الفصل التاسع النبي داوود عليه السلام

     

بسم الله الرحمن الرحيم

 (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل)(1).

 

الآيات القرآنية :

(واصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبأ الخصم إن تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعّزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وأن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب * فغفرناله ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب)(2).

 

العناوين المشكلة :

  89 ـ قضية داود (ع) كقضية آدم (ع).

  90 ـ داود (ع) يستسلم لعواطفه في قضائه.

  91 ـ داود (ع) يعتمد على ما لا يصح الإعتماد عليه في القضاء.

  92 ـ داود (ع) يخطئ في إجراء الحكم.

  93 ـ الله هو الذي أراد لداود (ع) أن يقع في الخطأ.

  94 ـ خطأ داود (ع) كانت له نتائج سلبية.

  95 ـ الخطأ لا يتنافى مع مقام النبوة"

 

النصوص المشكلة :

وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهراً من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس.. ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوى، من خلال الإستماع إلى حجة المدعي ودفاع المدّعى عليه.. لأن مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساساً للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئاً في دائرة الحق المختلف فيه..

ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلى الجانب الضعيف في الدعوى، لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة في أجواء اللامشكلة، مما يجعل من الحكم على الضعيف تعقيداً لمشكلته بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه.. هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس تستبعد أن يكون هذا الفقير متعدياً على الغني، لا سيما في هذا الشيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتدياً على الفقير من موقع قوته، كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلى الضعفاء..

(وظن داود أنما فتناه) أي أوقعناه في الفتنة، أي في البلاء والإختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرضاً للخطأ من خلال طبيعة الأجواء المثيرة الضاغطة المحيطة به وانتبه – بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وخطأه في عدم الإستماع إلى وجهة النظر الأخرى (فاستغفر ربه) على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية (وخرّ راكعاً وأناب) أي رجع إلى الله وتاب إليه وأخلص إليه.

 

قصة داود أمام علامات الإستفهام :

فغفرنا له ذلك الخطأ الذي لم يؤد إلى نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الوضع (وإن له عندنا لزلفى) وهي المنزلة والحظوة (وحسن مآب) فيما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه.."

"النقطة الثانية : كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء، أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه..

ربما تطرح القضية على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفاً حقيقياً، بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس..

تماماً كما في قضية آدم التي كانت قضية إمتحانية لا تكليفاً شرعياً، فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرد تعبير عن الإنفتاح على الله والمحبة له، والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها، وأما إذا كان الخصمان من البشر، فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعلياً حاسماً بل كان قضاءً تقديرياً، بحيث يكون قوله : (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) بتقدير قوله : لو لم يأت خصمك بحجة بينة.

ولكن ذلك كله لا يمنع الخطأ منه، فإنه لم ينتبه إلى أن الخصمين ملكان، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر..  وبذلك فلم تكن المشكلة في إنفاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل انفاذه، أو أنها لم تكن واقعية بل كانت تمثيلية، بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم..

فلا بدّ من الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوة، لا سيّما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القوية التي تمنع عن الخطأ في المستقبل.

وقد أكد الإمام الرضا (ع) – ذلك – فيما روي عنه في عيون أخبار الرضا، قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود (ع) : يا بن رسول الله ما كانت خطيئته فقال : ويحك إن داود إنما ظن أنه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا : خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) فعجّل داود على المدعى عليه فقال : (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)، ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعي عليه فيقول له : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه".

وقد ذكرنا في هذا التفسير أن علينا أن نأخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة)(3).

 

قطع يخفي تقطيعاً (4)

إن المتأمل في أسلوب "الكاتب" ومنهجه، سيجد أنه كلما قدم لأدلته بكلام عنيف، ومهد بكلام يتسم بإظهار الجزم، واليقين والتأكيد، كلما كان حجم المأزق الذي يعيشه أكبر، والحرج أعظم، وما يخفيه من تحريف أخطر، في محاولاته لتخريج وتصويب مقولات صاحب "من وحي القرآن" المخالفة والخطيرة..

ولا يخرج ما جاء في تقديم وقفته العاشرة هذه عن هذا الإطار، لذا مهد بقوله :

"كان في نيتي أن لا أقف هذه الوقفة، لأنقد ما جاء في (خلفيات) من ملاحظات نقدية حول قصة داود (ع) والخصمين.. ذلك لأنها ملاحظات بينة الخطأ، واضحة الإشتباه، جلية التهافت، لمن له أدنى إطلاع على عالم التفسير"(5).

ثم يردف ذلك بإتهام وتأكيد : " لقد تأكد لي من نقدكم لتفسير (السيد) في قصة داود (ع)، أنكم غرباء عن عالم التفسير وما يزخر به من اتجاهات ووجوه وآراء.. ذلك لأنكم بصورة عامة، وفي هذه المرة بالخصوص تجعلون من الإتجاه السائد والرائد تفسيراً غريباً وعجيباً، وكأنكم تقرأونه لأول مرة.."(6).

ويعقَّب قائلاً :" لست أدري ما هو السر الذي يجعلكم تصرون على هذه الطريقة التي تمتنعون فيها عن مراجعة أمهات الكتب والتفاسير الشيعية"(7).

ويكمل قائلاً : " إن السيد في قصة داود (ع) والخصمين لم يأت بشيء جديد في عالم التفسير الشيعي، بل أنه جاء بما جاء به المفسرون الشيعة الكبار"(8).

ويختم بالقول : "ولهذا فإني أعتبر أن ما جئتم به من ملاحظات نقدية يفتقر إلى أبسط شروط النقد العلمي والموضوعي"(9).

فما الذي يخفيه "الكاتب" وراء قوله : ".. ذلك لأنها ملاحظات بينة الخطأ، واضحة الإشتباه، جلية التهافت، لمن له أدنى إطلاع على عالم التفسير" ؟. وخلف هذه "الرزمة" من الإتهامات والعبارات القاطعة والجازمة، التي يؤكد بها عدم مراجعة العلامة المحقق للتفاسير، وفي هذه المرة بالخصوص؟!!!.

هذا ما سيجيب عنه "الكاتب" بنفسه، وعملياً, فيما قدمه بعد ذلك من نماذج "رائعة" في الإلتزام  والتقيد "المذهل" بشروط النقد العلمي والموضوعي فماذا هناك :

 

أول الغيث ... الكذب :

وعلى غير عادته في الفصول السابقة، نفد صبر "الكاتب" هذه المرة باكراً، فلم يستطع تأخير كذبه ولو لبضع صفحات، حيث سارع لإظهار إلتزامه "الدقيق" بشروط النقد العلمي والموضوعي!!.

ففي البدء لخّص "الكاتب" رأي العلامة الطباطبائي بالقول :

"ولهذا يرى العلامة الطباطبائي وفقاً للإتجاه الأول أنه :

أولاً : لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤية، وإنما التكليف في عالمنا المشهود، وهو عالم المادة، ولم تقع الواقعة فيه.

ثانياً : لم يكن "هناك متخاصمان، ولا نعجة، ولا نعاج إلا في ظرف التمثل".

ثالثاً : ولهذا "كانت خطيئة داود عليه السلام في هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك كخطيئة آدم في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض، وتشريع الشرائع وجعل التكاليف.."(10).

ومن رأي العلامة الطباطبائي هذا، يخرج "الكاتب" بنتيجة مفادها أن "هذه المقولة تعبّر عن الإتجاه الرائع في التفسير الذي ينزّه داود عليه السلام عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية.."(11).

ولنحفظ قوله الأخير : ".. عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية" كما ولنبقى، مستذكرين لملخص كلام الطباطبائي، لأننا سنعود إليه بعد قليل..

بعد هذا التقديم من "الكاتب" شرع في توجيه "النقد" للعلامة المحقق، وكان أول الغيث أنه قد "ظهر" له : "مدى التحريف الذي مورس في كلام العلامة الطباطبائي.. حيث أنكم قلتم (يقصد العلامة المحقق) : "قد ذكر العلامة الطباطبائي أن أكثر المفسرين يقولون : أن الخصمين كانا من الملائكة.. فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية (إنما) هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك، فلا توجد خطيئة.."

 ثم أردف الكاتب قائلاً : "والجملة الأخيرة : "فلا توجد خطيئة" لم يقلها العلامة الطباطبائي، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث أنه صرّح بحصول الخطيئة، والنص الأصلي في كتاب الميزان ما يلي : "ولا كان هناك متخاصمان، ولا نعجة ولا نعاج إلا في ظرف التمثّل، فكانت خطيئة داود عليه السلام، في هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك، كخطيئة آدم عليه السلام في الجنة"..(12).

ولكي نلقي الضوء على ما في نقد "الكاتب" "العلمي والموضوعي"!! نستعرض كلام العلامة المحقق كما جاء في كتاب خلفيات بالنص الحرفي حيث يقول : "قد ذكر العلامة الطباطبائي : أن أكثر المفسرين يقولون : أن الخصمين كانا من الملائكة، وأيد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد، فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية إنما هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك فلا توجد خطيئة، ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود.."(13).

وبعد أن أصبحت النصوص بين يدي القارئ نقول :

1ـ من الواضح البيّن، حتى لمن كانت قراءته للنص متدنية، أن العلامة المحقق كان ينقل نص الميزان بالمعنى لا بحرفيته، لذلك لم يضعه بين مزدوجين، كما أن العبارات بترتيبها وصياغتها ليست هي عينها، فضلاً عن أنه (أعزه الله) وضع في الهامش عند إشارته للمصدر عبارة : "راجع تفسير الميزان.." ومن المعلوم أن من يستعمل لفظ : "راجع.." إنما يقصد بذلك أن النص مأخوذ بمعناه لا بحرفيته..

2ـ وما يؤكد أخذ النص بالمعنى هو إقحام العلامة المحقق لعبارة : "وأيد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد" ولا يخفى أن الذي يقحم هذه العبارة لا يكون في وارد نقل نص حرفي.

3ـ ولأن "الكاتب" يدرك هذا الأمر جيداً عمد إلى حذف العبارة الآنفة الذكر من نص العلامة المحقق فراجع..

4ـ إن "الكاتب" "الأمين" توقف في نقل نص "خلفيات" عند عبارة : "فلا توجد خطيئة.." ولم يكمل العبارة، والسبب كما هو واضح هو : لكي يقول : "الجملة الأخيرة : فلا توجد خطيئة لم يقلها العلامة الطباطبائي، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث أنه صرّح بحصول الخطيئة.."

أما تكملة عبارة "خلفيات" فهي : ".. فلا توجد خطيئة، ولا حكم ولا غير ذلك في عالم الشهود" فالتفت لقوله : " في عالم الشهود".

وعليه، فالخطيئة التي تحدث عنها العلامة المحقق ونسب لصاحب الميزان إنكار حصولها إنما هي "الخطيئة في عالم الشهود" وهذا واضح في كلام العلامة الطباطبائي الذي اعتبر أن الحادثة لم تقع في عالم المادة، وهو عالم التكليف، إنما وقعت في "هذا الظرف من التمثل، ولا تكليف هناك".

بعد ما مر نسأل "الكاتب" : ما الفرق بين ما ذكره العلامة المحقق من رأي صاحب الميزان بأن لا خطيئة في عالم الشهود، وبين ما ذكره "الكاتب" نفسه قبل قليل، وهو الذي تمنينا على القارئ حفظه وإستذكاره  وهو قوله : "هذه المقولة تعبّر عن الإتجاه الرائع في التفسير الذي ينزّه داود عليه السلام عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية.."؟!(14).

والطريف أن "الكاتب" يصرّح بأن صاحب الميزان يعتبر أن داود عليه السلام منزه "عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية" في الوقت الذي ينكر فيه على العلامة المحقق نسبة ذلك لصاحب الميزان بقوله : " فلا توجد خطيئة ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود"‍‍‍!!!

 هذا فضلاً عن أنه قد لخصّ أيضاً رأي العلامة الطباطبائي الذي اعتبر أن : "لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤيا، وإنما التكليف في عالمنا المشهود، وهو عالم المادة، ولم تقع الواقعة فيه"(15) وقد تقدم النص فراجعه.

والأطرف من ذلك قول "الكاتب" أن جملة : "فلا توجد خطيئة" لم يقلها الطباطبائي!!! وقد تقدم أن العلامة المحقق لم يكن بصدد نقل النص الحرفي لكلامه (قده)، وإن سلمنا أن العلامة الطباطبائي لم يقل ذلك، فمن أين جاء "الكاتب" نفسه بجملة : "... ينزه داود عليه السلام عن أي خطأ في الحكم في عالم التكليف والمسؤولية.."؟!!!.

أليس من نقله لكلام صاحب الميزان ، الواضح والبين ، بالمعنى!!!

ونسأل "الكاتب" : لماذا حذف تكملة كلام العلامة المحقق الذي ينسب فيه للعلامة الطباطبائي نفيه حصول الخطيئة في عالم الشهود؟!! أليس لاتهام العلامة المحقق بالتحريف؟!!!.

وليس ذلك منا مجرد توقع، ولا هو رجم بالغيب أو قراءة للنوايا.. "فالكاتب" قد صرّح بذلك وبالفم الملآن بقوله مخاطباً العلامة المحقق : " إنكم حاولتم في التحريف الأول أن تنفوا مقولة (الخطيئة) فحولتم جملته: "فكانت خطيئة داود عليه السلام" إلى "فلا توجد خطيئة"(16)

 وكان قد تحامل على العلامة المحقق بقوله : "لست أدري لماذا تتصرفون بما تنقلون من نصوص، فتحذفون منها الكلمات التي لا تعجبكم ولا تنسجم مع مزاجكم.. إلى درجة يتحول فيها الإثبات إلى نفي!! ليكون المنقول : "فلا توجد خطيئة" بدلاً من "فكانت خطيئة داود عليه السلام"(17)

وقد ظهر بعد ذلك كله من الذي حرف وحذف وقطّع وتصرف!!.

وليتخيل القارئ الآن، ما الذي ينتظره فيما سيأتي، إذا كان أول الغيث.. الكذب.

 

وثانيه.. الكذب ! :

لم يكتف "الكاتب" بالإتهام الأول للعلامة المحقق بالتحريف، بل سارع إلى اتهام آخر أخطر، وأمر، وأدهى، وشر الدهاء الفجور، عندما اتهم صاحب "خلفيات" بإضافة كلام إلى نص العلامة الطباطبائي حيث قال : "وتحريف آخر في نفس الصفحة من كتابكم "خلفيات"، قد مورس أيضاً على كلام العلامة الطباطبائي حيث تقولون أن العلامة ذكر : "إن الأنبياء معصومون بعصمة الله، ولا يجوز عليهم لا كبيرة ولا صغيرة، على أن الله صرّح قبل هذا بأنه آتاه الحكم وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" والجملة الأخيرة : "ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" محّرفه، ولم يقلها الطباطبائي والنص الأصلي هكذا :" إن الأنبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة" فلماذا أضفتم جملة : "لا يلائم ذلك خطأه في القضاء، والحال أن العلامة يؤكد وقوع الخطأ ويصرّح به.."(18).

ثم يعنف "الكاتب" بعد ذلك بإتهامه للعلامة المحقق، بأنه حاول في هذا التحريف ، بزعمه، أن ينفي " مقولة الخطأ فجئتم بجملة إضافية نسبتموها إلى العلامة، وهو منها بريء، وهي : "لا يلائم ذلك خطأ في القضاء" كل ذلك لأن رأيكم يذهب إلى أنه لا خطأ ولا خطيئة في قصّة داود عليه السلام، والخصمين.."(19).

 ثم يختم "الكاتب" بالقول : " أين الأمانة العلمية في النقل، والتي هي من أبسط شروط الكاتب الناقد؟! ولماذا تستغفلون القارئ في كل مرّة، والذي لا يملك الوقت الكافي للرجوع إلى المصدر الأصل الذي تنقلون عنه وتقتبسون؟!"(20).

ولعمري، فإن عبارته الأخيرة هذه لا تخلو من دهاء، فهو بعد أن لفّق التهمة للعلامة المحقق، راح يوحي للقارئ بأنه مستغفل ولا يملك الوقت الكافي للرجوع إلى المصدر الأصل الذي لو كان يملكه لأكتشف الحقيقة التي كفاه هو مؤونة اكتشافها، وهو "الأمين" جداً، "والملتزم بأبسط شروط الكاتب الناقد" جداً جداً، الأمر الذي يدعو للبكاء والضحك في آن واحد، أما البكاء فلهذه البليّة، وأما الضحك، فلأن شر البلية ما يضحك..

ماذا يسعنا أن نفعل أمام هذا الإتهام الوقح ، بل الفجور الممنهج، فهو يخلق ما يقول، وإن حملنا كلامه هذا على سبعين محمل ومحمل، فإنه سيبقى كذلك، ومن كان هذا شأنه فحيلتنا فيه قليلة..

وعلى أي حال، فإن عبارة : "ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" موجودة في الأصل، ولا يفصل بينها وبين ما ذكره العلامة المحقق شيء، لا نقطة، ولا فاصلة، أو حتى علامة من علامات الوقف!! نعم، لا يفصل بينها سوى أربعة أصابع وضعها هذا "الكاتب" على عينية وأذنيه ثم قال : لم أر، ولم أسمع..

والعبارة بالنص الحرفي في تفسير الميزان، وكما نقلها العلامة المحقق هي : "على أن الله سبحانه صرّح قبلاً، بأنه أتاه الحكمة وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء"(21).

ولن نذكر للقارئ أية عبارة توحي له بعدم ضرورة مراجعة النص في الأصل الذي ورد فيه، على غرار ما فعله "الكاتب"، بل ندعوه بشكل صريح وواضح، وبكل إخلاص ومحبة ، دعوة جادّة من موقع الحرص على أن يطلع على حقيقة الأمر بنفسه دون الإعتماد على نقولات أحد ، لا في هذا المورد وحسب ,  بل في كـل مـورد فيه إحالة، حتى لا يبقى هناك شكّ, ولقطع الطريق حتى لا يبقى هناك عذر لمعتذر, أو مبرر لفاجر يمارس الفجور في العلن في هذا العالم، عالم التكليف، عالم المادة، عالم الشهود.. اللهم إلا إذا ادعى "الكاتب" ، والذي لا يستبعد عنه أن يدعي ، أن كتابه هذا إنما صدر في عالم التمثّل، عالم الرؤيا ولا تكليف هناك، فلا كذب، ولا افتراء فلا خطيئة!!.

وإذا ما نطق "الكاتب" بذلك فلا محيص عن القول : "قد رفع القلم".

 
أيّ داعٍ هذا ؟

إذا ما اتضح ما قدمه "الكاتب" إلى الآن، وسيأتي المزيد، فإننا نترك للقارئ أن يحكم على طبيعة ما ذكره هذا "الكاتب" من عبارات في مقدمة كتابه حيث يقول :

" كما رجوته [يقصد العلامة المحقق] رجاءً مخلصاً – وأرجو القارئ العزيز أيضاً – أن لا يفهم رسائلي هذه بأنها دفاع عن (السيد) الشخص أو موافقه على كل ما جاء به من تفسير، واختاره من اتجاه، وتبنّاه من قول ورأي"(22).

وإن لم يكن كل هذا الدهاء والفجور دفاعاً عن (السيد) الشخص، فكيف ترى يكون الدفاع عنه ؟!!.

ويضيف "الكاتب" : " لكنني دعوت السيد العاملي إلى أن يأتي على المقولات الخاطئة فعلاً، أو المخالفة للمشهور والإجماع لينقدها ويبين خطأها واشتباهها، بروح علمية ونفس موضوعي بعيداً عن أساليب المبالغة، والتهويل والتحريف التي تنأى بالبحث عن العلمية والموضوعية"(23).

ويتابع حديثه عن الأمانة العلمية، والنقد الموضوعي فيقول :

"ومن دون شك أن تفعيل حركة النقد من أشرف المحاولات التي تفتقرها ساحتنا الفكرية الإسلامية..

ولا يخفى ما للمارسة النقدية من دور كبير وفاعل في تكامل الأفكار.. بيد أن هناك شروطاً وضوابط، وأخلاقيات للمارسة النقدية"(24).

ولنا أن نسأل :هل تحتاج ساحتنا الإسلامية بالفعل لهذا النوع من النقد المبني على الكذب والإفتراء.؟!.

وهل سيساهم هذا الكتاب الذي يتضمن كل هذا الكذب والإفتراء في تفعيل حركة النقد، أم أنه سيساهم في نشر الأباطيل والأضاليل؟!.

ثم يأتي هذا "الكاتب" بعد ذلك ليتحدث عن القرآن الذي يدعونا إلى تحرّي الطريقة التي هي أحسن، مستحضراً العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن المجادلة بالتي هي أحسن(25)!!.

والأدهى من كل ذلك، أن يختتم مقدمة كتابه بسؤال الله جل وعلا أن يوفقه " لخدمة كتابه العزيز" " بتكملة كتابه هذا!! وبسؤاله تعالى أن يوفقه لخدمة" أهل البيت عليهم السلام"!! من خلال وقفات أخرى قادمة ليقضي "شيئاً من حقوقهم"!! ويبصّر "الأمة بمظلوميتهم"!!(26) وكأنه لم يكفه ما أتهم به الأنبياء في كتابه هذا, حتى يعد بوقفات أخرى قادمة مع أهل البيت (ع)!!!.

فنعم الدعوة سؤال الله التوفيق، وبئس الداعي، والغاية عنده : إثبات الخطأ في فعل النبي، والوسيلة الكذب، كما بينا.

 

خدمة أهل البيت (ع) !! :

ويتابع هذا "الكاتب" عمله في خدمة أهل البيت (ع)!! ليقضي "شيئاً من حقوقهم"!! على حد تعبيره، وذلك بتحريف أقوال العلماء والأعلام المتعلقة بتنـزيه الأنبياء عن الخطايا والذنوب..

وقد مر أن "الكاتب" ذكر بأن (السيد) : "لم يأت بشيء جديد في عالم التفسير الشيعي، بل أنه جاء بما جاء به المفسرون الشيعة الكبار"(27).

وأكد ذلك بقوله :

"إن مقولة (الحكم قبل أن يسأل الخصم) يقول بها أعلام الشيعة"(28).

ثم يتصاعد في حدّة لهجته ليقول : "كان من الأولى أن تثوروا على أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين، من القدماء، والمعاصرين، لأنهم يذهبون جميعاً إلى ما يذهب إليه [السيد]"(29).

ولكن هل يعقل أن يكون أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين "جميعاً"!! القدماء، والمعاصرين ، يصرّحون بأن داود (ع) قد "ارتكب خطأ وأنه وقع في الخطيئة"!!..(30).

فلنستنطق طائفة منهم لنرى صحّة إدّعاء "الكاتب" هذا :

 

الشريف المرتضى(قده) : لا أدلة على وقوع الخطأ من داود (ع) :

 في كتابه القيّم : " تنـزيه الأنبياء" يستعرض الشريف المرتضى(قده) ما رواه بعضهم عن قصة داود (ع) مع زوجة أوريا، ثم يطرح سؤالاً حول علاقة هذه الآيات والقصة مع عصمة داود (ع)، ثم يجيب (قده) عن ذلك إجابة تدق أول "مسمار" في نعش إدعاء "الكاتب".

ولأهمية الجواب نعرضه حرفياً على طوله لما فيه من فائدة(31) فهو(رحمه الله) يقول :

".. فأما خوفه منهما فلأنه (ع) كان خالياً بالعبادة في وقت لا يدخل عليه فيه أحد على مجرى عادته، فراعه منهما أنهما أتيا في غير وقت الدخول، ولأنهما دخلا من غير المكان المعهود..

وأما قوله لقد ظلمك من غير مسألة الخصم، فإن المراد به إن كان الأمر كذلك، ومعنى ظلمك أنتقصك، كما قال الله تعالى : (أتت أكلهم ولم تظلم منه شيئاً).

ومعنى ظن قيل فيه وجهان :

أحدهما : أنه أراد الظن المعروف الذي هو بخلاف اليقين.

والوجه الآخر : أنه أراد العلم واليقين، لأن الظن قد يرد  بمعنى العلم...

والفتنة في قوله : (وظن داود إنما فتنّاه) هي الإختبار والإمتحان، لا وجه لها إلا ذلك في هذا الموضع..

فأما الإستغفار والسجود فلم يكونا لذنب كان في الحال، ولا فيما سلف على ما ظنه بعض من تكلم في هذا الباب، بل على سبيل الإنقطاع إلى الله تعالى والخضوع له والتذلل والعبادة والسجود. وقد يفعله الناس كثيراً لمواليهم، فكذلك قد يسبحون ويستغفرون الله تعالى تعظيماً وشكراً وعبادة.

وأما قوله : (وخر راكعاً وأناب) فالإنابة هي الرجوع ولما كان داود عليه السلام بما فعله راجعاً إلى الله تعالى، ومنقطعاً إليه، قيل فيه أنه أناب..

فأما قوله تعالى : (فغفرنا له ذلك) فمعناه، فقبلنا منه، وكتبنا له الثواب عليه، فأخرج الجزاء على وجه المجازات...

ولما كان المقصود في الإستغفار والتوبة، إنما هو القبول قيل في جوابه، فغفرنا لك أي فعلنا المقصود به، كذلك لما كان الإستغفار على طريق الخضوع والعبادة المقصود به القربة والثواب قيل في جوابه : غفرنا مكان قبلنا.

على أن من ذهب إلى أن دواد عليه السلام فعل صغيرة، فلا بدّ من أن يحمل قوله تعالى (غفرنا) على غير اسقاط العقاب، لأن العقاب قد سقط بما هناك من الثواب الكثير من غير استغفار ولا توبة، ومن جوز على داود عليه السلام الصغيرة، يقول إن استغفاره كان لأحد أمور :

أحدهما : أن أوريا بن حنان لما أخرجه في بعض ثغوره قتل، وكان داود عليه السلام عالماً بجمال زوجته، فمالت نفسه إلى نكاحها بعده، فقل غمه بقتله لميل طبعه إلى نكاح زوجته، فعوتب على ذلك بنـزول الملكين من حيث حمله ميل الطبع على أن قلّ غمه بمؤمن قتل من أصحابه..

وثانيها : أنه روي أن امرأة خطبها أوريا بن حنان ليتزوجها وبلغ داود (ع) جمالها فخطبها أيضاً فزوجها أهلها بداود (ع) وقدموه على أوريا وغيره، فعوتب (ع) على الحرص على الدنيا، بأنه خطب امرأة قد خطبها غيره حتى قدم عليه.

وثالثها : أنه روي أن امرأة تقدمت مع زوجها إليه في مخاصمة بينهما من غير محاكمة، لكن على سبيل الوساطة، وطال الكلام بينهما وتردد، فعرض داود (ع) للرجل بالنـزول عن المرأة، لا على سبيل الحكم لكن على سبيل التوسط والإستصلاح... فقدر الرجل أن ذلك حكم منه لا تعريض، فنـزل عنها وتزوجها داود (ع)، فأتاه الملكان ينبهانه على التقصير في ترك تبيين مراده للرجل، وأنه كان على سبيل العرض لا الحكم.

ورابعها : أن سبب ذلك أن داود (ع) كان متشاغلاً بعبادته في محرابه، فأتاه رجل وامرأته يتحاكمان، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، فيحكم لها أو عليها، وذلك نظر مباح على هذا الوجه، فمالت نفسه إليها ميل الخلقة والطباع، ففصل بينهما، وعاد إلى عبادته، فشغله الفكر في أمرها، وتعلق القلب بها عن بعض نوافله التي كان وظفها على نفسه فعوقب.

وخامسها : أن المعصية منه إنما كانت بالعجلة في الحكم قبل التثبت، وقد كان يجب عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده، ولا يقتضي عليه قبل المسألة، ومن أجاب بهذا الجواب قال : إن الفزع من دخولهما عليه في غير وقت العادة نسّاه التثبت والتحفظ.

وكل هذه الوجوه [وهذا هو جوهر القضية فليلاحظ جوابه بدقة] لا تجوز على الأنبياء (ع) لأن فيها ما هو معصية، وقد بينّا أن المعاصي لا تجوز عليهم، وفيها ما هو منفر، وإن لم يكن معصية مثل أن يخطب امرأة قد خطبها رجل من أصحابه، فتقدم عليه وتزوجها، ومثل التعريض بالنـزول عن المعرض وهو لا يريد الحكم.

فأما الإشتغال عن النوافل، فلا يجوز أن يقع عليه عتاب، لأنه ليس بمعصية، ولا هو منفّر، فأما من زعم أنه عرض أوريا للقتل وقدمه أمام التابون عمداً حتى يقتل، فقوله أوضح فساداً من أن يتشاغل بردّه.."(32).

إذن ، قول صاحب " من وحي القرآن " وفق رأي السيد المرتضى، هو قول من جوّز الصغيرة على الأنبياء من غير الإمامية .

فهذا أول علم من الأعلام خرج من مصاديق "جميعاً" التي ادعاها "الكاتب".

 

الشيخ الطبرسي (قده) : الحكم قبل التثبت قول من جوز الصغائر على الأنبياء :

أما رأي الشيخ الطبرسي (قده) فهو يمثل المسمار الثاني في نعش ادعاء "الكاتب" حيث لا يخرج قوله عن قول المرتضى (قده) وملخص قوله :

"واختلف في استغفار داود (ع) من أي شيء كان : فقيل : أنه حصل على سبيل الإنقطاع إلى الله تعالى، والخضوع له والتذلل بالعبادة، والسجود وكما حكى سبحانه وتعالى عن ابراهيم (ع) بقوله : (والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) وأما قوله : (فغفرنا له ذلك) فالمعنى إنا قبلناه منه، وأثبناه عليه، فاخرجه عن لفظ الجزاء، مثل قوله تعالى : (يخادعون الله وهو خادعهم) وقوله : (الله يستهزئ بهم)، فلما كان المقصود من الإستغفار والتوبة القبول قيل في جوابه غفرنا.. هذا قول من ينـزه الأنبياء من جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم. ومن يجوز على الأنبياء الصغائر قال : ان استغفاره كان لذنب صغير وقع منه، ثم انهم اختلفوا في ذلك على وجوه: ..

وخامسها : أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يحكم عليه قبل ذلك، وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة.."(33).

وعليه، وفق رأي الطبرسي(قده)، فإن القول بخطأ داود (ع) في الحكم قبل الإستماع إلى الطرف الآخر، هو قول من جوّز على الأنبياء الصغائر، لا قول من ينـزه الأنبياء عن جميع الذنوب من الإمامية وغيرهم.

وهذا علم آخر خرج من مصاديق "جميعاً" التي ادعاها "الكاتب".

 

ابن أبي جامع العاملي(قده) : لقد ظلمك قالها : بعد اعتراف صاحبه :

أما المسمار الثالث في نعش ادعاء "الكاتب" فهو رأي ابن أبي جامع العاملي الذي ما فتئ "الكاتب" يمتدح تفسيره وينقل الثناء عليه الذي يقول فيه (قده) : " (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك).. قاله على تقدير صدقه أو بعد اعتراف صاحبه.. (وظن داود انما فتناه) اختبرناه لأنه علم بغرضهم، فهمّ بأن ينتقم منهم ويترك الأولى وهو العفو، فتداركه لطف ربه فعفا عنهم (فاستغفر ربه) من همّه بترك الأولى أو انقطاعاً إليه..

(فغفرنا له ذلك) الهم، أو قبلنا انقطاعه من باب المشاكلة.. هذا قول من ينـزّه الأنبياء عن الذنوب.. (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى)..

قيل : هو يعضد القول بأنه أذنب، وهو ممنوع لجواز كونه تهييجاً له كما وقع لنبينا (ص) مثل ذلك [لقوله تعالى : (لئن أشركت ليحبطن عملك)].."(34).

وهذا علم ثالث خرج من مصاديق "جميعاً" أيضاً.

وحسبنا هؤلاء الأعلام، ليظهر مدى صحة ادعاء "الكاتب" بأن "جميع" أعلام الطائفة وأركانها من المفسرين، من القدماء والمعاصرين، يذهبون إلى ما يذهب إليه (السيد)..

 

حقيقة رأي صاحب "من وحي القرآن"

اعتبر "الكاتب" أن "السيد" يطرح في كتابه التفسيري : "الإتجاهين السائدين في عالم التفسير الشيعي.. حيث ذكر تحت عنوان : "كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة العصمة" هذين الإتجاهين :

الإتجاه الأول : القصة في عالم التمثّل لا التكليف : إن الخصمين كانا من الملائكة، فلا يكون التكليف حقيقياً..

الإتجاه الثاني : القضاء التقديري لا الفعلي.."(35).

ثم بعد ذلك يصرّح "الكاتب" بأن (السيد) يرجح "على ما يظهر من تفسيره الإتجاه الأول الذي يرى أن الحادثة وقعت في عالم التمثّل وليس في عالم التكليف الشرعي، ويفسر الآيات على ضوء ذلك الإتجاه.."(36).

وأمام هذا التدليس، وتحريف الكلم عن مواضعه لا بدّ من الإشارة إلى بعض الملاحظات التي من شأنها أن تلقي الضوء على حقيقة رأي صاحب "من وحي القرآن" فنقول :

1ـ لا صحة على الإطلاق لما زعمه "الكاتب" من أن (السيد) يفسّر الآيات على ضوء الإتجاه الأول، بل أنه في تفسيره للآيات وقبل أن يشرع بالبحث عن علاقة القضية بمسألة العصمة، لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى جنس الخصمين، ولا إلى كون ذلك الحكم تقديرياً، وإنما قال بالنص الحرفي :

"وهكذا أطلق داود (ع) الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهراً من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس.. ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوى من خلال الإستماع إلى حجة المدعى عليه، لأن مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساساً للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل، أو لا يملك شيئاً في دائرة الحق المختلف فيه"(37).

2ـ إن (السيد) لم يرجح الإتجاه الأول، وهذه الدعوى من "الكاتب" كغيرها هي تحريف للكلم عن مواضعه، وذلك للأسباب التالية :

أ ـ بعد الإنتهاء من تفسير الآيات من دون أن يشير في تفسيره إلى أن الخصمين من الملائكة، وبعد تصريحه بأن داود (ع) أخطأ في الحكم من دون أن يشير إلى أن حكمه كان تقديرياً يطرح بحث علاقة القضية بالعصمة متسائلاً :

"كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة العصمة أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه"(38).

ب ـ ثم يستعرض الإتجاه الأول بالقول : "ربما تطرح القضية على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفاً حقيقياً بل هي قضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس، تماماً كما هي قضية آدم التي كانت قضية إمتحانية، لا تكليفاً شرعياً، فلم تكن هناك معصية، بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرّد تعبير عن الإنفتاح على الله والمحبة له والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها.."(39).

ج ـ وبعدها يستعرض الإتجاه الثاني قائلاً : "وأما إذا كان الخصمان من البشر فقد يقال : بأن القضاء الصادر من داود (ع) لم يكن قضاءً فعلياً حاسماً، بل كان قضاءً تقديرياً بحيث يكون قوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، بتقدير قوله : لو لم يأت خصمك بحجة بينة.."(40).

د ـ بعد أن استعرض (السيد) كلا الإتجاهين عمد إلى مناقشتهما وردّهما بالإدعاء بأن "ذلك كله لا يمنع صدور الخطأ منه"(41).

وذلك عنده للأسباب التالية :

1 ـ أما الإتجاه الأول فلأن داود (ع) "لم ينتبه إلى أن الخصمين من الملائكة بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر"(42).

وبذلك يكون صاحب "من وحي القرآن" قد ردّ الإتجاه الأول ورفضه لأن كون الخصمين من الملائكة ليس له أي دور في القضية بسبب عدم التفات داود (ع) إلى ذلك، وأنه (ع) إنما حكم على أساس أنهما من البشر، وبالتالي فإن الإتجاه الأول لا ينفي كون داود (ع) قد أخطأ في الحكم؟!!.

2ـ أما الإتجاه الثاني فردّه بالقول : بأن المشكلة لم تكن : "هي إنقاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه.."(43).

ومقتضى قوله هذا : إن الحديث عن القضاء التقديري لا فائدة منه، لأن المشكلة لا تتعلق بإنفاذ الحكم، وبالتالي : فإن القول بالقضاء التقديري لا يحل المشكلة.

3ـ وقبل أن يصرّح (السيد) برأيه في القضية عقّب على ردّ الإتجاهين بإيضاح مكمن المشكلة من وجهة نظره بالقول :

"بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم"(44).

هـ وبعد أن ردّ صاحب "من وحي القرآن" كلا الإتجاهين أدلى برأيه في المسألة معتبراً أنه لا مفرّ من "الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوة، لا سيما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يكون ذلك بمثابة الصدمة القوية التي تمنع عن الخطأ في المستقبل"(45).

إذن وفق رأي (السيد) لا فائدة من الحديث عن كون ذلك قد حصل في عالم التمثّل لا التكليف، وكذلك لا فائدة من الحديث عن القضاء التقديري، لأن كلاهما لا يحل المشكلة بحسب رأي صاحب" من وحي القرآن"، وأن المشكلة إنما تحلّ بالإعتراف بخطأ داود (ع) مع القول بأن هذا النوع من الأخطاء لا ينافي العصمة أو مقام النبوة.

3 ـ إذا ما اتضح ذلك كله، اتضح معه عدم صحة إدعاء "الكاتب" بأن (السيد) قد رجّح الإتجاه الأول، بل هو رفضه كما رفض الإتجاه الثاني أو صرّح بما لا يقبل الجدل بأن داود (ع) قد أطلق حكماً نهائياً.

4 ـ قد مرّ بأن نفي كون هذه الأخطاء تنافي العصمة أو مقام النبوة لا يغيّر من الواقع شيئاً فإن ذلك مجرد دعوى، يريد مطلقها من خلالها إثبات الخطأ على الأنبياء..

مع أن النبي يجب أن يكون معصوماً حتى عن فعل المنفّـرات فإذا كانت العصمة تتناول حتى هذه الحالة، فإن المسألة ترتبط أساساً في تعيير الناس له والحمل عليه والطعن به، وبالتالي عدم الركون إلى أحكامه أو الوثوق به.

ولا يرفع الإشكال كون هذا الخطأ أو ذاك  لن يتكرر في المستقبل، فلو قبل ذلك، لجاز عليهم(ع) المعاصي والذنوب، كالكذب وغيره قبل البعثة، لادعاء بأن ذلك لن يصدر منه بعدها.

وبالتالي : فإن الدليل الذي قام على منع صدور الذنوب عنهم (ع) قبل البعثة يشمل عصمتهم عن الخطأ في مثل هذه الموارد أيضاً والتي صرح أعلام الطائفة بلزوم العصمة عنها.

 5 ـ وعلى ضوء ما تقدم يتضح حجم التضليل الذي مارسه هذا "الكاتب" عندما اعتبر أن ما قاله صاحب "من وحي القرآن" هو ما ذهب إليه جميع "أعلام الطائف وأركانها من المفسرين، من القدماء والمعاصرين"(46).

هذا، فضلاً عن ادعائه بأن (السيد) : " لم يزد شيئاً عما قاله الطوسي (قده) والطباطبائي (قده) وغيرهما.."(47).

 

الفرق الشاسع

قال العلامة الطباطبائي في تفسيره لهذه الآيات :

".. لعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الآخر.. لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيّج الرحمة والعطوفة منه (ع) فبادر إلى هذا التصديق التقديري.."(48).

وفي المقابل قال صاحب "من وحي القرآن" :

".. وانتبه بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير.."(49).

وأمام هذين القولين طرح "الكاتب" سؤالاً سعى من خلاله إلى إثبات مدّعاه بعدم وجود فرق بين ما ذهب إليه صاحب "الميزان" وبين ما ذهب إليه صاحب "من وحي القرآن" ومفاد هذا السؤال هو : ما الفرق بين قولنا: "تهييج الرحمة أو العطوفة" على حدّ تعبير الطباطبائي، وبين قولنا: "الإستسلام للمشاعر العاطفية" على حد تعبير (السيد)(50).

ونجيب : إن الفرق شاسع بين هذين القولين، ولكن لا يدركه إلا من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، خلاصته :

1ـ إن قول الطباطبائي : " تهييج الرحمة والعطوفة" هي إشارة إلى فعل أحد الخصمين، ولم يشر الطباطبائي إلى إستسلام دواود (ع) إلى ذلك.

بينما حديث صاحب "من وحي القرآن" هو وصف لحال داود (ع) الذي استسلم بحسب قول (السيد) لهذا الفعل من "التهييج" للرحمة والعطوفة.

2ـ إن صاحب "الميزان" لم يعتبر أن داود (ع) حكم وفق مشاعره التي هيّجها أحد الخصمين حكماً نهائياً، بل حكماً تقديرياً، والحكم التقديري مفاده أنه لو صحّ قول الخصم الأول فإنه يكون قد ظلمه بسؤال نعجته إلى نعاجه ، وبمعنى آخر إن مفاد الحكم التقديري هو القضية الشرطية والذي يتوقف فيها صحة الحكم على صحة الشرط.

وعليه فلا يضرّه عدم الإستماع إلى الطرف الآخر وإنما المشكلة تكمن في الحكم النهائي مع عدم الإستماع.

أما صاحب "من وحي القرآن" فقد اعتبره حكماً نهائياً لا تقديرياً نابع عن "الإستسلام" " للمشاعر العاطفية".

 

الدعاوى الفارغة

إن "الكاتب" لا يتوقف عن القيام بدعاوى عريضة، لكنها فارغة من أي دليل..

وذلك من قبيل ما ادعاه من قول : بأن " داود (ع) استعجل في الحكم لتأثره العاطفي، ليس جديداً في عالم التفسير.. بل إن القصّة كلها قائمة على ذلك حيث أن الله عز وجل أراد للحادثة أن تكون مفاجئة"(51).

فإن هذه الدعوى، فضلاً عن أنها غير مؤيدة بالشواهد، "والكاتب" نفسه لم يقدّم أدلّة على أن ثمة من سبق (السيد) إلى هذا القول، فقد تقدّم :

1ـ قول الشريف المرتضى (قده) : إن قولهم : أن داود عليه السلام استعجل في الحكم : " قبل التبثت وقد كان يجب عليه.. أن يسأل الآخر عما عنده فيها.." إن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء (ع) وأن هذا هو قول من جوّز على الأنبياء الصغائر..(52).

2ـ قول الطبرسي (قده) بأن من قال بعجلته (ع) " في الحكم قبل التثبت وكان يجب عليه حين سمع الدعوى.. أن يسأل الآخر عما عنده فيها، ولا يحكم عليه قبل ذلك، وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة.." إنما هو قول من جوّز على الأنبياء الصغائر وهم من غير الإمامية ، فراجع(53).

فيتضح بذلك، إن قول "الكاتب" : " بل إن القصة كلها قائمة على ذلك.." مع إصراره على اتهام داود (ع) بأنه استعجل في الحكم لتأثره العاطفي قول غير الإمامية..

ويظهر من ذلك من هو صاحب القول الشاذّ والغريب عن هذا المذهب الحق. فلينظر "الكاتب" فيما هو فيه!!

 

الأولون والآخرون

قال العلامة المحقق : " أنه يلاحظ أن أحد الخصمين قد طرح سؤالاً لا يتضمن ادعاء ملكية، ولا يتضمن شيئاً خلاف الشرع، حيث ادعى أن أخاه صاحب التسعة والتسعين نعجة قد طلب منه أن يجعلها تحت تكّفله وألح عليه في ذلك، ولم يدّع أنه اغتصبها منه أو أنه ادعى ملكيتها، أو أي شيء آخر.."(54).

وحمل "الكاتب" كعادته على هذا القول بأنه مما :" لم يقل به أحد من المفسرين، لا من الأولين ولا من الآخرين، لأنه مناف لصريح القرآن الكريم.."(55).

وهذا النوع من الإدعاءات لم يعد غريباً أن يصدر من هذا "الكاتب"، فهو إذ يقول هذا القول يدّعي أن كتب التفسير بين يديه، وإلا كيف صح أن يعمم حكمه ليشمل الأولين والآخرين، ولكن ماذا تقول كتب التفسير التي يدّعي أنها بين يديه :

1 ـ الشيخ الطوسي (قده) : إجعلني كفيلاً لها :

يقول الشيخ الطوسي (قده) في تبيانه : " وقوله : " فقال أكفلنيها" معناه إجعلني كفيلاً لها، أي ضامناً لأمرها ومنه قوله تعالى : (وكفلها زكريا)"(56).

2 ـ الطبرسي : إجعلني كافلها :

أما الطبرسي (قده) : فقد قال : " أي ضمها إلي واجعلني كافلها الذي يلزم نفسه القيام بها وحياطتها والمعنى : أعطنيها".

ويضعّف الطبرسي (قده) أن يكون المعنى تنازل عنها لي بقوله : "قيل" حيث يذكر : " وقيل معناه أنزل لي عنها حتى تصير في نصيبي.."(57).

3 ـ العلامة المشهدي : كما أكفل ما تحت يدي :

أما العلامة المشهدي فيقول : "وحقيقته : اجعلني اكفلها، كما أكفل ما تحت يدي".

ويضعف المشهدي رأي من يقول : بأن المعنى "نصيبي" بكلمة  " قيل"(58).

4 ـ العلامة الطباطبائي (قده) : اجعلها في كفالتي :

ولا يخرج ما ذكره العلامة الطباطبائي عما سبقه اليه هؤلاء الأعلام حيث يقول :

"وأكفلنيها، أي اجعلها في كفالتي، وتحت سلطتي"(59).

5 ـ الشيخ السبحاني : إجعلها في كفالتي :

وما ذكره آية الله السبحاني هو عين ما ذكره العلامة الطباطبائي، حيث يقول :

"والمراد من قوله : "اكفلنيها" اجعلها في كفالتي وتحت سلطتي"(60).

بعد كل ما تقدم نسأل "الكاتب" لماذا كل هذا التحريف والتضليل، والتحريض، بأن قول العلامة المحقق : "أن معنى أكفلنيها" أي "أن يجعلها تحت كفالته"، مما لم يقل به أحد من الأولين ولا من الآخرين، فهل ثمة تصفية حسابات وراء كل هذه اللغة التحريضية التي يشهد على بطلانها الأولون والآخرون..

 

تحريض جديد

وثمة قول للعلامة المحقق استغله "الكاتب" زاعماً أنه غريب وعجيب وهو لا يظهر إلا كذلك مستغرباً ومستعجباً بمناسبة وبغير مناسبة ـ وهو قوله : " إن قول داود (ع) : (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) لا يدل على أنه كان في مقام إصدار حكم، إذ يمكن أن يكون ذلك مجرد إخبار له بالواقع الذي عرفه داود (ع) عن طريق الوحي، أو عن أي طريق آخر"(61).

وليس في هذا القول ما يثير العجب إلا علامات التعجب التحريضية "للكاتب". إذ فضلاً عن الروايات المتضافرة بأن داود (ع) إنما حكم بما يكشف الله له من الواقع، فها هو الشيخ السبحاني يقول :

" من الممكن أن يكون قضاؤه قبل سماع كلام المدعى عليه، لأجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق، وأن الحق مع المدعي.."(62).

هل نبي الله داود(ع) بلا تقوى؟!

لا شك أن الكثيرين قد سمعوا من صاحب من وحي القرآن إتهامه لمن إتخذ موقفاً منه، لا سيما المراجع (أعزهم المولى) الذين قالوا بحقه ما هو معروف ومشهور، بأن هؤلاء بلا تقوى وبلا دين، وعلل هجومه بأنهم لم يسألونه قبل إتخاذ موقف منه(63).

هذا وقد ذكر(السيد)فضل الله في الرسالة التي بعثها مكتبه في دمشق الى سماحة المرجع السيد محمد سعيد الحكيم ما نصّه:

" أليس من أول شروط العدالة التثبت في الإستماع الى المحكوم عليه قبل إصدار الحكم "(64)

فإذا جمعنا هذين القولين ، مع إتهام صاحب (من وحي القرآن) لنبي الله داود (ع) بأنه أصدر حكماً نهائياً لصاحب النعجة قبل أن يستمع الى الطرف الآخر في القضية، فما هي النتيجة التي سنخرج بها ؟

إنها نتيجة واحدة فحسب:

إن نبي الله داود (ع) وفق منطق (السيد) فضل الله هو: بلا تقوى وبلا دين ، فضلاً عن أن عدالته غبر تامة ومطعون بها ؛ لأن " من أوّل شروط العدالة التثبت في الإستماع الى المحكوم عليه قبل إصدار الحكم" فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وفي الختام، فإننا إذا أردنا أن نستعير من "الكاتب" بعض عباراته وكلماته التي وجهها للعلامة المحقق فنقول له :

إن الذي يقرأ النقاط التي ذكرتموها في دفاعكم عن (السيد) في قصّة داود (ع) والخصمين تأخذه الدهشة مما يجده من تحريف بعد تحريف فيما تسجلونه من أمور، أقل ما يقال عنها أنها ما كان ينبغي أن تصدر من أمثالكم، ممن ينتمون – بحسب الظاهر – إلى مذهب الإمامية الذين يتميزون عن سائر الفرق، بقولهم بعصمة الأنبياء، عن كل خطأ أو زلل عمداً أو سهواً، أو نسياناً.

ولهذا فإني لا أزال غير مصدق أن تكون تلك النقاط "الدفاعية" قد سجلت من قبلكم، ذلك لأنها تخالف صريح ما جاء في القرآن، وبما قام عليه العقل والنقل من تنزّه الأنبياء (ع) عن أخطاء كهذه، كما أنها تخالف التفسير السائد الذي عليه فحول المفسرين الشيعة طوال قرون فلم يكن الشريف المرتضى أولهم ولا الشيخ السبحاني (حفظه الله) آخرهم.

 
خلاصة الفصل التاسع

ويتلخص ما جاء في هذا الفصل بما يلي :

1ـ اتهام "الكاتب" للعلامة المحقق بأنه حرّف كلام الطباطبائي المتعلق بقوله : "فلا توجد خطيئة" والحق أن "الكاتب" هو الذي حرّف وحذف تتمة كلام العلامة المحقق الذي كان ينقل معنى كلام الطباطبائي، والنص هو : "فلا توجد خطيئة.. في عالم الشهود".

وقد نقل "الكاتب" عن العلامة الطباطبائي عين هذا المعنى!.

2ـ كذب صريح من "الكاتب" عندما أنكر وجود جملة في تفسير الميزان وهي : "ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء" واتهم العلامة المحقق بأنه أضافها على النص.

والحق أن العبارة موجودة في تفسير الميزان.

3ـ ادعاؤه بأن مقولة (الحكم قبل أن يسأل الخصم) يقول بها أعلام الشيعة، وذلك منه افتراء، حيث أوردنا كلام المرتضى (قده) والطبرسي (قده) اللذان اعتبرا أن من يقول ذلك إنما هو من غير الإمامية ممن يجوزون الصغائر على الأنبياء.. وكذلك ذكرنا رأي ابن أبي جامع الذي اعتبر أن حكم داود (ع) صدر بعد اعتراف الآخر.. كأحد إحتمالات التفسير.

4ـ تدليسه في رأي صاحب "من وحي القرآن" والإدعاء بأنه قد رجح الإتجاه القائل بأن ما جرى كان في عالم التمثل.

5ـ ادعاؤه زوراً، عدم وجود فرق بين قول الطباطبائي (قده) : "تهييج الرحمة والعطوفة" وبين قول صاحب "من وحي القرآن" : "الإستسلام للمشاعر العاطفية" مع وضوح الفرق.. إذ الأول وصف لفعل أحد المتخاصمين والثاني وصفاً لداود (ع).

6 ـ التضليل والتدليس الذي مارسه حول رأي صاحب "من وحي القرآن" المتعلق بإستعجال داود (ع) بالحكم وتأثره العاطفي وادعاؤه بأنه ليس جديداً في عالم التفسير..

وذلك يناقض ما تقدم من تصريح المرتضى والطبرسي بأن ذلك رأي غير الإمامية ممن يجوز على الأنبياء الصغائر.

7ـ تحريضه على رأي العلامة المحقق المتعلق بمعنى "أكفلنيها" وأنه لم يقل به أحد من الأولين والآخرين..

هذا مع وضوح ذهاب مجموعة كبيرة من العلماء إلى نفس القول من أمثال:الطبرسي والطوسي والمشهدي والطباطبائي والسبحاني..

8 ـ تحريضه أيضاً على رأي العلامة المحقق المتعلق باحتمال أن يكون حكم داود (ع) مجرد إخبار بالواقع الذي عرفه داود (ع) عن طريق الوحي أو عن أي طريق آخر..

مع أن هذا القول يذهب إليه الشيخ السبحاني وغيره.. فضلاً عن تضافر الروايات بأن داود (ع) كان يحكم بما يكشف الله له عن الواقع.

 

الخاتمة

إلى هنا نكون قد إنتهينا من كتابة الجزء الأول من هذا الكتاب، على أن يتبعه الجزء الثاني فور جهوزه إن شاء الله تعالى.

وعلى أي حال، ومن خلال كل ما تقدم في مناقشة كتاب " مراجعات في عصمة الأنبياء من منظور قرآني" إتضحت لنا أمورا أساسية:

أولاً: مدى التحريف والتدليس الذي مارسه الكاتب في مختلف موارد كتابه وقد كان من الأصح أن يسمي كتابه: "علم التحريف وفن التزييف في دين الله الحنيف".

ثانياً: أن ثمة مفارقة كبيرة بين المنهج العام والشعار الرئيسي للكتاب وبين ما يدعيه (السيد) فضل الله.

فالشعار الذى حمله الكتاب والمنهج العام الذي إتبعه حتى اصطبغ كتابه من أوله إلى آخره بصبغتة هو عينه الذي دفع بالكاتب لتسطير تلك الصفحات، بإعترافه هو نفسه "بأنه رأى حيفاً وظلماً في النقد الموجه إلى صاحبه". وذلك يعود، بحسب ما صرح به الكاتب في جميع الفصول التي عالجناها على الأقل، بأن ما ذكره (السيد) هو مما يكاد يجمع عليه المفسرون منذ عصر الشيخ الطوسي إلى عصرنا الحاضر"وأن كل ما سطره العلامة المحقق من إشكالات قد ذهب إليه العلماء الأعلام فلم يكن الطوسي أولهم ولا الطباطبائي آخرهم"، وأن إشكالات المحقق العاملى كان ينبغي أن تتوجه "إلى هذا الكل بدلاً من ذلك البعض" وأن جل المقولات التي إدعى العلامة المحقق أنها جريئة مما نسبه إلى (السيد) ليس فيها أي رائحة الجرأة، بل أنها مما يكاد يجمع عليه المفسرون الشيعة.

وأن ما تبناه (السيد) "من رأي واختاره من اتجاه هو الرأي  السائد" وأن (السيد) "لم يأت بشيء جديد" وهكذا.... أليس هذا ما حاول الكاتب إثباته من خلال جميع تلك الصفحات التي دونها؟‍

وهل يخلو فصل واحد، على الأقل من الفصول التي تعرضنا لها، من هذه العبارات والإدعاءات؟

فإذا ما اتضح ذلك، برزت المفارقة العجيبة بين هذه الإدعاءات وبين ما صدر من جهة ذلك "البعض".

فقد سبق إصدار كتاب "مراجعات في عصمة الأنبياء" ثلاثة إصدارات، كما ذكرنا في مقدمة كتابنا هذا، وقد زعم أصحابها أن ما نسب إلى (السيد) هو كذب وافتراء وتحريف للكلم عن مواضعه، وتقطيع للنصوص ، وغيرها مما هو معروف ومشهور، وقد سوّق ذلك "البعض" لهذه الإصدارات، وأحال الناس إليها وإلى مراجعتها، وعضَد دعواهم هذه برسائل خطية ممهورة منه شخصياً، كما في رسالته التي وجهها إلى سماحة آية الله الشيخ جعفر السبحاني(حفظه المولى) يصرّح فيها بلغة واضحة وبالفم الملآن:

"أن ما نسب إليه 90% كذب و 10% منه تحريف للكلام عن مواضعه".

بل إنه يصرح في مكان آخر أنه يمكنه القول بأن: "99،99% مما يقال وينشر ضدي هو كذب وافتراء وبهتان"(65)

إذن، وبمقتضى هذا التصريح، فإن كل ما نسب إليه فهو غير صحيح.

والآن: فإذا صدقنا كلام هذا الكاتب من أن ما نسبه المحقق العاملى إلى (السيد) هو صحيح، لكنه لم ينفرد به بل هو مما يكاد يجمع عليه المفسرون الشيعة، فإن ذلك يعني عذم صحة ما إدعاه "السابقون" وما إدعاه (السيد) نفسه من أن ما نسب إليه هو غير صحيح.

وإن صدقنا ما إدعاه السابقون ومعهم (السيد) نفسه من أن ما نسب إليه غير صحيح، بل هو إما كذب وافتراء أو تحريف الكلام، كان ذلك نقضاً لكل ما إدعاه الكاتب في كتابه، وبالتالي سقوط كتابه من أصله.

 ولكن ثمة مفارقة أعجب من كل ذلك وهي أن (السيد) أيد الكتب السابقة، ثم أيد هذا الكتاب، رغم تناقض الإدعاءات بين ما سبق وأصدر وبين هذا الكتاب.

فهل هذا تناقض أم هو أمر آخر، لا نحب تسميته وتوصيفه بل نترك للقارئ العزير هذه المهمة.

فهل ثمة تهافت بعد هذا التهافت.

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والعاقبة للمتقين. والحمد لله رب العالمين.

 


1-سورة المائدة، آية 77.

2-سورة ص / آية 17-25.

3-خلفيات ج 1 ص 132-136 ومن وحي القرآن ج 19 ص 278.

4-صدر من هذا الكتاب (مراجعات في عصمة الأنبياء) طبعتان : الأولى في قم المقدسة، والثانية في الكويت، وقد احتوت هاتان النسختان على ما جاء في هذه الوقفة من كذب واتهام صريحين..

وقبيل صدور كتابنا هذا، صدرت الطبعة الثالثة البيروتية، ولم أفكر بمطالعتها أو إقتنائها، لوجود الطبعة الأولى بين يدي، لكن بالصدفة وقعت الطبعة الثالثة بيدي أثناء تواجدي عند بعض الأخوة الذين كنت قد تحادثت معهم عن بعض ما جاء في هذا الكتاب، وعندما التقيت به بادرني بالقول : إن ما كان قد ذكر حول قضية داود (ع) وتحريف "الكاتب" ، لا عين له ولا أثر في الطبعة المتواترة في بيروت، فسارعت للإطلاع عليها في خصوص هذا المورد، فلم أفاجأ، ولكن لفت نظري تجاهل "الكاتب" ما قدمته يداه في الطبعة الأولى والثانية، وكأن شيئاً لم يكن، فلا كذب، ولا افتراء، ولا تحريف، ولا اتهام، رغم علمه بأن الآلاف قد قرأوا كتابه بطبعتيه الأولى والثانية، ومع ذلك لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى هذا الأمر، أو حتى يلفت نظر القارئ إليه ويحذره مما وقع فيه منه من كذب وافتراء وتحريف واتهام.. والملفت أنه قد أصر على الإتهام، ولكن صاغه بطريقة أخرى بقوله : إن العلامة المحقق عمد إلى نقل كلام الطباطبائي بالمعنى ليتسنى له أن يتلاعب فيه.. وما ذلك إلا دليل على أن "الكاتب" إنما يهدف من وراء ذلك الدفاع عن "السيد" الشخص، " وأنه مستعد لإبتكار الأساليب والوسائل المناسبة، مع أن الأجدر به أن يقدم الإعتذار مما صدر منه في هذا المورد وفي غيره، ولكن أنّى له ذلك، وقد صرح بأنه قد تأكد له أن العلامة المحقق "وفي هذه المرة بالخصوص"!! يجعل من الإتجاه السائد تفسيراً غريباً!!!.

5-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 285.

6-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

7-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

8-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

9-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

10-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 287.

11-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 287.

12-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288,

13-خلفيات ج 1 ص 137.

14-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288.

15-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 287.

16-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 289.

17-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288.

18-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 288 و 289.

19-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 289.

20-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 289.

21-تفسير الميزان ج 17 ص 194، وراجع خلفيات ج 1 ص 137.

22-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 98.

23-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 9.

24-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 11.

25-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 12.

26-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 14.

27-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

28-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 290.

29-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 293.

30-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 293.

31-قمنا بحذف بعض العبارات من النص المنقول، وهي خصوص تلك المتعلقة باللغة والنحو.

32-تنزيه الأنبياء ص 127-132.

33-مجمع البيان ج 7 و 8 ص 607.

34-الوجيز ج 3 ص 98 ـ 100.

35-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 290.

36-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 291.

37-من وحي القرآن ج 19 ص 274.

38-من وحي القرآن ج 19 ص 276.

39-من وحي القرآن ج 19 ص 277.

40-من وحي القرآن ج 19 ص 277.

41-من وحي القرآن ج 19 ص 277.

42-من وحي القرآن ج 19 ص 277.

43-من وحي القرآن ج 19 ص 277.

44-من وحي القرآن ج 19 ص 277.

45-من وحي القرآن ج 19 ص 278.

46-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 293.

47-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 286.

48-الميزان في تفسير القرآن ج 17 ص 193.

49-من وحي القرآن ج 19 ص 275.

50-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 300.

51-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 299.

52-تنزيه الأنبياء ص 131 و 132.

53-مجمع البيان ج 7 و 8 ص 607.

54-خلفيات ج 1 ص 138.

55-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 302.

56-التبيان ج 8 ص 505.

57-مجمع البيان ج 7 و 8 ص 606.

58-كنز الدقائق ج 11 ص 215 و 216.

59-الميزان ج 17 ص 192.

60-عصمة الأنبياء في القرآن ص 168.

61-مراجعات في عصمة الأنبياء ص 302 و 303.

62-عصمة الأنبياء في القرآن الكريم ص 170.

63-هذا قول مشهور له.

64-نص الرسالة التي أرسلها مكتب (السيد) فضل الله في دمشق الى المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم.

65-نفس المصدر ،ج 69 ، ص 199

     

فهــرس الكتــاب

     

موقع الميزان