوز الاطمئنان إليه، في دلالة الناس على الحق، وهو ما فتىء يلبّس على الغير، ويشكك فيما عنده وفيما ورثه. وليس ذلك بغريب، لأن المعرفة التي يحملها ليست من سنخ المعرفة التي أنتجتها مضامين التراث، وتكونت بها مقاصده، وهي المعرفة التي تصل العقل بالغيب وتربط العلم بالعمل. أما المعرفة التي تقابلها، مما رضيها لنفسه، ويحاول أن يفرضها على غيره، فهي مجرد هواجس، تقطع العقل عن الغيب وتفصل بين العلم والعمل.

 

محاولة استكشاف أصل المشكلة

ولو أردنا أن نسعى لاكتشاف جذور المشكلة عند هؤلاء، وسبب انحرافهم عن جادة الصواب، وتنكرهم للتراث، فإن محاولة تلمّس بعض السمات الرئيسية لمسلكهم المعرفي، وتكوّن شخصيتهم الفكرية، يتيح لنا معرفة المسلك العام لمثل هذا المشروع.. ونحن سنحاول ذلك فيما يلي فنقول:

 

الثقافة المنفردة

بداية، لا بد من التطرق إلى زاوية مهمة من الزوايا التي تسمح بإلقاء نظرة على قضية أساسية، تساعد في توسيع دائرة الرؤية لحيثيةٍ تشكل مفصلاً مهماً في الانحراف أو الانزلاق نحو متاهات عير محسوبة النتائج والعواقب.  وما نتحدّث عنه هو قيام "البعض" بالعمل على تكوين بنية ثقافية عامة وواسعة بشكل منفردومنعزل، من خلال قراءة الكتب ومطالعتها على تنوّعها واختلافها وتشعبها. إذ ثمة فرق كبير بين من هو كذلك وبين آخر يعمل في دائرة علمية واسعة متشكلة من مجموعة كبيرة من رواد المعرفة، وتحت إشراف أساتذة كبار كفوئين تقوم بينهم روابط متينة من التواصل والتباحث، وتدور فيما بينهم المناقشات والمطارحات حول المسائل، الأمر الذي يؤثر في بلورة واستخراج المواهب الكامنة وصقلها، كما تعمل على تحفيز القدرات الكامنة، مما يساعد على تكوين ذهنية علمية صحيحة على أسس منهجية صحيحة لا مجال فيها لأن ينفرد فرد من هذه المجموعة برأيه بمعزل عن الآخرين، فالكل في رصد دائم لبعضهم بعضاً، على أساس أن الفكرة، أي فكرة، يجب أن تأخذ مداها الأقصى في طرحها ومناقشتها وبحثها وتحليلها وتشريحها، لتصير في النهاية إلى حيث ينبغي أن تكون بخلاف النموذج الأول المنفرد والمنعزل عن هذه الأجواء التي ذكرناها، لأن الثقافة الأحادية الجانب بالغاً ما بلغ شأنها تبقى محكومة للنظرة الضيقة والأبعاد المحدودة لهذا الشخص، وبالتالي عدم النفاذ إلى أعماق المسائل وجوهرها. لهذا كانت المذاكرة والمباحثة للمجموعات، وباشتراك هيئات كبيرة من طلبة العلوم، هي الطريق الأمثل لإيجاد أرضية صالحة، ولتهيئة مناخ صحي، لمسيرة العلم والمعرفة والثقافة.

والنماذج التي يمكن اعتمادها كشواهد على صحة هذا الرأي، هي من الكثرة بحيث يمكن أن يشكل التاريخ العلمي كله شاهداً عليها.

وإذا رغب هذا "البعض" عن الأخذ بهذه الحقيقة منا، فليتوجه إلى أرباب الحداثة الغربية، فإنهم لن يقولوا له سوى ما قلناه، وليأخذها منهم وليعمل بها، فلا فرق.

ولعل من أخطر مساوىء هذا المسلك الأحادي الجانب، أن صاحبه يصبح عرضة لانحرافات خطيرة تشكل مع الوقت بنية ذهنية تعمل على تكوين خصائصها واتجاهاتها الفكرية الخاصة بها، لتصبح مع مرور الوقت معلماً من معالم شخصيته التي تميزه عن الآخرين، ولعل الأخطر من ذلك، أن تتحوّل هذه البنية الفكرية المنحرفة عند أصحابها إلى ميزات يفتخرون بها.

 

الكفاءة هي الأساس

ولكن، لو سلمنا جدلاً بأن الثقافة المنفردة يمكن لها أن تؤمِّن لصاحبها نصيباً من المعرفة والمعلومات المتعلقة في هذا الموضوع  أو ذاك، وقد يحدث أن ترفع هذه الثقافة المنفردة صاحبها إلى مستويات اجتماعية وسياسية معينة، وتوسّع من دائرة نفوذه على المستوى الشعبي، باعتبار أن الجمهور أو الرأي العام يخضع في تركيبته إلى اعتبارات متفاوتة من حيث الوعي والإدراك والمستوى الثقافي، فهو يتأثر بكثير من المعطيات التي لا يعرف ولا يدرك خلفياتها، ولا حتى أهدافها وأبعادها، إنما ينساق بشكل عفوي وطبيعي باتجاه الأمور الجاهزة والتي تعتبر عنده بحكم المسلمات، كونها تصدر عن رموز يراها ـ بحكم تركيبته ـ أنها تصلح لأن تكون في موقع القرار والحكم والإرشاد، بينما هي في واقع الأمر وأساسه لها حكم آخر عند ذوي الاختصاص وأهل المعرفة والخبرة والكفاءة، إذ هي في الحالة الأولى ـ عند الرأي العام ـ علاقة بين مرسل ومتلقّي يقبل ما يلقى إليه دون مناقشة وتحليل أو ـ ربما ـ حتى دون أدنى مراجعة، وذلك للأسباب التي ذكرناها.

بينما في الحالة الثانية، فهي مختلفة اختلافاً جوهرياً من حيث القبول والأخذ.

 فالميزان والحكم الفصل في كلتا الحالتين هو في خضوع أو عدم خضوع المسألة للاعتبارات العلمية، ولقواعد المنطق، وأصول البحث العلمي، وكذا خضوعها لضوابط علمية دقيقة تميّز بين ما هو صحيح وما هو فاسد، وإلا لزم أن لا تكون هناك حقيقة على الاطلاق وهذا خلاف الفطرة والمنطق والقانون. وهنا تبرز بوضوح أهمية الكفاءة العلمية، وقيمة الأفكار من حيث قوة دليلها وحجتها ومدى صدقيتها وواقعيتها، وانسجامها مع النسق العام في الدائرة العلمية والثقافية.

فالمقياس الصحيح والسليم في صحة الفكرة وصدقها وواقعيتها وسلامتها، هو في مدى صمودها أمام النقد العلمي، وتستمد مبرر وجودها واستمرارها من خلال ما تملكه وتحتويه من عناصر قوة الدليل والبرهان. فليس المقياس ـ ولا يمكن أن يكون ـ هو في التماس شفاعة الكثرة العددية للذين يتبنون هذه الفكرة أو تلك، لكي تكون هذه الكثرة بديلاً عن الدليل العلمي والضوابط والعلمية.

 وأيضاً لا يمكن أن تكون صحة الفكرة وسلامتها، مستمدة من المواقع الاجتماعية والسياسية؛ باعتبار أن هذه المواقع عبارة عن بناءات فوقية ترتكز على مجموعة من الأفكار التي تقوم عليها وتكوّن أساسها. فالكفاءة العلمية المتخصصة والمتمرسة في جوانب الموضوع، والتي لها باع طويل في مجالات البحث والتنقيب والتحليل، وكذلك التوجه الجاد والسليم، والتجرد عن الغايات والأهواء، شرط أساسي في تدعيم وتطوير عملية البحث نفسها.

فالكفاءة إذن، هي المحك العلمي والعملي في تمييز من هو جدير بأن يكون في مستوى التعاطي مع القضايا الفكرية الكبيرة، ممن هو طارىء عليها، يناوشها من بعيد، ولا يجرؤ على اقتحامها كي لا تفضحه، ولا يليق به، والحال هذه، أن يبقى مكتوف الأيدي أمامها، باعتباره رمزاً كبيراً في المعادلة القائمة على الساحة الفكرية والثقافية.

 

رموز الوقت الضائع

إنعزال عن البحوث العلمية الجادة، ثقافة فردية آحادية، إنبهار بالغرب والحداثة ومنجزاتها، عودة مبكرة من عاصمة العلم ومعقله إلى الإقامة في ساحة متواضعة علمياً.

عناصر اجتمعت في شخص.

ظروف تاريخية مؤاتية إستطاع الاستفادة منها إلى أقصى الحدود.

إنحدار من عائلة دينية، خطاب ثوري، محمل حسن.

ظروف أضيفت لسابقاتها عزّزت موقعه، وجعلته بمنأى عن المراقبة والمسائلة والمتابعة لنتاجه الفكري..

وإذا أضيفت إلى كل هذه الظروف، أوضاع سياسية وأمنية حساسة ومعقدة، فلا شك أن القضية ستتعقد أكثر، لكنها في نفس الوقت تصبح واضحة ومفهومة أكثر، فنعرف من خلالها الأسباب والدوافع والدواعي التي جعلت هذا المشروع وتلك المقولات بمنأى عن القراءة والنقد.

 

الحوار القمعي

ورغم عدم إطلاع أغلب العلماء والمفكرين والمثقفين والهيئات العلمية والثقافية، على طبيعة الأفكار التي كان يطرحها البعض، إلا أنه قد يمكن القول بأن ثمة فئة منها كانت على علم بها، ولعل كل تلك الظروف هي التي شكلت حصانة لذلك "البعض" حالت دون القيام بأي مجهود يمكن أن يفتح ملف هذه القضية ويطرحه على بساط البحث.

ولكن، لما كانت القضايا التي تثار على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية بالنسبة للإنسان المؤمن، لأنها تمثل قضاياه الإيمانية والعقيدية، ولما كان من غير المعلوم أن تنحسر في وقت قريب الظروف السياسية والأمنية التي تمر بها البلاد، بل ربما تزداد تعقيداً على تعقيد، بسبب هذه الملابسات جميعاً، وربما اغتراراً بمنطق هذا "البعض" الداعي إلى الحوار مع مختلف الفئات، بدأت بعض الأصوات الخافتة جداً تسمع من هنا وهناك من قبل بعض الذين يتعاطون بالشأن العلمي للجهر بما عندهم من ملاحظات نقدية على تلك المقولات.

 وهنا تساءل الكثيرون: هل فتح باب الحوار كما كان متوقعاً؟ فجاءتهم الإجابة الصحيحة والصريحة لتقول: نعم لقد فتح باب الحوار لكنه من نوع آخر غير الذي كان يدعو إليه ذلك "البعض".

إنه "الحوار القمعي"، فالدليل العلمي ووجه بالقمع، والنقد ووجه بالاتهام وبالسباب والشتائم، أما الأسباب الموجبة لهذا القمع، فهي ـ على حد زعمهم ـ حساسية الأوضاع التي تمر بها الأمة، والظروف الدقيقة التي تعيشها.

وهكذا.. فقد جاء الرد (الحوار) على المنتقدين ليصنفهم على أساس أن أحدهم ينطلق من عقد نفسية، وآخر تحركه مطامع مالية، وثالث يستحكم به جهله، ورابع خرج عن خط الصواب ولا يعيده إليه، إلا "التأديب" بالضرب المبرح الذي أدخله المستشفى لعدة أيام.

إنها مفردات " قاموس الحوار الحديث" التي تمسك بها هؤلاء، وأخذوا يطلقونها عشوائياً يميناً ويساراً على كل من تسوّل له نفسه حتى أن يفكر بتوجيه نقد، مهما كانت طبيعته، إلى "الرمز" أو "المرشد".

 

شخص غير عادي لدور غير عادي

لقد كانت المحاولات النقدية التي حصلت مرعبة في نتائجها، وهي تتمحور حول مجموعة من الأسئلة:

1 ـ ترى إذا وصل شخص ما إلى مراتب حساسة، وكان يعيش في ظروف حساسة تفرض المحافظة على وحدة الصف، فإلى أي مدى يمكن له أن يمرّر مشروعه في زرع بذور التشكيك وتغيير معالم المذهب؟!

2 ـ هل تضيق الساحة بالفعل، مهما كانت ظروفها دقيقة، عن حوار بنّاء؟

3 ـ ولماذا يصوّر نقد الفكرة على أنه نقد شخص؟ فهل ثمة عجز عن التفريق بين الذاتية والموضوعية؟

4 ـ ولماذا تتسع الساحة لذلك "البعض" ليطرح أفكاره وتشكيكاته وهواجسه المعرفية، ولا تتسع للآخرين، ممن يريدون الحوار والنقاش لا العراك والصراع؟!

5 ـ ولماذا النقد يواجه دائماً بالاتهام، فذلك معقّد، وآخر طامع، وثالث جاهل، ورابع موتور، وخامس عميل، وسادس مستغفل إلخ..؟!!

بهذه الطريقة تم إخماد وقمع تلك المحاولات النقدية، ولعل نجاح "البعض" في قمعها بسرعة، يعود إلى أن الذين تصدّوا لنقده لـم يكونوا من المعروفين، الأمر الذي يسّر مهمة إخماد حركتهم في مهدها.

على أن ثمة عاملاً جديداً سيدخل فيما بعد ليؤثر على المعادلة، ويصبح مادة جديدة للاتهام، وهي إعلان ذلك "البعض" بعد فترة مرجعيته، وبالتالي فإن ربط أي نقد له بخلافات مرجعية ستصبح تهمة جاهزة.

ومهما يكن من أمر، فرغم أن محصلة المحاولات تلك كانت مرعبة، إلا أنها أوضحت بشكل لا لبس فيه أن من يحاول لاحقاً الدخول في معترك النقد لا بد وأن يتمتع بمواصفات غير عادية؛ لأنه سيتعرّض لشتى أنواع التهم.

إذن، لا بد من شخص غير عادي لمهمة غير عادية، ولا بد من اسم لامع تتوفر فيه جملة من الشروط التي تجعل من مفردات "قاموس الحوار الحديث" غير ذات جدوى : ونقصد بهذه المفردات تلك التي أشرنا إليها قبل قليل.

1 ـ غير طامع في مرجعية ولا ساع لها، أو إلى غيرها من مواقع.

2 - غير طامع في مال وهو مستغنٍ عنه.

3 ـ ذو كفاءة علمية مشهودة وذائعة الصيت.

4 ـ لا توجد حساسية بينه وبين ذلك "البعض" من أي نوع، فكيف إذا كانت له علاقات وطيدة "جداً" معه.

5 ـ مخلص في خدمة الإسلام، وإعلاء كلمته، والذود عن مذهب أهل البيت(ع).

6 ـ محترم من قبل الجهات ذات الشأن والأمر والنهي في الساحة الإسلامية اللبنانية.

7 ـ يتمتع بامتدادات داخل المعاهد والحوزات العلمية لا سيما في قم نظراً لموقعه العلمي.

8 ـ أن يكون لبنانياً تجنباً للتهمة الجاهزة التي تقول: إن القضية هي قضية عرقية أو قومية، بين مرجعية فارسية وأخرى غربية.

لقد باتت القضية واضحة، فالمواجهة باتت مستحيلة باقل من هذه المواصفات.

وبنظرة سريعة إلى الشخصيات التي يمكن أن تتمتع بهذه المواصفات، فإن الأمر محصور ومتعين بشخصية واحدة لا غير..

إنه العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي.

ولكن أين نحن والمحقق العاملي، فذاك يعيش في إيران متفرّغ للشؤون العلمية والحوزوية، وهو غير مطلع على ما يجري هنا، وحسن الظاهر حاكم بحيث يصعب تصديق تلك المقولات.

وجاءت الصدمة الغيبية لتفتح الملف مباشرة، وتدفع بالمحقق العاملي للدخول على خطّ القضية.

 

الزهراء(ع) تتدخل مجدداً

إذن، لقد أخمدت الأصوات التي كادت أن تهمس بالنقد لـ"الرمز" و"المرشد"، ويكاد الناس لا يعلمون بها أصلاً.

ولا شك أن أي محاولة نقدية جديدة من هذا النوع سيتم إخمادها بسهولة عبر الأساليب الحديثة " للحوار". ولكن جاء ما لم يكن بالحسبان.

ففي يوم من الأيام، وفي مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد (بيروت)، وفي محاضرة لمجموعة من الأخوات، ودون أي سابق إنذار عمد ذلك "البعض" ابتداءً، إلى طرح ما يجول في خاطره، ما أطلق عليه هو أنه علامات استفهام، وهو في الحقيقة تشكيك يستبطن الإنكار لكل ما جرى على الزهراء(ع) من مهاجمة القوم لدارها، وإحراق بابه، وكسر ضلعها الشريف، وإسقاط جنينها.. بدعوى أن القوم الذين هجموا على الدار كانت قلوبهم مملوؤة بحب الزهراء(ع) فكيف نتصوّر أن يهجموا عليها؟! وأضاف :على أن البيوت آنذاك لـم يكن لها أبواب!!! وفي مناسبة أخرى تحدث عن قول الخليفة الثاني لمن قال له عندما همّ بإحراق الباب إن فيها فاطمة فقال: وإن، وتجلت في حديثه هذا فنون رفيعة من الذوق اللغوي، والخبرة البالغة باللغة العربية الفصيحة والبليغة والتي ظهرت بأبهى حللها، وبأحسن صورها، حين أصبح معنى: "وإن" عند هؤلاء المشككين "ما إلنا شغل بفاطمة إحنا جايين ناخذ علي"!!!

وهكذا.. فكما كان موقف الزهراء(ع) في حياتها من موضوع الخلافة وفدك، وموقفها الصارخ بعد وفاتها بوصية إخفاء قبرها، موقفاً حاسماً فتح الباب على مصراعيه لإثبات عدم صلاحية وأهلية من تصدّى لمقام الخلافة، بل وحفظ بذور التشيع، فقد كان لإنكار مظلوميتها وقهرها الدورالحاسم أيضاً في ظهور الأمر وانكشاف الحقيقة.

 

الانحناء أمام العاصفة

وذاع الخبر وانتشر حتى وصل إلى مدينة قم المقدسة؛ من يصدّق: فلان يشكك بما جرى على الزهراء(ع) بعد وفاة أبيها(ص)؟!!!

لقد كانت الظروف التي أشرنا إليها آنفاً تجعل من الصعب تصديق ذلك، وراحت الأعذار تنطلق من هنا وهناك:

* ربما يكون الناقل مخطئاً؟
*  ربما ثمة مؤامرة خلف ذلك؟

*  ربما يوجد للكلام معنى آخر خاف.

لكن ردّ هذه الأعذار متيسر وسهل؛ حيث كان الشريط المسجل (فيديو كاسيت) حاضراً واستمع إليه القوم هناك، وكانت المفاجأة.

ضجت الحوزة العلمية من هذه المقولة، وتحرك المخلصون لتطويق ذيول القضية ، ظناً منهم أنها تنحصر بما جرى على الزهراء(ع)؛ لقد كانت خلفية تحركهم مقنعة للغاية:

ينبغي تطويق القضية، وخنقها في مهدها قبل أن تنتشر فتصبح ذريعة يتمسك بها المخالفون حيث سيقولون: لقد ظهرت براءة فلان وفلان مما نسب إليهم من هتك لحرمة الزهراء(ع) وذلك على لسان واحد من المعروفين منهم.

وقد بادر العلامة المحقق إلى إرسال رسالة إلى ذلك "البعض" يستوضح فيها عن حقيقة الأمر مما نسب إليه، فأجاب الأخير بأن ذلك صحيح؛ لكنه كان مجرد طرح علامات استفهام، وقد كان ذلك قبل الاطلاع على النصوص التاريخية، وبعد الاطلاع، فقد وجد في كتاب: دلائل الإمامة للطبري ما يثبت الحادثة تاريخياً.

وقد حاول العلامة المحقق أن يستفيد من هذا الجواب في تلطيف الأجواء، وأخذ يتصل بالمعاهد والحوزات العلمية، حتى طبع منها المئات وعلّقت على لوحات الإعلان في المدارس وغيرها، وأرسل عدداً وفيراً منها إلى الشخصيات العلمية.

فقد بات واضحاً لكل أحد، أن فلاناً قد تراجع، وعليه، فقد أقفل الملف، وعادت الأمور إلى طبيعتها وارتاح القوم وتنفس الجميع الصعداء..

 

الزهراء (ع) تتدخل من جديد

ولكن صاحب هذه المقولات لم يهدأ بل أخذ يثير الأمر من جديد.

وفجأة وبسبب ظروف خاصة تتعلق بالحياة العائلية للعلامة المحقق جعفر مرتضى العاملي، من حيث إصرار والده الذي كان مريضاً آنذاك على أن يكون إلى جانبه، فاضطره ذلك إلى ترك قم والبقاء في لبنان، حيث كانت تتم زيارات متبادلة بينه وبين وذلك " البعض" ولقاءات واتصالات حتى كان اليوم الموعود. وتدخلت الزهراء عليها السلام من جديد.

 

الانحناء أمام العاصفة يفجر الموقف من جديد

بدأ البعض بطرح مقولاته حول الزهراء عبر وسائل الإعلام المتوفرة لديه، بمناسبة وبغير مناسبة، حتى بلغ به الأمر حداً جعله يعلن أنه لم يتراجع عن تشكيكاته حول ما جرى على الزهراء(ع)، وأن ما جرى في قم في هذا المجال، لا سيما رسالته التي تراجع فيها عن ذلك، قد كان بمثابة "الانحناء أمام العاصفة" ففجر بذلك قنبلة من العيار الثقيل.

لقد كان وقع هذا التصريح كالصاعقة على كل من عمل في ذلك الوقت على رأب الصدع، ولعلهم شعروا بالإهانة من تلك الطريقة الرخيصة التي استغلّ بها ذلك "البعض" علاقاتهم مع المعاهد والحوزات العلمية والثقة التي يولونها لهم.. وهذا أمر يمكن التغاضي عنه، لكن الأخطر من ذلك هو: كيف السبيل لإقفال هذا الملف؟

وعادت الوساطات إلى الواجهة، ولم تنقطع اللقاءات والمحاورات بين العلامة المحقق وذلك "البعض" إلا في وقت متأخر..

وتوالت الأيام وأخذت الصورة تتّضح أكثر فأكثر:

إن ذلك " البعض" ـ ربما ـ لم يترك مفردة من مفردات الدين الأساسية إلا وله رأي مختلف فيها، وتأخذ في معظمها طابع التشكيك في المعتقدات والشذوذ في الآراء.

 

الاتصالات تفشل وكتاب مأساة الزهراء(ع) يبصر النور

واستمرت الاتصالات لحل القضية، والأدلة العلمية المحكمة لم تبق عذراً لمعتذر. واستمر بالتشكيك المبني على غير أساس علمي صحيح وقويم.

الأنظار توجهت نحو العلامة المحقق نظراً لمركزه العلمي المتميز، وقد بات غير قادر على السكوت لا سيما مع توالي الأسئلة عليه، وانتظار موقف حاسم منه.

بعد تفكير مليّ، وانتظار أشهر لعلّ الوساطات تفلح، شرع العلامة المحقق بتأليف يضيء فيه بعض زوايا المشكلة ويزيل الغموض عن بعضها الآخر، ويجيب عن الأسئلة المطروحة بإلحاح حول ما جرى على الزهراء(ع) مما شكك به ذلك " البعض". وبحسب بعض الأشخاص الذين تابعوا الاتصالات، فقد كان الكتاب الذي يعده العلامة المحقق عبارة عن أسئلة وأجوبة تعالج بعض تلك المقولات، واستجابة لتدخلات بعضهم بحجة أن جعل الكتاب بهذه الصيغة قد يزيد الأزمة تعقيداً، وقد يعتبره ذلك " البعض" ـ إن هو صدر على هذه الطريقة - إهانة يصعب معها الاستمرار في الوساطة فقد تم تعديل صيغة الكتاب.

وأثناء عمل العلامة المحقق على إنجاز كتابه، طلب من الأخوة الساعين في تلك الاتصالات الاستمرار في اتصالاتهم، وأعلن عن استعداده لوقف النشر حتى لو كان الكتاب قد أنجز، إذا ما توصلوا إلى نتيجة إيجابية.

لكن، كل تلك التحركات والوساطات باءت بالفشل، وأُعلن عن انتهائها، ولم تمض أيام حتى أبصر كتاب "مأساة الزهراء(ع)" النور، وكما كانت دوماً، فقد كانت الزهراء(ع) هي الشعلة التي تضيء الطريق.

 

ردود الفعل

وما أن صدر كتاب "مأساة الزهراء(ع)" حتى توالت ردود الفعل عليه.

وكانت الردود البرز هي تلك التي صدرت من الجهات العلمية، لا سيما مراجع الأمة، وأساتذة الحوزة في قم المقدسة، والنجف الأشرف، حيث أعلن هؤلاء تأييدهم لما جاء في هذا الكتاب، وباركوا وأثنوا على مؤلفه عبر رسائل نشر بعضها، كما أعلنوا في بيانات وتصريحات موقفهم السلبي من صاحب تلك المقولات نشرت أيضاً في حينه، وجمع بعضها في كتاب "الحوزة العلمية تدين الانحراف" الذي طبع أكثرمن مرة.

وعلى كل حال، فتلك الردود أشهر من أن نشير إليها.

وفي المقلب الآخر، كيف استقبل مناصرو "البعض" هذا الكتاب؟!!

إن المتأمل في ردود فعل هؤلاء لا يشك لحظة واحدة في أنهم تزعزعت أركانهم، وزاغت أبصارهم ، وظنوا بالله الظنون، وكأن الموت قد أقبل إليهم، فحق قول الله عليهم: ((يجادلونك في الحق بعدما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)) [الأنفال الآية 6] لا لشيء إلا لخوفهم من الحق وأهله، ولا غرابة فإن الحق لا يوافق نفوس قوم أفسدت الدنيا قرائحهم بأمراض باطنية أعيت أطباء النفوس عن علاجها ((فإن يروا كل آية لا يؤمنون بها)) ((ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)) ((ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)).

وهكذا، إستقبل مؤيدو "البعض" ومريدوه كتاب: "مأساة الزهراء(ع)" بالاستياء لأنه اتاهم من حيث لا يتوقعون، لا سيما وأن الناقد هذه المرة ليس شخصاً عادياً.

ولعل أكثر عناصر الكتاب إثارة هي: مقدمته التي احتوت على بعض القضايا التي كان يجعلها "البعض" أدلة على صحة تشكيكاته وعلاماته الاستفهامية.

لكن المتأمل في تلك الأدلة ـ التشكيكية ـ يرى أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشخص مدّعيها، ولعل ذلك يهدف إلى أمرين:

الأول: إضفاء نوع من الحجِّية عليها.

الثاني: إعطاؤها نوعاً من الحصانة والقداسة بحيث يبدو ناقدها وكأنه يتعرض للمقدسات أو لشخص قائلها.

ومهما يكن من أمر، فقد بدأ ذلك "البعض" بالتحرك، وذلك بتحريك بعض "الدمى" دون أن يظهر هو إلى العلن، لأسباب لا تخفى.

ومن الواضح أن المطلوب كان في ذلك الوقت، بالنسبة إليهم، هو الإكثار ما أمكن من حجم الردود لأهداف واضحة.

وهكذا بدأت مرحلة جديدة في مواجهة تلك المقولات.

 

المذهب مرمى للسهام

لم تمر أشهر قليلة على صدور كتاب "مأساة الزهراء(ع)" حتى صدرت "باكورة" أعمال "البعض" الانتقامية فصدر أول كتاب(1) سمته الرئيسية أنه يقطر "خبثاً" وكل إناء بالذي فيه ينضح، لكن هذا "الخبث" لم يتوجه نحو العلامة المحقق، لأن هؤلاء قد وجهوا سهامهم نحو المذهب وأعلامه، وعملوا على تخريب آرائهم وتزييفها وتحريفها، ثم أضافوا الاتهام إلى شخص العلامة المحقق، بأنه يقطع النصوص ويحرّف الكلم عن مواضعه.

وفي نفس الوقت الذي كان يعمل هذا الكاتب على كتابه، كان يعمل كاتب آخر متسرّع على مسودة كتاب سمته الأساسية "السذاجة"، قام بتوزيعها على بعض الأوساط العلمية بعد طباعتها وتصويرها على ورق من الحجم الوسط.

ولم تمض أيام حتى أصدر متطفل ثالث كتاباً آخر سمته الأساسية "الحماقة" نظراً لما ارتكبه من تحريف سافر لا يخفى حتى على الأعمى(2).

وكالعادة، فقد كانت الحجج ترتكز على أن "البعض" لا يقصد ما يُفهم من كلامه، وأن ما يقال عنه ما هو إلا فهم خاطىء.

في هذا الوقت، كان يعمل المحقق العاملي على مسوّدة كتاب يوضح فيه خلفيات إقدامه على كتابة "مأساة الزهراء(ع)" وقد جمع فيه مجموعة من المقولات "الجريئة" و"الخطيرة" التي تكشف عن حجم المشكلة التي يعاني منها "البعض" وبالتالي فإن القضية ليست قضية إنكار ما جرى على الزهراء(ع) وحسب بل هي تتعدى ذلك إلى حد يطال الكثير من معالم المذهب وحقائقه التاريخية والعقيدية والفقهية.

وبشكل غير مسبوق وخطير، لكنه غير مفاجىء من هؤلاء، سرقت إحدى المسوّدات الأولية للكتاب بعد أن دفع فيها الآلاف من الدولارات ـ كما يقال ـ وقد كان المحقق العاملي قد أطلق عليه اسماً أولياً هو "مايتان ويزيد ولدينا المزيد" وهو الكتاب الذي عرف فيما بعد بكتاب "خلفيات"(3).

وعلى أي حال، فقد حوّل "السارق" إحدى النسخ للمسودة المسروقة إلى ذلك الكاتب المتسرع الآنف الذكر، حيث قام هذا "الكاتب" بإعداد ردّ على هذه المسودة الأولية لكتاب "خلفيات ج1" قبل صدوره وهذا ما حصل.

وبالفعل صدر هذا الرد(4) قبل صدور كتاب "خلفيات" نفسه.

ونعيد القول: إن الردود التي صدرت حتى الآن كانت تركز في حجتها على أن ذلك " البعض " لم يقصد ما فُهم منه، وأنهم قطّعوا كلامه.

ولكن كيف استطاع "الكاتب" أن يصدر ردّه على كتاب خلفيات قبل صدوره وبهذه السرعة؟!

للإجابة على هذا السؤال لا بد من أن يسايرنا القارىء الكريم في عرضنا لفصول ما جرى فنقول:

 

الخـديعــة

بشكل مفاجىء، تدخلت بعض الأوساط وانطلقت بمبادرة وساطة لتقريب وجهات النظر حول إمكانية إيجاد حل ما. وقد جاء الوفد إلى العلامة المحقق وطرحوا فكرة الانطلاق بالمبادرة، وزعموا أن ذلك "البعض" لم يرفضها وذلك على أساس الوعد الذي حملوه بتصحيح المسار؛ فأعلن المحقق العاملي تأييده لكل عمل من شأنه أن ينزع هذا الفتيل، وبالتالي إقفال هذا الملف نهائياً، وتصحيح هذه المقولات، وأعلن استعداده لمساعدة هذا "البعض" بكل صورة ممكنة لتحقيق هذا الغرض.

وقد علم المحقق العاملي في إحدى جلساته مع أحد أعضاء الوفد بتسرّب نسخة من نسخ مسودة الكتاب.

مضى اسبوعان على انطلاق المبادرة، ولا شيء جديد في هذه الأثناء، وكان المحقق العاملي قد أنجز كتابه.

عاد الوفد للتحرك، وقام بزيارة المحقق العاملي طالباً منه تأخير إصدار كتابه وأن تعطى المبادرة بعض الوقت، وطلب هذا الوفد أسبوعين آخرين، ثم عادوا وطلبوا تمديد المهلة فلم يمانع العلامة المحقق حرصاً على نجاح المبادرة رغم كون الأمل ضعيفاً بأن يقبل الطرف الآخر..

لكنه أراد أن يعطي للوفد كل الفرصة.. وهكذا توالت طلبات التمديد حتى وصلت إلى حوالي ثلاثة أشهر، حيث جاءت المفاجأة بصدور الرد على كتاب خلفيات قبل صدور كتاب خلفيات نفسه. وقد بات الأمر واضحاً، لقد كانت هناك خديعة مورست حتى على الوفد الوسيط، وهي خديعة لم تكن لتنطلي لولا الوعد الذي قطعه العلامة المحقق للوفد والرغبة في إعطاء الفرصة له إلى النهاية وحتى لا يبقى عذر لمعتذر..

 

رسائل وكتاب

مضى حوالى السنة ونصف السنة على إصدار كتاب خلفيات بجزئيه الأول والثاني. لقد كانت "الجبهة" هادئة نسبياً ومن طرف واحد فقط لأسباب صرّح بها المحقق العاملي مراراً وتكراراً: ليس الهدف هو إسقاط الشخص، وإنما الهدف إخبار الناس بأن هذا "البعض" يملك من الأخطاء الجسيمة والكبيرة ما يحتم التأمل في كلامه وعدم الأخذ به دون النظر فيه..

ولكن على الجهة الأخرى، فقد كان ذلك "البعض" لا يتوقف عن إثارة القضايا كلما سنحت الفرصة، وكثيراً ما تجد في ضمن الأسئلة الموجهة إليه في درسه الأسبوعي سؤالاً يصلح ذريعة لنشر اتهاماته يمنة ويسرة فضلاً عن التركيز من جديد على تلك المقولات.

وفجأة، وصل شخص قادم من إيران يحمل رسائل للعلامة المحقق، ممهورة باسم " أبو مالك الموسوي".

نظر العلامة المحقق في هذه الرسائل نظرة سريعة، وإذا بها ملاحظات سجلها كاتبها على كتاب خلفيات، وقد تمنى فيها صاحبها بشدة أن تبقى طي الكتمان، كاشفاً عن أنه بصدد إعداد رسالة أخرى فيها وقفات "نقدية" أخرى على كتاب خلفيات.

أحال العلامة المحقق الرسائل إلي، طالباً النظر فيها وتسجيل الملاحظات عليها، تأييداً أو تفنيداً. وفي نفس الوقت، كتب رسالة رد مقتضبة إلى المرسل أخبره فيها باستلامه الرسالة، مثنياً عليه المتابعة في النقد والكتابة، فإن ذلك من شأنه أن ينمّي قدرات الإنسان العلمية، وكشف له عن أنه لم يقرأ الرسالة بالتفصيل، وإنما نظر إليها نظرة سريعة، فوجد أنها لا تخلو من إشكالات وقع بها هذا "الكاتب"، وأخبره أنه قد أحال الرسالة إلى أحد الأخوة، لينظر فيها، وأنه بانتظار باقي الرسالة ليرسل له الرد عليهما معاً، إن كان يصرّ على ذلك.

ولم يمض سوى بضعة اسابيع حتى وصلت الرسالة الثانية التي يتابع فيها كاتبها وقفاته " النقدية " على كتاب خلفيات، ولكن كان ثمة عبارة في مقدمتها دعتنا للتوقف ملياً.

لقد إشترط الكاتب بأن يكون الرد الذي يجهزه "بعض الأخوة" على رسائله، يعبر عن رأي العلامة المحقق ويتبناه. وقد كان ذلك الشرط أمراً مثيراً للريبة.

إذ ما دام "المرسل" يبغي النقد الموضوعي بعيداً عن الأشخاص فما همّه أن يكون الراد هو العلامة المحقق أم غيره، فالإشكال إذا كان بمحله فمن غير المهم بعد ذلك من هو قائله. فلا الاسم اللامع يجعل من الفكرة الباطلة حقاً إن هو قالها ولا الاسم المغمور يجعل الرأي الحق باطلاً إن هو أطلقه. نعم قد يبدو هذا الإشتراط منطقياً لو أن أحد طرفي الحوار هو صاحب المقولات الخاطئة إذ لا معنى  لإحالة الرسالة حينئذٍ.

وعلى أي حال، وبعد أشهر قليلة، كشف ذلك البعض صاحب المقولات المعروفة عن أن ثمة كتاباً سيصدر قريباً من إيران للمدعو  أبو مالك الموسوي.

وهكذا وبعد حوالي الشهرين أو الثلاثة من تصريح ذلك "البعض" أصدر المذكور كتابه تحت عنوان: "مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني".

 

الكتاب وفق رواية الكاتب

لقد ذكر "الكاتب" في مقدمته حول قصة كتابه، ما مر آنفاً، من إرساله للرسائل وانتظاره للجواب عليها، وكذلك رسالة المحقق العاملي الجوابية.. وغير ذلك.

وقال: إنه انتظر طويلاً وصول الرد بناء على الوعد لكنه لم يستلم شيئاً..

ولذلك كله، وبناء على إلحاح بعض الطلاب والأساتذة في الحوزة، وفق ادعائه، ولكي يستفيد القارىء من هذه الرسالة، ونشراً للحوار والمنهج النقدي، عمد إلى إصدار كتابه تعميماً للفائدة، متناسياً عبارات الرجاء والتوسل التي ضمنها رسالته، بأن تبقى هذه الرسائل طي الكتمان..

ونحن سنعرض هنا عن التعرض لبعض ما ورد في مقدمة كتابه لأننا سنقف عندها بعد قليل وما يهمنا هنا هو الإجابة عن سؤال قد يدور في ذهن القارىء وهو:

لماذا لم تتم الإجابة على هذه الرسائل، أو فلنقل: لماذا لم يتم إرسالها ما دامت جاهزة؟!

 

الـمـؤامــرة

لم تكن الخديعة التي مورست من قبل في العمل على تأخير إصدار كتاب خلفيات، عبر التظاهر بالتعامل إيجابياً مع مبادرة استغلّت ريثما يتم تجهيز الرد على كتاب خلفيات قبل صدوره.. لم تكن هذه الخديعة الأولى كما أنها لم تكن الأخيرة.

فقضية الكتاب الذي نتحدث عنه، لم تكن سوى مؤامرة من ضمن سلسلة المؤامرات التي يحيكها هؤلاء.

لقد كان كل شيء يسير بشكل طبيعي عندما أرسل "الكاتب" رسالته الأولى، حيث أحالها السيد جعفر إليّ، وقمت بالفعل بكتابة مناقشة مفصّلة لما ورد فيها من إشكالات وخلط من قبل "الكاتب"، لا سيما في تهويلاته الفارغة المتعلقة بالإدعاء بأن ما قاله صاحب "من وحي القرآن" هو مما أجمع عليه العلماء الأعلام أو كادوا منذ عصر الطوسي(قده) إلى عصرنا الحاضر، وكثيراً ما كان "الكاتب"، رغم ادعاءه الكبير هذا، يعرض عن تقديم أدلة وشواهد تثبت مدّعاه. وفي الموارد التي يقدم بها تلك الشواهد كان يعمل على تحريفها وتزييفها لتظهر كما يريد لها أن تظهر به.

ومهما يكن من أمر، فقد كتبت ما ظهر لي من إشكالات، رغم أنها استغرقت بعض الوقت لوجود مشاغل أخرى، ولم أكد أعلم المحقق العاملي بجهوزية الرد حتى أعلمني بوصول الرسالة الثانية.

ولكن، قبل وصول هذه الرسالة، تسربت بعض المعلومات من أناس على اطلاع على هذه الرسائل مفادها، أن "الكاتب" ينوي طباعتها ونشرها، وأن ما يظهره من رغبة في إبقائها طي الكتمان ما هو إلا مؤامرة يهدف منها إلى المحافظة على الإمساك بزمام المبادرة كي يتمكن من التصرف في الردود كيفما يشاء ويوجهها كيفما يريد.

وهو إذ كان قد قام بالتلاعب الفاضح بنصوص لعلماء أعلام موجودة في كتب متداولة تكاد تكون موجودة في كل منزل، كما سيرى القارىء في ثنايا هذا الكتاب، فما أيسر التلاعب عنده برسالة غير متداولة.

وعلى أي حال، وصلت الرسالة الثانية، واشتملت مقدمتها على عبارة رفعت من احتمالات وجود المؤامرة.

لقد شدّد "الكاتب" وركز في مقدمة هذه الرسالة على أنه يقبل بإحالة المحقق العاملي للرسالة لبعض الأخوة؛ شرط أن يتبنى سماحة العلامة المحقق " كل ما سيكتبه هؤلاء الاخوة من ملاحظات، ويسجلونه من ردود وإشكالات".

قد يبدو هذا الشرط بالظروف العادية، شرطاً طبيعياً، وإن كنا نعتقد أن الذي يريد الحوار النقدي البناء لا يهمه إن كان الطرف الآخر اسماً لامعاً أو شخصاً مغموراً، فقد ذكرنا أن ذلك لا يجعل من الباطل حقاً، ولا من الحق باطلاً، ولا يحول الدليل القوي إلى ضعيف ولا الضعيف إلى قوي.

ولكن، عندما يقترن هذا الشرط مع ما وصل إلى أسماع المحقق العاملي من نوايا وخطط تحاك في الظلام، وإذا أضيف إلى ذلك ما ذكره "الكاتب" نفسه في مقدمة الرسالة الأولى من أن "الأوضاع في غاية الحساسية، والفتنة في أوج كَـلَبها وهيجان غيهبها" حيث في هذه "الأجواء المحمومة تختل الموازين وأدوات التقييم".(5)

إذا أضيفت كل هذه الأمور، فإن اشتراط شرط كهذا، يغدو مثيراً للريبة.

 فكيف إذا ما أضيف إلى كل ما تقدم، أن التقرير الأولي الذي رفعته للعلامة المحقق حول الرسالة الأولى، أوضحت فيه أن ثمة أموراً تبدو غريبة في الرسالة الأولى حيث يظهر "الكاتب" فيها بحالة يصعب حمله فيها على الأحسن، إذ من المستبعد أن يكون ثمة شخص يدعي العلم ويرتكب تلك الهفوات الواضحة البطلان، حيث برز اتجاه واضح في تحوير وتضييع موارد الإشكال، وحرفها عن موضعها فضلاً عن التلاعب بنصوص العلماء بشكل سافر، كما سيأتي في محله.

على أن ادعاءات "الكاتب" من أنه لا يريد أن يبرىء أحداً من الخطأ أو الزلل أو الاشتباه، " وأن رسائله ليست دفاعاً عن (السيد) الشخص أو موافقة عل كل ما جاء به من تفسير" ، إذا ما قورنت هذه الإدعاءات بما جاء من محاولات لتمييع الإشكالات وتحريفها عن موردها، فإن ادعاءاته تلك تصبح غير ذات جدوى.

ورغم كل تلك الاحتمالات القوية حول نية "الكاتب" بالنشر، واشتراطه لذلك الشرط، فقد أحال العلامة المحقق الرسالة الثانية إلي وقد قمت بالفعل، بالعمل على تجهيز رد عليها.

 

الخبر اليقين:

لم تمض إلا أيام قليلة على وصول الرسالة الثانية، حتى وصل الخبر اليقين:

إن "الكاتب" ينوي بالفعل نشر الرسائل، وأن الأمر برمته ومن أساسه مفتعل ومدبر.

لقد كانت الرسائل الشفهية الكثيرة التي كان يرسلها "الكاتب" مستعجلاً الرد، رغم عدم مرور وقت كبير، تزيدنا قناعة على قناعة، ويقيناً على يقين بما يحيكه "خفافيش الليل" الذين يعجزون عن إصدار كتاب واحد نقدي يخلو من تحريف وتزوير، وفي ذلك دلالات كبيرة لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

اتخذ العلامة المحقق قراره وأخبرني إياه: " إحتفظ بالرد ولا ترسله فإن القوم يتآمرون كعادتهم ".

 

الانتقال إلى الخطة الإحتياطية:

إنتظر القوم مدة لعلهم يستلمون ردّاً، ولما طال الانتظار وانقطع الأمل، وعلموا بانكشاف أمرهم، وحاق مكرهم السيء بهم ((ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله)) صدرت الأوامر العليا إليهم، واتخذ القرار:

" فليُحَضَّر الكتاب للنشر بعد إجراء التعديلات اللازمة عليه وفق ما تحدثنا عنه"، هكذا نقل الناقل الخبر، لقد كانت الخطة الإحتياطية تقتضي إذا لم يرد السيد المحقق على هذه الرسائل، فليتم التركيز على أنهم هربوا من الحوار.

وثمة إجراء احتياطي آخر اتخذه هؤلاء وهو: ما دام العلامة المحقق لم يرد على الرسائل، وبالتالي لا يمكن إجراء تعديلات على الرسائل وفق ما كان يفترض أن يرد من إشكالات، فإن الأمر والحال هذه، يقضي باتخاذ خطوات أخرى.

"فلتعرض هذه الرسائل على بعض المقربين للنظر فيها حتى تخرج على أمتن صورة ممكنة لتفادي ما أمكن من الأخطاء".

وهذا ما حصل بالفعل.

 

السيد فضل الله يكشف عن الكتاب

وبعد بضعة أسابيع من الرسالة الثانية وقبل حوالي الثلاثة أشهر من صدور كتابه كشف "السيد" فضل الله عن وجود كتاب سيصدر قريباً في قم للمدعو: " أبو مالك الموسوي" يناقش كتاب خلفيات (راجع الملحق).

ومن ناحية ظاهرية فإن العلامة المحقق عرف بالنشر من خلال "السيد" فضل الله نفسه، الذي كان أول من كشف عن ذلك.

 

بين الدهاء والفجور

وقد يتساءل متسائل: أننا يمكن أن نتفهم عدم المبادرة لنشر الرسائل في بداية الأمر عندما كانت القضية قضية شكوك مستندة إلى لغة الرسالة، وبعض الملابسات حولها.

ولكن لماذا عدم النشر عند مجيء الخبر اليقين؟

ولا أبوح بسر إن قلت إني كنت قد فاتحت العلامة المحقق بالأمر، وطرحت عليه نفس السؤال، فقلت له: لماذا لا تتم المبادرة لنشر هذه الرسائل ما دام "الكاتب" ينوي نشرها يقيناً، فإن المبادر للنشر يملك زمام الأمور.

لكن العلامة المحقق كان له رأي آخر، وقد كانت فكرته مقنعة للغاية، وتدلل عن أخلاق رفيعة قل نظيرها، ويمكن تلخيص موقفه "أعزه الله" بالتالي:

قد علمت أن "الكاتب" شدّد وتوسل على بقاء هذه الرسائل طي الكتمان، ولأجل ذلك، فلا يمكن أن نكون السباقين في إظهار ما طلب صاحبه أن نخفيه ونكتمه، مهما كانت معرفتنا كبيرة بخبث النوايا وعلمنا موثق بسوء السريرة..

فإن احتمال عودة المتآمر عن قراره في آخر لحظة، إن أسعفه اللطف الإلهي وتداركته الرحمة الإلهية، يبقى أمراً وارداً، إن كان مستحقاً لهذا اللطف ولهذه الرحمة. لكن معرفة استحقاقه لهما أمر غير متيسّر لنا ولا هو تحت مبلغ علمنا، ولا يقع في متناول أيدينا. فكان خيار العلامة المحقق هو الصبر حتى ينجلي الأمر، ويسفر الصبح لذي عينين.

من هنا، فإن القضية ليست- كما قد يتصورها بعضهم- قضية دهاء عند بعض وسذاجة عند آخرين، بل هي قضية فجور من جهة وتقوى من جهة أخرى.

ولعل العلامة المحقق قد ردّد في سره أو استذكر في هذه القضية عندما بلغه الخبر اليقين بحقيقة "المؤامرة" ما قاله أمير المؤمنين(ع): والله ما معاوية بأدهى مني لكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس.

نعم، لم يكن غائباً وجه الحيلة عنا، ولم يكن يعجزنا الإتيان بمثل ما أتوا، ولكن دون ذلك حاجزٌ من أوامر الله ونهيه، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: " قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".

وهكذا أسدلت الستارة عن الفصل الأول من "المؤامرة".

 
نصر موهوم

مع إصدارالكتاب، بدأت أحداث فصل آخر، لقد تعاطى ذلك لبعض"مع الكتاب، على أنه " بيضة القبان " وأنه الإصدار الذي سيغيِّر " المعادلة " .إنه، برأيهم ، النصر الحاسم ، لكنه سيتبيّن أنه نصر موهوم.

لقد وضع ذلك " البعض " ثقله في هذا الكتاب ، ويكفي دلالة على ذلك قيامه بتوزيع الكتاب يمنة ويسرة ، حيث يتجلى الكرم بأبهى صوره ، وأخذت الهدايا تنهال على هذا وذاك: " كتاب مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني ـ هدية مكتب سماحة ( آية الله العظمى السيد) محمد حسين فضل الله " . فوزعوا مئات النسخ  ، بل ألاف ، على المعاهد والحوزات العلمية، وعلى العلماء والمثقفين، ولم يُستثن العوام من هذه الهبات والهدايا.

ولم يمر موسم الحج دون الإستفادة من هذا الإصدار " الفرصة "، فحُمِّل المئات من الحجيج نسخاً من هذا الكتاب على أن يسلِّموها الى مكتب " سماحته " في مكة المكرمة.

ولم يقتصر هذا "الفيض" على الساحة اللبنانية ، بل وصلت  بركاته  الى بلاد الإغتراب: لندن، أميركا، كندا وغيرها من البلدان.....

كل ذلك يكشف بشكل صريح وواضح لا لبس فيه: إن ذلك "البعض"  يتبنى هذا الكتاب بكل ما يحويه. وقد ذكرنا سابقاً أنه هو الذي بشّر بصدور الكتاب قبل أشهر من صدوره، وأن المحقق العاملي قد علم ، ظاهراً، بنية الكاتب بالنشر عن طريق رسالة " البعض " التي وجهها الى أحد الأشخاص في كندا .

وهنا، يبدو أن ثمة سؤالاً يلح بقوة، وعلى الكاتب التوقف عنده:

الى أي مدى سيذهب " البعض " في تبني هذا الكتاب، لا سيما مع إفتضاح أمره بعد إصدار كتابنا هذا؟!

ربما لا نحتاج الى شخص يعلم الغيب ليجيب عن هذا السؤال.

فقد سبق هذا الكتاب ، ثلاثة إصدارات تبناها ذلك " البعض "، وقام بتوزيعها وتسويقها عبر إذاعته وغيرها من الوسائل، وبعد إصدار الردودعليها وإفتضاح أمرها وأمر " كتّابها " ، وما مارسوه من تحريف وتزييف، عمد ذلك " البعض " للتنصل وإظهار البراءة منها. ولا نظن أن موقفه هنا سيختلف عن موقفه هناك.

 

التحوّل المنهجي

ذكرنا فيما سبق ، أن الردود التي سبق أن صدرت ، قد إرتكزت في حججها على إنكار صحة نسبة تلك المقولات الى صاحبها ، وأن ما نسب الى ذلك " البعض " محرّف ولم يقله، وأنه إفتراء وتقطيع لأوصال الكلام، بزعمهم، وهذا المنطق قد إحتج به " البعض " ، وقد برز ذلك، فيما برز، في رسالته ال سماحة آية الله الشيخ السبحاني عندما قال له: إن 90% مما ينسب إليه هو تحريف و10% كذب وإفتراء(6).

ولكن هذا النوع من الإدعاءات لم ينجح؛ لأنها لا يمكن أن تنطلي على عاقل، لا سيما وأن هذه المقولات مدونة في الكتب، وبالتالي، فإنه يسهل التأكد من صحتها وصحة نسبتها الى صاحبها. من هنا كان لا بد من إجراء تعديل جوهري، بنظرهم، في المنهج.

وتفتق الذهن الإبداعي على حلول ألمعية ، متخذاً الرد الجديد منهجاً مختلفاً، وإن كان مناقضاً تماماً، لما كان قد صدر سابقاً؛ لأن الناس ، بنظرهم، " سذج " وبسطاء، فلن يلتفتوا ، والحال هذه، الى هذه المفارقات وهذا الإنعطاف والتحول في المنهج .

ويرتكز هذا المنهج الجديد على عدم إنكار نسبة هذه المقولات الى صاحبها، كما كان يحدث سابقاً، وإنما على أن هذه المقولات التي ذكرها  " البعض " ليست جديدة، وأن ما ذهب إليه من أرآء وتبناه من إتجاه هو مما يكاد يجمع عليه العلماء والمفسرون منذ عصر الشيخ الطوسي الى عصرنا الحاضر، على حد تعبير الكاتب.

وهذا الإدعاء والمنهج الجديد، يقتضي حشد أكبر عدد ممكن من النصوص التي تؤيد هذه المزاعم .

ومن المؤكد، أنه ومع بطلان كون هذه الآراء مما ذهب إليها العلماء، كما يدّعي هذا الكاتب، فإن حشد النصوص التي ستقدم على أنها مؤيدة، لن تخلو من تحريف لآراءالعلماء، كما أنها لن تخلو من تدليس في نصوص ذلك " البعض "؛ لأنه بغير هذه الوسيلة، لن يتسنى لهم تحقيق ما يصبون إليه من هذا المنهج الجديد .

من هنا، فإن ما يحويه هذا الكتاب من تحريف وتدليس لا بنبغي أن يفاجئ أحداً، كما لم يفاجئنا ؛ لأن ما يُتوقع حصاده لن يخرج، بنوعه، عن إطار ما زُرع وبُذر؛ ومن يزرع الكذب لن يحصد إلا الخيبة.

 

مع مقدمة الكتاب:

وعلى أي حال، فقد أخذ "الكاتب" يصول ويجول في مقدمة كتابه، ويتحدث عن رسائل خمس احتواها هذا الكتاب، زاعماً أنه أرسلها جميعاً الى العلامة المحقق.. وتحدث عن ألم مرير عانى منه وهو ينتظر الجواب، أو أن يخرج العلامة المحقق عن صمته، على حدّ تعبيره.ولم ينس التحدث عما يمكن أن يحصل للإنسان إذا ما أراد الدخول في حوار نقدي من اتهام بقبض آلاف الدولارات وغير ذلك(7).

ولا يعنينا هنا التدقيق في كلامه هذا في مقدمته هذه، وإنما سنكتفي بذكر ملاحظات عدة محاولين قدر الإمكان الاختصار والايجاز:

أولاً: الرسائل التي أفرخت

يحتوي الكتاب على خمس رسائل، و"الكاتب" وإن لم يصرِّح بشكل دقيق بإرسالها جميعاً إلى العلامة المحقق، لكنه لم يصرح أيضاً بعدم إرسالها، بل قال:

"وواصلت كتابة الرسالة الثالثة والرابعة والخامسة على أمل أن يخترق سماحته جدار الصمت.."

والقارىء لهذا الكلام، لا يشك لحظة بأن الرسائل قد ارسلت جميعاً إلى العلامة المحقق، لا سيما وأنها تتحدث بلغة المخاطب، وهي مكتوبة على نسق واحد.

لكن الحقيقة أن "الكاتب" لم يرسل منها سوى رسالتين (الأولى والثانية) أما الباقي فلم يستلم منه المحقق العاملي شيئاً.

وقد يقال: ما الفارق في ذلك ما دام الرد لن يرسل؟

ونقول: إن القضية تتعلق بالأمانة والدقة ، بأن ليس كل ما ورد في الكتاب قد أُرسل الى المحقق العاملي، خاصة أن الكاتب يزعم أنه لم يجري إلا بعض التعديلات على الرسائل أثناء الطبع . وقد بيَّنا عدم صحة ذلك.

ثانياً: الالتفاف

لقد أدرك "الكاتب"، من خلال عدم الرد على رسالتيه، بأن المؤامرة قد انكشفت، والخطة قد افتضحت؛ لذلك عمد إلى القول في مقدمة كتابه حول قصة الكتاب ما نصّه:

"ومن المؤكد، وليس ذلك من سوء الظن، وإنما هو إفراز طبيعي في عصر الفتن، أن بعض النماذج من الناس، سيحولون قضية هذه الرسائل المتبادلة إلى غير مجراها، ويصرفونها عن هدفها ومغزاها، ويحرفونها عن مواضعها ومعناها قربة إلى الله تعالى!! بتقويلنا ما لم نقله، وتحميلنا ما لم نتفوه به، انطلاقاً من منهج قراءة المكبوت، والمقموع والمسكوت عنه..".

وليس ذلك من "الكاتب" إلا محاولة للالتفاف على أية محاولة لكشف حقيقة تلك الرسائل، وأهدافها ومنطلقاتها، وسيقول عند صدور كتابنا هذا ، وكشف حقيقة تلك الرسائل (المؤامرة) بأنه قد توقع حصول ذلك.

ومهما يكن من أمر، فإن كان يحق له أن يؤكد ويقطع، من قيام بعض الناس بما توقع أن يقوموا به، وأن ذلك ليس سوء ظن، وإنما هو إفراز طبيعي في عصر الفتن، فإن هذا العصر، وحاله هذا، لا يعيش فيه بمفرده، بل يشاركه فيه الآخرون، ويحق لهم أن يؤكدوا حقيقة وجود "المؤامرة"، لا سيما أن ذلك ليس توقعاً نابعاً من ظروف هذا العصر، وإنما من معطيات مؤكدة وموثقة تشهد عليها حال "الكتاب" ومقال "الكاتب". وهو ما سيطلع عليه القارئ بالتفصيل في فصول كتابنا هذا .

ثالثاً: خسارة الدنيا والآخرة

ومما قاله "الكاتب" في مقدمة رسالته الأولى، هو أنه في "مثل هذه الأجواء المحمومة تختل الموازين، وأدوات التقييم، وتصادر النوايا الطيبة والمساعي الصالحة والحسنة.. حينما يظن أن كل رسالة أو محاضرة وراءها من الأصلبع الخفية ما وراءها، بل ربما يوصف صاحبها بأنه قد وقع في شباك الإغراءات والتلويح بآلاف الدولارات وما إلى ذلك"(8).

وفي هذا الكلام محاولة أخرى منه للالتفاف على أي اتهام بأن وراء مؤامرته "النقدية" بعض الإغراءات النقدية وما إلى ذلك.

على أننا نطمئن "الكاتب"، بأننا لن نتهمه بقبض آلاف الدولارات؛ فإن اتهامات كهذه لا يمكن أن تطلق، من قبلنا على الأقل، ما لم تقترن بالشواهد والأدلة.

ولكن، ربما قد فات "الكاتب": أن ليس كل من باع دينه قد باعه بالضرورة بدنياه، فلعله قد باعه بدنيا غيره، فيكون قد خسر الدينا والآخرة معاً وذلك هو الخسران المبين.

رابعاً: لكل خطوة مبرر وحجة

قد مرّ معنا أن "الكاتب" قد شدّد وتوسل، في مقدمة رسالته الأولى، أن تبقى هذه الرسائل طي الكتمان؛ لذلك خاطب العلامة المحقق حول ذلك بقوله: " لذا ارجو منكم رجاءً مخلصاً أن يكون ذلك بيني وبينكم"(9).

وهو وإن لم يوضح سبب هذا الطلب والرجاء، الذي التزم به العلامة المحقق، لكن عندما عمد "الكاتب" إلى إصدار كتابه، برر نشر الرسائل بأن ذلك إنما كان نزولاً عند رغبة بعض الطلاب والأساتذة في حوزة قم المقدسة. متمسكاً بدعوى مفادها: نشر هذا الحوار النقدي وتعميم فائدته لا سيما وأن هذه الرسائل ليست شخصية(10).

ولنا أن نتساءل: ماذا لو أقدم الطرف الآخر على نشرها تحت هذا العنوان؟! الم يكن يتعرض لشتى أنواع التهم وأقذعها، لا سيما الخيانة وفضح الأسرار والتصرف بالأمانات وغير ذلك من تهم..

ومهما يكن من أمر، فإن "الكاتب" لن يعجز عن الإتيان بالمبررات والدوافع للنشر، فإن لكل مقام عنده مقال ومبرر وحجة، ما دامت الغاية تبرر الوسيلة بل تنظفها وهو الخبير باستغلال الوسائل.

على أن أقل الضوابط الأخلاقية التي ينبغي أن يلتزم بها أي مباشر للنقد، هي أن يبلغ الطرف الآخر بنيته في ذلك، لا سيما أنه هو الذي طلب منه عدم نشر هذا "الحوار" وتلك الرسائل، وإبقاءها طي الكتمان..

ولا ينفع القول: بأن الطرف الآخر لم يبادر إلى الإجابة على الرسائل، فإن عدم الإجابة مع الحفاظ على سرية الرسائل بناء على طلب مرسلها تحتم الالتزام بهذه الأخلاقيات التي يفتقر "الكاتب" للالتزام بأبسط قواعدها.

نـار الانتظار

هذا وقد ذكر "الكاتب" في "قصة كتابه" أنه عانى من انتظار وصول الرد، مذكراً العلامة المحقق بمدى صعوبة هذا الانتظار؛ لا سيما وأن المحقق العاملي عانى هذه التجربة كما ذكر ذلك بنفسه في مقدمة أحد مؤلفاته، على حد تعبير الكاتب(11).

وذلك في إشارة إلى الرسائل التي كان قد ارسلها المحقق العاملي إلى "السيد" فضل الله منذ بداية القضية، وقبل إصدار كتاب "ماساة الزهراء(ع)".

ولكن "الكاتب" تناسى أموراً عديدة:

1 ـ إن العلاقات بين المحقق العاملي وذلك "البعض" كانت لا تزال في تلك الأثناء حميمة، فلا وجود لمؤامرات وما شابه ذلك.

2 ـ إن الفتنة لم تكن في تلك الأيام في "أوج كَلَبها وهيجان غيهبها" كما يحلو "للكاتب" أن يعبر.

بل إن القضية لم تكن قد انطلقت أصلاً.

3 ـ إن المحقق العاملي عندما قرر إصدار كتاب "مأساة الزهراء(ع)"، قد أعلم الطرف الآخر أنه بصدد تجهيز كتاب في هذا الصدد، وأنه على استعداد لإجراء حوار بناء لتفادي وقوع مشكلة، وأنه مضطر في حال رفض هذا الحوار، إلى إصدار كتاب للرد على كل ما يثيره هذا "البعض" من شبهات؛ لا سيما بعد أن أُحرج بالأسئلة التي وردت عليه، تطالبه بإبداء رأيه وإظهار علمه.

بل قد مرّ أن المحقق العاملي، حتى عند انتهاء كتابه "ماساة الزهراء(ع)"، فإنه قد أعطى لبعض الساعين في الوساطات فرصة لإحراز نجاح الوساطة، وقام بتأخير إصدار كتابه. وكذلك قام بإجراء تعديلات على أسلوب كتابته، رغبة  وحرصاً منه على نجاح المساعي الحميدة في ذلك الوقت. ولكن كل تلك المساعي تحطمت على أعتاب ممانعة "أدعياء الحوار".

4 ـ ولعل "الكاتب" فاته أيضاً أن رسائله تلك قد سُبقت بخدع ومؤامرات ومكائد تجعل من عدم الاحتراز من خطوات مماثلة غباء، وبلاهة..

فلم يكن قيام " بعض الناس " بدس ألآت التسجيل في جيوبهم لتسجيل راي العلامة المحقق بكتاب هنا ومؤلف هناك في محاولات فاشلة، كما لم تكن محاولة تأخير إصدار كتاب خلفيات عبر دفع بعض الفضلاء للقيام بمبادرة للحل، هي الأولى والأخيرة.

فكل هذه الأساليب من الخدع والمؤامرات، لم تكن قد حصلت عندما قام العلامة المحقق بإرسال رسائله إلى ذلك "البعض".

ورغم كل ذلك، فقد ذكرنا أن المحقق العاملي ابلغ الطرف الآخر بأنه ينوي إصدار كتاب يتعلق بالأمور المثارة، إن هو لم يتفاعل مع المحاولات الحثيثة والمساعي المتكررة لتلافي وقوع الصدام.

فهل يصح بعد ذلك تشبيه "الكاتب" ما جرى معه، بما جرى مع المحقق العاملي؟!

وهل التزم "الكاتب" بأخلاقيات الحوار وآدابه؟!

بين الرسائل والكتاب

يقول "الكاتب": "هذه إحدى وسبعون صفحة وهناك إحدى وسبعون صفحة أخرى تمثل وقفات أخرى على كتاب خلفيات.."(12).

وقد علق "الكاتب" على هذا القول بالهامش بقوله:

"كان ذلك بحسب الرسالة الخطية الأولى، وقد أضيفت بعض التوضيحات عند الطبع"(13).

ولا يخفى، أن حفاظ "الكاتب" على هذا النص، إنما يهدف من خلاله إلى القول بأن ما يقدمه للقارىء في الكتاب هو ما جاء في نص الرسائل، حتى أنه حافظ على الحديث عن عدد صفحات الرسائل رغم اختلافها جذرياً عما جاء في الكتاب.

على أن هذا الادعاء لا يخلو من مكر، لأن الفارق بين ما جاء في الرسائل وبين ما جاء في الكتاب كبير جداً، ويكفي للدلالة على ذلك أن الإحدى وسبعين صفحة التي ذكرها تحولت في الكتاب إلى ماية وثلاثة وخمسين صفحة!! فهل أن   تضخم عدد الصفحات حتى فاقت الضعف ينطبق عليه ما اسماه "الكاتب": "بعض التوضيحات عند الطبع"؟!!

 

لماذا تأخر الرد؟

ويبقى أن أشير إلى أن السبب في تأخر صدور الرد، رغم جهوزيته قبل نشر الكتاب، يعود إلى عدة أسباب أهمها:

أ ـ عدم التفرغ الكامل للعمل على الرد لوجود مشاغل أخرى.

ب ـ إن حجم التغييرات والتعديلات التي أجراها "الكاتب"، جعلت من الرد المعد سابقاً على الرسالتين الأوليتين غير كافٍ، لدرجة أنه لم يعد يصلح ليكون هو الرد على الكتاب.وكل ما يصلح له هو أن يكون نواة للإنطلاق في عملية الرد والمناقشة.

ج ـ من ضمن التعديلات التي أجراها "الكاتب" والإضافات التي زادها هي تلك النصوص الكثيرة التي أقحمها في كتابه، وعندما تبين لنا عدم الأمانة في النقل لفظاً ومعنىً، كان لا بد من متابعة "الكاتب" في جميع نصوصه التي أوردها. ولا تخفى صعوبة هذا الأمر وحاجته للجهد والوقت، وهو ما ستطلع عليه عن كثب.

 

 ماذا في الكتاب ؟

وعلى أي حال، فإن هذا الجزء من الكتاب يحتوي على مقدمة، ومدخل وتسعة فصول، وخاتمة.

 والمدخل يحتوي على إطلالة على المنهج المتبع عند "الكاتب"، كما يحتوي على نظرة إلى كتاب خلفيات من ناحية منهجية.

أما الفصول التسعة، فقد جعلنا كل فصل لمعالجة قضية من القضايا التي أثارها "الكاتب" في وقفاته، ولم نلتزم بالتسلسل الذي اعتمده "الكاتب" في وقفاته.

ومن هنا، فتغدو الفصول كالتالي:

الفصل الأول: آدم عليه السلام.

الفصل الثاني:  يونس(ع)

الفصل الثالث: إبراهيم (ع)

الفصل الرابع: موسى والعبد الصالح (ع)

الفصل الخامس: يوسف (ع)

الفصل السادس: موسى وهارون (ع)

الفصل السابع : موسى وقتل القبطي

الفصل الثامن: نوح (ع)

الفصل التاسع : داود (ع)

الخاتمة

ولا بد من القول: إن هذا الكتاب عبارة عن الجزء الأول من مناقشة كتاب "مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني" وسيصدر الجزء الثاني منه لاحقاً إن شاء الله.

وسبب إصداره على دفعتين أمران:

الأول: إن حجم الرد كبير ولا يمكن إصداره بجزء واحد، وسيلاحظ القارىء هذا الأمر من حجم هذا الجزء.

الثاني: ما وجدناه من عدم أمانة عند "الكاتب" في نقله للنصوص المحشّدة، مما ترتب عليه ضرورة متابعتها، والتأكد منها، وبسبب كثرة هذه النصوص فإن الجزء الثاني سيستغرق بعض الوقت خاصة وأن المشاغل كثيرة.

لذلك أصر بعض الأخوة الأعزاء على إصدار هذا الجزء الأول منه على أن يصدر الثاني لاحقاً فور جهوزه.

 

كلمة أخيرة

ولا بد لي في الختام من تقديم جزيل الشكر والامتنان للاخوة في المركز الإسلامي للدراسات الذين وضعوا مكتبتهم بين يدي وقد استفدت منها كثيراً لا سيما من بعض كتب التفسير التي تحتويها وأسأل الله أن يوفقهم لما يحب ويرضى.

وأخيراً: أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعفو عنا ويغفر لنا ويرحمنا إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير.

محمد محمود مرتضى

بيروت 15 ذي الحجة 1421


1-هو كتاب "هوامش نقدية" لمؤلفه محمد الحسيني، وقد تكفلت شخصياً بالرد عليه، ونظراً لما كان يحويه فقد أسميته كتاب "الفضيحة".

2-وهو كتاب "مأساة كتاب المأساة" للمدعو نجيب نور الدين وقد قام فضيلة الشيخ القطيفي بالرد عليه في كتاب أسماه "جاء الحق".

3-وقد اعترف بعد مدة أحد المقربين جداً من "البعض" بدفع الأموال للحصول على المسودة، إلا أنه أنكر أن يكون هو الممول، وذكر أن المال دفع من أحد المتبرعين.

4-وهو كتاب "مرجعية المرحلة وغبار التغيير" لكاتبه الشيخ جعفر الشاخوري وقد قام الأخ الأستاذ " نجيب مروه" بالرد عليه بكتاب أسماه: "حتى لا تكون فتنة"

5-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 69 مقدمة الرسالة الأولى وراجع ص196، مقدمة الرسالة الثانية..

6-راجع كتاب الحوزة العلمية تدين الإنحراف.

7-مراجعات في عصمة الأنبياء ص8.

8-مراجعات في عصمة الأنبياء ص19.

9-مراجعات في عصمة الأنبياء ص20.

10-راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص8.

11-راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص8.

12-مراجعات في عصمة الأنبياء ص153.

13-مراجعات في عصمة الأنبياء ص153 (الهامش).

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان