الفصل الثاني النبي يونس عليه السلام

     

بسم الله الرحمن الرحيم

 (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم، قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين)(1).

 (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)(2).

 

الآيات القرآنية:

 (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)(3)

(وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم)(4).

(فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم)(5).

(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)(6).

 

العناوين المشكلة:

"84 ـ يونس (ع) ليس لديه الصبر الكافي.

 85 ـ الله يؤدب نبيه يونس (ع).

 86 ـ يونس (ع) تهرب من مسؤولياته.

 87ـ الله يعتبر يونس (ع) هارباً  كإباق العبد من سيده.

 88ـ يونس (ع) يخرج دون أن يتلقى تعليمات من الله"(7).

 

النصوص المشكلة:

ما كان عنده الصبر الذي تحتاجه المسألة، فتفسير (فظن أن لن نقدر عليه) ليس معناها أنه ظن أن الله لا يقدر عليه، أن لن نقدر عليه، يعني أن نضيق عليه كأنه في هذا المجال، وما في مانع أن أنبياء الله سبحانه يتعهدهم بالتربية والتأديب في حالة من الحالات، لا سيما إذا كانوا أنبياء في حجم يونس، وأمثال يونس من الأنبياء المحليين"(8).

خرج مغاضباً إحتجاجاً على ذلك، من دون أن يتلقى أية تعليمات من الله في ذلك منه (اعتقاداً منه) بأن المسألة لا تحتاج إلى ذلك، فقد قام بدوره كما يجب، فلم يدخر جهداً في الدعوة إلى الله بكل الأساليب، والوسائل، ولم يبق هناك شيء مما يمكن عمله. ولكن الله اعتبرها نوعاً من الهروب، فيما يمثله ذلك من معنى الإباق، تماماً كما هو إباق العبد من مولاه(9)

"نستوحي من هذه القصة الخاطفة، أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين، من عباده ورسله، فيما يمكن أن يكونوا قد قصروا فيه أو تهربوا منه من مسؤليات.

وأن الداعية قد يضعف أمام حالات الفشل الأولى، أو أوضاع الضغط القاسية، أو مشكل الظروف الصعبة، كنتيجة لفكرة إنفعالية سريعة، أو شعور حاد غاضب ثم يلطف الله بهم بعد أن يتراجعوا عن ذلك، ويرجعوا إليه، فينجيهم من بلائه، ويحوطهم بنعمائه، ويسبغ عليهم من ألطافه وآلائه، لئلا يتعقد الخطأ أو الإنفعال في شخصيتهم، لينطلقوا إلى الحياة من روحية الصفاء الروحي والنقاء الشعوري من جديد ليبدأوا الدعوة من حيث انتهوا ويتابعوا المسيرة بعزم وقوة وإخلاص.

ثم نلتقي في أعماق الموقف بالإبتهالات الخاشعة الخاضعة لله في روحية الإحساس بالعبودية، التي يشعر المؤمن معها بأن الله يلتقيه في مواقع الإنابة، مهما كانت الخطايا والذنوب، وأن الخطأ لا يتحول إلى عقدة بل يتحول إلى فرصة للقاء بالله من جديد، في مواقع التوبة الحقيقية الخالصة، التي يبدأ فيها التائب تاريخاً جديداً، وصفحة بيضاء في حياته"(10).

مرة اخرى نلتقي مع "الكاتب" في قراءاته لنصوص العلماء وبفنون التمويه والتعمية التي يمارسها على القرّاء.

 والملفت هذه المرة أن النصوص التي يستعين بها لا تصلح أن تكون شاهداً على ما يذهب إليه بقدر ما تصلح أن تكون شاهداً عليه.

  وأول ما اتحفنا به هو:

 

إباق يونس عليه السلام

إعتبرهذا الكاتب  ان تفسير العلامة المحقق لمعنى الإباق "بالفرار من قومه" مما لم يقل به أحد من أعلام التفسير، وأنه مما لم يخطر على بال أحد مهما احتمل للآية من وجوه(11).

واستدل على ذلك بـ: "إن الله سبحانه هو المتحدث، وهو الذي يقصّ علينا قصته (إذ أبق إلى الفلك المشحون) وأن الله هو الذي وصف فراره بالإباق، فكيف يمكن أن تقول: "اعتبروه فاراً وآبقاً منهم"(12).

ولعمري إنه استدلال عجيب،- فإنه وبحسب منطقه - إذا قال قائل: هرب فلان إلى الجبل فإن ذلك يعني أنه هرب من القائل دون سواه، لأنه هو الذي وصفه بالهروب؟!!.

ولكي يتبين من الذي أتى ببدع من القول، ومن يفهم النصوص على وجه  يصير معها دليل الإثبات دليلاً للنفي، أو العكس، نستعرض كلام العلامة المحقق الذي يقول بعد عرضه للآيات المتعلقة بالبحث:

".. 1ـ كلمة مغاضباً تعني حدوث الإغضاب من الطرفين.. فلا يصح القول بأن المغاضبة قد كانت بين يونس (ع) وبين الله.. الحقيقة هي أن المغاضبة كانت بين يونس (ع) وبين فريق آخر، والظاهر أنهم قوم يونس (ع).. فالتجأ إلى الفلك المشحون بالناس وكان قومه يطلبونه ليوصلوا إليه الأذى، لأنهم كانوا يرونه قد أساء إليهم، فاعتبروه فاراً وآبقاً منهم.."(13).

وقد حمل "الكاتب" على كلام العلامة هذا، وسعى جاهداً لإثبات أن الإباق كان من الله لا من قومه كما سيأتي عند استعراضه لمعنى الإباق في المعاجم اللغوية.

ثم حشد نصوصاً عديدة لبعض المفسرين زاعماً أنها تؤيد ما ذهب إليه من أن الإباق إنما كان من الله لا من قوم يونس (ع) وأخذ ينشر العنوان تلو العنوان:

تفسير التبيان: يونس (ع) خرج قبل أن يؤمر.

مجمع البيان: يونس (ع) خرج قبل أن يؤذن له.

جوامع الجامع: ضجر فخرج من غير أمر.

وهكذا..

وهذه العناوين، كما هو واضح،إنما تتحدث عن أن يونس (ع) خرج قبل أن يؤمر، وهذا ليس محل البحث، علماً أن إخبار الله له (ع) بنزول العذاب بمثابة الإذن له بالخروج ويكون عدم نزول العذاب من البداء.

وعلى التنـزل فإنه (ع) إن لم يؤمر بالخروج، فإنه لم يؤمر بالبقاء وعدم الخروج أيضاً، كما أشار الى ذلك العلامة الطباطبائي.

ولكن الملفت أن هذه النصوص تؤكد ما ذكره العلامة المحقق وهو أن هروبه كان من قومه وللتدليل على ذلك نذكر أقوال المفسرين التي زعم أنها تؤيد ما يذهب إليه.

قال الشيخ الطوسي في تبيانه: " فالإباق هو الفرار، فالآبق الفار، حيث لا يهتدي إليه طالبه. يقال: أبق العبد يأبق إباقاً فهو آبق إذا فرّ من مولاه، والآبق والهارب والفار واحد.

قال الحسن: فر من قومه"(14).

وقال في شرحه لما جاء في سورة الأنبياء آية 87: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً..): " فأما ما روي عن الشعبي، وسعيد بن جبير من أنه خرج مغاضباً لربه، فلا يجوز ذلك على نبي من الأنبياء"(15).

وهذا نص صريح يؤيد ما يذهب إليه العلامة المحقق من أن المغاضبة كانت لقومه .

وقال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: "((وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون)) أي فر من قومه إلى السفينة.."(16). وهذا نص صريح بأن الفرار كان من قومه. وسيأتي في البحث اللغوي تفسيره لمعنى "أبق" فانتظر.

وقال في جوامع الجامع: "والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر، والمغاضبة لقومه"(17) 

وهذا نص آخر يؤيد مقولة العلامة المحقق.

والملفت الطريف أن "الكاتب" جعل عنوان رأي العلامة الفيض كالتالي:

"تفسير الصافي: هرب من قومه بغير إذن ربه"

ولعلّه لم يلتفت إلى كلمة: "من قومه" التي تقرر وتؤيد ما ذهب إليه العلامة المحقق صراحة.

وقال أيضاً: ".. إذ ذهب مغاضباً لقومه"(18). وهذا أيضاً يؤيد ما ذكره العلامة المحقق.

وقال ابن أبي جامع العاملي: ".. فاطلق عليه لأنه هرب مختفياً من قومه"(19).

وهذا أيضاً تأييد لما جاء به العلامة المحقق، فإن الهروب كان من قومه.

وقد كان بإمكان الكاتب أن يذكر لنا العشرات من المصادر التي تؤيد ذلك لولا خوفه من الإطالة(20)!!!

ومع هذا فلا حاجة له إكتفاءً بما تقدم .

 

ما نقله الكاتب عن العلامة الطباطبائي

النص الأول: "والمراد بإباقه إلى الفلك المشحون خروجه من قومه معرضاً عنهم، وهو وإن لم يعص في خروجه ذلك ربه، ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج، لكن خروجه إذ ذاك، كان ممثلاً بإباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك" ثم أحال العلامة الطباطبائي إلى كلامه ولنلتفت في قوله "ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج" وهو ما أشرنا إليه قبل قليل. حول تفسير قوله تعالى: "وذا النون.."(21).

النص الثاني: "فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضباً عليه ظاناً أنه لا يقدر عليه"(22).

النص الثالث: "ويمكن أن يكون.. وارداً مورد التمثيل، أي كان ذهابه هذا ومفارقته قومه ذهاب من كان مغاضباً لمولاه، وهو يظن أن مولاه لن يقدر عليه، وهو يفوته بالإبتعاد عنه فلا يقوى على سياسته"(23).

هذه ثلاثة نصوص نقلها "الكاتب" في محاولة منه لإثبات دعواه: أن الهروب كان من ربه، وأن المغاضبة كانت بينه وبين ربه..

وفيما يلي، ستعلم أخي القارئ حقيقة رأي العلامة الطباطبائي (قده) وكيف أن "الكاتب" عبث بالنصوص:

أ ـ يقول العلامة الطباطبائي: "وذهب لوجهه على ما به من الغضب والسخط عليهم، فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضباً عليه.." فلاحظ قوله: ".. على ما به من الغضب والسخط عليهم.."(24).

ب ـ ويقول أيضاً: "ويمكن أن يكون.." أي يحتمل ذلك ولا يجزم به.

ج ـ إن تعبيره (قده) بعبارات مثل:

"وكان ممثلاً بإباق العبد من خدمة مولاه"

و"فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه".

و"وارداً مورد التمثيل"

هذه التعابير لا تحتاج إلى كثير عناء لمعرفة المراد والمقصود منها، إذ أنها صريحة في دلالات ألفاظها ومعانيها. فكيف خفي الأمر على هذا "الكاتب"؟!!.

ألا يرى أن هذه العبارات إنما يقصد بها التمثيل والتشبيه؟!

وهل أن ذلك خفي على الكاتب أم أنه أدرك مرام الطباطبائي فحذف تتمة الكلام وهو قوله (قدس سره):

".. بالإبتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، وأما كونه مغاضباً لربه حقيقة وظنه أن الله لن يقدر عليه فمما يجل ساحة الأنبياء الكرام عن ذلك قطعاً وهم المعصومون بعصمة الله"(25).

والجدير ذكره أن هذا التوجيه - المرتكز على تنزيه الأنبياء عن ما ورد في العناوين المشكلة المتقدمة - يستعمله العلامة الطباطبائي كثيراً كما في توجيهه لقوله تعالى: ((إني كنت من الظالمين ((حيث يقول: "اعتراف بالظلم من حيث أنه أتى بعمل كان يمثل الظلم وإن لم يكن ظلماً في نفسه ولا هو (ع) قصد به الظلم والمعصية"(26).

والملفت أنه (قده) قد كرّر عبارته هذه لإيضاح مقصوده من كلمة: "يمثل" أكثر من مرة، وفي صفحة واحدة، حتى لا يشتبه الأمر على أحد فكيف خفي على "الكاتب" ذلك كله؟!! لا سيما أنه نقل قوله (قدس سره): "فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه"(27).

ولماذا عمد إلى حذف تتمة هذا الكلام وهو قول الطباطبائي (قدس سره): "يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة، ولذا حملنا قوله تعالى: "إذ أبق" وقوله تعالى: "مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه" على حكاية الحال وإيهام فعله"(28)؟.

 

في المعنى اللغوي للإباق

أما فيما يتعلق بالمعنى اللغوي لكلمة: "أبق" فقد ظهر "الكاتب" بحالة يرثى لها، وهو ما فتئ يطعن بنبي الله يونس (ع) طعنة تلو طعنة، ويحاول بكل ما أوتي من قوة، أن يتلاعب بمعنى الإباق، لا لشيء إلا لإثبات دعوى ما أنزل الله بها من سلطان ألا وهي: أن يونس إنما هرب من ربه !!!.

لذلك تراه بعد أن استعرض كلام بعض أعلام اللغة يقول ويردد مرة تلو الأخرى:

"أسألكم يا سماحة السيد (أي العلامة المحقق): ممن ذهب العبد وهرب؟ وبلا كد عمل من قبل من؟ ألم يكن ذهابه وهروبه من سيده، وبلا كد عمل من سيده كذلك؟.

إن قول صاحب محيط المحيط: "ذهب" أي: ذهب العبد من سيده قطعاً.. (بلا خوف ولا كد عمل) أي بلا خوف ولا كد عمل من سيده ويعني ذلك أنه هرب من دون مبرر، ومن دون عذر.. فهو إذن متمرد في ذهابه وفراره، ولئن لم يذكر صاحب (محيط المحيط) أو غيره عبارة: "من سيده" فذلك لبداهة الأمر ووضوحه"(29).

وقد استعجب هذا الكاتب من تفسير العلامة المحقق لمعنى الإباق: بأنه ليس فيه أن هروبه لا بد أن يكون من مولاه، وعلى صفة التمرد، والخروج من زي العبودية، وهو والله قول الحق لمن ألقى السمع وهو شهيد..

إذ من الواضح أن كلمة "أبق" تعني هرب وفر، وليس فيها بحد ذاتها من الناحية اللغوية أن هروبه كان من مولاه، وعلى صفة التمرد أو الخروج عن زي العبودية، ولا يمكن حملها على هذا المعنى إلا بقرينة.

فإذا قيل: أبق العبد كان وجود كلمة العبد قرينة على أن المراد هو: الهرب من سيده، لأن إباق العبد لا يكون إلا من مولاه.

ألم ينقل "الكاتب" كلام الشيخ الطوسي في تبيانه: "فالإباق الفرار فالآبق الفارّ إلى حيث لا يهتدي إليه طالبه يقال: أبق العبد يأبق إباقاً فهو آبق إذا فرّ من مولاه"(30)

فلاحظ تعريفه: "الإباق الفرار"، ولاحظ قوله:"الآبق الفار" ولاحظ قوله:"إلى حيث لا يهتدي إليه طالبه" وطالبه ليس بالضرورة أن يكون ربه، إذ ربما كان مولاه وربما كان غيره من البشر.

ولاحظ أيضاً عندما قال: "يقال: أبق العبد إذا فرّ من مولاه" حيث عبر (رحمه الله) بقوله: "يقال أبق العبد" فجعل كلمة العبد قرينة على أن الهروب كان من المولى.

ونسأل "الكاتب" بعدما مرّ: هل يكفي ما أوردناه من شواهد وأدلة على رد مقولة صاحب "من وحي القرآن" أم أنه يريد المزيد؟ الأمر الذي لا نرغب فيه لسبب وجيه وهو أننا لا نريد أكثر من التنبيه على زيف هذه الدعوى وزيف الكثير من أخواتها مما سيأتي  وخير الكلام ما قل ودل..

ولكن نخشى أن لا يفي هذا القليل بالدلالة لسبب وجيه آخر  أيضاً وهو أن القضاياً التي نطرحها من البديهيات ورغم ذلك فإن "الكاتب" لا يتعقلها على بداهتها مما يعني أننا أمام حالة نفسية لا يمكن معالجتها بما قل ودل أو بجرعة واحدة من الشواهد والأدلة والبراهين. وحرصاً منا على كمال الإيضاح نضيف إلى ما تقدم فنقول:

إن "الكاتب" حذف من كلام الطوسي (قده) قوله: "يقال: أبق العبد يأبق إباقاً إذا فرّ من مولاه. والآبق والهارب والفار واحد"(31).

فليلاحظ قوله ( قده ): " الآبق والهارب والفار واحد". وفيه دلالة على عدم كون الإباق مخصوص بالعبد ما لم تقم قرينة على ذلك . وكلمة العبد هي قرينة من القرائن.

أما سبب تجاهل "الكاتب" لكلام الطبرسي في مجمعه، فلا يخفى على أعمى وأصم فضلاً عن متأمل، إذ الشيخ الطبرسي لم يضرب مثالاً بإباق العبد.

من هنا كان كلامه (قدس سره) لا يفيد "الكاتب" في هدفه، فقد قال الطبرسي في فقرة اللغة من كتابه مجمع البيان: "الآبق الفار إلى حيث لا يهتدي إليه طالبه"(32).

ولو تجاهلنا كل ما تقدم واكتفينا بما نقله "الكاتب" نفسه عن كليات أبي البقاء لوفينا المطلب حقه وهو قوله: ".. لا يقال للعبد آبق إلا إذا استخفى وذهب من غير خوف ولا كد عمل، وإلا فهو هارب"(32) مما يعني أن العبد إذا ذهب من خوف وكد عمل ولم يستخف فهو هارب لا آبق.

وعلى فرض أن يكون الإباق هو خصوص هروب العبد بلا خوف ولا كد عمل نسأل: ألم يتركهم (ع) بعد أن أخبره الله بنـزول العذاب؟ أولم يتركهم بعد أن دعا قومه للتوحيد لأكثر من ثلاثين سنة، كما تقول الروايات.

إذن فإن يونس (ع) قد تركهم من خوف وبعد كد عمل، فكيف وصف بأنه آبق بالمعنى الذي يحاول "الكاتب" تصويره، لذلك كله لا محالة من القول بأنه هرب من قومه كما هو عليه إجماع الشيعة.

ثم ألم يجمع المفسرون على أنه يستحيل أن يكون المقصود من إباق يونس (ع) هو هروبه من ربه؟! وأن هذا غير جائز على الأنبياء؟!.

ألم يقل الطوسي والطبرسي والفيض والمشهدي (رحمهم الله) وكل من افترى عليهم "الكاتب" من المفسرين أنه إنما فر من قومه؟ فهل قومه هم مولاه أم أنهم ربه، فأبق منهم؟!!

ألا يعلم "الكاتب" أن العبد إنما يوصف بالآبق إذا كان يتعمد مخالفة مولاه؟! وهو لا يعقل في حق نبي الله تعالى.

وقد قال الرازي في تفسيره الكبير: "قال بعضهم: أنه أبق من الله تعالى وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمدّ مخالفة ربه"(34).

فهذا قول الرازي وحاله معلوم- من حيث يجوٌز على الأنبياء صدور الصغائر- فكيف بأصحاب المذهب الملتزم بالقول بالعصمة؟!!.

وليخبرنا "الكاتب" عن مغزى قوله: ".. ويعني ذلك أنه هرب من دون مبرر.. ومن دون عذر.. ولهذا فهو متمرد في ذهابه وفراره"(35) كيف..وهو إنما يترك ارضاً سينـزل عليها عذاب الإستئصال..وهل يصح بقاؤه بينهم، وهو يعلم ان العذاب نازل عليهم وما الذي يريد أن يثبته ويستدل عليه؟!! ولأجل ماذا؟!! ولمن؟!!.

فكيف يصح من هذا الكاتب أن يصف نبياً من أنبياء الله بالتمرد وكأنه يصف فرعون أم نمرود. وهل التمرد إلا المعصية والتحدي له تعالى.

فلينظر هذا "الكاتب" بما هو فيه، فإن ما ينسبه للأنبياء لا يرضى أحط الناس بأن يتٌصف به أو ينسب إليه!!!!.

وهل هذا ما قاله الطوسي والطبرسي والطباطبائي وغيرهم من الأعلام؟!!. وهل نسبة ذلك إليهم إلا محض إفتراء؟!. وهل هذا مما يكاد يجمع عليه المفسرون الشيعة- كما يزعم الكاتب-  منذ عصر الطوسي إلى عصرنا الحالي؟!!.

ألم ينقل "الكاتب" نفسه رواية جميل عن أبي عبد الله (ع) التي تقول: "أنه (ع) مرّ على وجهه مغاضباً لله"(36) ويسجل في الهامش تعليقة العلامة المجلسي (قده) في بحاره أن معنى قوله (ع) مغاضباً لله أي مغاضباً قومه لله بمعنى أن غضبه (ع) كان لله لا للهوى. فكيف يتمرد عليه تعالى.

ونختم بكلام السيد المرتضى (علم الهدى) الذي قال: "أما أن يونس (ع) خرج مغاضباً لربه من حيث لم ينزل بقومه العذاب فقد خرج في الإفتراء على الأنبياء (ع) وسوء الظن بهم عن الحد وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من كان معادياً له وجاهل بأن الحكمة في سائر أفعاله"(37).

 

في الروايات

أما الروايات(38) التي نقلها "الكاتب" فليس فيها ما يعول عليه فيما ذهب إليه بل لا نفهم- ولا غيرنا يفهم-  منها ما فهمه هو منها، بل إن بعضها لا علاقة له بموضوع البحث ومحط الإشكال، ولا ندري سبب إيرادها..

وفيما يلي نعالج نموذجاً يصلح أن تقاس عليه بقية الروايات التي نعيدها إلى "الكاتب" ليرشدنا إلى الفائدة منها فيما يدٌعيه في فرصة أخرى.

أ ـ  إن رواية الفقيه والكافي التي تقول: "أي قضية أعدل من قضية تجال عليها السهام.." لا تدل على أن يونس (ع) كان آبقاً من ربه متمرّداً عليه ولا علاقة لها بموضوع البحث أصلاً.

بل إن الرواية المحال إليها في الفقيه في باب الحكم بالقرعة تشعر أن الإستهام كان لإلهاء الحوت، ودفعه عن السفينة عبر إلقاء أحدهم لنجاة الآخرين مما يصلح كدرس في الإيثار ولا يصلح للبحث في إباق يونس من ربه كما يحاول "الكاتب" إثباته، حيث تقول الرواية (39):" روى حماد بن عيسى عن أبي جعفر (ع) قال: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران.. ثم استهموا في يونس (ع) لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة فاستهموا فوقع السهم على يونس (ع) ثلاث مرات قال: فمضى يونس (ع) إلى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى بنفسه"(40)!!!.

أما قوله تعالى "فكان من المدحضين" والتي جاءت في رواية الكافي، فقد ذكر الطوسي والطبرسي (قده) أقوالاً حول معناها، ولكن رأيهما استقر أخيراً على أن المعنى هو: فكان من "الملقين في البحر" فيكون "الدحض" بمعنى السقوط، وقد استدل الطوسي (قده) بقوله تعالى "حجتهم داحضة" أي ساقطة(41)

ب- أما رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر (ع) التي جاء فيها: ".. يا قوم إن في سفيتني مطلوب" وهو قول ملاّح السفينة فليس فيها ما يدل أو يلمح إلى ما يسعى "الكاتب" إلى إثباته من أن نبي الله كان فاراً من ربه مغاضباً له.

على أن الروايات التي تحدثت عن هذا الموضوع متعارضة ومتضاربة ؛ فبعضها يخبر أن الحوت كان يطارد السفينة حتى حبسها عليهم من قدامها، ولم يتركها إلا بعد أن ألقى يونس (ع) نفسه في فمه، وأن الملاّح عرف من خلال إصرار الحوت أن في سفينته مطلوباً، وبعضها الآخر يخبر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري..(42).

والغريب أن هؤلاء المتحمسين للدفاع عن هذه الآراء وصاحبها قد ردوا روايات مأساة الزهراء(ع) لإختلافات بسيطة رغم وضوح إمكانية الجمع بينها، وإذا بهم يتمسكون بروايات ظاهرة التعارض.

وعلى أي حال: فإن قول الملاح: "إن في سفينتي مطلوب" ليس فيه ما يدل على أنه مطلوب من قبل الله، كما يحاول الكاتب الإشارة إليه، ولماذا لا يكون مطلوباً من قومه ملاحقاً منهم؟.

وما المانع من ذلك، لا سيما إذا كان فيه تنـزيه له عما ينسب إليه مما لا يجوز على الأنبياء؟.

بعدما تقدم يظهر لنا أن "الكاتب" لم يصب في كل محاولاته إلا في محاولة واحدة وهي: عنوان بحثه الروائي حيث وضع لهذا البحث عنواناً أخذه من رواية أبي حمزة الثمالي وهو: "السهام لا تخطئ" حيث أصاب بها قلب نبي الله يونس (ع)، وكبد العصمة، ولا أحد يدري ما ستتركه هذه السهام من آثار على عقول وقلوب الناس الأبرياء من الناس الذين يتلقونها على أنها تفسير للقرآن؟

وكان ثمة من أطلقها قبله فأصاب بها قلب الزهراء (ع) وضلعها المكسور!!! وقلب الأنبياء والأوصياء..

 

يونس تهرب من مسؤولياته

وحول هذه المقولة يقول "الكاتب": "لست أدري أين تكمن الجرأة في هذه المقولات إذا استثنينا المقولة الثالثة التي لم يقلها (السيد) لقد قالها المفسرون الشيعة منذ قرون.. وقالها أخيراً وليس آخراً العلامة الطباطبائي ما عدا المقولة الثالثة والتي لم يقلها (السيد) إطلاقاً بل رفضها رفضاً قاطعاً في كتابه (من وحي القرآن) وصرّح على النقيض منها تماماً.."(43).

والملفت أنه ينكر نسبة المقولة الثالثة لصاحبه (وهي أن يونس (ع) قد تهرب من مسؤولياته ) وبكل جرأة رغم كونها مدونة في كتب صاحبه.

ومهما يكن من أمر فقد تركز اعتراض "الكاتب" على أن صاحب "من وحي القرآن" كان قد صرّح وفي نفس السياق أن فعل يونس (ع): "قد لا يكون.. تهرباً من المسؤولية وحباً للراحة.."(44).

ويلاحظ عليه:

1 ـ إن "الكاتب" قد حذف من النص فقرة اختصرها بقوله: "ثم يقول"(45) الأمر الذي لا يدعو للعجب لا سيما إذا علمت السبب، والفقرة المحذوفة هي التالية "وفي هذا الجو كان خروجه السريع بسرعة انفعالية في اتخاذ القرار.."(46) مما يعني أن نبي الله يونس (ع) قد اتخذ قراراً انفعالياً كاد أن يكون ضحيته مائة ألف أو يزيدون؟!!.

2 ـ إن قول صاحب هذا النص "وقد لا يكون ذلك تهرباً من المسؤولية.." لم يكن على سبيل الجزم، بل على سبيل الإحتمال!! إذ أن كلمة "قد" تفيد الإحتمال الذي يقابله احتمال أن يكون قد تهرب.. وهذا الإحتمال حتى لو كان ضعيفاً جداً، لكنه ينافي الإعتقاد بالعصمة المستلزم لنفي امثال هذه الإحتمالات التي لا تليق بساحة قدس الأنبياء (ع) . ولنلتفت لقوله المتفرع عنه: "فربما كان الجو يتحرك في حالة شديدة من الحيرة، والغم، والحزن.."(47)

3 ـ إن جميع النصوص التي قدمها "الكاتب" وردت في سياق مناقشة إحتمالات تفسير الآيات، بينما النص محل الإشكال الذي قدمه العلامة المحقق يمثل خاتمة البحث وخلاصة رأي "صاحب التفسير" ومن هنا قال في ختام بحثه حول الآية: "وهكذا نستوحي من هذه القصة الخاطفة أن الله قد يبتلي الدعاة المؤمنين من عباده ورسله، فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه أو تهربوا منه من مسؤوليات.."(48).

إذن هو يستوحي من هذه القصة ذلك، وتعبيره: "بالإستيحاء" واضح المعنى والدلالة بأن ذلك ما استظهره من هذه القصة. وهو التعبير الذي لا يخفى دلالته على كل من مارس في كتبه وسمع حديثه.

والأنكى من ذلك أنه لم يكتف باحتمال تهرب نبي الله يونس (ع) من المسؤولية بل ردد بينه وبين التقصير !! فكيف يقول بالعصمة على كل المستويات ثم ينسب التقصير الى نبي الله (49).

فنبي الله يونس (ع) وفق "استيحاء" صاحب "من وحي القرآن" إما قصّر في مسؤولياته أو تهرب منها!! فانتق منهما ما شئت.

والأطرف من ذلك أن هذا "المستوحي" عمّم المسألة وخرج بقاعدة كلية مفادها: "أن الله يبتلي الرسل فيما يمكن أن يكونوا قد قصّروا فيه أو تهربوا منه من مسؤوليات"!!.

فهو يحتمل إذن أن يصدر من الأنبياء جميعاً تقصير في المسؤوليات أو تهرب منها!!ومع ذلك هو قائل بالعصمة! فأي عصمة هي التي يقول بها.

وعلى أي حال، فما دام هذا النص يمثل خاتمة البحث وخلاصته، فهو ادعى لتمثيل رأي صاحبه مما قدمه قبل ذلك من مناقشة لاحتمالات التفسير. علماً أنٌ الكاتب نفسه يدعي مثل ذلك في ما ذكره في حق إبراهيم (ع) من أنها إنما كانت مجرد عرض لإحتمالات قبل إختيار الرأي الصحيح.

ولا ينفع "الكاتب" الإتيان بشاهد أو أكثر يصرح فيه صاحب هذه المقولة بنقيضها حيث ينبغي عليه، كما صرّح العلامة المحقق، أن لا يتكلم بالمتناقضات.

وبعد هذا كله، أين تصبح دعاوى "الكاتب" بأن علماء التفسير يجمعون على ما يتبناه (السيد) من مقولات، وبأن مقولاته هذه ليست بدعاً في علم التفسير؟!!.

وقد رأينا أن دعاوى "الكاتب" تدل دلالة واضحة على أنه لم يفقه أقوال المفسرين، حتى لو وقف على آرائهم، وإنما ألبسها لباس التزوير والتحريف بالتقطيع والتدليس.

قوله تعالى: وهو مليم

يقول "الكاتب": "هذه معاجم اللغة بين يدي تجمع على أن معنى "مليم" بأنه مستحق للوم.."(50).

ويقول أيضاً: "ولست أدري – لحد الآن – كيف يكون (مليم) بمعنى: "أتى ما لا يستحق اللوم عليه" هذه لغة عجيبة تذكرونها في كتاب خلفيات، ولهذا احتملت لأول وهلة أنها خطأ مطبعي، أو من سهو القلم، ولكن كم كانت دهشتي كبيرة عندما أكملت النص حيث تبين لي أنها ليست كما احتملت، حيث تقولون:

" قوله: ((وهو مليم)) أي لوم غيره، لا أنه يلوم نفسه، فإن هذه الكلمة هي إسم فاعل من (ألام) بمعنى (لام)، أو بمعنى (أتى ما لا يستحق اللوم عليه)، وتلك إشارة أخرى تؤكد عدم استحقاق يونس (ع) لأدنى لوم.."(51).

هذا ما قاله "الكاتب"، قبل وبعد أن استعرض آراء بعض المعاجم اللغوية.

ولكن عن أي اجماع لمعاجم اللغة يتحدث؟!!.ولماذا يلجأ من يدعي الإجماع على التلاعب بالنصوص وتحريفها؟!!.

الحق يقال: أنّى لهذا "الكاتب" أن يدري كيف يكون (مُليم) بالضم بمعنى أتى ما لا يستحق اللوم عليه، فهل ثمة غشاوة على بصره حجبته، أم ران على قلبه فلم يعقله ؟!.

إن تعريف العلامة المحقق لكلمة: (مُليم) بـ: "أتى ما لا يستحق اللوم عليه": ليس لغة عجيبة، إلا لمن لم يطلع على المعاجم اللغوية التي بين يديه أو خلفه.ولم يكن هناك مبرر لهذا الإندهاش، لا سيما أن تعريف العلامة المحقق هذا لم يكن من سهو القلم، كما لم يكن خطأً مطبعيا، فإن هذه حجج "البعض"( إحتاج إليها صاحبه كثيراً حين طولب ببعض المقولات ) وكل من يحاول أن يتهرب مما يكتبه أو يقوله، لأنها أهون عليه من الإعتراف بما يمثل "فضيلة".

ولست أدري إن كان اندهاشه من هذا التعريف يعود لحساسيةٍ عنده من كل شيء ينـزّه الأنبياء عن الخطأ ويعصمهم عن الوقوع فيه، لا سيما إذا علمت أن ما يسعى لإثباته هو أن نبي الله يونس (ع) يستحق اللوم، وما يسعى لنفيه هو أنه (ع) لا يستحق اللوم!.

أما بالنسبة للمعاجم اللغوية، فإننا نحيل القارئ إليها ليرى بنفسه مقدار الصدق فيما إدعاه الكاتب لأننا عدنا إليها ووجدنا عكس ما يدعي ، واليك التفصيل:

 

محيط المحيط: ألام: أتى ما لا يلام عليه:

وأول ما لفت نظرنا هو صاحب محيط المحيط الذي يقول:

" ألامه إلامة بمعنى لامه فهو مُليم (بالضم) وذلك مُلام. وألام الرجل أتى ما لا يلام عليه أو صار ذا لائمة أو فعل ما يستحق عليه اللوم"(52).

ونسأل: من المعُبر عنه بلفظ "فهو" اليس الذي يلوم غيره، ويقابله المُعبر عنه بلفظ "وذلك مُلام" اليس الذي وقع عليه اللوم ؟!

 

أقرب الموارد: ألام: أتى ما لا يلام عليه:

أما صاحب أقرب الموارد فقال: "(ألامه) إلامة: بمعنى لامه فهو مُليم (بالضم) وذاك مُلام (بالضم).. (ألام) الرجل: أتى ما لا يلام عليه، وقيل صار ذا لائمة، أو فعل ما يستحق عليه اللوم.."(53).

وليلاحظ فيما تقدم الآتي:

1 ـ قوله: "فهو لائم" أي الذي لام غيره يُقال له: لائم، أما الآخر أي من وقع عليه اللوم فيقال له: مَليم (بالفتح) ومَلوم (بالفتح).

2 ـ ونفس المعنى قوله: "لامه فهو مُليم (بالضم) (أي يلوم غيره وعبّر عنه بلفظ هو اي اللائم)   وذلك مُلام (بالضم) (أي وقع عليه اللوم)". و عبّر عنه بلفظ وذلك اي مقابل اللائم والمُليم.

3 ـ قوله: "ألام الرجل أتى ما لا يلام عليه"

4 ـ قوله: "ألامه بمعنى لامه" (تقدم أنه لام غيره) فهو (أي اللائم) "مُليم" (بالضم) وذاك (أي الذي وقع عليه اللوم) "مُلام" .

5 ـ لاحظ قوله أيضاً: "ألام الرجل أتى ما لا يلام عليه".

ـ وإذا أضفنا تعريف صاحب محيط المحيط وأقرب الموارد لكلمة "ألام" إلى ما قاله صاحب المصباح المنير وغيره وهو قوله: "ألامه" بالألف لغة فهو (مُلام) والفاعل (مُليم) [وهي تعني أن المُليم هو الذي يلوم غيره، أما من وقع عليه اللوم لإتيانه ما يستحق عليه اللوم فهو المُلام].

و(ألام) الرجل (إلامة) فعل ما يستحق عليه اللوم"(54).

إذا ما لاحظنا ذلك فلا أقل من القول أن كلمة (ألام) هي لفظ مشترك، ومع غياب القرينة اللفظية التي تحسم المعنى المقصود فلا بد لنا البحث عن القرينة العقلية وعصمتهم عليهم السلام كافية في ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

هذا إن لم يكن ثمة اشتباه في بعض المعاجم بين "مُليم" (بالضم) "ومَليم" (بالفتح) فإنه من غير المستبعد أن يكون ثمة أخطاء في تحريك الكلمات وهو ما سنقدم بعض النماذج عنه فيما سيأتي.

وعلى أي حال: فإنه على أقل التقادير فإن في المسألة أقوالاً ومنها: أن مُليم (بالضم) تفيد معنى لام غيره فهو مُليم (بالضم) أي أتى ما لا يلام عليه، وذاك مَليم (بالفتح).

وما يقوي هذا الإحتمال قول صاحب تاج العروس:

.. وقوله تعالى ((فالتقمه الحوت وهو مُليم))، قال بعضهم: المُليم هنا بمعنى ملوم ونقله الفرّاء عن العرب أيضاً".

إذن ذهب بعضهم إلى أن "مُليم" بمعنى مَلوم، وهو تصريح بوجود إختلاف في هذا الأمر. بل لاحظ قوله:" المُليم هنا بمعنى ملوم" وهو كلام يفيد أن المُليم في الأصل تعني الذي يلوم غيره لكنها "هنا" تعني "الملوم" وفق قول الفراء طبعاً.

والملفت وجود أخطاء في تشكيل أو تحريك الكلمات في كتاب لسان العرب، وهذا الخطأ يتضح إذا ما قارنا ما جاء فيه مع ما جاء في تاج العروس.

يقول في لسان العرب: " قال الفراء: ومن العرب من يقول المَليم (بالفتح) بمعنى الملوم"(55).

والخطأ واضح هنا إذ ينبغي وضع الضمة بدل الفتحة فوق الميم لتصير الجملة: "ومن العرب من يقول المُليم (بالضم) بمعنى الملوم". وبذلك يستقيم المعنى ليتوافق مع ما نقله صاحب تاج العروس عن الفراء.

وإلا فإن المَليم (بالفتح) هي بمعنى الملوم عند كل العرب.

أضف إلى ذلك أن المثل القائل: "رب لائم مَليم" (بالفتح) ذكره البعض بالفتح كما في أقرب الموارد ومحيط المحيط وتاج العروس وبعضهم ذكره بالضم.

 

تحريفات الكاتب

ولا نعتقد أن هذه الأمور قد غابت عن "الكاتب" الذي عمد إلى تحريف بعض النصوص عبر قيامه بتحريك بعضها وإهماله تحريك بعضها الآخر ليقرأ القارئ - وفق إيحاءات ما حرّكه-،ما أهمل تحريكه منها.

فعلى سبيل المثال:

1 ـ نقل "الكاتب" عن لسان العرب تعريفاً قام بتحريك معظم كلماته لكنه أهمل تحريك الكلمة التي هي موضع البحث.

يقول صاحب لسان العرب: "لامه على كذا يلومه لوماً.. فهو مَليم ومَلوم استحق اللوم"(56) حيث يلاحظ أن "الكاتب" لم يضع علامة الفتحة على كلمة مَليم ولا يخفى سبب ذلك لا سيما أنه موضع البحث. وعليه فإن نص لسان العرب لا يفيده في إثبات مدعاه.

ولكن الملفت في نص لسان العرب أن صاحبه عرّف الكلمة دون أن يشير إلى معنى "مُليم" (بالضم) لكن قوله "مَليم (بالفتح) استحق اللوم"، يفيد أن "المُليم" (بالضم) بمعنى اللائم..وإلا لم يحصل الفرق.

وفي مورد آخر فإنه عندما تعرّض لكلمة "مُليم" (بالضم) وأنها تعني "أتى ذنباً يلام عليه" نسبها لصاحب التهذيب، ثم عقبه بقول الفرّاء كما تقدم.

فيتضح بذلك: أن صاحب لسان العرب عندما ذكر رأي صاحب التهذيب رأى أن فيه مفارقة مع ما قدمه فعمد إلى إيضاح أن هذا المعنى نقله الفرّاء عن بعض العرب.

2 ـ وما فعله "الكاتب" في نص لسان العرب فعله أيضاً في نص "العين" حيث تجاهل التحريك رغم أن الفتحة ظاهرة على الميم في "مَليم".

قال الفراهيدي: "رجل ملوم ومَليم (بالفتح) قد استحق اللوم"(57).

أصل الفعل لام بإجماع أعلام اللغة:

إن من يراجع معاجم اللغة يتضح له أنهم يجمعون على أن أصل الفعل: "لام" وأن الآتي بما يلام عليه إنما هو: مَليم (بالفتح) وملوم وأن الفاعل له إنما هو: لائم ومُليم (بالضم)(58).

ولم نجد فيما بين أيدينا من مصادرمن نقل أن "مُليم" بمعنى الملوم إلا الفرّاء.

 بعد كل ما تقدم يتضح أن قراءة "مُليم" (بالضم) بمعنى ملوم هي عند بعض العرب، والظاهر أن بعض المعاجم أخذتها دون أن تشير إلى ذلك ثم أرسلوها إرسال المسلمات ثم بعد ذلك أخذها من أتى بعدهم دون ملاحظة هذا الأمر.

ولا يخفى أن القول بأن: ألام تعني أتى ما يستحق عليه اللوم لا تدل بالضرورة على أن مُليم (بالضم) قد أتى ما يستحق عليه اللوم وإلا لاستوى اللائم مع الملوم.

 على أن بعض المعاجم تحدثت أن كلمة "ألام الرجل" تفيد أنه أتى ما يستحق عليه اللوم، أي أن هذه المفردت بهذه الصيغة وهذا الإشتقاق تفيد هذا المعنى لا أن أصل الفعل له هذا المعنى، ولو كان الأمر كذلك، لاستوى كما ذكرنا معنى إسم الفاعل مع إسم المفعول وبالتالي فلا داعي للتفريق بين المُليم (بالضم) والمَليم (بالفتح) والمُلام واللائم وغيرها كما يحاول الكاتب أن يوحي!!.

وعليه، فألام الرجل أتى ما يلام عليه، والمُليم هو إسم فاعل أي الذي يلوم غيره، على أن إسم الفاعل لا يمنع من أن يكون الفاعل قد لام نفسه لكن حمل إسم الفاعل على هذا المعنى يحتاج إلى قرينة لأن أصل إسم الفاعل أن يكون لام غيره .

 بعد كل ما تقدّم: فما دامت كلمة "مُليم" (بالضم) تحتمل في أحد وجوهها معنى لام غيره وهو الأقوى وغير ذلك إنما هو عند بعض العرب، فهو "مُليم" (بالضم) وذاك ملام، فإن الأنسب مع وجود هذا الوجه الوجيه والمتلائم مع الإشتقاق العربي الصحيح أن تحمل على ما يتناسب وعصمة الأنبياء.

وعليه: يكون معنى الآية: إن الحوت قد التقم يونس (ع) وهو "مُليم" (بالضم) أي حال كونه يلوم قومه على تكذيبهم له الأمر الذي أدى لخروجه عنهم مغاضباً لهم فوقع بما وقع فيه من البلاء الذي أنجاه الله منه لكونه من المسبحين.أو أنه ملوم من قبل قومه الذين لم يقبلوا دعوته بل إتهموه ورفضوا ما جاء به.

من هنا نقول: إن ما ذكره العلامة المحقق كلام دقيق يتوافق وأصول اللغة العربية وينسجم ومدرسة أهل البيت في عصمة الأنبياء وتنـزيههم، وهي إلتفاتة موفقة منه آدام الله بقاءه للذب عن مذهب أهل البيت (ع).

 

خلاصة الفصل الثاني

ويمكن أن نلخّص ما جاء به الكاتب في هذا الفصل بما يلي:

1 ـ لقد أتى "الكاتب" ببدع من القول عندما اعتبر أن تفسير "إباق يونس" بأنه الفرار من قومه مما لم يقل به أحد من أعلام التفسير، علماً أن العلماء يجمعون على أن فراره (ع) إنما كان من قومه. وقد ذكرنا ارآءهم.

2 ـ تحريف كلام الطوسي في حديثه عن فرار يونس (ع) حيث حاول الكاتب أن ينسب إليه (رحمه الله )أنه يقول بأن يونس (ع ) قد فرٌ من ربه وأبق منه وأنه كان ( ع ) مغاضباً لربه . وقد أوضحنا بشكل لا لبس فيه أن الطوسي ( رحمه الله ) قد صرٌح بما لا يقبل الجدل أن فراره (ع) كان من قومه.

3 ـ وكذلك فعل الكاتب برأي الطبرسي والفيض الكاشاني وأبن أبي جامع العاملي (رحمهم الله ) في نفس الموضوع فراجع .   

4 ـ قيام الكاتب بالتلاعب برأي العلامة الطباطبائي  في مسألة الإباق  لإخراجه عن معناه الذي قصده (قده)، علماً أن العلامة الطباطبائي إنما تحدث عن أن ذلك كان تمثيلاً بالهروب لا هروباً بالمعنى الحقيقي .

5 ـ إصرار الكاتب على الطعن بنبي الله يونس (ع) عندما وصفه بأنه (ع) قد هرب من ربه من دون مبرر، ومن دون عذر، وأنه متمرد في ذهابه وفراره، بل اعتباره أن هذا المعنى واضح وبديهي.

6 ـ حذف الكاتب بعضاً من كلام الطوسي مما لا يناسبه حول تعريفه (قده) للمعنى اللغوي لكلمة أبق.

7 ـ تجاهل الكاتب لتعريف الطبرسي لكلمة أبق.

8 ـ عمد الكاتب إلى التضليل عبر الإستشهاد بروايات لا تصلح لتأييد مبتغاه.

9 ـ إدعاء الكاتب زوراً أن مقولة "تهرب يونس من مسؤولياته" لم يقلها صاحب "من وحي القرآن".

10 ـ حذف الكاتب قول صاحبه: إن خروج يونس كان إنفعالاً في اتخاذ القرار.

11 ـ ادعاء الكاتب زوراً أن معاجم اللغة تجمع على أن كلمة "مُليم" تعني أن ما يستحق اللوم عليه. مع أن بعضها صريح بأنها تعني: أتى ما لا يستحق عليه اللوم، وبعضها الآخر صريح بأن مُليم بمعنى ما يستحق اللوم إنما هو عند بعض العرب، وقد نُقل هذا القول عن الفرٌاء .

12 ـ تدليس الكاتب في نص لسان العرب عندما وضع كلمة "مَليم" (بالفتح) دون تحريكها لتفيد معنى "مُليم" (بالضم) في محاولة لإثبات ما يدعيه، وقد عمد الكاتب لتحريك معظم الكلمات واستثنى هذه الكلمة.

13 ـ وكذلك فعل بنص كتاب "العين" للفراهيدي.

 


1-سورة البقرة / الآية 91

2-سورة آل عمران / الآية 112.

3-سورة الأنبياء / الآية 8788.

4-سورة الصافات / 139145.

5-سورة القلم / الآية 4849.

6-سورة يونس / الآية 98.

7-خلفيات ج 1 ص 121.

8-ن.م، ج 1 ص 122.

9-ن.م ج 1 ص 122.

10-خلفيات  ج 21 ص 123.

11-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 94.

12-نفس المصدر.

13-خلفيات ج 1 ص 126 و 127.

14-التبيان ج 8 ص 484.

15-التبيان ج 7 ص 242.

16-مجمع البيان ج 8 ص 716، وراجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 96.

17-جوامع الجامع ص 505 وراجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 97.

18-الصافي ج 4 ص 351.

19-الوجيزة ج 3 ص 88.

20-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 99.

21-الميزان ج 17 ص 163.

22-الميزان ج 17 ص 166.

23-الميزان ج 14 ص 315، وراجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 95.

24-الميزان ج 17 ص 166.

25-الميزان ج 14 ص 315.

26-الميزان ج 14 ص 315.

27-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 95.

28-الميزان ج 17 ص 169.

29-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 100 و 101.

30-التبيان، ج8، ص484. ومراجعات في عصمة الأنبياء ص96.

31-التبيان ج 8 ص 484 ومراجعات في عصمة الأنبياء ص 96.

32-مجمع البيان ج 7 أو 8 ص 589.

33-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 100.

34-التفسير الكبير ج 26 ص 165.

35-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 101.

36-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 103.

37-تنـزيه الأنبياء ص 141.

38-راجع: مراجعات في عصمة الأنبياء ص 103 و 104 و 105.

39-عمد الكاتب إلى حذف هذه الرواية من كتابه والتي كان قد ذكرها في رسالته تحت رقم3).

40-من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 51.

41-التبيان ج 8 ص 528 ومجمع البيان ج 8 ص 590.

42-بحار الأنوار ج 14 ص 382 و 404 نقلاً عن الطبرسي.

43-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 86.

44-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 106.

45-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 106.

46-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 281.

47-من وحي القرآن ج 15 ص 281.

48-من وحي القرآن ج 15 ص 284.

49-ولو سلمنا بأفضلية الأنبياء على الأئمةع) كما يقول هو به فاللازم أن ننسب إمكان التقصير الى علي ع) وباقي الأئمة واللازم أن نحمل ظواهر العبائر الدالة على تقصير علي ع) في دعاء كميل على ظواهرها .

50-مراجعات في عصام الأنبياء ص 92.

51-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 94.

52-محيط المحيط ص 833.

53-أقرب الموارد ج 2 ص 1172.

54-المصباح المنير ص 560.

55-لسان العرب ج 12 ص 558.

56-لسان العرب ج 12 ص 557.

57-العين ج 8 ص 342.

58-راجع: القاموس المحيط،ج 2، ص 1526، و أقرب الموارد،ج 2، ص 1172، وتاج العروس،ج 9، ص 65، ومحيط المحيط، ص 833، والعين،ج 8، ص 343، ولسان العرب، ج 12، ص 557.

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان