الفصل الرابع النبي موسى (ع) والعبد الصالح

     

بسم الله الرحمن الرحيم

 (ومن أظلم ممن ذكّر بأيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً)(1).

 (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين)(2)

 

الآيات القرآنية:

 (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا* فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن اذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا * فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا)(3).

 

العناوين المشكلة:

44ـ موسى (ع) ينكث العهد.

45ـ موسى (ع) غير منضبط.

46ـ خطأ موسى (ع) في موقفه.

47ـ موسى (ع) لا يستفيد من التجربة الخاطئة الأولى.

48ـ موسى (ع) لم يفهم الحدث ولم يفكر.

49ـ علم الأنبياء والأئمة (ع) محدود بحدود مسؤولياتهم.

50ـ نسيان موسى (ع).

51ـ النسيان حالة اضطرارية.

52ـ موسى (ع) في دورة تدريبية.

53ـ عدم أهلية موسى (ع) لمرافقة الخضر"(4).

 

النصوص المشكلة:

".. وأحس موسى بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية ونكثه بالعهد، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني لأنني لن أكون أهلاً لمرافقتك فيما يمثله ذلك من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك".

"وها هو يعود إلى الإخلال بكلمته من جديد".

".. (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا) ولماذا لم تستفد من التجربة الأولى التي عرفت فيها خطأ موقفك في اهتزاز مشاعرك أمام الحدث الذي لم تفهمه، ولم تفكر بأن من الممكن أن يكون له وجه آخر".

"ففي قصة الخضر هو العبد الصالح، هي أن الله أراد أن يدخل موسى في دورة تدريبية.. حتى يفهم الجانب الثاني من الصورة".

"أما هذه الجوانب فلا دليل على ضرورة إحاطته بها، ولا يمنع العقل أن يكون لشخص حق الطاعة في بعض الأمور التي تحيط بها على الناس الذين يملكون إحاطة في أشياء أخرى لا يحيط بها، ولا تتعلق بحركة المسؤولية، وربما كانت هذه القصة دليلاً على صحة هذا الرأي الذي نميل إليه".

"قال لا تؤاخذني بما نسيت من عهدي لك، هذا موقف ثان للنسيان يعيشه موسى في ذاته، لأن النسيان حالة اضطرارية لا يملك الإنسان معها عنصر الإختيار"(5).

ونتابع مع "الكاتب" في وقفاته، وحسبك في هذا المورد تجاهله الكلي للعناوين والنصوص المشكلة التي أوردها العلامة المحقق في كتاب "خلفيات"، والتي تعبر عن مقولات صاحبه محط النظر ومورد الإشكال.

على أننا لا ندري، ولعل غيرنا يدري، كيف يمكن أن يؤدي هذا "الكاتب" مهمته في إثبات عدم مخالفة مقولات صاحبه للمذهب، وأن يثبت أنها مما أجمع عليه المفسرون منذ عصر الشيخ الطوسي (قده) دون أن يعرض لها أو يأتي على ذكرها؟!.

وأنى له ذلك وقد انفرد صاحبه بها، وأصر على تبنيها في الطبعة الجديدة لكتابه "من وحي القرآن" رغم وضوح مخالفتها لما عليه المذهب. ولا يتوقف هذا الأمر على خصوص هذه المقولات في هذا المورد بالذات بل يتعداه ليشمل كل الموارد الأخرى..

ومهما يكن من أمر فإن هذه المقولات التي تقدم ذكرها واضحة في الشكل والمضمون وصريحة في المعنى والدلالة وظاهرة في المخالفة ولن ينفع "الكاتب" دس رأسه في التراب..وسنأتي على ذكرها حينما نستعرض ما قدمه "الكاتب" في هذه الوقفة التي أظهر فيها فنوناً من التحريف والتزوير والتضليل لم نفاجأ بها. ولا نبالغ إذا قلنا إننا لم نكن ننتظر منه غير ذلك.. وقديماً قالوا: إن لم تستح فافعل ما شئت.

وفيما يلي نشير إلى ذلك وغيره خلال معالجتنا للعناوين التي تعرض لها والمواضيع التي أثارها:

 

نسيان موسى عليه السلام

يستعرض "الكاتب" في معرض حديثه عن قوله تعالى: (قال لا تؤاخذني بما نسيت) آراء ينسبها للعلماء زوراً وبهتاناً كما هو دأبه بعد تحريف أقوالهم لتنسجم مع أهوائه وأهواء صاحبه الذي يدافع عنه.

 

أ ـ  التحريف الأول : كلام  العلامة  المحقق:

إن أول ما طالعنا به "الكاتب" من تحريفات هو تحريفه وافتراؤه على العلامة المحقق حيث زعم أنه (أعزه الله) يرى: "أن من الجرأة تفسير قول موسى (ع) هذا [لا تؤاخذني بما نسيت] بمعنى: بما نسيت من عهدي لك. وفسرتم(مخاطباً العلامة المحقق) النسيان بمعنى الترك ليكون معنى الآية: (لا تؤاخذني بما نسيت) أي: بتركي العمل في المورد الذي كان علي أن أهمل الوعد فيه.. إذ لا يجوز لي في هذا الموقف إلا أن أبادر للردع عن المنكر الظاهر"(6).

ولا ندري من أين جاء "الكاتب" بهذا الكلام الذي نظن أنه من عندياته ومن مخيلته الواسعة..

ومهما يكن من أمر فإن الذي قاله العلامة المحقق هو:

"إذا كان ثمة وجه صحيح ومعقول، ومنسجم مع دلالات الآيات القرآنية، فلماذا اللجوء إلى تفسير الآيات بطريقة توجب الشبهة وتوقع في المحذور"(7).

ثم عمد العلامة المحقق إلى تقديم عرض موجز لتفسير الآيات  "دون أن يكون ثمة أي محذور عقائدي"(8)، كما قال، ثم ذكر أن: "من الواضح أن نسبة النسيان وبهذا المعنى إلى موسى تعني نفي العصمة عنه من هذه الجهة كما أن موسى لم ينكث العهد"(9).

فالعلامة المحقق دقيق، لم يدع أن من يفسّر معنى النسيان بأنه ما يقابل التذكر يقول بنفي العصمة مطلقاً،  إنما هو نفي لها من هذه الجهة، أي جهة النسيان.

إذ من المعلوم أن علماء الإمامية يعتبرون أن من الموارد التي تشملها العصمة هي النسيان. و(السيد) فضل الله نفسه يدّعي القول بالعصمة على جميع المستويات رغم أنه ينسب إليهم ما ينسب مما لا يبقي من العصمة شيئ.

وعلى أي حال،  فمن ينسب إليهم النسيان ينفي العصمة عنهم من هذه الجهة وسيأتي تفصيل ذلك بعد قليل.

وليلاحظ القارئ الكريم استنكار العلامة المحقق على صاحب "من وحي القرآن" اعتباره أن موسى (ع) قد نكث بالعهد، هذا التعبير الذي جعله العلامة المحقق في أول العناوين المشكلة التي وضعها فراجع(10).

لكن "الكاتب"، وكما هو ديدنه، عمد إلى تجاهل هذا التعبير وتعامى عن هذه المقولة بل تهرب منها رغم كونها مورد الإشكال.

.وليخبرنا "الكاتب" هل وصف موسى (ع) بأنه نكث بالعهدـ ولا يخفى شناعة وفظاعة هذا الوصف وهو من المعاصي إجماعاًـ هو مما يكاد يجمع عليه العلماء؟! على حد تعبيره.

وليخبرنا أيضاً هل أن تنزيه الأنبياء عن نكثهم بالعهد هو "اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) في ميزانه"(11) كما يدّعي؟!.

 

ب ـ التحريف الثاني: رأي الشيخ الطوسي (قده):

ويستشهد "الكاتب" بقول الشيخ الطوسي (قده) الذي ينقل عنه في تبيانه "ثلاث معاني للنسيان أحدهما: "بما غفلت من النسيان الذي هو ضد الذكر"(12).

وهذا منه غريب وعجيب ولا يخلو من طرافة؛ حيث يبدو أنه يريد أن يقنعنا بأن الشيخ الطوسي يلتزم بكل ما نقله من معان للنسيان.. وهذا مما لم يسبقه إليه أحد لا من الأولين ولا من الآخرين..

ولا يخفى أن قول الطوسي (قده): "وقيل في معنى النسيان ثلاثة معان.." لا يعني أنه يلتزم بها معاً. كيف وأحد هذه الأقوال بمعنى الغفلة التي هي ضد الذكر الأمر الذي يتنافى مع معنى الترك الذي لا يتم إلا مع الإلتفات.

اللهم إلا أن يقول "الكاتب" إنه إنما أورد كلام الطوسي ليشير إلى أن أحد معاني النسيان هو الغفلة؟!!!.

فإن كان كذلك، فلا يخلو الأمر من طرافة أيضاً حيث لا أحد يناقش في أن أحد معاني النسيان هو الغفلة إنما النقاش حول معنى النسيان الوارد في الآية.. ثم أن السياق لا يؤيد ذلك حيث أورد ذلك في مقام الإستدلال بآراء العلماء المؤيدة لما يذهب إليه صاحب من وحي القرآن وسيأتي تفصيل ذلك.

وإن قيل إن ذكر الطوسي للمعاني الثلاثة دون ترجيح أحدها على الآخر إنما يستفاد منه عدم اختيار الطوسي لأي منها.

قلنا: الكلام حول ذلك يحتاج إلى تفصيل:

1ـ إن كان الأمر كذلك فلماذا جعل "الكاتب" الشيخ الطوسي (قده) في زمرة من يؤيد مقولة النسيان بمعنى الغفلة حيث يقول بعد استعراض رأي الطوسي (قده) وجملة من العلماء:

"ولهذا فإن ما قاله "السيد" يوافق ما قاله أعلام التفسير الشيعة منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا"(13)

2 ـ إنما كان الطوسي (قده) في مقام عرض المعاني اللغوية للنسيان لا عرض خصوص المعنى المقصود في الآية.

3 ـ وعلى كل التقادير فإن لم يظهر من الشيخ الطوسي (قده) رأيه هنا في معنى النسيان فذلك بسبب وضوح رأيه في المسألة أصلاً وهو القائل بتنزيه المعصوم عن النسيان وذلك بشواهد عدة منها:

* تفسيره للنسيان المنسوب لآدم (ع) بالترك وقد مر ذكره في الفصل الأول فراجع.

* تصريحه في كتبه الإعتقادية بتنزيه المعصوم عن النسيان(14).

 

ج ـ التحريف الثالث: رأي الشيخ الطبرسي (قده):

أما عن رأي الشيخ الطبرسي (قده) فينقل عنه "الكاتب" من مجمع البيان مقولته في معنى النسيان: "أي غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك وهو من النسيان الذي ضد الذكر وقيل بما تركت.. وعلى هذا فيكون النسيان بمعنى الترك لا بمعنى الغفلة والسهو"(15)

ثم يعلق "الكاتب" بقوله: "ولا يخفى أن الشيخ الطبرسي يختار النسيان بالمعنى الأول ويضعف المعنى الثاني بكلمة "قيل"(16).

وهنا نتوقف عند عدة مفارقات:

1ـ لاحظ كيف أن "الكاتب" قد التفت هنا إلى أن كلمة "قيل" تفيد التضعيف لكنه تجاهلها في أماكن أخرى كما تقدم في الفصول السابقة.

2ـ في محاولته لإثبات أن الطبرسي (قده) ممن يقول بنزول سورة "عبس" بالنبي الأكرم يقول بعد استشهاده بكلام الطبرسي (قده) من كتاب (جوامع الجامع):

"ومن المعلوم أن تفسير جوامع الجامع يعتبر الكتاب التفسيري الأخير الذي كتبه الطبرسي، بعد سبع سنوات من تفسيره "مجمع البيان" وقد جاء متضمناً خلاصة آرائه التفسيرية ونظراته القرآنية"(17).

وعليه نسأل "الكاتب": إن كان كتاب "جوامع الجامع" هذا حاله فلماذا تجاهل رأي الطبرسي فيه فيما نحن فيه من مقولة النسيان واقتصر استشهاده على "مجمع البيان"؟!.

والسبب واضح لأن الطبرسي صرّح في "جوامع الجامع" بما نصّه: "ويجوز أن يريد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك"(18).

فالشيخ الطبرسي إذاً "يجوّز" أن يكون النسيان بمعنى الترك فكيف يدعي "الكاتب" أن تفسير النسيان بمعنى الترك مما يضعفه المفسرون الشيعة..

أليس الإقتصار على كتاب مجمع البيان وتجاهل كتاب جوامع الجامع مع ما ذكر "الكاتب" من أن هذا الأخير يمثل خلاصة آراء الطبرسي (قده) هو بمثابة التحريف- لا أقل من وجهة نظر الكاتب- لرأي الشيخ الطبرسي (قدس سره).

 

د ـ التحريف الرابع: رأي السيد المرتضى (علم الهدى) (قده):

وفيما يتعلق براي السيد المرتضى (قده) فلا يختلف ما إقترفه "الكاتب" برأيه عما فعله برأي الشيخ الطوسي (قده). ومع ذلك فلنتوسع قليلاً هنا، فإن في ذلك فائدة عامة.

لا يخفى على كل متأمل باحث، مدى دقة وحساسية الأوضاع والظروف التي عايشها علماؤنا في القرن الرابع والخامس من الهجرة، لا سيما مع شيوع نحلة أهل الحديث، وتعاطي هؤلاء، مع الأمور بمنتهى القسوة والغلظة وخاصة بعد إنحسار موجة الإعتزال.

وقد حفل التاريخ بأخبار المآسي والمجازر التي تعرض لها الشيعة الأبرار حيث لم تكن حادثة الكرخ ببغداد سنة 362 هـ أولها كما لم تكن حادثة الكرخ الثانية سنة 408 هـ آخرها.

هذا وقد حدثنا التاريخ أيضاً انه:" في سنة ثمان وأربع مائة استتاب القادر بالله أمير المؤمنين لفقهاء المعتزلة والحنفية، فأظهروا الرجوع، وتبرأوا من الإعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الإعتزال والرفض [التشيع] والمقالات المخالفة للإسلام وأخذ خطوطهم بذلك، وانهم متى خالفوه حل بهم من النكال، والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم. وامتثل يمين الدولة، وأمين الملة أبو القاسم محمود أمر أمير المؤمنين في خراسان وغيرها في قتل المعتزلة، والرافضة [الشيعة] والإسماعيلية، والقرامطة، والجهمية، والمشبهة، وصلبهم، وحبسهم، ونفاهم، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع، وطردهم عن ديارهم وصار ذلك سنة في الإسلام"

وقال ابن دقماق: "وصلب من الروافض، والزنادقة، والمعتزلة أعيانهم"(19).

ولهذه الأسباب التي لا تخفى على باحث متأمل، وبسبب الجدالات الحادة التي كانت تقع في مختلف المجالات الكلامية، وما ينتج عنها من اتهامات بالتكفير والغلو وغيره انصب اهتمام علمائنا الأبرار على محاولات إبعاد تلك المآسي بالتقية تارة واستعراض الآراء المختلفة في القضايا الإعتقادية أخرى، وبالتلميح إلى الرأي المعتبر عند الإمامية دون التصريح ثالثة إلى غير ذلك من أساليب اقتضتها تلك الأوضاع والظروف. ومن هنا صرّح العديد من العلماء بأنه ينبغي حمل بعض ما جاء في كتب علمائنا على التقية، كما ينبغي التأمل في كتب الأقدمين لإستظهار الرأي الصحيح من الفاسد.

وفي هذا السياق يمكن لنا أن نفهم ما يذكره علماؤنا في كتبهم المختلفة، كذكر الطوسي في تفسيره التبيان رأي الحسن البصري أو قتادة أو مجاهد وغيرهم..

ولا يخرج ما ذكره السيد المرتضى (قده) عن هذا السياق.. والمراجع للسؤال الذي أورده حول هذا المبحث سيجد ما نصّه:

".. وما معنى قوله: لا تؤاخذاني بما نسيت وعندكم أن النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام"(20).

حيث أجاب السيد المرتضى (قده):

"وأما قوله: (ولا تؤاخذني بما نسيت) فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة: أحدها: أنه أراد النسيان المعروف، وليس ذلك بعجب مع قصر المدة، فإن الإنسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.

 والوجه الثاني: أنه أراد لا تأخذني بما تركت. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي" أي ترك، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن ابن أبي كعب عن رسول الله

(ص) قال: "قال موسى لا تؤاخذني بما نسيت" يقول: "بما تركت من عهدك".

والوجه الثالث: أنه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسياناً للمشابهة..

وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها. وإذا حلمناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه أن النبي إنما

لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه"(21).

وقد مر في تعليقنا على كلام الطوسي (قده) ما يمكن إيراده هنا أيضاً فنقول مع بعض الإضافات:

1ـ من الملفت أن السيد المرتضى (قده) جعل عنوان بحثه هو: تنزيه موسى (ع) عن النسيان، فالقول بأنه (قده) يلتزم بالمعنى الحقيقي للنسيان فيه تعسف واضح.

2ـ قال السيد المرتضى (قده) قبل استعراضه للمعاني الثلاثة أنه ذكر في معنى النسيان وجوهاً ثلاثة، ثم ساق المعاني.

ومن الواضح أن قوله عن المعنى الأول بأنه ليس بعجيب مع قصر المدة.. ليس قوله على الحقيقة وإنما هو قول من ذهب إلى هذا المعنى ويؤيده قوله: "لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك"، لأن شغل قلب الأنبياء بغير الله لا يقول به الإمامية وهو مما يتنزه عنه المعصوم.

هذا وقد جاء في الروايات عن أهل البيت (ع) أن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم.

3 ـ الأرجح أن السيد المرتضى (قده) يلتزم بالقول الثاني لتأييده بقوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي..) وهذه الآية لم يتعرض لها السيد المرتضى (قده) في تنزيه آدم (ع) والإستشهاد بها هنا لدلالتها التي لا تخفى.

4 ـ لا شك أن حديث السيد المرتضى (قده) عن كون النبي إنما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه، إنما ساقه (قده) على سبيل التنزل وهذا معنى قوله:

"وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها، وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه.."

إذ من الواضح أن من يرفض حمل النسيان على المعنى غير الحقيقي ويلتزم بالحقيقي منه لا بد له إذا كان معتقداً بالعصمة أن يحصر النسيان في غير التبليغ.  وبمعنى آخر إذا ثبت أن النسيان هنا يقصد به المعنى الحقيقي وأن لا وجه آخر فلا بد من القول بما قاله السيد المرتضى (قده)، لكن ذلك بعيد إذ النسيان بمعنى الترك شائع مستعمل متأيد بالقرآن كقوله تعالى:(وكذلك أتتك أياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) وغيرها.

5 ـ بل ويمكن استظهار رأي السيد المرتضى من السؤال نفسه وقد مر أن السؤال جاء فيه: "وما معنى قوله لا تؤاخني بما نسيت وعندكم أن النسيان لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام".

ومن الواضح أن كلمة "عندكم" يقصد بها الإمامية القائلون بالعصمة، ويستظهر منها أن تنزيه المعصوم عن النسيان هو من خصوصيات مذهب الشيعة، ولو كان السيد المرتضى يتبنى حمل النسيان على المعنى الحقيقي لاكتفى بالقول: إننا لا نجوز النسيان على الأنبياء فيما يؤديه عن الله تعالى، أما في غير ذلك فلا مانع منه!! ولم يكن بحاجة لذكر هذه الوجوه..

وعليه، فيكفي إقرار المرتضى بما في السؤال وهو بصدد الإجابة عنه ليدل على أن الإمامية يقولون بنفي نسبة النسيان عن الأنبياء، وأنه (رحمه الله) ملتزم بذلك.

لكنه (قده) لم يفعل ذلك، وإنما ذكر معاني النسيان ثم ساق تنزيهه للنبي وفق المعنى الحقيقي على سبيل التنزل.

6 ـ إن السيد المرتضى (قده) لم يكن قطعاً في وارد الإلتزام بهذه المعاني الثلاثة للنسيان، كيف والمعنى الأول ينافي ويناقض الثاني والثالث.

ومن هنا لا بد من التدقيق بكلامه (قده) لمعرفة رأيه النهائي:

ولو أغفلنا النظر عن جميع ما تقدم، فلا أقل من أن يكون كلام الشريف المرتضى مجملاً ولا يصح الإستدلال به على ترجيح أي من الأقوال، حيث انه يكون قد إنصرف عن إبداء رأيه في هذا المورد واكتفى بإستعراض أقوال الآخرين، ولا معنى للإستدلال به من الأساس.

فإذا اتضح رأي السيد المرتضى (قده) والطوسي (قده) وهو رأي علماء المذهب- خلا الصدوق الذي ذهب الى السهو وحمل على الإسهاء-  اتضح معه أن من خالف هذا المعنى وحمل النسيان على المعنى الحقيقي يكون بذلك قد خالف الإمامية في تنزيه المعصوم عن النسيان.

والكاتب نفسه ذكر انه دعى "السيد العاملي إلى أن يأتي على المقولات الخاطئة فعلاً أو المخالفة للمشهور والإجماع"(22).

على أنّ حمل النسيان على معناه الحقيقي يخالف دلالات ظاهر الآيات ؛ حيث إن تعلل موسى (ع) بالنسيان لو كان يقصد به الغفلة، أي ما يقابل التذكر، للزم منه أنه لو لم يكن ناسياً لما اعترض، لكنه اعترض ثانية وثالثة، ولم يكن ناسياً.. ومن يدعي أنه في اعتراضيه الاخيرين كان ناسياً اتهم النبي (ع) بما لا يقبل به أقل الناس، لأن ذلك يعني: أنه عليه السلام كثير النسيان. ولو كان النسيان جائزاً عليهم لما جوزنا كثرته الى هذا الحد وبهذا الشكل !!

والسيد المرتضى (قدس سره) قد قال أن الأنبياء منزهون عن النسيان الذي يقتضي التنفير عنه، ويجمع العلماء على تنزههم عن فعل القبائح ولو نسياناً..

أضف إلى ذلك أن موسى (ع) كان قد عاهد الخضر (ع) على عدم الإعتراض كما يصر "الكاتب" على ذلك.

ومع ملاحظة أن النكث بالعهد من القبائح بل من المعاصي التي إن لم تكن من الكبائر فهي من الصغائر ومع الإصرار عليها تصبح من الكبائر..أو على الأقل من المنفرات، لكونه عملاً قبيحاً بلا ريب، فكيف أصرّ (ع) على هذا النكث ثانياً وثالثاً.

يتحصل لدينا أنه لا بد من حمل النسيان على غير المعنى الحقيقي لأنهم منزهون عنه.. فالنسيان هو الترك ولما لم يكن يصح على المعصوم أن يكون قد ترك العهد عمداً لأنه "نكث" كان لا بد من القول إن موسى (ع) لم يكن قد عاهد الخضر مطلقاً، بل قيده بالمشيئة.. وتقييد العهد بالمشيئة يؤول بشكل أو بآخر إلى ما ذهب إليه العلامة المحقق من أنه (ع) لم يعاهده على السكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة. لأن موارد المخالفة مما لا يتعلق بها عهد، إذ ليس لموسى (ع) ولا لغيره أن يعاهد على السكوت على ما فيه مخالفة للحكم الشرعي، وبالتالي فهو خارج تخصصاً.

 

هـ ـ الإفتراء على الإمام الخميني (رحمه الله)

يعلق "الكاتب" على قول العلامة المحقق حول النسيان، بأن المراد به هو الترك والإهمال بقوله:"وهكذاـ بكل بساطة تحسمون الأمور بمسألة لم يستطع أكبر المفسرين من القدماء والمعاصرين أن يحسمها ويقطع بها"(23).

ثم يدوّن "الكاتب" في الهامش ما نصه:

"من معالم المنهج التفسيري عند الإمام الخميني (قده) هو "الإحتمالية" أي أنه لا يجزم فيما يذهب إليه من تفسير للآيات المباركة، لأنه يرى أن التفسير الذي يحدد مراد الآية على نحو الجزم والحسم هو من مصاديق التفسير بالرأي المذموم.. ولهذا فإنه أكد مراراً وتكراراً قبل شروعه في دروسه التفسيرية لسورة الفاتحة احتمالية ما يقوله من دلالات ومعاني للآيات المباركة"(24).

ماذا يسعنا أن نقول أمام هذه المقارنة بين ماينسبه الكاتب  الى العلامة المحقق وبين ماينسبه الى الإمام الخميني؟! وهل ينطبق كلام الإمام (قده) على ما ينسبه على العلامة المحقق؟!.

وبماذا يمكننا أن نصف هذه المفارقة؟! أهي ظرافة أم طرافة أم شيء آخر؟!..

فلندع الحكم للقارئ على هذه المقارنة، بعد أن نبين تهافتها، والتوصيف لها  بعد أن نبين سخافتها فيما يلي:

1ـ لقد وجه "الكاتب" للإمام الخميني (قده) إهانة عندما استشهد بكلامه في هذا المورد، لأنه استغله في غير الإتجاه الذي أراده (قده) منه، حيث الأمر يختلف بين مورد ومورد، فمن يفسر سورة الفاتحة،مثلاً، ويدعي أن ما يقدمه من تفسير هو الصحيح ويقطع في ذلك في مختلف مواردها كان تفسيره بالرأي المذموم..

فمن ذا الذي يمكن أن يقطع بأن رأيه هو الصحيح في:

ـ باء البسملة.

ـ ومتعلق البسملة.

ـ والمقصود من بسم الله.

ـ والمقصود من الرحمن.

ـ والمقصود من الرحيم.

ـ والفرق بين الرحمن والرحيم.

ـ سبب وعلة الإبتداء بالحمد دون الشكر مثلاً.

وغير ذلك من أسئلة كثيرة.

هذا النوع من الآيات وما شابهها هو الذي يشير إليه الإمام الخميني (قده).

فهل يريد "الكاتب" أن ينسب للإمام الخميني (قده) القول بإحتمالية التفسير في كل الآيات القرآنية وعلى كافة مستويات معانيها ودلالاتها..؟!.

وهل يريد أن ينسب إلى الإمام الخميني (قده) بأنه لا يقطع ولا يجزم بأنه لا يقصد بكلمة "اليد" في قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) تلك اليد الجسمانية المادية.. وأنه إنما يقول ذلك على سبيل الإحتمال؟!. وبالتالي إحتمال أن تكون " يد الله " جسمانيه؟!!

كما يريد أن ينسب إليه (قده) بأنه لا يقطع ولا يجزم بأن قوله تعالى: (ثم استوى على العرش..) وقوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) لا يقصد به ذلك الكرسي المرصع بالجوهر الشائع بين الملوك والقياصرة والأباطرة.. وأنه إنما يقول ذلك على سبيل الإحتمال؟! و بالتالي إحتمال أن يكون " العرش " هو العرش المادي؟!. 

أم أنه(قده) لم يقطع ولم يجزم بأن إبراهيم نبي الله وخليله لم يعبد الكوكب والقمر والشمس.. ولم يجزم ولم يقطع مطلقاً في مثل هذه الموارد لأن القطع والجزم على أي حال تفسير بالرأي المذموم! و بالتالي إحتمال عبادة خليل الله إبراهيم (ع) للكواكب و النجوم؟!

وماذا عن قوله تعالى ( قل هو الله أحد) فهل تكون دالة على الشرك باعتبار إحتمالية دلالتها على التوحيد لا الجزم بذلك، وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) وقوله (لا أعبد ما تعبدون) وقوله (من عمل صالحاً فلنفسه)، و(ماذا بعد الحق إلا الضلال) و(أفمن يهدي الى أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يُهدى) وقوله (ولا يغتب بعضكم بعضاً)، وقوله (لا إله إلا الله) فهل يريد الكاتب القول بإستحالة الجزم بمعنى هذه الآيات وأن ثمة إحتمال أن يغفر لمن يشرك به أو أن يعبد النبي ما يعبدون وأن يغتب الناس بعضهم بعضاً وأن يكون ثمة إله غيره وهكذا...

ألا يوجد ثمة قيد أو ضابطة أو معيار آخر يسمح بالقطع والجزم ويمنع من التفسير بالرأي المذموم؛ ينفي، بناء عليه، هذا الإحتمال، أو يثبت، بناء عليه، ذاك الإحتمال، أو على الأقل يستبعده أو يستقربه لوجود قرائن تدل عليه وشواهد تعيّنه..؟!.

ألا يعني ذلك أن كل تفسير يبقى محتملاً مع فقدان القيد والضابطة والمعيار وغياب القطع والجزم؟!.

ولماذا إذن كل هذه الضجة حول معنى النسيان طالما أن نفي أي احتمال أو إثباته أو القطع والجزم به سلباً أو إيجاباً مع غياب القيود وفقدان الضوابط والمعايير يعتبر تفسيراً بالرأي المذموم؟.

بعد ما مر نسأل "الكاتب" هل هذا ما فهمه من كلام الإمام الخميني (قس سرده)؟!.وهل يصلح تطبيق كلامه (رحمه الله) على ما نحن فيه؟!!.

يتضح مما مر أن ليس كل تفسير ينبغي جعله على نحو الإحتمال دون الجزم بل لا بد من الجزم في بعضها.

نعم، مع ملاحظة أن لمعاني الآيات مراتب طولية لا بد معها من عدم الإدعاء بأن المراد هو هذا المعنى لا غير. لكن لا يتعارض ذلك مع الجزم، لوجود فرق بين الجزم بمعنى من المعاني دون استبعاد غيره والجزم مع الإستبعاد وهو معنى قول الإمام الخميني (قدس سره): " ولن أقول بأن المراد هو هذا لا غير"(25) لأن من شروط وخصوصيات المراتب الطولية للتفسير، أن التفسير الأعمق (البطن) ينبغي أن لا يتعارض ولا يتناقض مع التفسير الأقل عمقاً وإنما يستوعبه ويشمله.

ومن هنا يمكن الجزم بهذا المعنى من المعاني للآية دون أن يعارض ذلك وجود معاني أخرى، بل يمكن الجزم بعدة معاني للآية دون أن يكون بينهما تعارض وتنافر وهو معنى قول العلامة الطباطبائي (قده) الذي مر ذكره في تعليقه على رواية الإمام الرضا (ع) المتعلقة بإبراهيم (ع) حيث قال (قده): إنه وجه من الوجوه ولا ينافي صحة غيره.

من هنا تبدو الإحتمالية في التفسير ضرورية في مراتبها الطولية، أما في المراتب العرضية فينبغي التوقف والحذر حيث لا يصح احتمال معنيين متعارضين متنافرين.

وعليه فإن من يقول بأن المراد بالنسيان هو الترك لا يستقيم قوله هذا مع القول بأن المراد به هو الغفلة.

أضف إلى ذلك، أن الآيات المتعلقة بالحوادث التي وقعت أو المتعلقة بتنزيه الأنبياء عن القبائح، وكل ما يؤدي إلى نسبة الجهل والنقائص إليهم، مما لا بد من الجزم والقطع بعدم صحة ما قد يفهمه بعضهم منها واستبعاده وتوهينه، إذ الأدلة العقلية حاكمة على الظهورات اللفظية على حد تعبير الشيخ الطوسي (قدس سره).

2 ـ إن كان من شروط التفسير هو "الإحتمالية" في كل الآيات القرآنية، فإن من اليسير على كل أحد أن يعمد إلى الخوض في التفسير، إذ يكفي في ذلك أن يأتي على كل آية ثم يقول يحتمل في معنى الآية هذا الرأي أو ذاك أو ذلك وهكذا.. وهذا منهج "بديع" قد أتى به "الكاتب" لم يسبقه إليه أحد لا من الأولين ولا من الآخرين.

3 ـ إن تفسير القرآن وفق "الإحتمالية" التي يصورها "الكاتب" يهدم كل ما يسمى "بالظهورات"، طبعاً في غير الموارد التي ذكرنا ان الادلة العقلية حاكمة فيها.

4 ـ إن كان مجرد الجزم برأي - من خلال الظهور اللفظي- هو من مصاديق التفسير بالرأي، فهذا يعني أن جل العلماء والمفسرين متهمون في ذلك.. ولينظر "الكاتب" فيما قدمه هو نفسه من نصوص وآراء ليدرك حجم هذا الإتهام الذي يطلقه ظلماً وجوراً باسم الإمام الخميني (قده).

5 ـ والغريب أن كتاب هذا "الكاتب" يزخر ويطفح بآراء يجزم بها في كثير من موارد التفسير.

ويا ليته طبق هذا المنهج "البديع" على نفسه قبل أن يدعو الآخرين إليه. ولم يستبعد ما قاله غيره ولم يقطع ويجزم بتفسيره بالرأي المذموم على حد منهجه، أم أن باءه تجر وباء غيره لا تجر؟!!.

وقد حذر الإمام الخميني (قده) من أمثال هذا "الكاتب" الذي يبدو أنه يحيا في عالم آخر غير عالم التفسير والمفسرين والعلم والعلماء وإن ضمن كتابه الكثير من أقوالهم وآراءهم إلى جانب اليسير مما يظن أنه فهمه منها كما بينا، نعم لقد حذّر الإمام الخميني(قده) من أمثاله بعد أن قدم لهم النصيحة بقوله:

".. لا ينبغي للذين لم يصلوا بعد إلى المستويات العالية من النضوج العلمي أن يدخلوا مضمار التفسير (والكاتب منهم)، فلا ينبغي للشباب غير المطلع على المعارف الإسلامية(والكاتب أيضاً منهم) اقتحام ميدان تفسير القرآن".

وقد وصفهم بالمتطفلين بقوله:

"وإذا حدث أن تطفل أمثال هؤلاء لغايات وأهداف ما (كما صنع الكاتب) على ميدان التفسير فلا ينبغي لشبابنا أن يولوا أهمية أو يقيموا وزناً لمثل هذه التفاسير"(26).

وـ ماذا عن مقولات (السيد) فضل الله؟!.

لنفترض تنزلاً، أن كل ما قاله "الكاتب" واستشهد به من كلام العلماء الأعلام صحيح فإلى أي مدى يصحح ذلك ما قاله صاحب "من وحي القرآن"؟!.

وما مدى صحة ادعاء "الكاتب" بأن "ما قاله السيد" يوافق ما قاله أعلام التفسير الشيعة منذ القرن الرابع الهجري وحتى يومنا هذا(27).

إن المتأمل في كلام هؤلاء الأعلام سيجد فرقاً شاسعاً بينه وبين ما جاء به صاحب "من وحي القرآن".

فعلى سبيل المثال لا الحصر نقول:

من من الأعلام تحدث عن أن موسى (ع) قد نكث بالعهد؟!.

وقد تقدم أن نكث العهد من القبائح والمعاصي التي قلنا أنها إن لم تكن من الكبائر فهي من الصغائر حتماً إلا أن الإصرار عليها حتى ارتكبها ثلاثاً يعد من الكبائر..

فهل يجوز علماؤنا بالفعل على الأنبياء ارتكاب الصغائر؟!.فضلاً عن الكبائر والقبائح؟..

فما معنى قول صاحب "من وحي القرآن": "وأحس موسى بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية ونكثه بالعهد"؟!(28)

ألا يعني أنه نكث بعهده للمرة الثانية بعد أن نكث به في المرة الأولى..؟

وثمة مفارقة طريفة وظريفة هنا، وهي أن "السيد" فضل الله حمل النسيان على الغفلة، ولا نعلم كيف يستقيم ذلك مع اتهامه لموسى (ع) بأنه نكث بالعهد إذا أن الغافل عن العهد لا يعد ناكثاً، لأن النكث لا يتحقق إلا مع الإلتفات إلى العهد؟!.

وبعبارة أخرى إن من يخالف العهد عن غفلة لا يصح وصفه بأنه نكث بالعهد لأن هذا الوصف لا يستقيم إلا مع من يلتفت إلى عهده لا الغافل عنه.

أضف إلى ذلك أن "الكاتب" نفسه ذكر أقوال الطوسي والطباطبائي والمشهدي وغيرهم الذين قالوا: "إن موسى (ع) قد قيد عهده بالمشيئة ليخرج عن كونه كاذباً"(29).

فكيف يكون كلام صاحب (الوحي) موافقاً لكلام هؤلاء الأعلام؟!

وكيف يستقيم قول صاحبه: بأن موسى (ع) قد نكث بعهده عدة مرات، مع كونه (ع) قد قيده بالمشيئة؟!!.

وليخبرنا "الكاتب" أيضاً عن قول صاحب "من وحي القرآن" بحق موسى (ع):

"ولم يفكر بأن من الممكن أن يكون له وجه آخر"(30).

فهل هذا القول أيضاً يوافق ما قاله أعلام التفسير الشيعة؟!.

وفيما يلي سنعمد إلى مقارنة كلام صاحب "من وحي القرآن" مع كلام العلماء الأعلام اعتماداً على النصوص التي جاء بها "الكاتب" نفسه لنرى هل يمكن أن يوافق كلامه كلام هؤلاء الأعلام:   

الشيخ الطوسي (قده):

يقول الشيخ الطوسي (قده): "كيف تصبر على ما لم تعلم من بواطن الأمور ولا تخبرها".

الشيخ الطبرسي (قده):

يقول الشيخ الطبرسي (قده): "كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر وأنت لم تعرف باطنه ولم تعلم حقيقته"(31).

ولا يخرج ما قاله غير الطوسي والطبرسي (قده) من العلماء عما قالاه.

والمتأمل في كلامهم يجد أنهم إنما يتحدثون عن أن موسى (ع) لم يعلم حقيقة الأمر وباطنه، ولم يتحدث أي منهم عن أنه (ع) لم يحتمل أن يكون هناك وجه آخر.

على أن اتهام نبي الله موسى (ع) بأنه "لم يفكر بأن للأمر وجهاً آخر" هو اتهام له (ع) بالجهل ذهب به صاحبه إلى أبعد الحدود.

 إذ لا يخفى على كل متبصّر أن ثمة فارقاً بين أن يكون موسى (ع) يعلم بأن وراء فعل الخضر (ع) حقيقة تصحح عمله وتبرره، وإن خالف فعله الظاهر، وبين أنه هل يعلم على وجه التفصيل حقيقته وباطنه.

إن الأمر الذي لا شك فيه، وتؤيده الآيات هو:

إن موسى (ع) كان يعلم إجمالاً ولم يكن يشك أبداً أن وراء فعل الخضر (ع) حقيقة تخالف ظاهر الأمر بشهادة تعليم الله له (قد آتيناه من لدنّا علما) وأنّ الأنبياء لا يمكن أت يطلبوا من شخص أن يتبعوه ليتعلموا منه ما لم يكن يعمل وفق تلأوامر الإلهية، ولا يعارض ذلك كونه (ع) لا يعلم هذه الحقيقة على وجه التفصيل.

ولمّا كان تكليفه الشرعي يقتضي العمل وفق الظواهر كان لا بد له من الإعتراض.

وعليه،  فإن ما ذكره هؤلاء الأعلام هو أنه لم يكن يعلم حقيقة الأمر وباطنه على وجه التفصيل، ولم يتحدثوا أبداً عن أنه(ع) لم يفكر بأنه من الممكن أن يكون لهذا الفعل وجه آخر.

وأعود وأكرر، بأن ثمة فارقاً بين أن يكون موسى (ع) لا يعلم تأويلها وبين أنه لا يعلم أن لها تأويلاً.

والطريف، أن "الكاتب" علّق على قول موسى (ع) فيما حكاه الله عنه بقوله تعالى: (قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا) علق بالقول:

"في رحلة العلم والتعليم كما هو دور التلميذ مع استاذه الذي يثق بكفاءته وحكمته وإخلاصه"(32).

إذ كيف يثق التلميذ بكفاءة استاذه وحكمته، وإخلاصه، ثم لا يحتمل أن يكون وراء فعله المخالف ظاهراً لأحكام الشريعة، تأويلاً وحقيقة؟!. فأنت قد تعلم أن ضرب وتأنيب فلان، الذي تثق بحكمته، لشخص ما له ما يبرره ولكنك قد لا تعلم هذا المبرر على وجه التفصيل.. وهكذا.

بل كيف يستقيم ذلك مع قول "الكاتب": "بأن موسى (ع) لن يصبر على ما سيشاهده من أحداث غريبة، لأنه لا يملك العلم بتأويلها".

فإن كان "الكاتب" يؤيد ما قاله صاحب "من وحي القرآن" بأن موسى (ع) لم يفكر بأن من الممكن أن يكون هناك وجه آخر للمسألة، فقد كان ينبغي عليه أن يقول: بأن موسى (ع) لن يصبر لأنه لا يملك العلم بأن ثمة تأويلاً لها، لا أن يقول: لا يملك العلم بتأويلها. لأنه وكما ذكرنا أن عدم امتلاكه للعلم بالتأويل لا يعني أنه لا يعلم بأن ثمة تأويل لها أصلاً.

ونعود للسؤال بعد الذي مر: من ذا من العلماء الأعلام قد تحدث بما تحدث به صاحب "من وحي القرآن" أو قال بمقولته: إن موسى (ع) قد نكث بالعهد عدة مرات. فلنتابع أقوال هؤلاء العلماء الأعلام:

 

الشيخ الطوسي (قده): ليخرج بذلك عن كونه كاذباً:

قال الطوسي: "أي ستصادفني إن شاء الله صابراً ولم يقل ذلك على وجه التكذيب، لكن لما أخبر به على ظاهر الحال فقيّده بمشيئة الله، لأنه يجوز أن لا يصبر فيما بعد بأن يعجزه عنه ليخرج بذلك عن كونه كاذباً"(33).

 

الشيخ الطبرسي (قده): ليخرج بذلك من أن يكون كاذباً:

وما قال الطبرسي هو عين قول الطوسي حيث يقول:

"وإنما قيد (ع) صبره بمشيئة الله لأنه أخبر به على ظاهر الحال فيجوز أن لا يصير فيما بعد بأن يعجز عنه فقال: إن شاء الله ليخرج بذلك من أن يكون كاذباً"(34).

 

ابن أبي جامع العاملي: لا خلف:

وكذلك فعل ابن أبي جامع العاملي عندما جعل تقييد الوعد بالمشيئة دليلاً على عدم مخالفة موسى (ع) للوعد حيث قال:

"وقيد بالمشيئة للتيمن أو لتجويزه أن لا يصبر لصعوبة الأمر على ما يخالف المعتاد فلا خلف"(35).

 

العلامة الطباطبائي (قده): لم يخلف الوعد:

وكذلك ذهب العلامة الطباطبائي إلى أن موسى (ع) لم يخلف الوعد وهذا نص قوله:

"وعده بالصبر لكن قيده بالمشيئة فلم يكذب إذ لم يصبر، وقوله: "ولا أعصي" إلخ عطف على "صابراً" لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضاً مقيد بالمشيئة ولم يخلف الوعد إذ لم ينته بنهيه عن السؤال"(36).

هذا ما عليه علمائنا من تنزيه موسى (ع) عن الإخلال بكلمته أو الإخلال بوعده فضلاً عن نكثه به، فكيف يكون كلامهم (قده) موافقاً لكلام صاحب "من وحي القرآن" الذي يقول:

"وأحس موسى (ع) بالحرج الشديد لمخالفته للمرة الثانية، ونكثه بالعهد، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني لأنني لن أكون أهلاً لمرافقتك فيما يمثله ذلك من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك".

ثم يقول:

وها هو يعود إلى الإخلال بكلمته من جديد"(37).

ولا يخفى أن (السيد) قد إعتبر أن موسى (ع) علق إنطباق هذين الوصفين عليه (لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة، وأنه ليس أهلاً لمرافقة الخضر ) على عدم الإعتراض، لكنه إعترض.

بعدما مر نسأل "الكاتب": هل أجمع المفسرون أو كادوا على:

جواز نسبة النكث بالعهود للأنبياء؟

أو الإخلال بكلماتهم؟

أو عدم انضباطهم أمام الكلمة المسؤولة؟

أو عدهم أهليتهم للمرافقة..؟!.

والعجيب هو إصرار "الكاتب" على أن موسى (ع) قد نكث بعهده، وأخل بكلمته تبعاً لصاحبه رغم الشواهد العديدة التي ذكرها من أقوال العلماء التي تخالف ما يحاول إثباته ولهذا تراه يقول مؤكداً:

"وبذلك يظهر جلياً أن الذي يجب أن يصبر عليه موسى (ع) ويسكت هو الأعمال التي تكون في ظاهرها منكرة، ومخالفة لأحكام الشريعة والتي لا يحيط بخبرها ولا يعلم بباطنها وحقيقتها"(38).

وهذا قول غريب لم يسبقه إليه أحد.

 

علم الأنبياء وتنجّز التكليف

إن المتأمل في الآيات الشريفة المتعلقة بقصة موسى (ع) مع العبد الصالح سيظهر له ظهوراً لا شك فيه:

1 ـ أن العبد الصالح يملك علماً لدنياً.

2 ـ معرفة موسى (ع) بإمتلاك العبد الصالح لهذا العلم، لذا استأذنه على اتباعه ليعلمه مما علّم رشدا.

3 ـ إن أساس شعار الرحلة هو العلم والتعلم.

4 ـ إن موسى (ع) كان يعلم من خلال تركيز العبد الصالح على صعوبة صبر موسى (ع)، أنه سيرى أموراً غريبة يشق عليه الصبر عليها دون أن يعني ذلك بالضرورة أنها ستكون اموراً منكرة مخالفة ظاهراً لأحكام الشريعة، لأن العبد الصالح قال له: (كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) أي كيف تصبر على ما لا تعرف حقيقته وكنهه،

ولا يعني ذلك أن ظاهره مخالف للشريعة وذلك كسلوك طريق طويل مثلاً مع وجود طريق أقصر منه، فهذا أمر غريب لكنه ليس منكراً مخالفاً لأحكام الشريعة ظاهراً.

5 ـ إن الآيات التي جعلها بعض العلماء دليلاً على جواز مخالفة الأنبياء للأولى كانت دائماً تختتم بالإستغفار، بل أنهم كانوا يجعلون من هذا الإستغفار دليلاً على هذا الإدعاء.

فإذا كان الأمر كذلك، فليكن عدم صدور الإستغفار من موسى (ع) دليلاً على عدم اتيانه بأي مخالفة للأولى.

وعليه، فإن هذه الآيات لم تكن تشير إلى صدور أي ذنب منه (ع) ولو بمستوى مخالفة الأولى، فكيف يمكن اتهامه (ع ) بأنه نكث بعهده، أوأنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة، أو أنه ليس أهلاً لمرافقة العبد الصالح، كما تحدث عن ذلك صاحب "من وحي القرآن".

 ومع هذه الإستظهارات التي ذكرناها: ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة وهو:

ما الفكرة التي تريد هذه الآيات أن تعلمنا إياها؟!.

يبدو أن الإجابات على هذا السؤال تتمحور حول ثلاث إجابات:

أ ـ إن هذه الآيات تريد أن تعلمنا أنه ينبغي على الإنسان أن يفكر بأن من الممكن أن يكون للأمر وجه آخر!!.

ولكن هذه الإجابة سطحية، ولا يوحي بها إلا الفكر "الساذج"، لأن أدنى الناس اطلاعاً يدرك أن ليس كل فعل فيه مخالفة ظاهرية تكون فيه بالضرورة مخالفة واقعية.

كما أن أدنى الناس يدرك بأن الذي يملك الحكمة، والكفاءة في الحكم فضلاً عن أن يكون الله قد آتاه من لدنه علما، إذا أتى فعلاً فيه مخالفة ظاهرية، فلا بد أن يكون وراء هذا الفعل ما يبرره ويصححه.

فكيف بنبي الله موسى (ع)؟! الذي لا يعقل أنه لم يفكر بأن من الممكن أن يكون للأمر وجه آخر؟! على حد تعبير صاحب "من وحي القرآن". خصوصاً أنه يطلب العلم من العبد الصالح الذي صدرت منه هذه الأفعال.

إن هذا النوع من المعرفة، أي أن يكون هناك وجه آخر للفعل يبرّره ويصححه، أمر مركوز في وجدان الإنسان، فكيف إذا ما كانت الآيات ظاهرة، بذلك..

وقد مرّ أن التحذيرات المتكررة من العبد الصالح لموسى (ع) بأنه لن يصبر فيها دلالة واضحة لأدنى إنسان،- فكيف بنبي الله موسى (ع)-، أنه سيشاهد في رحلته أشياء غريبة يشق عليه السكوت عنها وعدم الإعتراض عليها.

هذا فضلاً عن أن موسى (ع) إنما استأذن العبد الصالح باتباعه على أن يعلمه مما علمه الله رشداً، لعلم موسى (ع) بأن هذا العبد الصالح قد آتاه الله رحمة منه وعلمه من لدنه علماً، فهل من كان هذا حاله ويشهد عليه مقاله يمكن أن يتهمه موسى (ع) بالقتل، ولا يحتمل أن يكون لفعله تأويل؟!.

من هنا لا محيص عن القول بأن موسى (ع) كان يعلم بأن لفعل الخضر (ع) تأويلاً، وإن لم يكن يعلمه على وجه التفصيل لأسباب سنتعرض لها لاحقاً، لهذا كان اعتراضه (ع) بصيغة الإستفهام لا الإتهام.

فيتضح مما تقدم أن هذه الإجابة تتضمن اتهاماً لموسى (ع) بالجهل ذهب بها صاحبها إلى أبعد مدى وأقصى حدود..

ولا يخرج عن هذا الإطار ما نقله "الكاتب" عن بعض المفسرين وهو قولهم: "من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه، ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه"(39).

لأنه وكما ذكرنا، فإن كل مفردة من مفردات الآية تدلل بما لا شك فيه على أن موسى (ع) كان يعلم أن في الأمر سراً، وأن مبادرته للإعتراض إنما هي للمخالفة الظاهرية لهذا الفعل، لا لأنه لا يعلم بأن لها تأويلاً!

ب -  قد يقال في الإجابة الثانية عن هذا السؤال:

إن القضية تريد أن تحكم من الناحية العملية على الأحداث بعيداً عن حجية ظواهرها.

وعليه: صحيح أن موسى (ع) كان يعلم بوجود سرّ وراء فعل العبد الصالح، ولكن الآيات تريد ان تشير إلى أنه لا ينبغي الإعتراض، حتى مع عدم العلم، فكيف مع وجود العلم بأن وراء هذه الأفعال تأويلاً؛ لتنطلق القضية بأن على موسى (ع) العمل وفق هذا الأمر أيضاً، وبالتالي الحكم بحسب الواقع لا الظاهر؟.

وهذه الإجابة، وإن تخلصت من الإشكال الذي يرد على الجواب الأول، لكنها تواجه إشكالات متعددة ومحكمة يصعب على من يتمسك بها الإجابة عنها.. فلاحظ ما يلي:

1ـ إن الإدعاء بأن القصة تريد أن تشير إلى ضرورة عدم الإعتراض على ما هو مخالف ظاهراً لأحكام الشريعة حتى لمن لا يملك العلم بأن

ثمة مبرراً واقعياً وراء هذا الفعل، فكيف بنبي الله موسى (ع) الذي كان يعلم ذلك.

أقول: إن هذا الإدعاء يتضمن اتهاماً صريحاً بأن موسى (ع) أتى ذنباً، حتى ولو ادعى أحد أن هذا الذنب مما يستحق عليه العتاب لا العقاب، لأن الآية خالية تماماً حتى عن أي عتاب، كما أنها لم تشتمل على أي نوع من أنواع الإستغفار أو الإعتراف بالظلم، مما ذكر في آيات أخر، يدعي بعض المفسرين أنها دليل على اتيان بعض الأنبياء (ع) بما يخالف الأولى..

2 ـ ليخبرنا أصحاب هذه الإجابة: ما الذي خرج به موسى (ع) من هذه القصة؟.

طبعاً، لا يمكن القول بأن ما خرج به هو أن عليه أن لا يحكم بحسب ظواهر الأمور، لأن ذلك مخالف لثوابت الشرع، فإنه (ع) بقي مأموراً بالعمل بحسب الظواهر. وهذا التكليف لم يستمر معه وحسب، بل شمل كل من أتى قبله من الأنبياء، بإستثناء داود(ع)، ومن أتى بعده، بما فيهم رسول الله (ص) الذي كان يتعامل مع الناس على هذا الأساس. وقد روي عنه (ص) أيضاً أنه قال: " إنما أقضى بينكم بالبينات والإيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنما قطعت له قطعة من النار"(40).

3 ـ إن العمل وفق هذا النوع من الإجابة، أعني عدم الإعتراض على المخالفة الظاهرية، يسقط التكليف، في أكثر موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من رأس، إذ لا يحق لأي إنسان أن يعترض على أحد، لاحتمال أن يكون له مبرر واقعي. كما أنه يصير من السهل على كل إنسان أن يدعي أن ما فعله من منكر، من قتل أو غيره، إنما فعله لمصلحة واقعية..

إلا أن يقال: بإن ذلك إنما يقبل ممن علمه الله من لدنه علما! لكن ذلك لا شاهد عليه، فقد تقدم استمرار موسى (ع) بالعمل وفق الظواهر، وهو ما عمل به رسول الله (ص)، والأئمة من بعده..

ومما لا يخفى أن من فوائد عمل الأنبياء بالتكليف الظاهري هو قطع الحجة على الحكام الذين قد يحكمون العالم الإسلامي باسم الإسلام، ويدّعون لأنفسهم أن لهم ما للنبي (ص) من صلاحيات..

وهذا ما أشار إليه العلامة المحقق أيده الله عندما قال: "إن العمل لا بد أن يكون على حجة ظاهرة حتى لا يصبح ذريعة للجبارين والظالمين"(41)

4 ـ وما أشرنا إليه هو فحوى كلام أمير المؤمنين (ع) الذي جاء في حديث عبد الله بن أبي رافع وهو يروي قصة التحكيم في صفين حيث قال:

"حضرت أمير المؤمنين (ع)، وقد وجه أبا موسى الأشعري، وقال له: أحكم بكتاب الله، ولا تجاوزه، فلما أدبر قال: كأني به وقد خدع.

قلت: يا أمير المؤمنين، فلم توجهه وأنت تعلم أنه مخدوع؟.

فقال (ع): يا بني لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل"(42).

5 ـ ولا يخرج عن هذا الإطار ما يرويه لنا التاريخ عن مواجهة الإمام علي (ع) لعمر بن الخطاب الذي حاول أن ينتزع اعترافاً من الصحابة أو بعضهم بأن له أن يعمل بعلمه..

فقد جاء عن أم كلثوم ابنة أبي بكر أن عمر بن الخطاب: "كان يعسّ في المدينة ذات ليلة فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة، فلما أصبح قال للناس: ارأيتم أن إماماً راى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد، ما كنتم فاعلين؟.

قالوا: إنما أنت إمام، فقال علي بن أبي طالب: ليس ذلك لك، إذن يقام عليك الحد، إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهداء.

ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم، ثم سألهم، فقال القوم: مثل مقالتهم الأولى، وقال علي: مثل مقالته الأولى"(43).

6 ـ وعند التأمل، فإننا نجد أن ما جرى في أمر القوم من وضع يدهم على فدك، ومواجهة الزهراء (ع) لهم لا يخرج عن هذا الإطار أيضاً.

فإنهم لم يأخذوا فدكاً طمعاً بها من ناحية مالية، ولا هي طالبت بها لأجل ذلك أيضاً، وإن كانت ملكاً لها، ومن حقها أن تطالب بها من خصوص هذه الجهة، إلا أن القضية كانت عندها وعندهم أهم من ذلك بكثير، وهي قضية الخلافة والتصدي لمقام الإمامة..

فهم أخذوا فدكاً في محاولة منهم للظهور بمظهر أنهم يملكون كل الصلاحيات التي يملكها النبي (ص).لذلك كانوا يعتبرون أن التصرف في أمور تتعلق بأقرب الناس إلى النبي (ص) ربما يفيدهم في هذا المجال..

ونجد في المقابل أنها (عليها السلام) في حجتها عليهم قد ركزت، بعد أن أبطلت مزاعمهم بحقهم بالخلافة، على أن الخليفة، تبعاً لرسول الله (ص)، ينبغي عليه أن لا يعمل عملاً إلا وفق حجة ظاهرة من الكتاب والسنة.. وأن ليس له حق بمخالفة ذلك حتى وإن كان الخليفة..

كما أنها عليها السلام في استدلالها على حقها بفدك لم تكن في الأصل في مقام تعريف الناس بهذا الحكم (أعني أن الأنبياء يورثون) وإن كان ذلك من الفوائد العرضية التي تعرضت لبيانها، لأنها تعلم أن القوم لا يجهلون ذلك، وإنما ساقت أدلتها لتشير للناس بأن هؤلاء الذين تصدوا للخلافة يجهلون كتاب الله وأحكامه الشرعية وأن من كان هذا شأنه فكيف يدعي خلافة رسول الله (ص)..

من هنا نراهم، وبعد أن فشلوا في تثبيت ما حاولوا تثبيته لأنفسهم،عادوا للتمسك بالحجة الظاهرة فادعوا ما زعموا أنهم سمعوه من رسول الله (ص) بأن الأنبياء لا يورثون ما تركوه فهو صدقة..

7ـ إذا اتضح كل ما تقدم، فإن ثمة سؤالاً مشروعاً في هذا المقام وهو: ما هي الفائدة التي خرج بها موسى (ع) من هذه القضية في حياته العملية ما دام لا يزال مأموراً بالعمل وفق الظواهر والحجج والبينات؟!.

ولا ينبغي أن يفهم  من كلامنا أنه (ع) لم يتعلم شيئاً من الخضر (ع) طوال رحلته معه، إذ لا أحد يستطيع أن يدعي مثل هذا الإدعاء، لأن القرآن لم يقصص لنا كل ما جرى بينهما في رحلتهما ولا شك أنه (ع) قد تعلم منه أموراً لم يقصصها لنا القرآن.

وما نريد قوله هو: إن سؤالنا يتركز حول المقدار المقصوص علينا مما جاء في الآيات الكريمة..

وبناء عليه: يظهر عقم ما ذكره "الكاتب" من أن ما تستهدفه القصة هو الحكم " على القضايا والأحداث بعيداً عن حجية ظواهرها التي هي بمعنى التنجيز والتعذير، بل إنها تقوم على أساس الباطن المخالف للظاهر، والعلم اللدني في مقابل العلم الكسبي"(44).

وأشد عقماً منه ما تجرأ به "الكاتب" في إضافته إلى قول العلامة المحقق بأن موسى (ع) " كان تكليفه الإلهي أن يعترض وأن يسأل وأن يظهر حساسية بالغة لصالح الإلتزام بالحكم الشرعي"(45)، بإضافة: "لولا الوعد الذي أعطاه بالصبر وعدم السؤال " (46)

ولا يخفى ما في هذا القول الذي أضافه "الكاتب" على كلام العلامة المحقق من جرأة لا سيما على نبي الله موسى (ع) لأنه اتهام له بأنه قد نكث بالعهد وأخلف بالوعد وكذب به.. وقد تقدم أنه (ع) قد قيد التزامه بالمشيئة ليخرج بذلك عن أن يكون كاذباً. بل إن موسى لم يلتزم بأن لا يعترض على ما ظاهره المخالفة للشريعة، بل التزم بأن يصبر على أمور عظيمة وصعبة في الدائرة التي لا تتعرض للحكم الشرعي كما سيأتي بيانه بعد قليل.

 وهو قول الطباطبائي: "لم يخلف بالعهد" كما مرّ.

فإذا عرفنا ما في هذه الإجابات من مطاعن ومداخل ندرك أن لا محيص عن الذهاب إلى ما ذهب إليه العلامة المحقق وهو ما سيأتي في الإجابة الثالثة فإلى ما يلي:

ج- إن القول المقبول والمعقول، المنسجم مع ظواهر الآيات، والمطابق للأدلة العقلية والنقلية الناهضة بعصمتهم عليهم السلام، والمدعم بالشواهد التاريخية والفقهية، والإعتقادية: أن "الآية" لا ربط لها بعلم الأنبياء والأئمة عليهم السلام " وإنما هي ترتبط بموضوع تنجيز التكليف فيما يرتبط بالمعذرية أمام الله سبحانه لكي يكون العمل على حجة ظاهرة" وأن موسى (ع): "كان تكليفه الإلهي الإلتزام بالحكم الشرعي"(47) كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق أيده الله

 وهذه الإجابة ترفع كل الإشكالات التي وردت على ما سبق من إجابات..

وقد يسأل الكاتب،وله الحق بذلك، فإن نصف العلم السؤال:

1ـ قد ذكرتم في البداية أنه يظهر من هذه الآيات ظهوراً لا شك فيه أن أساس شعار الرحلة هو العلم والتعلم، وأن موسى (ع) إنما استأذن العبد الصالح باتباعه على أن يعلمه مما علم رشداً.. فكيف يستقيم ذلك مع الإدعاء بأن لا ربط لهذه الآية بعلم الأنبياء؟.

ونقول: إن هذا الإشكال ناشئ عن اشتباه، سرعان ما يرتفع عند التأمل. حيث إن العلامة المحقق لم يقل كما أوحى "الكاتب" بأن "لا ربط للآية بموضوع علم الأنبياء أصلاً"(48).

 أعني أن العلامة المحقق لم يذكر كلمة: "أصلاً " في كلامه فإذا كان "الكاتب" قد فهم من كلامه ذلك، فذلك يعودـ ربماـ لقصور فهمه وما كان ينبغي له أن يضيف على كلام غيره شيئاً من عنده خاصة ما لم يفهمه.

فإن العلامة المحقق لم ينكر أن يكون "للقصة" ارتباط بموضوع العلم والتعليم، وإنما الذي ينكره هو أن يكون لخصوص "هذه الآية" ربط بعلم الأنبياء والأئمةعليهم السلام،ولذلك لم يقل: لا ربط لهذه القصة، أو الرحلة، وما شابه ذلك، بعلم الأنبياء.. بل قال:  لا ربط للآية.. أي من حيث هي. لا من حيث كونها جزءاً من قصة تكون بمجملها مرتبطة بعلمهم عليهم السلام.

أما هذه الآية، فإنها ناظرة ومرتبطة بالمعذرية أمام الله سبحانه لكي يكون العمل على حجة ظاهرة.. وثمة فرق ظاهر بين الأمرين. وبين الكلامين.

2 ـ وقد يسأل أيضاً: إذا كان الأمر كذلك فلماذا جعل شعار الرحلة العلم والتعليم. إذ من نافلة القول إن موسى (ع) لا يمكن أن يرضى أو يسكت عما فيه مخالفة ظاهرية، لأن ذلك مما يقتضيه تكليفه الشرعي؟.

على أن هذا الأمر الذي يقولونه وهو (تنجّز التكليف) يمكن إظهاره مع غير الخضر (ع) ممن هو أقل شأنا منه، ولا يحتاج إلى هذه الرحلة من التعلم والتعليم؟.

والجواب: لا أحد يستطيع القول إن موسى (ع) لم يتعلم شيئاً من الخضر، إذ أن القرآن لم يقصص علينا كل ما جرى في هذه الرحلة..

وعليه: فلم يقل صاحب هذا الرأي أن أصل الرحلة، مع التأكيد على كلمة "أصل الرحلة" هو موضوع تنجز التكليف، وإظهار مدى حساسية موسى (ع) تجاه الإلتزام بالحكم الشرعي وإن كان لهذا القول وجه كما سيأتي.. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية: من الواضح أن قيام بعض الناس العاديين بما يخالف ظاهراً الأحكام الشرعية، واعتراض الأنبياء (ع) عليهم بل وزجرهم عنها لعلمهم أنهم ممن لا يملكون العلم ببواطن الأمور، لايظهر هذا القدر من امتلاك هذا النبي أو ذاك حساسية بالغة تجاه الإلتزام بالأحكام الشرعية.

ولكن الأمر يختلف جذرياً عندما يكون الشخص الذي يرتكب هذه المخالفات الظاهرية ممن يملك علماً لدنياً، ويتبعه النبي ليتعلم منه، بل ويكون الله قد أمره باتباعه ليتعلم منه؛ لأن النبي، والحال هذه، لا يحتمل، ولو بنسبة ضئيلة جداً أن ما يفعله هذا "المعلم" يخالف واقعاً الأحكام الشرعية وإن خالفها ظاهراً.. وفي هذا المورد، وعندما تكون القضية فيها هذه الخصوصيات، فإنه لا شك أن الإعتراض حينئذٍ سيكون إشعاراً ودلالة، على مدى الحساسية التي يظهرها النبي تجاه الإلتزام بموافقة الأحكام الشرعية الظاهرية.

ومن هنا تحدس، إن كنت ذا فطانة، أن موسى (ع) قد اصطدم بأمرين:

الأول : أنه مكلف ومأمور بالعمل بحسب الظاهر وهذا الأمر مجمع عليه.

الثاني: أن من يتبعه هو ممن علّم علماً لدنياً. ومن المقطوع به عنده (ع) أن لفعله حجة باطنة وإن خالفت الحكم الظاهري.

وعليه: فإما أن يسكت موسى (ع) ولا يعترض، وبذلك يخالف تكليفه الشرعي بالإعتراض على ما فيه مخالفة ظاهرية وفي ذلك مخاطر كبيرة لأنه يفتح الباب على مصراعيه للحكام الظالمين والجبارين بالتعلل بأن ما يفعلونه ينطلق من علمهم بالواقع، ولا ينبغي أن ننسى ما حاول الحكام الأمويون، لا سيما معاوية، من إستغلال قول بعض المذاهب "بالجبرية" لتبرير حكمهم وتسلطهم على الناس.  وإما أن يعترض (ع) بطريقة لا توحي بالإتهام، لذلك اعترض بصيغة الإستفهام دون أن يشكل ذلك ذنباً، أو مخالفة شرعية لحكم شرعي،لأنه قيد وعده له بالمشيئة.

ولهذه الأمور تحدث العلامة المحقق عن النجاح الباهر الذي حققه موسى (ع ) في هذا الإمتحان الذي أظهر الله سبحانه وتعالى فيه "سر اصطفاء الله له من بين سائر قومه ليكون نبياً من أولي العزم"(49) فضلاً عن إظهار أهليته لمقام النبوة والرسالة..

من هنا نقول، وإن لم يقل ذلك العلامة المحقق،: إن الأمر إن كان بمثابة الإمتحان لموسى (ع ) لإظهار مدى حساسيته تجاه الأحكام الشرعية(50) وحسب أي كون القصة أساساً تستهدف موضوع تنجز التكليف، فإن ذلك من شأنه أن يشير إلى أن جعل شعار الرحلة هو العلم والتعليم مع شخصية كالخضر (ع) يمثل تحدياً حقيقياً لموسى (ع) ولمدى إظهاره لتلك الحساسية، وبالتالي يكون الإمتحان لموسى (ع) أبلغ واشد والله أعلم.

ولكن ذلك يحتاج إلى إثبات أن الرحلة لم يكن يقصد منها سوى هذا الإمتحان، وهذا مما لا دليل عليه.

وإذا ما استطاع أحد أن يثبت بأن هذه  الرحلة إنما كانت تستهدف الإمتحان لموسى (ع) في مدى إظهار حساسيته تجاه المخالفة الظاهرية، فإن عدم علمه بحقيقة أفعال الخضر (ع) وبواطنها وحجب الله لها عنه (ع)، يصبح ضروريا،ً لأنه يرتبط بأصول وأسس الإجراءات الشكلية لهذا النوع من الإختبارات.

 وما دام لا يوجد دليل بين أيدينا على الأقل على كون القصة تستهدف هذا الأمر وحسب، فليكن عندئذ موضوع الإمتحان من جملة الأمور التي تستهدفها القصة. وإن الآية تريد أن تلحظ هذه الخصوصية، خاصة وأن القرآن حافل بشواهد كثيرة أراد الله سبحانه وتعالى بذكرها لنا أن يظهر سر اصطفائه لهم واتيانهم الحكمة والنبوة دون غيرهم..

3 ـ ليس المقصود من قول العبد الصالح: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) عدم قدرة موسى (ع) على تحمل هذا العلم، بل يراد عدم قدرته على تحمل آثاره ومقتضياته لمخالفته لما هو مكلف ومأمور به، أعني الحكم بحسب ظواهر الأمور..

وهذا ما تشير إليه رواية القمي (قده) التي ذكرها "الكاتب"(51) عن الإمام الرضا (ع) والتي جاء فيها: ".. قال من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه"(52).

ولا يخفى ما في كلمة: "ووكلت" من دلالة واضحة على كون الموكل هو الله تعالى، وبذلك يكون المراد من التوكيل هو التكليف.

وبذلك يظهر أن موسى (ع) إن كان لا يطيق العلم بحسب بواطن الأمور وحقائقها فإن ذلك يعود لكون تكليفه الإلهي هو العلم بحسب الظواهر..

كما أن العبد الصالح لا يطيق العمل بحسب الظواهر، لأن تكليفه إنما العمل بحسب الواقع وحقيقة الأمر وباطنه..

وما دام تكليف كل منهما (ع) يختلف عن الآخر، فإن الحديث عن كون الآية تتحدث عن علم الأنبياء والأئمة (ع) أو عن المقارنة بين علمهما أو عن أيهما أعلم يكون ليس في محله، إذ يصعب والحال هذه إجراء المقارنة لأن متعلق هذا العلم والإستفادة العملية مما يترتب عليه يختلف إختلافاً جذرياً. وهذا شاهد آخر على ما ذهب إليه العلامة المحقق من أن: "لا ربط لهذه "الأية" بعلم الأنبياء والأئمة"

4 ـ ولكن ثمة مفارقة لطيفة في هذه الآيات ينبغي الإلتفات إليها، وهي: أن العبد الصالح لم يحتمل أن موسى لن يصبر، بل قطع بهذا الأمر، ولذلك لم يقل له: إنك قد لا تستطيع معي صبراً أو: ربما لن تستطيع معي صبرا، وما شابه ذلك من عبارات لا تفيد الجزم بالأمر، وإنما قال: (لن تستطيع معي صبرا) بشكل جازم قاطع. ورغم علمه المسبق والقطعي بأن موسى (ع) لن يصبر ولسوف يعترض، وافق على مرافقته واتباعه له.

ولكن الملاحظ: أن الخضر (ع) إنما وافق عندما رأى أن موسى (ع) قد قيد وعده له بالمشيئة ولم يطلقه..

ولا يخفى أن علم الخضر (ع) بأن موسى (ع) سوف لن يصبر إنما هو لعلمه بأنه (ع) مكلف بالعمل بحسب ظواهر الأمور.

 

علام عاهد موسى (ع) الخضر (ع)

يدّعي "الكاتب" أن القول بعدم معاهدة موسى (ع) للخضر (ع) على الصبر على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة: "معارض لظواهر الآيات المباركة التي توضح أن موسى (ع) عاهده بذلك"(53).

ويضيف " الكاتب": أن في الآيات "دلالة على أن موسى (ع) سيشاهد أموراً غريبة، لأنه لا يحيط بخلفياتها وتأويلاتها.. وإلا فما معنى ( الخبر ) في قوله: ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا )

غير حقيقة الواقعة وتأويلها وباطنها الذي يتجاوز سطح الأحداث وظواهرها"(54).

وبهذا، يقول "الكاتب": "يظهر جلياً من القصة أن موسى (ع) قد عاهد العبد الصالح بالسكوت على أحداث ووقائع سيراها غريبة وعجيبة ومنكرة، لأنه لا يملك الإطلاع على أسرارها وأسبابها وخلفياتها.."(55).

ويتابع "الكاتب" حشد أدلته على أن وعد موسى (ع) إنما كان بخصوص الأمور المخالفة ظاهراً للشريعة فيقول:

"بل إن نهي العبد الصالح له عن السؤال لم يصدر إلا بخصوص هذه الأشياء والأمور المخالفة، والغريبة، والعجيبة وعليه أن لا يسأل مهما بدا الشيء مثيراً أو غريباً أو منكراً أو مخالفاً لظواهر الشريعة، ولحقائق الدين"(56).

ويضيف قائلاً: "فإذا كان موسى (ع) قد قبل شرط العبد الصالح بالسكوت على ما فيه مخالفة ظاهرية للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، أليس هذا وعداً بالسكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة"(57).

ثم يختم  بقوله: "وبذلك يظهر جلياً أن الذي يجب أن يصبر عليه موسى (ع) ويسكت، هو الأعمال التي تكون في ظاهرها منكرة، ومخالفة لأحكام الشريعة.."(58).

وهذه الدعوى فيها مع أدلتها وبراهينها  خلط واضح لا يخفى على متأمل، ولتوضيح ذلك نقول:

أ ـ إن قول الخضر (ع)( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) ليس فيه إشارة واضحة الى أن المقصود هو الأمور التي فيها مخالفة شرعية ظاهرية ولا الأعم منها ومن الواقعية، فضلاً عن أن يكون المقصود بها، كما ادعى "الكاتب"، هو خصوص هذه الأمور المخالفة للشريعة..

إن معنى الآية واضح، ولا ينبغي إضافة أمور لا تحتملها الآية أو استظهار مفاهيم لا تحملها ولا ظهور لها فيها.. وهذا المعنى واضح عبر عنه الطوسي (قده) بقوله:

"كيف تصبر على ما لم تعلم من بواطن الأمور ولا تخبرها"(59).

فقول الخضر (ع) لموسى (ع) لن تصبر ليس فيه دلالة على أن هذه الأمور التي لا يعلم باطنها هي بالضرورة مخالفة ظاهراً للشريعة، فإن أقصى ما يمكن أن تدل عليه، وهو أقصى حد مقبول من "الكاتب" هو قوله: أنه (ع) سيرى أموراً غريبة وعجيبة. ولكن ليس كل أمر غريب أو عجيب مخالف ظاهراً للشريعة..

فإذا كنا نريد الذهاب إلى مكان ما وسلك بنا المرشد طريقاً طويلاً شاقاً ومتعباً مع وجود الطريق الأقصر والأسهل، فإن هذا الفعل منه غريب وعجيب، إلا أنه ليس فيه مخالفة ظاهرة للشرع، ومع ذلك فقد يكون لهذا المرشد حجته، ولهذا الفعل حقيقته.. وهكذا..

ب ـ وينبغي عدم الخلط بين المعاني التي تستظهر من مجمل القصة، وبين المعاني التي تستظهر من أجزائها.

بمعنى آخر: إن القصة ذات شقين منفصلين:

الشق الأول: هو الحوار الذي دار بين موسى (ع) وبين الخضر (ع) قبل بدء الرحلة.

الشق الثاني: هو الرحلة وما جرى خلالها.

 فإذا أردنا أن نسعى لمعرفة دلالة آيات الشق الأول،- يعني ما تبادر من المعنى الى ذهن موسى (ع) -  فينبغي أن نغض النظر عن دلالات آيات الشق الثاني دون أن نجعلها تدخل في فهمنا لدلالات آيات الشق الأول. لأن الشق الثاني عبارة عن أحداث وقعت لاحقاً، وبالتالي ينبغي علينا أن نغض النظر عنها إذا أردنا أن نضع أنفسنا مكان موسى (ع) من ناحية فهم دلالات ما ذكره الخضر له، وأنه لن يصبر على ما لم يحط به خبرا.

وهذا الأمر سيجعلنا نقترب أكثر الى فهم تلك المعاني، كما نقترب من العيش في اجواء ذلك الحوار وطبيعته.

وذلك يعني أنه ينبغي علينا أن نتحسس أكثر طبيعة الحوار وخلفياته، وأجواءه وحيثياته، والعلاقة التي تربط بين موسى (ع) والخضر (ع) دون دخول أي عوامل خارجة عما حصل بعد ذلك الحوار، لأنه سوف يكون غريباً وأجنبياً عنه وسيضفيـ ربماـ بعض الدلالات التي هي ليست منه إليه..

ولما كانت هذه الأمور التي سيراها موسى (ع) والتي أخبره عنها الخضر (ع) بأنه لا يعلم حقيقتها، وأنه سيشق عليه الصبر عليها، لا يعلم موسى (ع) ما هي على وجه التفصيل، فقد قيد موسى (ع) الوعد بالمشيئة، حتى يخرج بذلك عن أن يكون كاذباً لو حصل ما

يقتضي الإعتراض، كما في مجمع البيان، وبالتالي: حتى لا يكون ممن أخلف بوعده أو "نكث به" كما عبر صاحب "من وحي القرآن"..

إذ أن موسى (ع) كان يعلم أن الخضر (ع) إنما يسير في خط الله، وما وعده به لا بد أن يكون بالضرورة مما يدخل في هذا النطاق، أما غيره فالذهن ينصرف عنه كلية. وقد مر أن ما فيه مخالفة شرعية خارج عن نطاق الوعد تخصصاً.

ج ـ ولأجل ما تقدم، ذكر الطوسي (قده) في معنى الآية: "كيف تصبر على ما لم تعلم من بواطن الأمور ولا تخبرها"(60).

أما قوله (قده): "لأن موسى (ع) كان يأخذ الأمور عن ظواهرها والخضر كان يحكم بما أعلمه الله من بواطن الأمور"(61)

 فلا شك أن الطوسي (قده) استظهر ذلك من خلال ما ظهر من رحلتهما (ع) لا من قوله: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا).

د ـ وكذلك قول الطبرسي (قده): "كيف تصبر على ما ظاهره عندك منكر، وأنت لم تعرف باطنه، ولم تعلم حقيقته"(62).

فإنه (قده) إنما قصد من كلمة "منكر" معناها اللغوي أي ما ينكره الناس أي يستغربونه، ويتعجبون منه لا المنكر بالمعنى الشرعي أي المخالف للشريعة، بقرينة قوله: وأنت لم تعرف باطنه..ألخ

ولهذا قال الطبرسي (قده) في معنى قوله تعالى (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) أي "لا تسألني عن شيء أفعله مما تنكره ولا تعلم باطنه".

وعليه: يكون قوله: "مما تنكره" أي مما لا تعرفه أو تراه غريباً ولا تعلم حقيقته..

فإذا اتضح ذلك، اتضحت صوابية قول العلامة المحقق أيده الله بأن موسى (ع):

"لم يكن قد عاهد الخضر (ع) على السكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة"(63).

وكلامه هذا أعزه الله تعبير بطريقة أخرى عن قول العلماء الأعلام بأنه (ع) قيد وعده بالمشيئة.

ومن هنا يغدو اصرار "الكاتب" على أن موسى (ع) إنما وعد الخضر بالسكوت على خصوص ما كان مخالفاً للشريعة(64)، إتهاماً خطيراً لنبي الله موسى (ع) لم يسبقه إليه أحد سوى صاحبه الذي يدافع عنه، فهو إصرار على اتهامه (ع) "بنكث العهد" على حد تعبيره وبالكذب والعياذ بالله.

بعدما مر نسأل "الكاتب":

هل هذا مما يكاد يجمع عليه المفسرون الشيعة؟!فإن هذا القول يجعل من تقييد الوعد بالمشيئة لا فائدة منه؟!.

هـ - أما استغراب "الكاتب" قول العلامة المحقق: "وحين أكد له الخضر (ع) بصورة ضمنية على أن عمله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، قبل منه ذلك، فلما تكرر منه ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض، عملاً بالتكليف الإلهي ولم يستعجل الحكم.."(65).

أقول: هذا الإستغراب لا مبرر له.

ولكن قبل أن نجيب "الكاتب" بما يرفع استغرابه، نشير هنا إلى حذف مارسه لأسباب ليست خافية سنوضحها فيما يلي:

ذكرنا في بداية هذا الفصل أن "الكاتب" لم يستعرض مطلقاً أياً من كلمات صاحب "من وحي القرآن" لعلمه القطعي بأن أحداً لم يقل ما قاله، فلم يقل أحد بقيام موسى (ع) بنكث العهد؟!

 أو أنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة؟!

 أو أنه لم يكن أهلاً لمرافقة الخضر (ع)؟!.

أما تكملة العبارة التي نقلها "الكاتب" من كلام العلامة المحقق فهي: "كان لا بد من الإعتراض عملاً بالتكليف الإلهي ولم يستعجل الحكم، ولا نكث العهد، ولا كان ذا فضول كما يقول البعض.. ولا هو يعاني من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة"(66).

وكل هذا الذي ذكره العلامة المحقق هو كلام صاحب "من وحي القرآن" لهذا السبب لم يكمل "الكاتب" العبارة..

وبعد ما تقدم نقول: إن استغراب "الكاتب" لا مبرر له ؛لأن موسى (ع) إنما قبل من الخضر (ع) تأكيده له ضمنيا،ً بعد خرق السفينة، أن فعله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، - إنما قبل منه ذلكـ في خصوص هذا المورد.

وهذا ما قصده العلامة المحقق ولذلك قال:

"قبل منه ذلك، فلما تكرر ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض".

وقد ذكرنا فيما سبق أن موسى (ع) كان يعلم قطعاً أن ليس في فعل الخضر مخالفة واقعية، وإن كانـ ربماـ لا يعلم حقيقة هذا الفعل على وجه التفصيل.

ومن هنا كان تكليفه الشرعي هو الإعتراض على ما فيه مخالفة ظاهرية، وإن كان بهذا المستوى من الإعتراض، أعني بصيغة الإستفهام.

و ـ ولأن "الكاتب" لم يدرك حقيقة هذا الأمر، ومعنى تقييد موسى (ع) لعهده بالمشيئة استغرب ما ذكره العلامة المحقق، بل راح يمعن في إظهار عدم إدراكه لهذه الأمور قائلا:

"فإذا كان العبد الصالح قد أخبر موسى (ع) بأن عمله ليس فيه مخالفة شرعية، وعليه أن يصبر حتى يعرف السر، وقبل موسى (ع) ذلك.. فكيف ينسجم ذلك مع "لا بدية" الإعتراض بقولكم(يعني المحقق العاملي): "فلما تكرر ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض، عملاً بالتكليف الإلهي كيف تتفرع هذه اللابدية من تلك المقدمة"(67).

فقد اتضح مما تقدم الجواب عن هذا الإستغراب، وأن ما قبله موسى (ع) من العبد الصالح هو تبريره للإعتراض الأول، وعندما تكررت منه المخالفة تكرر الإعتراض، كما قال العلامة المحقق، عملاً بالتكليف الإلهي القاضي بالإعتراض على ما فيه مخالفة ظاهرية.

ز ـ ومن غريب ما ذكره الكاتب في إعتراضه على العلامة المحقق هو قوله:

"فإذا كان موسى (ع) قد قبل شرط العبد الصالح بالسكوت على ما فيه مخالفة ظاهرية للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب.. أليس هذا وعداً بالسكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة؟! فكيف يكون الإعتراض وإعلان الإستنكار عملاً بالتكليف الإلهي"(68)

فإن قول العلامة المحقق: إن الخضر (ع) بعدما اعترض عليه موسى (ع) أكد له بصورة قاطعة ضمنية أن عمله ليس فيه مخالفة وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب عندها قبل منه موسى (ع) ذلك.

أقول: إن أدنى الناس فهماً يدرك أن ما قصده العلامة المحقق هو أن موسى (ع) لم يقبل بالسكوت على ما فيه مخالفة ظاهرية، كما فهم "الكاتب" وإنما قبل الإستمهال إلى حين يعرِّفه باطن الأمر، الذي حدث الآن أمامه، في الوقت المناسب، بل حتى أن قبولـه لهذا الإستمهال إنما كان بعد اعتراضه..

فقبل موسى (ع) معه هذا الإستمهال في خصوص هذا الأمر الذي أدى فيه موسى (ع) تكليفه الشرعي، ولا يشمل ذلك القبول بكل ما سيأتي من مخالفات ظاهرية سوف تصدر، كما يدعيه هذا الكاتب.

لذلك يبدو قول "الكاتب": "فإذا كان موسى (ع) قد قبل شرط العبد الصالح بالسكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة؟! فكيف يكون الإعتراض وإعلان الإستنكار عملاً بالتكليف الإلهي"(69)ـ يبدوـ غريباً  وساقطاً عن الإعتبار.

ح ـ والأغرب مما تقدم هو قول الكاتب:

"أليس معنى ذلك أن يكون الشرط الذي أعطاه العبد الصالح لموسى (ع) بالنهي عن السؤال، شرطاً مخالفاً لمقام النبوة والرسالة"(70).

إذ من الواضح أن ما قاله "الكاتب" من أن معنى ذلك أن يكون الشرط الذي أعطاه العبد الصالح لموسى (ع) بالنهي عن السؤال شرطاً مخالفاً لمقام النبوة والرسالة، هذا القول قول من لم يفقه كلام العلماء، ولا تأمل في الآيات.لأن الخضر (ع) في الحقيقة هو الذي قبل بشرط(71) موسى (ع) لا- كما توهم الكاتب- أن موسى (ع) قبل بشرط الخضر (ع)..أعني قبول الخضر بوعد موسى (ع) المقيّد بالمشيئة.

ومن الواضح أيضاً أن موسى (ع) عندما قال: (ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا) أدرك الخضر (ع) هنا أن لا مانع عندئذ من أن يصاحبه موسى (ع) لأن تقييد الوعد بالمشيئة، يحل إشكالية معرفة الخضر (ع) القطعية بعدم صبر موسى (ع).

لذلك قال له: (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) وقول الخضر هذا كان بعد وعد موسى (ع) المقيد بالمشيئة..

 

عود على بدء

ونعود إلى ما ذكره "الكاتب" في تصديره لمعالجة هذه القضية حيث قال:

" يعترض سماحتكم على (السيد) في تفسيره لقصة لقاء موسى (ع) مع العبد الصالح (الخضر (ع)) حيث سجلتم عشرة مقولات "جريئة" قد اقتطعتموها من سياقاتها.

وكما هو دأبكم، فقد لجأتم إلى تصوير مقولات الآخر وكأنها مقولات لم يأت بها أحد من العالمين.. وأنه ينفرد بها دون غيره من المفسرين.. مع أن ما ذهبتم إليه من تفسير يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) في الميزان"(72).

ونقول:

أين هي تلك المقولات التي ذكر "الكاتب" أنها اقتطعت من سياقاتها؟ ولماذا لم "يتجرأ" على ذكرها أو التعرض لها ما دام العلامة المحقق يلجأ، كما هو دأبه (بحسب اتهام "الكاتب" له)،إلى تصويرها وكأنها مقولات لم يأت بها أحد؟!.

ولماذا كل هذا التهويل بأن ما ذهب إليه العلامة المحقق من تفسير هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده).. فإن كل ما اختلف به العلامة المحقق مع العلامة الطباطبائي (قده) هو في معنى النسيان، وما ذهب إليه العلامة المحقق في معنى النسيان هو ما عليه علماء المذهب ومفسروه وليس السيد المرتضى (علم الهدى) أولهم كما ليس ابن أبي جامع العاملي آخرهم.

ولكن فليخبرنا "الكاتب" هل أن ما ذهب إليه العلامة المحقق من تنزيه لنبي الله موسى (ع) كالذي ذهب إليه صاحب " من وحي القرآن" الذي وصف هذا النبي الكريم بأنه قد نكث بعهده؟

 وهل ما ذهب إليه العلامة المحقق هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) الذين ذكرنا أقوالهم فلا نعيد؟.

وهل تنزيهه عما نسبه صاحب "من وحي القرآن" إلى نبي الله موسى (ع) من أنه لم يكن أهلاً لمتابعة الخضر (ع) هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده) أيضاً؟!.

وهل قول المحقق العاملي بأنه لا يصح وصف موسى (ع) بأنه: لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة كما وصفه صاحب "من وحي القرآن" هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي؟!.

وهل إدانته( أعزه الله) وصف موسى (ع) بأن مشاعره اهتزت أمام الحدث الذي لم يفهمه (ع) هو الآخر اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده)؟!.

وماذا عمن يدين الحديث عن موسى (ع) بلغة أنه لم يفكر بأن من الممكن أن يكون لفعل الخضر (ع) وجه آخرـ فهل إدانة لغة كهذهـ مما يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي؟!.

ونكرر السؤال "للكاتب ":

لماذا تجاهل مقولات (السيد)، ولم يأت على ذكر أي منها ما دام لم ينفرد بها، وما دامت ليست جريئة ومخالفة؟!

فليدلنا على واحد من هؤلاء الأعلام قد تحدث بما تحدث به (السيد) من أن موسى (ع):

* نكث بعهده عدة مرات.

* وأنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة.

* وأنه ليس أهلاً لمرافقة الخضر (ع).

* وأنه لم يفهم الحدث.

* وأنه لم يفكر بأن من الممكن أن يكون للأمر وجه آخر.

* وأنه لم يستفد من التجربة الأولى الخاطئة.

بعد ما مر نقول:

إن المشكلة مع هذا "الكاتب"، هي في السعي الدؤوب لتحريف كلام العلماء بما يتناسب مع كلام صاحبه الذي يدافع عنه، فإن لم يمكنه ذلك عمد الى تجاهل كلامه إن لم يمكن التمحل في تصويبه وتوجيهه..

 

في الروايات

وأخيراً نختم بما جاء في بعض المرويات عن المعصومين (ع)حول هذا الموضوع:

* قال رسول الله (ص): " تقبّلوا الي بست خصال ، أتقبل لكم بالجنة: إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا...."(73)

 قال رسول الله (ص): " أقربكم غداً مني في الموقف أصدقكم للحديث ، وأداء الأمانة وأوفاكم بالعهد "(74)

عن الكاظم (ع) عن آبائه (ع)قال : قال رسول الله (ص) :

 لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ، ولا صلاة لمن لا يتم ركوعها وسجودها (75)

وغيرها من الروايات التي لا تعد ولا تحصى فلتراجع في مظانها لمن أراد.

 

خلاصة الفصل الرابع

ويمكن لنا أن نخلص في هذا الفصل إلى النتائج التالية:

1-إن "الكاتب" تجاهل كلياً مقولات صاحبه المتعلقة بهذا البحث، ولم يأت على ذكر أي منها. كقول صاحبه إن موسى (ع) قد نكث بالعهد، وأنه لا ينضبط أمام الكلمة المسؤولة،وأنه لم يفهم الحدث ولم يفكر، وأنه (ع) لبس أهلاً لمرافقة الخضر وغيرها.

فكيف يمكن والحال هذه إثبات عدم مخالفتها للمذهب، وأنها مما أجمع عليه العلماء والمفسرون منذ عصر الشيخ الطوسي إلى عصرنا الحالي.

2-تجاهله لقول صاحبه في وصفه لنبي الله موسى (ع) بأنه نكث بالعهد.

3-اعتباره أن تنزيه النبي (ع) عن نكث العهد هو اتجاه يضعفه المفسرون الشيعة ومنهم العلامة الطباطبائي (قده).

4- تحريفه لرأي الشيخ الطوسي (قده) في تفسيره لمعنى (بما نسيت).

5-تعمد التضليل في عرض رأي الشيخ الطبرسي في معنى النسيان.

6-تحريفه لرأي السيد المرتضى (علم الهدى) فيما يتعلق بقوله تعالى: (لا تؤاخذني بما نسيت).

7-الإفتراء على الإمام الخميني (قده) بتقويله ما لم يقله فيما أسماه المنهج الإحتمالي في التفسير عند الإمام الخميني.

8-إصرار "الكاتب" على أن موسى (ع) قد عاهد الخضر (ع) على السكوت المطلق عن أية مخالفة ظاهرية للشريعة، وبأن اعتراضه (ع) ليس له ما يبرّره، وبالتالي فهو نكث بالعهد.

9-تجاهله لقول صاحب "من وحي القرآن" بأن موسى (ع) لم يفكر بأن من الممكن أن يكون لفعل الخضر وجه آخر وهذا مما لم يقل به أحد من الأولين والآخرين.

10-جهل "الكاتب" بالفرق بين أن يكون موسى (ع) لا يعلم أن هناك حقيقة وراء فعل الخضر (ع) وبين أنه يعلم ذلك لكنه لا يعلمها على وجه التفصيل.

11-اعتراف "الكاتب" بأن اتباع موسى (ع) للخضر (ع) وبقوله له (ستجدني إن شاء الله صابراً) إنما هو اتباع تلميذ لأستاذه الذي يثق بكفاءته وحكمته وإخلاصه، ورغم ذلك فإنه   يتهم موسى (ع) بأنه شك في هذه الحكمة، إذ كيف يمكن للتلميذ الذي يثق بحكمة استاذه أن يتهمه بالقتل وغير ذلك عند أول فعل ظهر منه في رحلة التعلم والتعليم.

12- تجاهل "الكاتب" لقول صاحب "من وحي القرآن" أن موسى (ع) لم يكن أهلاً لمرافقة الخضر (ع).

13-وكذلك تجاهله لقول صاحبه بأن موسى (ع) لم ينضبط أمام الكلمة المسؤولة.

14- افتراء الكاتب على العلماء والمفسرين باتهامه إياهم بأنهم يقولون كما يقول صاحب "من وحي القرآن" من أن الأنبياء ينكثون بعهودهم، ويخلون بكلمتهم، ولا ينضبطون أمام الكلمة المسؤولة!!.

 


1-سورة الكهف / الآية 57.

2-سورة الشعراء / الآية 5.

3-سورة الكهف / الآية 60 و 82.

4-خلفيات ج 1 ص 98 و 99.

5-خلفيات ج 1 ص 91 و 100.

6-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 138.

7-خلفيات ج 1 ص 101.

8-خلفيات ج 1 ص 101.

9-خلفيات ج 1 ص 101.

10-خلفيات ج 1 ص 98.

11-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 137.

12-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 139.

13-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 140.

14-راجع كتاب الإقتصاد فيما يتعلق بالإعتقاد ص 260 وغيره.

15-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 139.

16-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 139.

17-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 421.

18-جوامع الجامع، طبعة حجرية ص 268ـ269.

19-لقدكانت الكرخ تمثل مجتمع الشيعة في ذلك العصر،ففي سنة 362هـ قام الوزير "أبو الفضل الشيرازي" بحرق أموال ودور أهل الكرخ، فأحرق طائفة كثيرة منها حتى بلغ ما أحرق ثلاث ماية دكان، وثلاثة وثلاثون مسجداً،وسبعة عشر ألف إنسان، وعند إبن خلدون عشرون ألف إنسان. أما في سنة 407هـ  فقد ذكر إبن الأثير أنه " في هذه السنة في المحرم قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقيا ".أما سنة 408هـ فقد حدثت فتنتة عظيمة في الكرخ،فراجع النص المذكور في المتن.وراجع صراع الحرية في عصر المفيد للعلامة المحقق جعفر مرتضى العاملي ص 36 نقلاً عن المنتظم ج 7 ص 287 والبداية والنهاية ج 12 ص 6، والكامل في التاريخ ج 9 ص 35 ومرآة الجنان ج 3 ص 22، ودول الإسلام ص 214 وكذلك الجوهر الثمين ص 190 وفي هامشه عن: العبر ج 3 ص 98.

20-تنزيه الأنبياء ص 118.

21-تنزيه الأنبياء ص 121.

22-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 9.

23-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 138.

24-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 138 في الهامش.

25-تفسير سورة البسملة، دار الهادي ـ بيروت ص 13.

26-تفسير آية البسملة ص 12

27-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 14.

28-من وحي القرآن، ج14، ص393.

29-راجع مراجعات في عصمة الأنبياء ص 148.

30-من وحي القرآن ج 14 ص 393.

31-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 152.

32-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 141.

33-التبيان ج 17 ص 63.

34-مجمع البيان ج 6 ص 625.

35-الوجيز ج 2 ص 241.

36-الميزان ج 13 ص 343.

37-من وحي القرآن ج 14 ص 393 و 394 و 395.

38-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 152.

39-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 146.

40-وسائل وسائل الشيعة ج 27 ص 232، والكافي ج 7 ص 414.

41-خلفيات ج 1 ص 103.

42-مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 261.

43-كنز العمال: ج 5 ص 457.

44-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 146.

45-خلفيات ج 1 ص 103

46-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

47-خلفيات ج 1 ص 103.

48-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 141.

49-خلفيات ج 1 ص 103.

50-صحيح أن هذه العبارة هي عبارة العلامة المحقق، وإنما قلنا أنه لم يقل بذلك لأنه لا توجد    إشارة منه أعزه الله إلى أن القصة يراد منها الإمتحان والإختبار وحسب ولم ترد هذه المفردة: (وحسب-في كلامه مما يفهم منه أنه أراد بها ذلك إضافة إلى أمور أخرى لا نعلمها..

51-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 143.

52-تفسير القمي ج 2 ص 38.

53-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

54-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

55-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 147.

56-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150.

57-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

58-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 152.

59-التبيان ج 7 ص 71.

60-التبيان ج 7 ص 63.

61-نفس المصدر ج 7 ص 63.

62-مجمع البيان ج 6 ص 624.

63-خلفيات ج 1 ص 101.

64-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150.

65-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150 نقلاً عن خلفيات ج 1 ص 102.

66-خلفيات ج 1 ص 102.

67-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 150.

68-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

69-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

70-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 151.

71-إستعملنا كلمة شرط تسامحاً..

72-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 137.

73-بحار الأنوار ، ج 66 ،ص 373 

74-بحار الأنوار ، ج 66 ،ص 376 

75-نفس المصدر ،ج 69 ، ص 199

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان