بسم الله الرحمن الرحيم
(أفتطمعون
أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد
ما عقلوه وهم يعلمون)(1).
(يحرّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم
تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك
الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة
عذاب عظيم)(2).
الآيات القرآنية:
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن
عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما
رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من
القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت
قال يا قوم إني بريء مما تشركون)(3).
العناوين المشكلة:
"29 ـ التأكيد على سذاجة إبراهيم عليه السلام عدة مرات.
30ـ خشوع إبراهيم (ع) للكوكب، وقناعته بربوبيته.
31ـ إبراهيم في وهم كبير.
32ـ إبراهيم يعبد القمر ويتصوف له.
33ـ ضياع إله إبراهيم في الأجواء الأولى للصباح.
34ـ (لا أحب..
هذا أكبر) صرخة طفولية"(4)
النصوص المشكلة:
"وتطالعنا في هذا المجال شخصية إبراهيم (ع) ـ النبي.. التي يقدمها لنا
القرآن في أجواء الصفاء الروحي، والبساطة الإنسانية.. والطبيعة
العفوية.. التي تلامس في الإنسان طفولته البريئة فيما تلتقي به من
حقيقة الأشياء.. ليفكر من خلال براءة النظرة في عينية، وسلامة
الحس
في أذنيه ويديه، فيما يرى أو يسمع أو يلمس، فيما لديه من أدوات الحس
الواقعي.. فنحن لا نرى فيه ـ من خلال الصورة القرآنية ـ شخصية الإنسان
الذي يتكلف الكلمات التي يقولها للآخرين، ولا نلمح لديه روحية الشخص
المشاكس الذي يبحث عن المشاكل في أفعاله وعلاقاته.. بل نشاهد فيه
الشخصية البسيطة الواقعية التي ترتبط بالأشياء من جانب الإحساس، فتسمى
الأشياء بأسمائها بعيداً عن تزويق الألفاظ، وزخرفة الأساليب، بقوةٍ
وصدقٍ وواقعيةٍ وإيمان.
ففي الصورة الأولى، نلتقي به في موقفه من أبيه الذي يعبد الأصنام التي
يعبدها قومه.. فيواجهه بالإنكار القوي الرافض للموقف من الأساس، لرفضه
الفكرة التي يرتكز عليها.. فهذه الأصنام، هي أحجار جامدة، كبقية
الأحجار الموجودة في العراء.. ولا ميزة لها إلا أن يد الإنسان قد
أعطتها بعض ملامح الصورة، فحولتها إلى تماثيل.. فإذا كان الإنسان هو
الذي أعطاها تلك الميزة التي تختلف بها عن سائر الأحجار.. فهي صنع يده،
فكيف تكون آلهة له.. ومن الذي أودع فيها سر الألوهة..؟ وهل الألوهة شيء
يصنع ويخلق، أو هي قوة تصنع وتخلق.. ثم.. إن الألوهة تعني القدرة
والعلم والحياة والغنى المطلق فيما تعنيه من ملامحها
الحقيقية.. فما هي ملامح ذلك كله في هذه التماثيل..؟ ولكنها الأوهام
التي حولت الأشياء غير المعقولة.. إلى عقائد وتصورات ورموز قداسةٍ في
مستوى الآلهة.. فكيف تتخذ هذه الأصنام آلهة..؟ كيف..؟ إن فكري لا يلمح
أية إشراقة للحقيقة فيما تسير عليه.. ولو من بعيد بعيد.. بل كل ما هناك
الظلام والتيه والضياع.. وهنا يتحول التساؤل.. إلى حكم قاطع في مستوى
وعيه للحقيقة المنطلقة من خط الهدى.. التي تحدد ملامح الضلال
في
خطوط الآخرين.
(إني أراك وقومك في ضلال مبين):
إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل.. ولا يغلف الأشياء بغلاف
سحري، بل يدفع الموقف إلى الأمام، بكل وضوح وصراحة.. بعيداً عن
المجاملة واللياقة التي تفرضها علاقة الإبن بأبيه.. لأن قضية العقيدة
لا تخضع للجانب
العاطفي للعلاقات لأن علاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من
أية علاقة بأي إنسان كان.
وفي الصورة الثانية نشاهد إبراهيم يتطلع إلى السماء، كما لو كان شاهدها
أول مرة، فهو ـ فيما توحيه الآية ـ يواجهها كتجربة جديدة لم يلتق بها
من قبل، وذلك فيما تعنيه التجربة من المعاناة في حركة الحس البصري
كمادة للتفكير، للإنتقال من المحسوس إلى المعقول، ومن المادة إلى
المعنى.. فقد كان يشاهدها سابقاً، في رؤية جامدة، لا تعني له شيئاً،
إلا بمقدار ما يعنيه إنعكاس الصورة في العين ـ لمجرد تجميع الصور في
الوجدان.. فيما يلتقي به الإنسان من مألوفاته العادية في حياته
اليومية.. وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى:
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض..) هي الرؤية الواعية
الفاحصة المدققة التي تثير في الداخل المزيد من التأمل والحوار
والإستنتاج.. بدليل قوله تعالى (وليكون من الموقنين..)، مما يوحي بأنها
الرؤية التي تبعث على القناعة من خلال اليقين.. وبدأ يفكر في استعراض
عقلي للعقائد التي يعتقدها قومه في عبادتهم للكواكب والقمر والشمس..
ومحاكاة ذاتية تتحرك من أجل إثارة التساؤل.. وهكذا التقى بالكواكب
المتناثرة في السماء، في صورة بديعة في روعة التنسيق والتكوين.. فما أن
لمح كوكباً يتلألأ ويشع في قلب هذا الظلام المترامي.. حتى سيطرت عليه
أجواء الروعة، واستولى على فكره الخشوع الروحي أمام هذا الشعاع الهادئ
في الأفق البعيد.. فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم الذي يتعبد الناس
إليه.. لأن الفكرة الساذجة تجعله في الأفق الأعلى البعيد، الذي تتطلع
إليه الأبصار برهبة وخشوع ولا تستطيع الخلائق أن تصل إليه أو تدرك
كنهه.. (فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي..) في صرخة الإنسان
الطيب الساذج الذي خيل إليه أنه اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل
الناس، كما لو لم يكتشفه أحد غيره.. وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد،
وفي لهفة المسحور.. وفي اندفاعة الإيمان.. وربما ردد هذه الكلمة (هذا
ربي..) في سره كثيراً.. ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها ليؤكدها في
ذاتها.. بعيداً عن كل حالات الشك والريب.. وبدأ الليل يقترب من
نهايته.. وبدأت الكواكب تشحب وتفقد لمعانها.. ثم بدأت تبهت.. وتبهت حتى
غابت عن العيون.. وحاول أن يلاحقها هنا وهناك.. لقد ضاع الإله في
الأجواء الأولى للصباح.. وانكشفت له الحقيقة الصارخة.. فقد كان يعيش في
وهم كبير.. فقد أفل الكوكب.. ولكن الإله لا يأفل لأنه القوة التي تمثل
الحضور الدائم في الحياة كلها فلا يمكن أن تبتعد عن حركتها المتنوعة
لأن ذلك يتنافى مع الرعاية المطلقة للكون ولما فيه من موجودات حية وغير
حية.. واهتزت قناعاته من جديد.. وبدأ يسخر بالفكرة والعقيدة في عالمه
الشعوري الصافي.. (فلما أفل قال لا أحب الآفلين..).
(فلما رأى القمر بازغاً..) في صفاء الليل، ووداعة السكون.. وكان الشعاع
الفضي الساحر يلقي على الكون دفقاً من النوى الهادئ الذي يتسلل إلى
العيون فيوحي إليها بالخدر اللذيذ ويخترق القلوب فيوحي إليها بالاحلام
اللذيذة الساحرة.. ويطل على الطبيعة فيغلفها بغلافه الشفاف الوادع الذي
يثير في آفاقها الكثير الكثير من اللذة والأحلام.. وبدأت المقارنة بين
ذلك النورالكوكبي الذي يأتي إلينا متعباً واهناً في جهد كبير وبين هذا
النور القمري الذي يتدفق كشلال في قلب الأفق.. فأين هذا من ذاك.. فهذا
هو السر الإلهي الذي كان يبحث عنه.. (قال هذا ربي..) وعاش معه في حالة
روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني الذي يتمثل في السماء
قطعة فضية من النور الهادئ الساحر.. وفجأة بدأ الشعاع يبهت.. ثم يغيب..
وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد.. أين ذهب الإله وأين غاب.. وهل يمكن
للإله أن يغيب ويأفل.. وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو
الإله؟ وأين هو.. وعاش في التصور الضبابي المبهم الغارق في الغامض..
يتوسل بالرب الذي لا يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل لئلا يضل ويضيع..
(فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين..) وما زال
ينتظر وضوح الحقيقة.. وفجأة أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية الدافئة فأخذت
عليه وجدانه.. (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي.. هذا أكبر..) فأين
حجم الشمس.. من حجم القمر والكواكب.. فلا بد أن تكون هي الإله الذي
يبحث عنه، لأنها تتميز عنهما بصفات كثيرة.. وبدأ يتابعها وهي تتوهج
وتشتعل.. وتملأ الكون كله دفئاً وحياة وإشراقاً وجمالاً.. فإذا به يهتز
ويتحرك في قوة وامتداد وحيوية دافقة.. ولكن.. ماذا..؟ وبدأ يفكر.. فها
هي تبهت وتبرد وتكاد تتضاءل.. ثم تغيب وتأفل.. وتترك الكون في ظلام
دامس.. فكيف يمكن أن تكون إلهاً تعيش في الحياة في قدرته وقوته.. ما
دامت تغيب مع المجهول تاركة الكون كله في ظلام وفراغ؟.. وأطلق الصرخة
فيمن حوله من هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس.. فيما
خيل له، في وقت من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك
ولا ريب.. (فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون..) من هذه
المخلوقات التي انطلقت من العدم، ولا يزال العدم يعشش في كل حركة من
حركاتها، أو خطوة من خطواتها.. وتمرد على كل هذه الإتجاهات الإشراكية
لأن الله لا يمكن أن يكون هذه الأشياء المحدودة.. بل لا بد أن يكون
شيئاً أعظم من ذلك وأكبر.. في القوة والقدرة.. لا في الحجم.. (إني وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض.. حنيفاً وما أنا من المشركين..).
وهكذا تدفقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه، فأحس بأن الله هو شيء لا
كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته.. وأدرك أن الله لا يحس كما تحس
الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه يدرك بالعقل وبالقلب
وبالشعور.. من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون
الكبير.. من السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن.. فتترك لديه إنطباعاً
بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها.. ومن خلال هذه الإنطلاقة الإيمانية
الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والإنفتاح.. وقف بكل كيانه ـ
ليحول كل وجهه ـ والوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها
وتطلعاتها ـ إلى الله، حنيفاً، مخلصاً مائلاً عن خط الإنحراف.. فهو
وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة
المطلقة.. بإحساس العبودية.. وحركة الإيمان.. الذي يعلن هذا التوحيد
بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة، التي تتأله أو
التي يحسبها الناس في عداد الآلهة.. وما أنا من المشركين..
وماذا بعد ذلك؟.
هل
هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان، لدى إبراهيم.. أو هي محاكاة
استعراضية للأجواء المحيطة به، فيما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب
والقمر والشمس.. في محاولة إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد
وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي، وذلك من موقع ابتعاده
عنها بعد اقترابه منها، مما يعطي لموقفه بعض القوة في الإيحاء،
بإعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها.. ثم تمرد عليها..
ربما كان هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم فيما حدثنا
القرآن عن حياته.. فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ حالة تأثر بالجو
المحيط به.. بل ربما نرى الأمر ـ بالعكس من ذلك ـ حالة تمرد على البيئة
حتى فيما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن
موقف إبراهيم منه.. وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا
القرآن فيها عن كلام إبراهيم حول الأصنام التي يعبدها أن هذا الموقف
سابق لموقفه من هذه العقائد.. هذا بالإضافة إلى أن الرؤية التي حدثنا
الله عنها لملكوت السماوات والأرض.. لا بد أن تكون الرؤية الوجدانية
الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية
الساذجة.. لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على
الحياة ليتطلع إلى ما فيه من موجودات يدركها البصر.. وربما كانت كلمة
(وليكون من الموقنين) إشارة إلى ذلك، لتلتقي بكلمة (.. رب أرني كيف
تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي..) مما يوحي بأن
إبراهيم كان يعيش حالة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله معلوماته
وأفكاره، بكل الأشياء التي تركز قوتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام
التحديات التي تواجهها.. حتى فيما يشبه الأوهام.. ليواجه الصراع الذي
يعيشه بانفتاح وقناعة وقوة لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات..
أما الإحتمال الأول، فقد يقربه، أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية
طفولته، عندما بدأ يتطلع للأشياء، ويفكر في الإله.. في عملية تأمل
وتدبر.. في مستوى ذهنية الطفل.. ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو
النفسي الساذج الذي توحي به الآية.. فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب الذي
يبدو عالياً عالياً، بعيداً بعيداً.. ولكنه يشرق في قلب الظلام.. فيشعر
بالرهبة والروعة.. فيصرخ ـ في مثل اللهفة ـ هذا ربي.. إنطلاقاً مما كان
يسمعه بأن الإله بعيد بعيد عن الإنسان، فلما أفل.. أحس بالإنقباض وقال:
(لا أحب الأفلين..) فقد نجد في كلمة (لا أحب..) بعض كلمات الطفولة
البريئة، التي تحب أو لا تحب من خلالها مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء..
وتتكرر التجربة مع القمر.. وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد.. تماماً
كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه، أو شيئاً قد
طلبه.. وتتكرر خيبة الأمل من جديد.
ولكن الوعي يتنامى هنا ـ فلا نجد رد الفعل طفولياً.. بل نلاحظ في ردة
الفعل حيرة وذهول وتوسل إلى هذا الرب الغامض الذي يتمثله في وعيه
هادياً لعباده، أن يهديه إلى الحق لئلا يكون من القوم الضالين.. وتشرق
الشمس في هذا الدفق اللاّهب من النور الذهبي في إطار هذا الوجه الواسع
الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق.. فتكبر
الصرخة في طفولية بارزة.. (هذا ربي.. هذا أكبر..) وينطلق الحجم ليؤكد
الفكرة، فيما لا توحي به إلا أفكار الطفل، أو ما يشبه الطفل.. لأن
الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة.. بما لا توحي به
الأشياء الأقل حجماً.. وتتجدد خيبة الأمل بالأفول.. ولكن تلك الإشراقة
الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في قلبه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه
الأوهام والظنون.
وفي كلا الإحتمالين.. يمكن للعاملين في حقل التوجيه، استيحاء الفكرة
العملية في أسلوب التربية.. من خلال الأسلوب الإستعراضي، فيما يتمثل
فيه من مناجاة ذاتية تجعل الإنسان يواجه الأفكار المطروحة في الساحة،
مواجهة المؤمن بها.. ثم يقوم بمناقشتها بالطريقة التي توحي باكتشاف
مواطن الضعف والخلل فيها، بالمستوى الذي يجعلها بعيدة عن الحقيقة، وعن
إمكان اعتبارها عقيدة ترتبط بها قضية المصير.. ولا يختص الأمر بالأفكار
المتصلة بالعقيدة الإلهية بل يمتد إلى جميع المجالات التي تمثل الخط
العملي للحياة.. ويمكن لنا ممارسة هذا الأسلوب في القصة والمسرح
والسينما وغيرها من الأساليب التي تخاطب الجمهور لتوجيه قناعاته.. وقد
لا نحتاج إلى التأكيد على ضرورة دراسة المستوى العقلي والروحي للناس من
أجل تركيز هذا الإتجاه على قاعدة متحركة في الفكرة والأسلوب.. كما يمكن
استيحاء القصة في مدلولها الرسالي في عدم خضوع الإنسان للبيئة فيما
تحمل من أفكار وعادات ومشاعر، بل يعمل على ممارسة دوره الذاتي المستقل،
كإنسان يفكر بحرية ويقتنع على أساس الدليل.
وتبقى لنا ـ في هذا المجال ـ هذه البراءة الفكرية من إبراهيم.. حيث
نتمثله إنساناً يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية، والعفوية
الروحية، التي تلتقي بالقضايا من وحي الفطرة لا من وحي التكلف
والتعقيد.. ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على الله ـ سبحانه ـ عند
إكتشافه للحقيقة في توحيده في كل شيء، وفي الإقبال عليه بكل وجهه، وبكل
فكره، وبكل روحه وإنطلاقه العملي في الحياة.. لأن توجيه الوجه لله.. لا
يعني ـ في مدلوله العميق ـ هذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان
نحو الأفق الممتد في السماء بنظرة حائرة بلهاء.. بل يعني إنطلاقة حياة
الإنسان وكيانه مع الله فيما يحمل من عقيدة، وفيما يرتبط به من فكر،
وفيما يتحرك معه من خط، وفيما يستهدفه من أهداف.. وفيما يعيشه من
علاقات وأوضاع وتطلعات.. إنه الإندماج في الحقيقة الإلهية، بأن تكون
الحياة كلها لله.. وفي خدمة الله"(5).
نتابع مع "الكاتب" حيث المنهج هو المنهج، والأسلوب هو الإسلوب:
تمويه، وتزييف، وتحريف، وتضليل، حيث تجاهل موضع الداء، والنصوص المشكلة
التي قدمها العلامة المحقق، وتلاعب بنصوص العلماء لتطابق كلام صاحبه
كما تلاعب بنصوص صاحبه لتنسجم مع كلام العلماء.
ولكي نقف على كل ذلك نستعرض كلام العلامة المحقق:
كلام
العلامة المحقق
بعد أن عرض العلامة المحقق للعناوين المنتزعة من النصوص المشكلة التي
تشير إلى محل الإشكال وتعيّنه، عمد إلى توضيح المشكلة الحقيقية قبل ان
يستعرض النص الكامل المأخوذ من كتاب (من وحي القرآن).
قال( أعزه الله) في "الخلفيات":
"ويقول عن إبراهيم عليه السلام في ما قصّه الله تعالى، من خطابه عليه
السلام للكوكب ثم للقمر والشمس أن هناك إحتمالين في تفسير الآيات التي
تعرضت لذلك:
أحدهما:
أن يكون ظاهر الآيات هو حقيقة موقفه فيكون إبراهيم صدّق بأن الكوكب،
والقمر والشمس آلهة.
الثاني:
أن يكون إبراهيم (ع) قد قام بحالة إستعراضية أمام قومه ليقنعهم
بالحقيقة.
وقد ذكر لكلا الإحتمالين ما يقربه.. ولكنه شرح الآيات شرحاً مسهباً على
أساس الإحتمال الأول، ثم بعد أن ذكر ما يؤيد كل واحد من الإحتمالين
وذكر ما يمكن إستفادته من الآيات، عاد وختم كلامه وفق الإحتمال الأول..
ومن الواضح:
أننا وإن كنا نستظهر من ذلك ميله إلى ذلك الإحتمال الفاسد، ولم يذكره
لمجرد كونه إحتمالاًإلا أن مجرد إحتمال أن يكون نبي الله إبراهيم (ع)
قد عبد غير الله، أو اعتقد بألوهيته، وربوبيته، هو إحتمال باطل في حق
الأنبياء، ويلزم التصريح بتسخيفه، وبطلانه"(6).
وبعد أن عرض النص الكامل لصاحب "من وحي القرآن" قال في وقفة قصيرة:
"ونقول:
أن احتمال عبادة إبراهيم (ع) للكوكب وغيره، مناف للعصمة، ولا يصح
إبداؤه في حق المعصومين عموماً، ولا يمكن أن يقربه شيء لا في الطفولة
ولا فيما بعدها على ما هي عليه عقيدة علماء المذهب القطعية، المأخوذة
عن أهل بيت العصمة عليهم السلام.."(7).
وعليه يكون إشكال العلامة المحقق منصباً على ما صرّح به صاحب "من وحي
القرآن" من قرائن وشواهد تقرّب إحتمال أن يكون ما حكاه الله عن إبراهيم
عليه السلام إنما صدر منه في طفولته، قبل أن يكتشف الحقيقة. فليراجع
النص الكامل لصاحب (من وحي القرآن) في بداية الفصل تحت عنوان " النصوص
المشكلة ".
أما الإحتمال الثاني، وهو أن ابراهيم عليه السلام كان في صدد المحاججة
لقومه ، فلم يشكل العلامة المحقق عليه ، إنما أشكل على عدم تدعيمه
بالشواهد والقرآئن التي تدحض الإحتمال الأول وتبطله وتبعده عن دائرة
الإحتمال.
وهذا واضح من خلال النص المتقدم نقله عن كتاب خلفيات، ويزيده وضوحاً
قوله:
"إننا لا نجد أي دليل على أن هذه القضية قد حصلت لإبراهيم عليه السلام
في زمان طفولته، بل في الآيات ما يشير إلى خلاف ذلك وأن ذلك في مقام
الإحتجاج على قومه"(8).
وعليه يظهر عدم صحة إدعاء الكاتب، حيث ذكر في خلاصة بحثه أن صاحب "من
وحي القرآن" إستقرب ورجح أن يكون ما صدر من إبراهيم عليه السلام إنما
كان على سبيل المجادلة لقومه ووصفه بأنه أفضل الآراء. وذكر أن الإحتمال
الثاني، وهو أن يكون ذلك قد حصل مع إبراهيم عليه السلام زمان طفولته،
قد استوجهه وإن لم يختره، ثم ذكر أن العلامة المحقق إختار الرأي الذي
يقول بأن ذلك إنما كان في مقام "الإستنكار والإستهزاء" ووصفه بأنه أضعف
الآراء وأنه لا ينسجم مع ظاهر الآيات(9)
وهذا تضليل بل إفتراء ما بعده إفتراء ، إذ قد علمت أن العلامة المحقق
صرّح:
"أن ذلك كان في مقام الإحتجاج على قومه" الأمر الذي لم يشر إليه
"الكاتب" رغم وضوحه(10).
أضف إلى ذلك أن العلامة المحقق اعترض على صاحب "من وحي القرآن" لعدم
استشهاده بما روي عن الإمام الرضا (ع) من:
"أن إبراهيم إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على
قومه لتسخيف معتقدهم"(11).
الإتجاه الثاني وتجاهل الكاتب له
إعتبر "الكاتب" في تعليقه على رأي صاحب "من وحي القرآن" أنه "لم يأت
بشيء جديد، أو اتجاه مبتدع في عالم التفسير.." بل أنه مال إلى الإتجاه
الأول واعتبره:
"الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم عليه السلام فيما حدثنا
القرآن عن حياته"(12)
ثم قدّم ثلاثة شواهد من أربعة مواضع زعم أنها تؤيد ذلك وتؤكد عليه(13).
والملفت هنا أمران:
الأمر الأول:
تجاهل "الكاتب" من عبارات صاحب "من وحي الرآن" تلك التي لا تختلف في
مداليلها في كلا الموردين.
فهو يقول في مورد الكلام عن إحتمال أن يكون عليه السلام قد قال (هذا
ربي) على سبيل المحاججة:
"ربما كان هذا هو الرأي الأقرب"(14)
ويقول في محور الكلام حول إحتمال أن يكون (ع) قد قال ذلك في طفولته على
سبيل الحقيقة:
"فقد يقرّبه.."(15).
أضف إلى ذلك:
أن صاحب "من وحي القرآن" قد احتمل واستقرب أن يكون
إبراهيم عليه السلام قد عبد الكواكب وعاش معها في حالة من التصوف
والعبادة، وأنه أقبل عليها في خشوع العابد ولهفة المسحور و.. وللتدليل
على ذلك نذكر عدة شواهد:
الشاهد الأول:
حالة التأثر بالمحيط:
فهو يرى أن من الشواهد على تقريبه لهذا الإتجاه ما أسماه:
"حالة التأثر بالجو المحيط به "حيث يقول:
"فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ حالة تأثر بالجو المحيط به"(16).
وكلامه هذا واضح في أنه قد لمح في هذه الآية حالة تأثر إبراهيم (ع)
بالجو المحيط به.
الشاهد الثاني:
ظاهر الآيات:
وهو يعتبر أن تقريب الإتجاه القائل بأن ذلك كان من إبراهيم عليه السلام
على سبيل" المحاكاة الإستعراضية "هو من غير هذه الآيات، وإنما هو من
خلال كون ذلك:
"يلتقي مع شخصية إبراهيم عليه السلام فيما حدثنا القرآن عن حياته".
ففي هذه الآية لمح" صاحب الوحي" حالة "تأثر بالجو المحيط" أما في غيرها
فقد لمح عكس ذلك حيث استوحى "حالة تمرّد على البيئة حتى فيما يتعلق
بالجو العائلي المتمثل بأبيه"(17).
وخلاصة الأمر عنده:
إن ظاهر الآيات يقرب أن إبراهيم عليه السلام قد عبد
الكواكب. أما ما يقرب الإحتمال الآخر فهو آيات أخرى تحدثت عن شخصية
إبراهيم عليه السلام وموقفه من الأصنام الأمر الذي يوحي بأن ذلك "سابق
لموقفه من هذه العقائد"(18).
وقد اعترف "الكاتب" بذلك - من غير قصد طبعاً - عندما ذكر أن ما قاله
صاحب "من وحي القرآن" حول الآيات إنما هو:
"دلالات الآيات بحسب ظهورها الأولي"(19).
الشاهد الثالث:
الموقف الطفولي:
ويرى صاحب "من وحي القرآن" أن الشاهد الثالث الذي يقرب هذا الإتجاه هو:
"أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية طفولته عندما
بدأ يتطلع للأشياء ويفكر في الإله في عملية تأمل وتدبر في مستوى ذهنية
الطفل"(20).
ويعتبر (السيد) فضل الله أن هذا الشاهد تدل عليه قرائن عدة:
القرينة الأولى:
الجو النفسي الساذج:
فصاحب (من وحي القرآن) يعتبر أن أول قرينة على هذا الشاهد هي:
"الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به
الآية"(21).
القرينة الثانية:
اللهفة:
إن
صراخ إبراهيم عليه السلام عند رؤيته للكوكب "هذا ربي" و الذي استوحى
منه صاحب (الوحي) أنه صراخ "في مثل اللهفة" إعتبره قرينة ثانية. فهو
يقول:
"فهذا إبراهيم يواجه الكوكب الذي يبدو عالياً
عالياً، بعيداً بعيداً، ولكنه يشرق في قلب الظلام فيشعر بالرهبة
والروعة.. فيصرخ ـ في مثل اللهفة ـ هذا ربي.. إنطلاقاً مما كان يسمعه
بأن الإله بعيد بعيد عن الإنسان.."(22).
القرينة الثالثة:
الكلمات الطفولية والمشاعر الساذجة:
أما القرينة الثالثة على هذا الشاهد فهي كلمة "لا أحب" لأن (السيد) فضل
الله، يجد في هذه الكلمة "بعض كلمات الطفولة البريئة التي تحب من خلال
مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء.."(23).
القرينة الرابعة:
الطفل الذي وجد شيئاً قد أضاعه:
إن
صرخة إبراهيم عليه السلام "هذا ربي" عندما شاهد القمر، هذه "الصرخة
الطفولية" قرينة رابعة،عند صاحب (من وحي القرآن)، على هذا الشاهد؛ لأن
هذه الصرخة "تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد
أضاعه، أو شيئاً قد طلبه"(24)
على حد تعبيره.
القرينة الخامسة:
الأشياء الكبيرة والفكر الساذج
أما القرينة الخامسة على هذا الشاهد فهي موقف إبراهيم عليه السلام من
الشمس التي هي أكبر من الكوكب والقمر ، لأن قوله عليه السلام "هذا ربي
هذا أكبر" يختلف عما سبقه من حيث كونه "صرخة طفولية بارزة" لأن الحجم
هنا "ينطلق.. ليؤكد الفكرة فيما لا توحي بها إلا أفكار الطفل أو ما
يشبه الطفل.. لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة
بما لا توحي به الأشياء الأقل حجماً"(25).
الشاهد الرابع:
تفسيره الآيات أولاً:
إن
المتأمل في نص "من وحي القرآن" سيرى أن صاحبه قد فسرّها بما يتناسب
وهذا الإتجاه ،حيث تحدث عن خشوع إبراهيم عليه السلام للكوكب وعيشه معه
في حالة من التصوف والعبادة، وأنه أقبل عليه في خشوع العابد ولهفة
المسحور واندفاعة الإيمان(26).
وقد ذكرنا أن "الكاتب" قد اعترف من حيث لا يشعر بهذا الأمر وأن صاحبه
إنما كان يعطي" دلالات الآيات بحسب ظهورها الأولي"(27)
وإن ساق "الكاتب" كلامه هذا في إطار التبرير والتخريج بل التهريج ليضفي
ـ ربما ـ على "البحث" بعض الطرائف اللطيفة لكي لا يمل القارئ ويضجر.
الشاهد الخامس:
اكتشافه عليه السلام للحقيقة:
إن
صاحب "من وحي القرآن"، بعد أن فسّر الآيات بما مر ذكره، وتحدث عن
الإتجاهين كل بما يقربه، ختم بحثه بالقول:
"وتبقى لنا في هذا المجال هذه البراءة الفكرية من إبراهيم عليه
السلام.. حيث نتمثله إنساناً يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية
والعفوية الروحية.. ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على الله سبحانه..
عند اكتشافه للحقيقة في توحيده في كل شيء..".(28)
ومن الواضح البيّن أن من كان في مقام "المحاججة" لقومه أو "المحاكاة
الإستعراضية" لا يصح الحديث عنه بلغة تفيد أنه اكتشف الحقيقة.. لأن
المفروض هو أنه على بينة من ربه ، كما قال العلامة الطباطبائي ، وأن
الحقيقة ليست خافية عليه..
ومما لا بد من الإشارة إليه هو:
أننا في إستعراضنا لهذه الشواهد الخمس لم نكن في وارد الإدعاء أن صاحب
من "وحي القرآن" قد رجح هذا الإحتمال وضعّف الآخر، إنما نريد أن نقول:
إنه قد تحدث عن احتمالين في التفسير، وقدم لكل
إحتمال منهما ما يقربه، ولم يشر بكلمة صريحة إلى تضعيف أي منهما. على
أن تفسيره للآيات أولاً وفق الإتجاه الثاني(عبادة إبراهيم(ع) للكواكب)
، ثم ختم كلامه وفقه أيضاً، وتصريحه عند ذكره لما يقرب الإتجاه الأول
(محاججة قومه) بأن في الآية ما يلمح إلى "حالة تأثر بالجو المحيط به"،
كل ذلك يجعلنا نستظهر، كما ذكر العلامة المحقق، "ميله إلى ذلك الإحتمال
الفاسد، وأنه لم يذكره لمجرد كونه احتمالاً، إلا أن مجرد توهم أن يكون
نبي الله إبراهيم (ع) قد عبد غير الله أو اعتقد بألوهيته وربوبيته، هو
توهم وإحتمال باطل في حق الأنبياء، ويلزم التصريح بتسخيفه، وبطلانه،لا
تقريبه فضلاً عن تأييده بالشواهد، ثم شرح الآيات بما يناسبه، ثم إنهاء
الكلام والخروج من الموضوع من خلاله"(29).
وإلا فإن إبقاء الإحتمال وارداً ولو بنسبة واحد في المئة منافٍ لليقين
بعصمة الأنبياء.
الأمر الثاني:
قد
مر معنا أن "الكاتب" في تمحله لتخريج كلام صاحبه ذكر أنه "مال إلى
الإتجاه الأول" واعتبره "الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم (ع)
فيما حدثنا القرآن عن حياته"، ثم قدم شواهد ومواطن تدعم هذا الإدعاء(30).
وهناك عدة ملاحظات ينبغي التوقف عندها:
1ـ
لماذا قال " الكاتب" ما نصّه:
"واعتبره الرأي الأقرب.."(31)
أليس "ليوحي" بأقربية هذا الإتجاه "وأبعدية" ذاك عند صاحبه؟!!.
ومن الواضح أن هذا هو هدفه الذي لا يخفى على أحد ، لذلك عمد إلى حذف
كلمة واحدة، نعم كلمة واحدة، لكنها هامة إلى حدّ دفعت "بالكاتب" إلى
ممارسة الحذف وهذه الكلمة هي:
"ربما" لأن الصحيح أن صاحبه قال:
"ربما كان هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية
إبراهيم (ع).."(32)
فصاحب (من وحي القرآن) لم يقطع حتى بأقربية هذا الإتجاه، بل أنه حتى في
تقريبه لهذا الإتجاه نجد موقفه "متذبذباً".
ومن هنا يظهر الإفك الذي جاء به "الكاتب" عندما صرّح بأن صاحبه يعتبر
هذا الإتجاه هو "الرأي الأقرب".
ولكن لماذا هذا الموقف "المتردد" لصاحب "من وحي القرآن" في قطعه
وتأكيده "لأقربية" هذا الإتجاه؟!!.
هذا ما سنجيب عنه فيما يلي:
2ـ
إن تعبير صاحب "من وحي القرآن" بكلمة:
"ربما" ـ التي تفيد التردد ـ في حديثه عن أقربية هذا الإتجاه يمكن
معرفة سببها من خلال الشاهد الأول الذي قدّمه "الكاتب" على ادعائه ،
حيث ذكر أنه:
من الشواهد على أقربية اتجاه المحاكاة الإستعراضية هو ما أسماه "حالة
التمرد على البيئة المشركة التي كان يعيش فيها إبراهيم (ع)" ثم ساق
الكاتب نص صاحبه الذي قال:
"ربما(33)
كان هذا الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم فيما حدثنا القرآن
عن حياته.. فنحن لم نلمح ـ في غير هذه الآية ـ حالة تأثر بالجو المحيط
به.."(34).
ومن الواضح أن تردد صاحب "من وحي القرآن" في موقفه من أقربية هذا
الإتجاه الذي تجلى بكلمة "ربما" يعود لكون هذا التقريب "مستوحى" من
"شخصية إبراهيم فيما حدثنا القرآن عن حياته" وليس مستوحى من هذه الآية،
لأن هذه الآية "لمح" منها صاحب "من وحي القرآن":
"حالة تأثر بالجو المحيط به" على عكس غيرها من الآيات.
وبذلك يتضح التدليس الذي مارسه "الكاتب" عندما جعل من الشاهد الذي يفيد
"التردد" في الميل إلى أقربية هذا الإتجاه دليلاً وشاهداً على "وضوح"
ميل صاحبه إليه.
3ـ
إذا اتضح ذلك ، اتضح معه أيضاً ضعف الشاهد الثاني الذي قدمه "الكاتب"
كشاهد زور بعد أن تلاعب بالنص ، وحمله على نقيض ما أراده صاحبه منه!!.
فقد ذكر، أن صاحب "من وحي القرآن"، في حديثه عن أقربية إتجاه أن يكون
إبراهيم (ع) في إطار محاججة قومه، تحدث عن أن "قصّة إبراهيم مع الكوكب
والقمر والشمس جاءت بعد الآية المباركة التي تحدثت عن إراءة الله عز
وجل لإبراهيم ملكوت السموات والأرض"(35).
ثم
قال الكاتب بعد ذلك:
"وعلى ضوء هذا السياق يقول "السيد":
"إن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السماوات والأرض.. لا بد أن
تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها
وليست الرؤية البصرية الساذجة.. وربما كانت كلمة (وليكون من الموقنين)
ليس حديثاً عما سيؤول إليه أمره في المستقبل.. ليكون قوله (فلما جن
عليه الليل..) تفصيلاً لكيفية إستدلال إبراهيم (ع) بهذه المخلوقات
(الكوكب والقمر والشمس) ومعرفة الحق من وجهتها والذي يعبر عنه القرآن
بـ (رؤية الملكوت) وإنما حديث عن حال إبراهيم (ع) قبل موقفه من قومه في
عبادتهم لتلك المخلوقات السماوية، فتكون (الفاء) في قوله (فلما جن عليه
الليل) دالة على الترتيب الزمني، وتكون القصة ـ حينئذ ـ متأخرة زماناً
عن رؤية الملكوت"(36).
وهذا نص واضح بل فاضح في التحريف، وذلك للأسباب التالية:
أ
ـ إن "الكاتب" قبل أن ينقل هذا النص قال:
"يقول (السيد):
"إلخ.. أي وضع نقطتين، ثم فتح مزدوجين يشيران إلى أن ما سينقله إنما هو
نص حرفي ، إلا أن ما نقله لم يكن كذلك، ولنا الحق أن نسأل "الكاتب":
لماذا لم يشر إلى المصدر كما فعل في الشاهد الأول والثالث؟
ولا عجب بعد أن تطلع على السبب:
إن
النص المنقول بمعظمه غير موجود في المصدر، والموجود منه هو من قوله:
"إن الرؤية التي حدثنا الله عنها.." إلى قوله:
"وربما كانت كلمة (وليكون من المؤمنين)". وكل ما
ذكر بعد ذلك ليس له أثر إلا عند "الكاتب" أو من "وسوس" له بدس هذا
النص.
والأمر لا ينتهي عند هذا، فقد أبى "الكاتب" إلا أن يظهر مدى تمرسه في
ممارسة مكائد إبليس وأساليب اللف والدوران، ربما، حتى لا يقال عنه بأنه
"ساذج" أسوة بآدم وإبراهيم عليهما السلام، لذلك عمد إلى إقفال
المزدوجين.
ولا أفشي سراً إذا قلت: إنه عندما كنت أقرأ النص رحت حملاً على الأحسن،
بكل طيبة (لا سذاجة) أبحث عن المزدوجين فلم أجدهما ، وهذا باعث على
مزيد من الريب.
إذ لا يخفى، أن ذلك يُبقي الباب أمامه مفتوحاً للتهرب، فإن مر الأمر
"على خير" حقق "الكاتب" مأربه، وإن إفتضح الأمر فالإجابة جاهزة وإن
إختلفت بين مجلس وآخر:
_
إن الطباع قد دس النص الذي تقولون أنه أضيف!!.
_
وربما يقول:
إني قد وضعت المزدوجين لكن الطباع قد حذفهما!!
_
ولا ندري:
إذ لعله يقول:
قد أوكلت الأمر للمركز الفلاني ليوردوا النص فأخطأوا!!.
وذلك أسوة "بصاحبه"، عندما ذكر هذه الإجبابات في معرض تهربه من قضية
حديثه عن شرب علي (ع) للخمر عند تفسيره لقوله تعالى (لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى).(37)
ولا غرابة في أن يتحفنا الكاتب بهذه الأعذار، فقد قيل:
"فرخ البط عوّام".
ب
ـ ومهما كان تبرير "الكاتب"، فإنه لن يتمكن من إنكار وجود زيادة وإضافة
على النص ، الأمر الذي يعتبر إقراراً ببطلان الشاهد الثاني وإعترافاً
بالتضليل؛ لا سيما إذا علمت أن رأي صاحب "من وحي القرآن"، بمعزل عن
الزيادة ، هو على العكس تماماً مما توحيه هذه الزيادة؛ لأن كلامه صريح
بأن الرؤية التي يتحدث عنها إنما هي رؤيته للكوكب والقمر والشمس، وهي
التي وصفها صاحب "من وحي القرآن" بالرؤية الوجدانية الواعية لا البصرية
الساذجة وهذه الرؤية الوجدانية الواعية هي التي ستؤدي به (ع) لأن يكون
من الموقنين، فكيف سيكون من الموقنين بسبب الرؤية الوجدانية الواعية
للكوكب والقمر والشمس قبل أن تحدث له هذه الرؤية؟!!.
ولهذا قال صاحب "من وحي القرآن":
"وربما كانت كلمة:
(وليكون من الموقنين) إشارة إلى ذلك"(38)
أي إشارة إلى الرؤية الوجدانية الواعية لملكوت السموات والأرض؛ لأن
الرؤية التي يكون هذا حالها لا بد أن تؤدي بصاحبها ليكون من الموقنين.
من
هنا تحدث صاحب "من وحي القرآن" عن أن هذه الرؤية تفيد إبراهيم في تدرجه
للوصول إلى اليقين وهو معنى ما قاله بالنص:
".. مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الذي
يريد أن ينمّي من خلاله معلوماته وأفكاره، بكل الأشياء التي تركز
للفكرة قوتها وفاعليتها وثباتها وحركتها.."(39).
4
ـ ولا يختلف حال "الكاتب" كثيراً في شاهده الثالث عن حاله في غيره من
الشواهد؛ لأن ما نقله عن فحوى كلام صاحبه من أن إبراهيم عليه السلام:
"لم ينطلق بقوله (هذا ربي) من حالة ذاتية يعيشها في
نفسه، بل إنطلق على أساس الحالة الواقعية للآخرين الذين كانوا يعبدون
الكوكب والقمر والشمس"(40)
ـ لأن ما نقله-ليس دقيقاً، ولا ينفعه عدم وضفه بين مزدوجين إذ أن صاحبه
لم يكن يتحدث عن خصوص هذه الآية؛ بل عن مجمل آيات إبراهيم عليه السلام
بما فيها موقفه من الأصنام.
وعلى أي حال فقد ذكرنا أن هذا الشاهد وغيره لم يجزم به "صاحب من وحي
القرآن" ولذلك عبر بكلمة:
"ربما".
5
ـ أما المواطن الأربعة التي إستدل بها "الكاتب" على ميل صاحب "من وحي
القرآن" إلى هذا الإتجاه فيرد عليها:
أ
ـ إن المواطن الثلاثة الأول منها مأخوذة من كتابي الندوة ج 1، والندوة
ج 4، وقد تقدم أن تقريبه لإتجاه هنا، وتوضيحه لعبارة موهمة هناك مما
يذكره في مواضع بعيدة عن الموضع الذي ورد فيه الإشكال لا يفيد إذ "لا
يجوز تأخير البيان عن موضع الحاجة" وهو ما فصّلنا الكلام فيه فيما سبق.
ب
ـ أما الموطن الرابع المأخوذ من كتاب "الحوار في القرآن" فلا دليل فيه
على ميله لهذا الإتجاه أي:
"المحاكاة الإستعراضية". ولتفصيل ذلك نقول:
ذكر "الكاتب" نصاً من كتاب "الحوار في القرآن" (صفحة 4) يقول فيه صاحبه:
إن إبراهيم عليه السلام كان يقف:
"موقفاً يجعل من نفسه طرفاً للحوار الذاتي أمام دعوة الحق والباطل،
فتراه يطرح قضايا الباطل من خلال أفكاره، ثم يبدأ عملية التساؤل
والحوار الذاتي [الذي] يجرد فيه من نفسه شخصاً ثانياً يتأمل ويناقش من
أجل الوصول إلى الحق".
ومع الإلتفات إلى قوله مرتين:
"الحوار الذاتي" يتضح مقصوده وتبنيه للإتجاه الثاني(عبادة إبراهيم (ع)
للكواكب)؛ لا سيما إذا علمت أنه يعتبر أن إبراهيم قد خاض ثلاثة أنواع
من الحوار:
الأول:
ذاتي (وهو الذي تتحدث عنه آيات رؤية الكواكب).
الثاني:
مع قومه (وهو الذي تتحدث عنه آيات محاججته لقومه في أمر الأصنام).
الثالث:
مع ربه (وهو الذي تتحدث عنه الآيات التي طلب فيها من ربه أن يريه كيف
يحيي الموتى).
فيتضح أنه لو كان صاحب (من وحي القرآن) يقصد "بالحوار الذاتي" الإتجاه
الأول وهو "المحاكاة الإستعراضية" لما كان للتفريق بين النوع الأول
والثاني من أنواع الحوار وجه.
والملفت هنا أن "الكاتب" عمد إلى حذف ذيل هذ النص الدال بوضوح على
تبنيه للإتجاه الآخر وهو قوله:
".. يتأمل ويناقش من أجل الوصول إلى الحق لينتهي
بعد ذلك إلى موقف الإيمان، بأقصر الطرق وأقواه. وانظر إلى هذا الموقف
الرائع الذي يصور لنا فيه رحلة الإنسان الباحث عن الحق من موقف الشك
إلى موقع اليقين في إسلوب هادئ ينطلق من الحوار الذاتي.."(41).
ولا شك أن القارئ قد لاحظ قوله:
"لينتهي بعد ذلك إلى موقف الإيمان الحق".
وكذلك قوله:
"رحلة الإنسان الباحث عن الحق من موقف الشك إلى
موقع اليقين". وهذا نص صريح من صاحب(من وحي القرآن)، بأن إبراهيم (ع)
لم يكن صدد محاججة قومه، وإنما كان شاكاً في ربه، عابداً للكواكب، وأن
ما صدر منه (ع) كان خلال رحلته في طريق الإيمان.
أما النص الثاني الذي ذكره "الكاتب" أيضاً من كتاب:
"الحوار في القرآن" (صفحة 42)، وكعادته ، عمد إلى
تقطيع أوصال النص بحذف ذيله الصريح في بيان رأيه، وما يذهب إليه
ويتبناه، حيث نقل عنه قوله:
"فقد بدأت القضية.. [إلى قوله] تحمل من مظاهر
العبادة ما يحملانه.."(42)
وأعرض عن قوله الذي يلي ذلك مباشرة:
"وكانت الفكرة تنمو في ذهنه أمام عظمة هذه أو تلك
[يقصد الكواكب].. وهكذا إستطاع أن يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ السريع،
إلى المطلق الذي فطر السموات والأرض".(43)
ولا أعتقد أن القارئ يحتاج إلى إلفات نظره لقوله:
"تنمو الفكرة في ذهنه" وقوله:
"يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ السريع".
فإبراهيم (ع) إذن قد اعتقد بألوهية أو ربوبية الكواكب، وفق رأي صاحب
"من وحي القرآن"، لكن هذا الإعتقاد كان طارئاً وسريعاً.
وقد أعرض "الكاتب" أيضاً عن قول صاحبه:
"وهكذا استطعنا أن نجد في شخصية إبراهيم من خلال
هاتين الصورتين [موقفه من الكواكب، وطلبه من ربه أن يريه كيف يحي
الموتى] اللتين يعرضهما القرآن له في حواره المتحرك في طريق الإيمان..
الشخصية الدينية للطرف الآخر الثاني للحوار الذي يريد أن يصل إلى
الحق.."(44).
فليتأمل القارئ في قوله:
"في حواره المتحرك في طريق الإيمان" وليقارنه مع قوله في كتاب "من وحي
القرآن":
"هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان.."(45).
على أن ثمة نصاً آخر ، عمد الكاتب الى تقطيعه، والقفز عن بعض فقراته؛
ليثبت إدعاءه بتقريب صاحبه لإتجاه محاججة إبراهيم(ع) لقومه. مع أن النص
الذي تجاهله وقفز عنه، صريح في دلالته، على عكس ما يدّعيه الكاتب.إذ
يقول (السيد) فضل الله ، تحت عنوان:" عود الى ما سبق" ما نصه:
"وقد تقدم الحديث عن إبراهيم في قصة الحوار في مواقف ثلاثة.. حواره
الذاتي مع نفسه في رحلته الفكرية إلى الله، وحواره مع ربه في الإنفتاح
على الطرق التي تجعل الإيمان نابعاً من واقع الحس كما هو منطلق من واقع
الفكر.. وحواره مع قومه، عندما قام بتكسير الأصنام ليجعل ذلك فاتحة
حوار معهم.."(46).
مما مرّ يتضح للقارئ وجه المقارنة بين ما سبق من قوله عن الحوار الذاتي
في طريق الإيمان وبين ما ذكره هنا وهو قوله:
"حواره الذاتي مع نفسه في رحلته الفكرية إلى
الله..".
وبعد كل ما تقدم، مما أتحفنا به "الكاتب".. نجد لزاماً علينا أن نستجيب
لرجائه بأن لا يفهم من كتابه هذا أنه "دفاع عن (السيد) الشخص"(47).
نعم، لا بد من تصديقه لا سيما أن دلائل كذبه لم تظهر بعد كما لم يظهر
إختلاف قوله وعمله فهو لا يدافع عن (السيد) الشخص، ولعل الأيام كفيلة
بأن تكشف لنا عما يدافع؟!!
اللغة
العجيبة:
ظواهر الآيات تدل على عبادة إبراهيم (ع) للكواكب!!
وبعد أن عجز "الكاتب" في محاولته مطابقة كلام صاحبه مع كلام العلماء
الأعلام واصطدم بمقولاته المخالفة المتعلقة بعبادة إبراهيم (ع)
للكواكب، وفق رأي (السيد) فضل الله، والتي لم يجد لها تأويلاً مقبولاً،
عمد إلى ابتداع ما أسماه "الظهور الأولي" للآيات(48)
فقال:
إن وصف العلامة المحقق لهذه المقولات بـ "الجريئة" إنما انتزعه:
"من سياق الحديث الذي كان بصدد إعطاء ظواهر الآيات المباركة..".
وقال:
"ومن دون شك فإن الظهور يدل على أن إبراهيم (ع) كان
في مقام الإستدلال، وأنه كان يبحث عن الرب المدبر للأمر وهذا ما صرّح
به العلامة الطباطبائي.." وسنعرض كلامه (رحمه الله) كما نقله الكاتب.
وأضاف الكاتب قائلاً:
فالآيات المباركة ظاهرة في أن إبراهيم (ع) كان بصدد البحث والإستدلال،
بيد أن المفسرين اختلفوا في تفسير ذلك إلى اتجاهين أساسيين.. ولهذا
فإننا نرى صاحب تفسير "من وحي القرآن" بعد أن أعطى دلالات الآيات بحسب
ظهورها الأولي عقد بحثاً تحت عنوان:
(وماذا بعد ذلك).."
وكلام الكاتب هذا لا يخلو من مكر ودهاء؛ لأن قوله:" ومن دون شك فإن
الظهور يدل على أن إبراهيم (ع) كان في مقام الإستدلال " حاول من خلاله
الإيحاء بأن ذلك هو ما إستظهره (السيد) فضل الله، لكن هذا المكر لا
ينطلي إلا على السذج؛ لأن " حيلة " الظهور الأولي إنما إبتدعها الكاتب
للتخلص من صريح كلام صاحبه بأن إبراهيم (ع) كان معتقداً بألوهية
الكواكب، وهذه الصراحة هي التي دفعت بالعلامة المحقق للحمل على هذا
الكلام.
لذلك عمد الكاتب للإدعاء بأن ما أشكل عليه المحقق العاملي إنما إنتزعه
" من سياق الحديث الذي كان بصدد إعطاء ظواهر الآيات المباركة ". ولو
كان (السيد) فضل الله في إستظهاره الأولي للآيات يتحدث عن أن إبراهيم
(ع) كان في مقام الإستدلال، فلماذا إحتج الكاتب بأن المحقق العاملي
إنما إنتزع " المقولات الجريئة من سياق الحديث الذي كان بصدد إعطاء
ظواهر الآيات المباركة ".
وما يؤيد ذلك أن الكاتب زعم أن العلامة ناصر مكارم الشيرازي فعل ما
فعله صاحب "من وحي القرآن"، أي قدّم أولاً دلالات الآيات بحسب ظهورها
الأولي(49).
إلا أن "الكاتب" لم يذكر تلك الآراء التي يزعم أنها تمثل دلالات الآيات
بحسب ظهورها الأولي، بل تجاهلها ولم يأت بنصوصها الحرفية!! ولإظهار ذلك
نستعرض آراء (من وحي القرآن) التي ذكرناها في بداية الفصل تحت عنوان
"النصوص المشكلة" لإجراء مقارنة بينها وبين ما ذكره "الكاتب" من كلام
للعلامة ناصر مكارم الشيرازي حول كل آية من الآيات موضع البحث:
الآية الأولى:
(فلما جن عليه الليل رأي كوكباً قال هذا ربي).
قال "السيد فضل الله":
".. (قال هذا ربي).. في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيل إليه أنه
اكتشف السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس، كما لو لم يكتشفه أحد غيره،
وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد وفي لهفة المسحور.. وفي اندفاعة
الإيمان.. وربما ردد هذه الكلمة (هذا ربي) في سرّه كثيراً.. ليوحي
لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها ليؤكدها في ذاتها بعيداً عن كل حالات الشك
والريب.. وبدأت الكواكب تشحب.. ثم بدأت تبهت.. حتى غابت عن العيون..
لقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح.. وانكشفت له الحقيقة الصارخة
فقد كان يعيش في وهم كبير.. فقد أفل الكوكب.. ولكن الإله لا يأفل..
واهتزت قناعاته من جديد.."(50).
وقال العلامة ناصر مكارم الشيرازي:
"فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كله، ظهر
أمام بصره كوكب لامع، فنادى إبراهيم هذا ربي، ولكنه إذ رآه يغرب، قال:
لا أحب الذين يغربون".(51)
فنسأل "الكاتب":
أي تشابه هذا الذي يدّعيه بين هذين القولين؟ فهل تحدث العلامة الشيرازي
عن صرخة إبراهيم "الساذج"؟ أم عن إقباله على الكوكب في خشوع العابد
ولهفة المسحور واندفاعة الإيمان؟! أم عن ترديده لكلمة هذا ربي في سره
كثيراً؟!! أم عن الحقيقة التي اكتشفها ،وهي ربوبية الكوكب، ليؤكدها في
ذاتها بعيداً عن حالات الشك والريب؟ أم عن الوهم الكبير الذي كان يعيشه
إبراهيم عليه السلام؟.
وهل لآية (هذا ربي) كل هذه الدلالات وكل هذه "الظهورات الأولية"؟!!
الأمر الذي لا يشك به "الكاتب" الذي نقلنا عنه قبل قليل قوله إن:
".. الظهور يدل على أن إبراهيم كان في مقام
الإستدلال وأنه يبحث عن الرب المدبر للأمر".وأن
ذلك ما صرّح به العلامة الطباطبائي؟!! فهل تستقيم هذه الدعوى مع
المعاني التي تدل عليهاعبارات صاحبه الذي يدافع عنه؟! أعني هل كلام
صاحبه المتقدم ذكره يفيد أنه (ع) كان في مقام الإستدلال، وأنه كان يبحث
عن الرب المدبر، وهل من يبحث عن الرب يقبل على ما افترضه رباً في خشوع
العابد وفي لهفة المسحور وغير ذلك من عبارات؟!!
ثم
ما معنى قول صاحب "من وحي القرآن":"
لقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح.."؟!!.
وليخبرنا "الكاتب" عما كان يبحث عنه إبراهيم، فهل هو الإله أم الرب
المدبر؟!! وهو الذي نقل لنا قول العلامة الطباطبائي (قده) في تفسير
الميزان:
" فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه (ع) سلّم أن لجميع الأشياء إلهاً فاطراً
واحداً لا شريك له في الفطر والإيجاد وهو الله تعالى، وأن للإنسان رباً
يدبر أمره لا محالة، وإنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر أمره، هو الله
سبحانه.. أم أنه بعض خلقه أخذه شريكاً لنفسه.."(52).
وعليه كيف يكون كلامه هذا مطابقاً لكلام العلامة الطباطبائي؟!!!
وبغض النظر عن كل ما تقدم، فإن كل ما قاله إبراهيم (ع)، فيما قصّه لنا
القرآن، هو كلمة:
(هذا ربي) سواء قالها على نحو الإستدلال والإفتراض،
أو على نحو المحاكاة والمجاراة، فهل يريد "الكاتب" أن يقنعنا أن هذه
الكلمة لها كل هذه الدلالات، والظهورات الأولية؟!!.
بعبارة أخرى:
هل يريد أن يقنعنا أن هذه الكلمة تدل على:
*
إقبال إبراهيم عليه السلام على الكوكب في خشوع العابد وفي لهفة المسحور
واندفاعه الإيمان؟!.
*
واكتشاف الحقيقة ليؤكدها في ذاتها بعيداً عن كل حالات الشك والريب؟!.
*
وإن قناعات إبراهيم إهتزت من جديد؟!!.
فلنتابع ولنقرأ مع "الكاتب" الذي سيجدنا إن شاء الله من الصابرين!!.
الآية الثانية:
(فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي)
قال السيد "فضل الله":"
(.. قال هذا ربي).. وبدأت المقارنة بين هذا النور الكوكبي.. وبين هذا
النور القمري.. فأين هذا من ذاك، فهذا هو السر الإلهي الذي كان يبحث
عنه (قال هذا ربي) وعاش معه في حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا
الرب النوراني.. وفجأة بدأ الشعاع يبهت ثم يغيب.. وإنطلقت الحيرة في
وعيه من جديد.. أين ذهب الإله، وأين غاب.. وهل يمكن للإله أن يغيب
ويأفل.. وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟ وأين هو..
وعاش في التصور الضبابي المبهم الغارق في الغامض يتوسل بالرب الذي لا
يعرف كنهه، أن يهديه سواء السبيل.."(53)
ويقول العلامة ناصر مكارم:
".. ومرة أخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص
القمر الفضّي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء فصاح ثانية:
هذا ربي، ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى
وجهه خلف طيات الأفق"(54).
ومرة ثانية نسأل "الكاتب":
أين هذا الكلام من ذاك؟!.
فإن ما ذكره العلامة الشيرازي يعد بحق ظهوراً أولياً للآية ، أما ما
ذكره صاحب "من وحي القرآن" فهو قطعاً من وحي مـخيلته ، اللهم إلا إذا
ادعى "الكاتب" أنه من "البطون" التي صرح صاحب من وحي القرآن برفضها!
ومع ذلك فإن ما جاء به قد تجاوز به حدود السبعين بطناً إلى اللامعقول.
فمن أين جاء بمثل هذا "الوحي" الذي ينسبه إلى القرآن؟!!!.
وهل كلمة:
(هذا ربي) لها كل هذا الظهور وكل تلك الدلالات
والمعاني والإيحاءات؟!!
وهل يظهر من كلمة:
(هذا ربي) أن إبراهيم عليه السلام عاش مع القمر في
حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني؟!!.
ومرة جديدة نسأل "كاتبنا" عما كان يبحث عنه إبراهيم عليه السلام، فهل
هو الإله أم الرب المدبر؟!!
وعليه:
ماذا يعني قول صاحب "من وحي القرآن":
"أين ذهب الإله.. وهل يمكن للإله أن يغيب.. وضجت
علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله.."؟!.
فكيف يكون كلام (السيد ) "فضل الله" مطابقاً لكلام العلامة
الطباطبائي؟!!.
وما معنى قوله:
"يتوسل بالرب الذي لا يعرف كنهه أن يهديه إلى سواء
السبيل"؟!!.
ولنتابع مع هذا "الكاتب" الذي سينبؤنا بما لم نستطع عليه صبراً!! لأننا
لم ولن نصبر على ما فيه مخالفة واقعية لحقائق الدين وأصول المذهب مما
يحتوي على أقبح النسب الى الأنبياء وهو الشرك.
الآية الثالثة:
(فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما
أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون):
يقول "السيد فضل الله":
".. وفجأة أشرقت الشمس بأشعتها الذهبية الدافئة فأخذت عليه وجدانه
(فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر) فأين حجم الشمس من حجم
القمر والكواكب.. فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه فإذا به يهتز
ويتحرك في قوة وامتداد وحيوية دافقة.. ولكن.. ماذا؟ وبدأ يفكر.. فها هي
تبهت وتبرد.. ثم تغيب وتأفل وتترك الكون في ظلام دامس فكيف يمكن أن
تكون إلهاً تعيش الحياة في قدرته وقوته..؟ وأطلق الصرخة فيمن حوله من
هؤلاء الناس الذين يعبدون الكواكب والقمر والشمس.. فيما خيّل له ، في
وقت من الأوقات، أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب"(55).
ويقول العلامة ناصر مكارم:
"عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً
من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق.. وتلقي بأشعتها
الجميلة وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس
الساطع، صاح:
هذا ربي، فإنه أكبر وأقوى ضوءاً، ولكنه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في
جوف الليل البهيم، أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلاً:
يا قوم لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله.."(56).
ومرة ثالثة نسأل هذا "الكاتب":
هل
ثمة تشابه بين هذين القولين؟!!!
فهل تحدث العلامة الشيرازي عن تلك "اللابدّية" في أن تكون الشمس هي
الإله الذي يبحث عنه إبراهيم عليه السلام؟! أم عن أنه (ع) خيّل له في
وقت من الأوقات أن الكوكب والقمر والشمس هي الحقيقة المطلقة التي لا
يعتريها شك ولا ريب.
وهل لكلمة (هذا ربي هذا أكبر) دلالة وظهور على أن الشمس قد أخذت عليه
وجدانه؟! وأنها لا بد من أن تكون الإله الذي يبحث عنه؟!.
ومرة جديدة نسأل "كاتبنا" عما كان يبحث عنه إبراهيم (ع)، فهل هو الإله،
أم الرب المدبر؟! حتى يقول صاحب "من وحي القرآن":
"فلا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه" أو يقول:
"فكيف يمكن أن تكون إلهاً.."
وبعد، هل يبقى ثمة شك بأن "الكاتب" يتعمد التضليل؟!! وإلا ما معنى أن
يعتبر كلام (السيد ) متطابقاً مع كلام الشيرازي؟!! فضلاً عن دعوى
مطابقته لكلام العلامة الطباطبائي (قدس سره)؟!!.
وخلاصة القول:
إن الآيات القرآنية الآنفة الذكر تدل عند (السيد
فضل الله) وفق رأي "الكاتب"، بحسب ظهورها الأولي على عدة أمور:
*
إن إبراهيم (ع) عندما رأى الكوكب:
سيطرت عليه أجواء الروعة، واستولى عليه الخشوع الروحي، فخيل إليه أن
هذا هو الإله العظيم".
*
إن إبراهيم (ع) عندما رأى الكوكب:
"قال هذا ربي في صرخة الإنسان الطيب الساذج الذي خيّل إليه أنه اكتشف
السر الكبير الذي يبحث عنه كل الناس وكأنه أقبل إليه في خشوع العابد
وفي لهفة المسحور وفي اندفاعة الإيمان".
*
إن إبراهيم (ع) عندما رأى الكوكب:
"ربما (ولاحظ الدقة العلمية بكلمة ربما) ـ ربما ـ
ردد هذه الكلمة:
"هذا ربي" في سرّه كثيراً ليوحي لنفسه بالحقيقة التي اكتشفها ليؤكدها
في ذاتها.. بعيداً عن كل حالات الشك والريب".
*
إن إبراهيم (ع) عندما أفل الكوكب:
"انكشفت له الحقيقة الصارخة.. فقد كان يعيش في وهم
كبير.. واهتزت قناعاته من جديد".
*
إن إبراهيم (ع) عندما رأى القمر إعتبر أن:
"هذا هو السر الإلهي الذي كان يبحث عنه".
*
إن إبراهيم (ع) عندما رأى القمر قال:
هذا ربي:
"وعاش معه حالة روحية من التصوف والعبادة لهذا الرب النوراني" (ولاحظ
كيف عبر هنا بالرب ثم عبر هناك بالإله عدة مرات).
*
إن إبراهيم (ع) عندما أفل القمر:
"إنطلقت الحيرة في وعيه من جديد.. وضجت علامات
الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله.. وعاش في التصور الضبابي".
*
إن إبراهيم (ع) لما رأى الشمس بازغة وأن حجمها أكبر من حجم القمر اعتبر
أنه:
"لا بد أن تكون هي الإله الذي يبحث عنه".
*
إن إبراهيم (ع) بعد أن أفلت الشمس كفر بالكواكب والقمر والشمس التي:
"خيل له في وقت من الأوقات أنه الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها شك ولا
ريب".
هذه هي دلالات الآيات بحسب "ظهورها الأولي" عند "كاتبنا" "المبدع"!!.
وسيأتيك عزيزي القارئ ما هو أعجب وأطرف وأبدع وأظرف فانتظر واصبر فإن
الله مع الصابرين.
اللغة الأعجب:
روايات أهل البيت (ع ) لا تنسجم مع ظواهر الآيات!
صدّر "الكاتب" بحثه حول قصة إبراهيم (ع) بالتحدث عن اتجاهين أساسيين في
تفسير الآيات:
الأول:
بأنه:
"أسلوب حواري احتجاجي بمجاراة القوم، وتسليم ما سلموه، ثم بيان ما يظهر
فساد رأيهم وبطلان قولهم في ألوهية الكواكب.."
الثاني:
"أنه (ع) كان في دور المهلة والنظر والطلب والبحث عن الرب المدبر
للأمر، على اختلاف المفسرين في أن ذلك كان قبل البلوغ أو بعده.."(57).
ثم
خلص إلى القول:
"إن رأي (السيد) الذي استقربه هو من أفضل الآراء،
وهو الإتجاه الذي يذهب إلى أن إبراهيم (ع) قال (هذا ربي) على سبيل
المجادلة والمناظرة..".
أما الإتجاه الآخر "الذي استوجهه (السيد) وإن لم يختره، دلّت عليه
الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، واستوجهه أعلام التفسير
الشيعة على مدى قرون، فلم يكن الشريف المرتضى أولهم، ولا العلامة
الطباطبائي آخرهم".
ثم
ختم "الكاتب" بالقول:
"الرأي الذي اخترتموه (يقصد العلامة المحقق) والذي
يذهب إلى أن إبراهيم (ع) في قوله:
(هذا ربي) كان في مقام الإستنكار والإستهزاء، يعد من أضعف الآراء، في
المسألة، ولا ينسجم مع ظواهر الآيات والسياق، ولهذا ذكره الأعلام في
آخر ما ذكروه من وجوه محتملة".(58)
وقد بينّا تعسف قول "الكاتب" بأن ما أتى به (السيد) فضل الله، لم يكن
بدعاً من القول، وأنه قد سبقه إليه أعلام المذهب، وسيأتي المزيد
فانتظر.
ولكن ما يعنينا مما مر هو قوله عن الرأي الذي اختاره العلامة المحقق
القائل بأن إبراهيم (ع) في قوله (هذا ربي) كان في مقام الإستنكار
والإستهزاء، يعد من أضعف الآراء في المسألة ولا ينسجم مع ظواهر الآيات
والسياق، ولهذا ذكره الأعلام في آخر ما ذكروه من وجوه محتملة!!.
وكذلك دعواه أن روايات أهل البيت (ع) إنما دلّت على الإتجاه القائل بأن
ذلك كان في زمان مهلة النظر الذي استوجهه "السيد" وإن لم يختره.
فنسجّل على ذلك الملاحظات التالية:
1ـ
قد تقدم أن العلامة المحقق إنما اختار مقولة "الإحتجاج" و الإستنكار
والإستهزاء،.ومن
الواضح إمكانية الجمع بين هاتين المقولتين إذ لا تنافر بينهما، لذلك
قال صاحب (من وحي القرآن) في حديثه عن اتجاه المحاكاة الإستعراضية ، أن
ذلك كان منه (ع) لإظهار سخافة ما يعتقده قومه.
ولا يخفى أن إظهار سخافة هذه المعتقدات هي نوع من أنواع الإستنكار
والإستهزاء الذي يساق في إطار المحاججة(59).
2ـ
إن "الكاتب" نفسه نقل رواية الإمام الرضا (ع) وتعليق العلامة
الطباطبائي عليها!.
وملخص هذه الرواية كما جاءت في العيون وذكرها البحراني في البرهان أن
المأمون سأل الإمام الرضا (ع) عن مسائل تتعلق بعصمة الأنبياء وكان مما
سأله:
الآيات المتعلقة بإبراهيم (ع) فقال الإمام (ع):
"إن إبراهيم (ع) وقع إلى ثلاثة أصناف، صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد
القمر، وصنف يعبد الشمس وذلك حينما خرج من السرب الذي أخفي فيه، فلما
جن عليه الليل رأى الزهرة قال هذا ربي على الإنكار والإستخبار فلما أفل
الكوكب قال:
لا أحب الآفلين.. فلما رأى القمر بازغاً قال:
هذا ربي على الإستنكار والإستخبار.. فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال:
هذا ربي هذا أكبر.. على الإنكار والإستخبار لا على الإخبار والإقرار.."(60).
فكيف يوفق، هذا الكاتب، بين ذكره للرواية من جهة، والإدعاء بأن رأي
العلامة المحقق من أضعف الآراء؟! لا سيما أن هذه الرواية تؤيد ما ذهب
إليه العلامة المحقق أيده الله وهي مروية عن أهل البيت (ع) مع
أن"الكاتب"، إدعى زوراً، تأييد رواياتهم للإتجاه الآخر الذي استوجهه
صاحبه وإن لم يختره؟!!.
والأمر الذي لم نوفق لفهمه هو سبب عدم إختيار" صاحبه " لما يخالف ما
دلت عليه روايات أهل البيت عليهم السلام ولعل غيرنا يوفق لذلك..
وهل يريد أن يقول لنا أن تفسير الإمام الرضا (ع) هو من أضعف الآراء،
وأن قوله لا ينسجم مع ظواهر الآيات؟!!.
وهل قال العلامة الطباطبائي (قدس) هذا القول أم أنه قال:
بأن هذا التفسير من الأئمة عليهم السلام لا ينافي صحة غيره من الوجوه،
إذ ليس بالضرورة أن يكونوا (ع) في وارد إعطاء جميع وجوه الآية.
كما لا ينبغي أن يخفى على القارئ أن هذا الإتجاه الذي قال عنه "الكاتب":
إن صاحبه استوجهه وإن لم يختره، لم يقل به أحد من
قبل،وليس هو ما دلت عليه الروايات وتحديداً رواية الإمام الرضا(ع)
الآنفة الذكر، إذ لم يقل أحد أن إبراهيم عليه السلام قد عاش مع الكوكب
في حالة من التصوف والعبادة وغير ذلك من مقولات، فضلاً عن أن تكون
الروايات قد دلت عليه. كما أنه قد تقدم عدم صحة إدعاء "الكاتب" أن
صاحبه استوجه هذا الرأي وإن لم يختره ،فقد عرفت أنه قد قربه بشواهد
عديدة.
وعلى أي حال ، فإننا نرى أن العلامة الطباطبائي (قدس) بريء مما نسبه
إليه هذا "الكاتب" الذي أخذته العزة بالإثم إلى درجة اعتبر فيها تفسير
الأئمة (عليهم السلام )من أضعف الآراء بل وتجرأ على اعتبار تفسيرهم لها
في الرواية لا ينسجم مع ظواهر الآيات، هذا في الوقت الذي يعتبر فيه
تفسير صاحبه من أقوى الآراء.
وقديماً قالوا:
إن لم تستح فافعل ما شئت ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
3
ـ وما دمنا قد وعدنا القارئ بذكر بعض الطرائف التي يتحفنا بها "الكاتب"
بين الحين والآخر ، فلنلفت نظره إلى واحدة منها ، وهي التي جعلها
"الكاتب" دليلاً على تضعيف تفسير الإمام الرضا (عليه السلام) للآية
أعني:
كون هذا الرأي مما ذكره الأعلام في آخر ما ذكروه من وجوه محتملة. وإننا
إذ نغض النظر عن تعبيره بلفظ:
"وجوه محتملة" مؤقتاً لأننا سنتعرض لذلك بعد قليل فإننا نقول:
إننا إذا أردنا أن نتبع "الكاتب" في قياسه بالإستدلال على ضعف الرأي
الذي يذكره العلماء في آخر ما يذكروه ، فإنه يلزم منه أن أول الأقوال
المذكورة هو الأقوى والمعتبرة ، وعليه فإننا عندئذٍ سنخلص إلى النتيجة
التالية:
أ
ـ إن الرأي المعتبر عند الطوسي بحسب " منطق" الكاتب هو القول بأن ما
قاله إبراهيم عليه السلام "كان قبل بلوغه وقبل كمال عقله ولزوم التكليف
له.."(61).
إذ
أن الطوسي (قده) قد ذكر هذا الرأي كأول ما ذكره من أقوال ، لكن الشيخ
الطوسي يضعف هذا الرأي، وأنه إنما ذكره على أنه قول موجود وقد نسبه
للجبائي(62).
ب
ـ إن الرأي المعتبر عند الطبرسي(رحمه الله) وفق هذا "المنطق" هو أن
إبراهيم عليه السلام قال ذلك:
"عند كمال عقله زمان مهلة النظر وخطور الخاطر"(63)
لأن الطبرسي (قده) قد ذكر هذا القول أولاً، ثم نسبه، كما فعل الطوسي،
إلى ابي القاسم البلخي.
وكلاهما، الطوسي والطبرسي(رحمهما الله)، وإن ظهر منهما رضا بهذا الرأي،
لكنه رضا مشروط ببعض الإعتبارات والقيود التي تدفع ما أشكل عليه.
علماً أن كلاهما التزما وتبنيا الوجه الثالث والرابع اللذان تجاهلهما
"الكاتب" لغاية في نفسه لم تعد خافية.
وهذان الوجهان هما:
الثالث:
أن كلام إبراهيم عليه السلام كان على سبيل الإنكار.
الرابع:
أن كلامه عليه السلام كان على وجه المحاججة لقومه.
ج
ـ قد مر أن الطوسي والطبرسي (قده) جعلا الإتجاه القائل بأن كلام
إبراهيم (ع) كان على سبيل "المحاججة والمحاكاة الإستعراضية" وجهاً
رابعاً، فإن كان الرأي الذي يذكر في آخر الوجوه بمثابة إضعاف له فيكون
بذلك قد حكم على رأي صاحبه بأنه أضعف الآراء ولا ينسجم مع ظواهر الآيات
والسياق وتلك رمية من غير رام، رغم أننا ذكرنا بأن هذا الرأي هو
المعتبر وأن مشكلة صاحبه ليس أنه تردد بحسمه وحسب ، بل أنه تردد
بتقريبه.
د
ـ إن الرأي المعتبر عند الطباطبائي (قده) وفق قياس "الكاتب" هو أن
إبراهيم (ع) كان في مقام المفترض لأمر للنظر إلى الآثار التي تثبته
وتؤيده، علما أن الأرجح عند الطباطبائي، كما هو ظاهر، هو الثاني لا
الأول أي "التسليم والمجاراة" لذلك قال بعد ذكره للرأي الأول:
"ولكن الذي يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجة أبية [ثم
ساق عدداً من الآيات].. أنه عليه السلام كان على علم بحقيقة الأمر..
وعلى هذا فقوله:
"هذا ربي" جار مجرى التسليم والمجاراة.."(64).
هـ ـ ولا ننسى أن صاحب (من وحي القرآن) ذكر احتمال "المحاكاة
الإستعراضية" كاحتمال ثان، أما الإحتمال الأول فهو كونه عليه السلام
قال ذلك صغيراً، وقبل كمال عقله، وبلوغه، فيكون هذا الإحتمال الأخير،
وفق قياس "الكاتب" هو الأقوى لأنه مذكور أولاً.
لكن "الكاتب" نفسه اعتبر أن (السيد) رجّح الإحتمال المذكور ثانياً. وقد
كشفنا زيف هذا الإدعاء وأن ( السيد) لم يرجحه.
أما المذكور أولاً فقد قال بأن صاحبه:
"استوجهه وإن لم يختره".
فأي من هذه الدعاوى نصدّق؟!.
السذاجة:
التطلع نحو الأفق بنظرة حائرة بلهاء
كنا قد تحدثنا بعض الشيء عن هذه المقولة في الفصل الأول عند حديثنا عن
آدم عليه السلام ثمة كلاماً آخر نودّ قوله هنا:
ذكر "الكاتب" أثناء تعرضه لمقولة:
"السذاجة" في حديثه عن آدم عليه السلام ، أن التعبير بالسذاجة هو الذي
جعل العلامة المحقق يعتبرها من "المقولات الجريئة" لأنها:
"تعني التطلع إلى الأمور بنظرة حائرة بلهاء".(65)
وقد علّق "الكاتب" مخاطباً المحقق العاملي بقوله:
"ما كان ينبغي أن يتبادر إلى ذهنكم هذا المعنى على الإطلاق" لأن "معنى
السذاجة ليس كما يتبادر إلى بعض الأذهان ـ خطأ ـ من أنها البلاهة، التي
تعني الحماقة والسفاهة وعدم العقل فالأبله هو الأحمق الذي لا تمييز
له".
ثم
ساق "الكاتب" ما ورد في لسان العرب من تعريف "للسذاجة"(66).
إن
هذا القول من "الكاتب" يمثل افتراءً واضحاً، وتضليلاً سافراً لا يقف
عند حد، وذلك:
أ
ـ إن ما ذكره العلامة المحقق عن السذاجة بأنها "تعني التطلع نحو
الأمور بنظرة حائرة بلهاء" إنما هو كلام "السيد" فضل الله:
وقد ردّده العلامة المحقق في معرض طعنه على وصف آدم عليه السلام به حيث
قال أعزه الله بالنص الحرفي:
"ولعل هذا البعض قد حسب أن عدم معرفة آدم بأمر خفي، لم يجد السبيل إلى
معرفته، نوعاً من السذاجة، والبساطة، مع أن هناك فرقاً بين السذاجة
التي تعني التطلع إلى الأمور بنظرة بلهاء كما سيأتي في كلام نفس هذا
البعض عن إبراهيم (أبي الأنبياء) عليه السلام أو تعني نوعاً من القصور
في الوعي والفهم، كما يقول عن آدم عليه السلام وصرّح به في خطبة ليلة
الجمعة بتاريخ (29 ج2 1418 هـ) وبيّن عدم الإطلاع على الواقع لسبب أو
لآخر.."(67).
وإذا راجعنا النص الذي ورد في كتاب "من وحي القرآن" والذي ذكرناه في
أول هذا الفصل لوجدنا صاحبه يقول:
".. لأن توجيه الوجه لله.. لا يعني ـ في مدلوله العميق ـ هذا الموقف
الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرة حائرة
بلهاء.."(68).
فظهر مما تقدم إن تعريف السذاجة بأنها "التطلع إلى الأمور بنظرة حائرة
بلهاء" ليس تعريف العلامة المحقق حتى يقول له الكاتب: بأنه ما كان
ينبغي أن يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى على الإطلاق، فإن كان يعتبر أن
هذا المعنى المتبادر خطأ، فإن هذا الخطأ هو من جملة أخطاء صاحب "من وحي
القرآن".
وعليه:
فإن كل من أطلق عليه هذا "السيد" هذا الوصف إنما يريد به هذا المعنى..
وقد تقدم أنه وصف نبي الله آدم (ع) ونبي الله إبراهيم (ع) "بالساذج"
عدة مرات.
ولا بأس بذكر حادثة حصلت مع أحد مريدي (السيد) ،حيث قرأ فهرست العناوين
والمقولات في الصفحات الأولى لكتاب خلفيات الجزء الأول ، ثم عاد إلى
الغلاف ليتأكد من إسم المؤلف فعلم أنه "السيد جعفر مرتضى العاملي" ثم
عاد للمقولات ليردّدها الواحدة تلو الأخرى على مسمع ومرأى العديد من
الإخوة المؤمنين الذين أخذوا يستمعون إليه ، إلى أن رمى الكتاب جانباً
قائلاً هذا الكفر بعينه لماذا لا يتصدى العلماء له ويوقفونه عند حده ،
فضحك أحد الحاضرين لعلمه بداهة أن هذا الشخص ظن أن هذه المقولات تعبر
عن رأي العلامة المحقق وأنه غير ملتفت إلى أنها عناوين لمقولات صاحب
"من وحي القرآن" ،فأخبروه فلم يصدق بل قال:
هذا الأمر يحتاج إلى تأمل وتفكر حتىعاد للكتاب ليتأكد من ذلك بنفسه،
ولتصبح بعد ذلك هذه الحادثة مضرباً للمثل. وهذا الأمر قد حصل مثله مع
"كاتبنا" الذي ظن أن صاحب هذا التعريف للسذاجة هو العلامة المحقق الذي
"ما كان ينبغي أن يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى على الإطلاق لأن معنى
السذاجة ليس كما يتبادر إلى بعض الأذهان ـ خطأ ـ من أنها البلاهة التي
تعني الحماقة والسفاهة وعدم العقل".. إلخ.. وهو لا يعلم أن هذا الخطأ
من مسؤولية صاحبه الذي عرف السذاجة بهذا المعنى، وإن كنا نظن أنه يعلم
ولكنه الدهاء!!!.
إذن إن وصف آدم أو إبراهيم عليهما السلام "بالساذج" إنما يعني فيه، وفق
تعريف صاحب "من وحي القرآن":
"الأبله".
وعليه:
فإن ما ذكره "الكاتب" من تعريف للسذاجة بأنها البساطة في الإدراك، وعدم
الإطلاع على مكائد إبليس، وعدم إمتلاك البرهان القاطع(69)
لا يتلائم مع تعريف صاحبه الذي يدافع عنه.
وبعد ما مر هل يبقى ثمة شك في نوايا "الكاتب" وأهدافه؟!! وأين
الموضوعية، والحيادية..؟!!.
ب
ـ ثم إن (السيد) فضل الله قد جعل السذاجة في مقابل الوعي، وذلك عندما
قال:" لا بد أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية... وليس البصرية
الساذجة". وعليه، فالسذاجة تعني عند صاحب (من وحي القرآن): عدم الوعي.
ج
ـ ومن الملفت للنظر تجاهل "الكاتب" لمقولة السذاجة عند حديثه عن
إبراهيم (ع)، مع أن العلامة المحقق وضع هذه المقولة في العنوان الأول
من العناوين المتعلقة بالحديث عن إبراهيم (ع) تحت الرقم (29)(70).
وقد ذكرنا في حديثنا عن آدم (ع) أسباب هذا التجاهل فليراجع هناك.
د
ـ فإذا اتضح كل ذلك تبين لنا خبث ما ذكره "الكاتب" أثناء حديثه عن آدم
عليه السلام بأن "معنى السذاجة ليس هو ما تبادر إلى ذهنكم(يقصد المحقق
العاملي) ـ خطأ ـ جرّاء إنسكم بالتعابير العامية.. وهذا التبادر الخاطئ
قد وقعتهم فيه أكثر من مرة في (خلفيات)"!!!(71).
نعم، اتضح لنا من خلال ما تقدم، خبث هذا القول ؛ إذ بات واضحاً أن هذا
المعنى للسذاجة ليس مما تبادر إلى ذهن العلامة المحقق ، بل هو قول صاحب
(من وحي القرآن).
ويكفي ما تقدم دلالة على الكذب والإفتراء، وما ذلك
إلا من جراء أنس هذا "الكاتب" بأساليب اللف والدوران، وقانا الله من
شرور هذه الأساليب والمكائد.
تشويه رأي العلامة الطباطبائي (قده)
يتحدث "الكاتب" أن ثمة اتجاهين أساسيين في تفسير قصة إبراهيم (ع):
الأول هو:
المجاراة والمناظرة، والثاني هو:
التأمل والنظر(72).
واعتبر أن هذين الإتجاهين ذكرهما أعلام التفسير وذهبوا إلى إحتمالهما
معاً، بل ودافعوا عن الإتجاه الثاني(73).
كما اعتبر أن السيد الطباطبائي (قده) اعتبر الإتجاه الثاني محتملاً في
التفسير(74).
وهنا لا بد من الوقوف عند هذا الإدعاء لإبداء عدة ملاحظات:
أ
ـ إن ما تحدث عنه الطباطبائي (قده) حول ما أسماه "الكاتب" الإتجاه
الثاني، إنما ذكره (قده) على أساس أنه بمثابة افتراض من قبل إبراهيم
(ع) ونظيره موجود في المنطق ويسمى "قياس الخلف" الذي يقتضي أن تفترض
أمراً تريد إظهار بطلانه لإثبات نقيضه.. وكلام العلامة الطباطبائي
(قده) كله منصب على هذا الإتجاه.. لذا قال (قده) قبل تقديم مناقشته:
"والذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم عليه السلام
مع قومه في أمر الأصنام ظهوراً لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله
من العلم بالله وآياته بما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه وتعالى
أنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية.."(75).
وهذا النص تجاهله "الكاتب" كعادته وكما هو ديدن أسلافه ممن سبقوه
للدفاع عن صاحب "من وحي القرآن".
وعلى أي حال، فلنحفظ قوله (قدس سره):
"بما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه وتعالى أنزه
ساحة من التجسّم.." لأننا سنعود إليه بعد قليل.
وقد قال (قده) بعد ذلك أيضاً:
"وعليه يدل ما حكي عنه في آخر الآيات.. (قال يا قوم
إني بريء مما تشركون) فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أنه
لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى.."(76).
مما يعني أن إبراهيم (ع) بعد أن افترض لله شريكاً ثم رأى ما ينتج عن
هذا الإفتراض من نتيجة باطلة لا يصح نسبتها إلى الرب أثبت بذلك لقومه
أنه لا شريك له. وهو ما يسمى في المنطق بقياس الخلف وهو مستعمل في
الرياضيات.
ولا يخفى ما لتعبير العلامة الطباطبائي (قده):
"إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى" من
دلالة، ودلالته واضحة وهي:
ان
إبراهيم إنما كان في مقام الإثبات لقومه لا الثبوت لنفسه، أي تقديم ما
هو حاصل لديه من إيمان بصورة الدليل والبرهان. وهذا القول يكشف عن زيف
ما نسبه الكاتب للعلامة من أنه (قده) اعتبر مقولة التأمل والنظر وجهاً
محتملاً في التفسير.
هذا وقد ذكر السيد الطباطبائي (قده) هذا الكلام كثيراً حتى لا يتوهم
متوهم غير ما يريده ويرمي إليه لذلك قال (قده):
"وفي إثر ذلك ما كان منه (ع) من افتراض للكوكب"(77).
وقال أيضاً:
"فهو ما لم يتم له الإستدلال غير قاطع بشيء ولا بان
على شيء، وإنما هو مفترض ومقدر لما افترضه وقدره.."(78).
وما يؤيده قوله (قده) أيضاً:
"وعلى هذا فقول إبراهيم (ع) ليس من القطع والبناء اللذين يعدّان من
الشرك، وإنما هو افتراض أمر للنظر إلى الآثار التي تثبته وتؤيده.."(79).
فإبراهيم (ع) لم يؤمن ولو للحظة واحدة أو إحتمل أن يكون الكوكب رباً،
على عكس ما ذهب إليه (السيد) فضل الله من أن إبراهيم (ع) قد إعتقد
بألوهية الكواكب" لكنه إستطاع أن يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ والسريع
"، وقد تقدم ذكر هذا النص.
على أن المقصود من كلام الطباطبائي من أنه (ع) غير قاطع بشيء، أي غير
قاطع بشيء مما إفترضه، وإلا فهو (ع) قاطع بالتوحيد المستلزم لبطلان
الإلحاد والكفر والشرك معاً.
ولنحفظ هذا أيضاً، لأننا سنعود إليه بعد قليل.
ورغم كل ذلك فإن "الكاتب" الساذج توهم غير ما أراده الطباطبائي (قده)
إن لم نقل تعمد التضليل.
ب
ـ إن المتأمل في كلام العلامة الطباطبائي (قده) عند حديثه عن هذا
الوجه، يرى أنها محاولة لبيان المراد بظاهر الآيات وإبطال ما يتوهم من
دلالتها على الشرك لذلك نراه يكثر من قوله:
"وعليه يدل ما حكي عنه.. فإن ظاهره أنه (ع) ينصرف
عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا شريك له إلا أنه يثبت وجوده تعالى.."
وقوله (قده):
"فالذي يعطيه ظاهر الآيات.." وغير ذلك.
أي
أنه (ع) ينصرف الى تقديم الدليل والبرهان على ما هو ثابت عنده ومعتقد
به، وهو أن الرب المدبر هو الله لا شريك له في التدبير كما لا شريك له
في الخلق والإيجاد.
ج
ـ رغم إعتبار العلامة الطباطبائي (قده) لهذا الكلام أنه وجه إلا أنه لم
يتبنه وإنما تبنى الوجه الثانبي وهو:
أن الكلام جار مجرى التسليم والمجاراة لقومه لإثبات بطلان دعواهم وأن
ذلك أجلب لإنصاف الخصم وأمنع لثوران عصبيته، وأصلح لإسماع الحجة(80).
ودليل ذلك قوله (قده) بعد إنتهائه من الكلام حول الوجه الأول:
"هذا وجه، ولكن الذي يتأيد فيما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته
أباه.. أنه عليه السلام كان على علم بحقيقة الأمر، وأن الذي يتولى
تدبير أمره، ويحض عليه ويبالغ في إكرامه، هو الله سبحانه دون غيره"(81).
وكلام الطباطبائي (قده) يتطابق مع ما ذكره قبل كلامه عن الوجه الأول
حيث يقول (قده):
"والذي يظهر ممـا حكي من كلام إبراهيم (ع) مع قومه في أمر الأصنام
ظهوراً لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه.."(82)
د
ـ فيتضح من مجمل ما ذكرنا أن الوجه الأول وفق رأي الطباطبائي (قده) لا
وفق ما نسبه إليه "الكاتب" رغم أنه لا مشكل فيه وفق التوجيه الذي وجهه
(قده) إلا أنه قد أورده مورد التنـزل بهدف توجيه هذا الوجه، وإلا فإن
تضعيفه له لا يخفى على أحد، ويكفي دلالة على ذلك قوله:
"ولكن الذي يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم.." وقوله:
"والذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم (ع) مع قومه
في أمر الأصنام ظهوراً لا شك فيه".
مما يعني أنه لا مؤيد للوجه الأول الذي لا ظهور له في الآيات التي تدل
على الوجه الثاني.
والمتحصل من كل ما قدمناه ، أن المتأمل في كلام العلامة الطباطبائي
(قده) يراه يختلف أشد الإختلاف مع ما ذكره صاحب "من وحي القرآن" وهذا
الإختلاف ظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار.
وبما أننا سنعرض بعد قليل كلام صاحب "من وحي القرآن" الذي قام "الكاتب
الأمين" بحذف بعض مقاطعه، بل وتجاهل كل النصوص المشكلة فيه فإننا نكتفي
هنا بذكر بعض أوجه الإختلاف بل التناقض فيما بين الكلامين:
1ـ
معرفة إبراهيم (ع) بتنـزه الله عن التجسم:
فلنستحضر أخي القارئ ما طلبنا منك حفظه قبل قليل ، وهو قول العلامة
الطباطبائي (قده):
".. وله من العلم بالله وآياته بما لا يخفى عليه
معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم والتمثل والمحدودية"(83)
ولنقارن بينه وبين قول صاحب "من وحي القرآن":
"وهكذا تدفقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه،
فأحس بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته.. وأدرك أن
الله لا يحس كما تحس الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس، ولكنه
يدرك بالعقل والقلب والنور.."(84).
فالذي يظهر من كلام العلامة الطباطبائي (قده):
أن موقف إبراهيم (ع) من الأصنام وقبل موقفه من الكواكب يظهر ظهوراً لا
شك فيه أن إبراهيم (ع) كان على علم بأن الله أنزه عن التجسم وأنه لا
يحس كما تحس الموجودات الأخرى بالسمع والبصر واللمس.
بينما يظهر من كلام صاحب "من وحي القرآن" أن إبراهيم (ع) لم يكن يعلم
ذلك إلا بعد الإنتهاء من قصته مع الكواكب وهذا أول التناقضات.
2ـ
إبراهيم يبحث عن الرب أم الإله؟:
رأي السيد الطباطبائي (قده) الذي تقدم ذكره وعلى لسان "الكاتب" أيضاً
هو:
"فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه (ع) سلّم أن لجميع
الأشياء إلهاً فاطراً، واحداً لا شريك له في الفطر والإيجاد، وهو الله
تعالى، وأن للإنسان رباً يدبر أمره لا محالة وإنما يبحث عن أن هذا الرب
المدبر للأمر، أهو الله سبحانه وإليه يرجع التدبير كما إليه يرجع
الإيجاد، أم أنه بعض خلقه أخذ شريكاً لنفسه وفوض إليه أمر التدبير"(85).
أما رأي صاحب "من وحي القرآن" وقد تقدم ذكر أقواله التي تحدث فيها عن
الإله لا الرب، بل وردّد ذلك مرات عديدة وإليك ملخصها:
*
"... فخيل إليه أن هذا هو الإله العظيم.."(86)
*
".. ولقد ضاع الإله في الأجواء الأولى للصباح.."(87).
*
".. فقد أفل الكوكب.. لكن الإله لا يأفل.."(88).
*
".. وانطلقت الحيرة في وعيه من جديد.. أين ذهب الإله وهل يمكن للإله أن
يغيب ويأفل.. وضجت علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله"(89).
*
".. أين حجم الشمس من حجم القمر والكواكب.. فلا بد أن تكون هي الإله
الذي يبحث عنه"(90).
*
".. ثم تغيب وتأفل.. فكيف يمكن أن تكون إلهاً.."(91).
"فيصرخ في مثل اللهفة.. هذا ربي.. إنطلاقاً مما كان يسمعه بأن الإله
بعيد.. عن الإنسان"(92).
والطريف هنا أن قوله هذا قد جاء في معرض تقريبه لإحتمال أن تكون هذه
الحادثة قد حدثت له في بداية طفولة إبراهيم (ع) حيث ذكر أنه (ع) لم يكن
قد شاهدها من قبل فكيف، كان قد سمع بأن الإله بعيد عن الإنسان وقد عاش
مع قوم كانوا يعبدون الأصنام وهي بينهم.إلا أن يقول:إنهم كانوا ينظرون
الى الأصنام على أنها أرباب لا آلهه؟ لكنهم كانوا يسمونها آلهة،فقد
كانوا يقولون للناس تحريضاً إن الأنبياء يسبون آلهتكم ، وقال فرعون:ليس
لي علم بأن لكم اله غيري؟...
والخلاصة هي أن العلامة الطباطبائي (قده) يعتبر أن إبراهيم (ع) لم يكن
في مقام البحث عن الرب من ناحية أصل وجوده بل لم يكن في مقام إثبات
وجوده تعالى لأنه مؤمن بوجوده أصلاً وإنما كان في مقام إثبات نفي
الشريك.أي ، كما أسلفنا، تقديم هذا الإيمان على صورة دليل وبرهان.
أما صاحب "من وحي القرآن" فلم يتحدث عن الرب بل عن الإله.
3
ـ
كلمة:
لا أحب:
طفولية؟!
رأي العلامة الطباطبائي (قده):
".. على أن الربوبية والمربوبية بإرتباط حقيقي بين الرب والمربوب، وهو
يؤدي إلى حب المربوب لربه لإنجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى
لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله.
وعلى أي حال:
فإن إبراهيم (ع) أبطل ربوبية الكواكب بعروض الأفول له إما بالتكنية عن
البطلان بأنه لا يحب الآفلين لأن المربوبية والعبودية متقومة بالحب
فليس يسمع من لا يحب شيئاً أن يعبده - وقد ورد في المروي عن الصادق (ع):
"وهل الدين إلا الحب" - وأما لكون الحجة متقومة بعدم الحب، وإنما ذكر
الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية لأن الربوبية والألوهية
تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي الفطري لفقدانه الجمال
الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، وهذا الوجه هو الظاهر.
ففي الكلام أولاً إشارة إلى التلازم بين الحب والعبودية أو المعبودية..
وثالثاً:
إنه اختار للنفي وصف أولي العقل حيث قال:
(لا أحب الآفلين):
وكأنه للإشارة إلى أن غير أولي الشعور والعقل لا يستحق الربوبية من
رأس".(93)
فكلمة "لا أحب" عند العلامة الطباطبائي (قده) لها كل هذا المدلول
العميق الذي يكشف عن حقيقة العلاقة بين الربوبية والمربوبية.
أما صاحب "من وحي القرآن" فقد اعتبر أن دلالات كلمة "لا أحب" مما يمكن
أن تقرب كون الحادثة وقعت في بداية طفولته حيث يقول:
"أما الإحتمال الأول (أنها الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم
(ع) فقد يقربه، أن تكون الحادثة قد حدثت في بداية طفولته، عندما بدأ
يتطلع للأشياء، ويفكر في الإله في عملية تأمل وتدبر في مستوى ذهنية
الطفل.. فلما أفل أحس بالإنقباض وقال:
لا أحب الآفلين:
فقد نجد أن كلمة (لا أحب) بعض كلمات الطفولة البريئة التي تحب أو لا
تحب من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء.."(94).
هذا بعض ما أحببنا ذكره من فروقات هامة وجوهرية بين ما ذكره العلامة
الطباطبائي (قده) وما ذكره صاحب "من وحي القرآن" وسيأتيك بعد قليل
المزيد منه. فلينظر فيه الكاتب نظرة عميقة غير طفولية.
ومع كل هذا وذاك نجد إصراراً من "الكاتب" على الإدعاء مراراً وتكراراً
أن هذه المقولات أجمع عليها المفسرون منذ الشيخ الطوسي (قده) وأن آراء
"صاحبه" مما إستوجهه أعلام التفسير فلم يكن الشريف المرتضى (قده)
أولهم، ولا العلامة الطباطبائي (قده) آخرهم على حد تعبير "الكاتب" فلا
غرابة
(95).
تحريف كلام الشيخ الطوسي
(قده):
يدعي "الكاتب" أن الشيخ الطوسي (قده) قد طرح:
"وجوهاً أربعة محتملة في تأويل قول إبراهيم (ع) (هذا ربي)(96).
وحتى لا نطيل كثيراً في أمر أصبح واضحاً نقول بإختصار:
1ـ
قد تقدم أن أحداً لم يقل بما قاله صاحب "من وحي القرآن" في خشوع
إبراهيم للكواكب وأنه عاش معها في حالة من التصوف والعبادة ،بل تقدم
إعتباره أن إبراهيم (ع) اعتقد حقيقة بألوهية الكواكب لكنه استطاع (ع)
أن يتجاوز هذا الإعتقاد الطارئ السريع(97).
2ـ
إن "الكاتب"، كما عودنا، تلاعب بالألفاظ عندما تحدث عن "وجوه أربعة
محتملة" عند الطوسي (قده) وهذا محض إفتراء ، إذ أن الشيخ الطوسي (قده)
تحدث عن أقوال أربعة لا "وجوه أربعة محتملة" فهناك فرق، وإن كان
"الكاتب" لا يعرف الفرق ، أو يعرفه ، فالأمر سيان.
ويا ليت الكاتب رجع إلى ولده في هذا المورد ليشرح له الفرق ، لأنه أمر
معروف حتى عند صغار المستشارين.
وعلى أي حال، فإن تعبير الطوسي (قده) جاء على الشكل التالي:
"وقيل في معنى الآية وجوه أربعة"(98)
فتعبيره بكلمة "قيل" واضح في الدلالة على أنها أقوال ذهب إليها من
قالها فمن أين علم هذا "الكاتب" بأن هذه الأقوال "محتملة" عند
الطوسي؟!!.
3
ـ إن القول الأول الذي ذكره الطوسي (قده) هو أن يكون إبراهيم (ع) قد
قال ذلك قبل بلوغه.
ولو اعتبرنا أن هذا الوجه يشترك مع ما ذكره صاحب "من وحي القرآن" من
حيث أن إبراهيم (ع) كان صغيراً فنقول:
أ
ـ إن الشيخ الطوسي (قده) لم يتحدث عن "اعتقاد حقيقي" عند إبراهيم (ع)
وإنه "كان طارئاً وسريعاً" كما ذكر ذلك صاحب (من وحي القرآن).
ب
ـ إن هذا القول قد ضعّفه الطوسي (قده) وذلك عندما نسبه إلى الجبائي،
ولا يخفى أن نسبته إلى الجبائي تضعيف له(99).
4
ـ أما القول الثاني الذي ذكره الطوسي (قده) فهو إن إبراهيم (ع) كان في
زمان مهلة النظر وقد نسبه للبلخي أيضاً(100).
5
ـ نعم طرح الطوسي ، حول هذا القول إشكالاً مفاده أنه:
"كيف يجوز أن يقول:
هذا ربي مخبراً، وهو يجوز أن يكون مخبره لا على ما اخبر، لأنه غير عالم
بذلك وذلك قبيح في العقول، ومع كمال عقله لا بد أن يلزمه التحرز من
الكذب"(101).
وقد أجاب بجوابين:
الأول:
إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك فارضاً ومقدراً.
الثاني:
أنه أخبر عن ظنه:
"وقد يجوز أن يكون المفكر المتأمل ظاناً في حال نظره وفكره ما لا أصل
له ثم يرجع عنه بالأدلة"(102).
وهذا الكلام لا يخرج عن احتمالين:
أ
ـ أن يكون الإشكال والرد للبلخي نفسه فيبقى التضعيف له قائماً.
ب
ـ أن يكون رد الإشكال منه (قده) مما يوحي بقبوله به.
وعلى فرض هذا الإحتمال، فإن رد الإشكال بكونه (ع) إما فارضاً ومقدراً
أو ظاناً وباحثاً لا يتوافق مع كلام صاحبه ولا يفيد "الكاتب" في شيء.
وذلك لأن رد الإشكال بهذه الإجابة تجعل من القول برمته (أي كونه في
زمان مهلة النظر) مشروطاً ومقيداً بهاتين الحيثيتين.
وعلى كلا الإحتمالين فإن الرد إن كان للطوسي (قده) نفسه فهو رد لإبطال
كون إبراهيم (ع) قد قال ذلك مخبراً عن اعتقاد وهو يناقض كلام صاحب "من
وحي القرآن" الذي تقدم قوله عن اعتقاد إبراهيم (ع) وإن وصفه بأنه طارئ
وسريع.
على أن المتأمل في أسلوب المتقدمين يرى أنهم كانوا يردون الإشكالات
التي ترد على قول معين من باب التنـزل وإن هذا الإشكال في غير محله وإن
لم يكن القول قولهم والإشكال لا يرد عليهم..
ومهما يكن من أمر، فإن القول بأن ذلك كان من إبراهيم (ع) في زمان مهلة
النظر يضعفه الطوسي (قده) بنسبته إلى البلخي، بل إننا نقطع بتضعيفه له
وعدم قبوله به بما سيجيء بالقول الثالث.
6
ـ أما القول الثالث (وهو الإنكار على قومه) فإن "الكاتب" عمد إلى
تجاهله كالعادة ، ولغاية لم تعد تخفى، وهو القول المعتبر عند الشيعة
وهو:
"أن إبراهيم (ع) لم يقل ما تضمنته الآيات على وجه الشك، ولا في زمان
مهلة النظر، بل كان في تلك الحال عالماً بالله وبما يجوز عليه، فإنه لا
يجوز أن يكون الإله بصفة الكوكب، وإنما قال ذلك على سبيل الإنكار على
قومه والتنبيه لهم"(103).
ويلاحظ في هذا القول عدة أمور:
أ
ـ إنه موافق لروايات أهل البيت (ع).
ب
ـ إن الطوسي لم ينسبه إلى أحد ولا يخفى ما في ذلك من دلالة.
ج
ـ إن الطوسي ردّ جميع الإشكالات التي أوردها عليه كما رد الإشكالات
على قول البلخي فما هو الأمر المعتبر عنده إذن.
د
ـ إن الطوسي (قده) لا يمكن أن يجمع بين الموافقة على هذا الوجه
والموافقة على الوجه الثاني لأنه يجمع بذلك بين متناقضين متنافرين، لأن
القول الثالث يتنافى ويتنافر مع القول الثاني فلاحظ قوله (قده):
"إن إبراهيم (ع) لم يقل ما تضمنته الآيات على وجه الشك ولا في زمان
مهلة النظر" ، فهو صريح بأن القائل بهذا الوجه لا يقول بالوجهين
الأولين.
وإذا تأملنا في ذلك يتضح لنا أن الوجهين الأولين اللذين نسبهما الطوسي
(قده) للجبائي والبلخي غير معتبرين عنده (قده).
7ـ
وما قيل حول الوجه الثالث يقال حول الوجه الرابع وهو أنه (ع) قال ذلك
على وجه المحجاجة لقومه وليس "على وجه الإقرار والإخبار والإعتقاد
بذلك، بل على وجه المحجاجة"(104).
ففضلاً عن أن "الكاتب" تجاهله، فإن من الواضح أنه الرأي الآخر المعتبر
عنده وذلك لأسباب عديدة:
أ
ـ قوله (قده):
"ليس على وجه الإقرار والإخبار" يتلاءم مع ما جاء في رواية الإمام
الرضا (ع) التي تقدم ذكرها.
ب
ـ لم ينسب الطوسي (قده) هذا الرأي لأحد.
ج
ـ إن المحاجج بأمر لا بد أنه على علم به، وهذا يتنافر مع القول بالشك
أو القول أن ذلك كان في زمن مهلة النظر وهما مضمون القولين الأولين.
8
ـ إن احتجاج "الكاتب" بقول الطوسي (قده) بأن معرفة الله ليست ضرورية،
لا ينفعه في هذا المقام، إذ من الواضح أن المقصود بالضروري ما يقابل
الكسبي.
وإذا كان الكاتب يقصد من هذا الشاهد تبرير قول صاحب "من وحي القرآن" أن
إبراهيم (ع) لم يعلم أن الله يحس كما تحس الأشياء إلا بعد الإنتهاء من
قصته مع الكواكب، فتلك فضيحة علمية، ذلك لأسباب عديدة:
أ
ـ إن من كان في مقام المحاججة لقومه، لا بد أنه كان على علم بحقيقة ربه
الذي يحاجج به قومه لإقناعهم بربوبيته وبطلان ربوبية غيره من الكواكب
وغيرها. وإلا فكيف تتصور أنه يدعو قومه لعبادة ربٍ وتنـزيهه من الشرك
دون أن يعرف صفاته.
ب
ـ إن كانت معرفة الله وصفاته ليست ضرورية بل كسبية فمن أين علم صاحب
(من وحي القرآن) أن هذه المعرفة قد حصلت له (ع) بعد قضيته مع الكواكب،
إذ لا مانع من أن يكون قد حصّلها قبل موقفه من عبادة الكواكب ولا يضر
ذلك بكونها كسبية، وهذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي (قده) فيما
تقدم من نصوص له وهو قوله (قده):
"والذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم (ع) مع قومه
في أمر الأصنام ظهوراً لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه وله من العلم
بالله وآياته مما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه وتعالى أنزه ساحة من
التجسيم والتمثل والمحدودية.."(105).
تحريف كلام الطبرسي (قده) أيضاً
ولا يختلف ما ذكره "الكاتب" عن الطبرسي (قده) عما ذكره عن الطوسي
(قده).
والمتأمل في كلام الطبرسي (قده) يعلم تطابق كلامه مع كلام الطوسي (قده)
فلا نعيد(106).
أسئلة برسم الإجابة
ومن مجمل ما تقدم، وبالتأمل فيما تحدث به صاحب "من وحي القرآن" في
تفسيره للآيات وفق الإتجاه الثاني الذي ذكره "الكاتب" نتساءل:
هل
هذا الإحتمال هو الذي ذكره العلامة الطباطبائي في أن ذلك قد يكون على
سبيل الفرض؟.
ولماذا أحس إبراهيم بالإنقباض كما يقول (سماحته)؟.
ولماذا أصيب بخيبة الأمل؟.
ومتى يصاب الإنسان بخيبة الأمل؟ أليس عندما يرى شيئاً قد صدر من جهة لا
يتوقع صدوره منها؟!.
وكيف يمكن أن يصرخ الإنسان في مثل اللهفة (هذا ربي) (على حد تعبير
(السيد) فضل الله) إن كان في مقام الإفتراض لترقب النتائج؟!.
ومنذ متى يصرخ الإنسان المفترض لأمر في مثل اللهفة؟.
ولماذا تتكرر خيبة الأمل؟!.
ولماذا يصاب الفارض لأمر والمنتظر لنتائجة بخيبة الأمل؟!.
وهل كلمة (لا أحب) طفولية بريئة وساذجة؟!.
وهل هذا ما ذكره العلامة الطباطبائي ومن قبله الطوسي والطبرسي؟!.
وما هي تلك الفكرة التي انطلق الحجم الكبير ليؤكدها؟.
وهل المقام مقام إفتراض فكرة أم تأكيدها؟.
ولماذا تتجدد خيبة الأمل بالأفول للمرة الثالثة؟.
وكيف يمكن التوفيق بين قوله:
إن الوعي يتنامى وإننا لا نجد رد الفعل طفولياً (وهو حول كلامه (ع) لئن
لم يهدني ربي..) ثم قوله فتكبر الصرخة في طفولية بارزة؟.
والحال أن وعيه ينبغي أن يكون قد تنامى، ومع ذلك تراه ربما يقع فيما لا
يقع فيه إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل (على حد تعبير صاحب من وحي
القرآن) لأن كبر الشمس أوحت لفكره الساذج بالهبية والعظمة؟. اللهم إلا
إذا قصد بالوعي المتنامي أنه كان طفلاً، ثم أصبح "ما يشبه الطفل"؟!.
وهل يٌقبل المفترض على ما افترضه رباً في خشوع العابد وفي لهفة المسحور
واندفاعة الإيمان؟.
وكيف يمكن للمفترض أنه ردد فرضه في سره كثيراً ليوحي لنفسه بالحقيقة
التي اكتشفها؟.
وما هي تلك الحقيقة التي اكتشفها وهو في مقام الفرض والإستدلال؟.
وما هي تلك الحقيقة التي أكدها في ذاتها بعيداً عن كل حالات الشك
والريب؟.
وما هي تلك القناعات التي اهتزت من جديد؟.
وكيف يعيش المفترض مع ما فرضه في حالة من التصوف والعبادة؟.
وهل ضجت بالفعل علامات الإستفهام في روحه تتساءل من هو الإله؟.
ومن أين جاءت "اللابدية" تلك التي تحدث عنها من أن الشمس لا بد أن تكون
هي الإله الذي يبحث عنه؟ لعلها جاءت من كبر الحجم وسطوع النور؟!.
ومتى كان ذلك الوقت الذي خٌيّل له (ع) فيه أن ذاك الكوكب هو الحقيقة
المطلقة التي لا يعتريها شك ولا ريب؟ فلعله إشارة إلى ذلك الوقت الذي
كان يردد فيه كلمة (هذا ربي) في سره كثيراً ليوحي لنفسه بالحقيقة التي
اكتشفها ليؤكدها في ذاتها بعيداً عن كل حالات الشك والريب؟!.
هذه أسئلة برسم "الكاتب"، ولا نتوقع منه أن يجرؤ على الإجابة عنها
علنا، وإن كان الإعتراف بالخطأ فضيلة. ولكن فليتأمل بها في نفسه!!
خلاصة الفصل الثالث
ونستخلص من هذا المبحث النقاط التالية:
1-
تحريف
الكاتب لرأي العلامة المحقق بأن إبراهيم (ع) كان في مقام المحاججة
لقومه.
2ـ
حذف الكاتب بادئ الأمر لكلمة (ربما) والتي تشير إلى تردد صاحب "من وحي
القرآن" بحسم أن يكون ما قاله إبراهيم (ع) كان على سبيل المحاكاة
الإستعراضية.
3ـ
تجاهل "الكاتب" لتقريب صاحب "من وحي القرآن" بأن ما قاله إبراهيم كان
في طفولته وأنه (ع) قد عاش مع الكوكب في حالة روحية من التصوف والعبادة
وأنه أقبل عليه في خشوع العابد وفي لهفة المسحور، وغيرها من عبارات.
4ـ
تحريفه وتلاعبه بنصوص صاحبه المتعلقة بما أسماه "الشواهد" على تقريب
صاحب "من وحي القرآن" لمقولة "المحاكاة الإستعراضية".
5ـ
تحريفه لكلام صاحبه الذي ورد في كتاب "الحوار في القرآن" عندما جعله
شاهداً على تقريب الإتجاه الأول(المجاراة والمحاكاة الإستعراضية)، وهو
في الحقيقة شاهد على تقريب الإتجاه الثاني.
6ـ
تجاهله لنص صاحبه الذي ورد في كتاب "الحوار في القرآن" وهو نص صريح بأن
إبراهيم (ع) كان معتقداً بألوهية الكواكب لكنه ، وبحسب صاحب "الحوار
في القرآن" ، كان اعتقاداً طارئاً وسريعاً.
7ـ
إفتراؤه على العلامة مكارم الشيرازي عندما اعتبر أن كلامه له نفس
دلالات كلام صاحب "من وحي القرآن" من حيث أنه يفيد في ظهوره الأولي،
إعتقاد إبراهيم (ع) في ألوهية الكواكب.
8
ـ إعتباره أن تفسير الإمام الرضا (ع) لقول إبراهيم بالإستنكار من أضعف
الآراء في المسألة.
9
ـ تجاهله لوصف صاحبه لإبراهيم (ع) بالسذاجة رغم أن العلامة المحقق قد
وضعها في أول العناوين.
10
ـ تشويهه لرأي العلامة الطباطبائي (قده) المتعلق بقصة إبراهيم (ع).ثم
إعتباره أن ما ذكره صاحب "من وحي القرآن" يوافق ما ذكره العلامة
الطباطبائي (قده).
11
ـ تحريفه لرأيي شيخ الطائفة الطوسي والشيخ الطبرسي (رحمهما الله).
59-وهذا
الإفتراء والتضليل من الكاتب على العلامة المحقق سيظهر بوضوح في
حديثه عن موسى (ع) وقتل القبطي ؛حيث إعترف هناك بأن العلامة المحقق
إعتبر قضية إبراهيم (ع) بأنها أسلوب من أساليب الحوار الذي كان
يهدف منها إبراهيم (ع) محاججة قومه. وسيأتيك تفصيل ذلك في الفصل
السابع من كتابنا هذا.
|