البداء في التكوين
تاليف
آية الله العظمى السيد أبوالقاسم الخوئي
توطئة
[ لمّا كان] النسخ في الأحكام و هو في أفق التشريع، [و كذا البداء] و هو في أفق التكوين.
و بمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين، و أنهم نسبوا إلى الشيعة ماهم برآء منه، و أنهم لم يحسنوا في الفهم، و لم يحسنوا في النقد!
و ليتهم إذ لم يعرفوا تثبّتوا، أو توقفوا (1) كما تفرضه الأمانة
____________
1- و من الذين لم يثبتوا و لم يتوقفوا[و اختلقوا نسبة الجهل إلى الله تعالى على لسان الشيعة]: الفخر الرازي، عند تفسيره قوله تعالى: (يمحوالله ما يشاء و يثبت...) قال: قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى، وهو أن يعتقد شيئاً، ثمّ يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده. إنتهى.[التفسير الكبير 19/66 المسألة الخامسة من الشبهة السادسة].
سبحانك اللهم إن هذا إلا اختلاق.
و قد حكى الرازي في خاتمة كتاب «المحصّل» [ص 365] عن سليمان بن جرير كلاماً يقبح منه ذكره، ولا يحسن مني سطره.
و إن هذه الكلمة قد صدرت على أثر كلمة أخرى تشابهها، تفوّه بها بعض النصارى في حق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حينما جاء بأحكام ناسخة لما جاء به قبلها...[ أنظر: الهدى إلى دين المصطفى 1/257-259، أعاجيب الأكاذيب: 82-84 رقم 11.(م)].
كبرت كلمة تخرج من أفواههم، و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئاً في توضيح معنى البداء.
تمهيد:
لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته، و أن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى، فإن شاء أوجده، وإن لم يشأ لم يوجده.
و لا ريب- أيضاً- في أن علم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلّها منذ الأزل، و أن الأشياء بأجمعها كان لها تعين علميّ في علم الله الأزليّ، وهذا التعيّن يعبّر عنه ب«تقديرالله» تارةً، وب«قضائه» تارةً أخرى.
فإن تعلقت المشيئة به وجد، و إلا لم يوجد.
والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية؛ لأن انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء، فإذا كان الواقع منوطاً بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقاً به على هذه الحالة، وإلا لم يكن العلم علماً به على وجهه، و انكشافاً له على واقعه.
فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء و قضائه بها:
أن الأشياء - جميعها - كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل - على ما هي عليه- من أنّ وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف، والتي يحيط بها العلم الإلهيّ.
موقف اليهود من قدرة الله
و ذهبت اليهود إلى أنّ قلم التقدير و القضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه؛ و من أجل ذلك قالوا: يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ
و من الغريب أنهم - قاتلهم الله- التزموا بسلب القدرة عن الله، و لم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد، مع أنّ الملاك في كليهما واحد، فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى، و بأفعال العبيد على حدٍٍّسواء.
موقع البداء عند الشيعة
ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلف، و لا بدّ من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء.
و توضيح ذلك أنّ القضاء على ثلاثة اقسام:
____________
2- و هذه بعض الأخبار الدالّة على مشيئة الله تعالى في خلقه:
روى الصدوق في كتابي «التوحيد» و «معاني الأخبار» بإسناده عن أبي عبدالله عليه السلام، أنه قال في قول الله عزو جلّ: (وقالت اليهود يدالله مغلولة): لم يعنوا أنّه هكذا، و لكنهم قالوا: قد فرغ من الأمر، فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم (غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) ألم تسمع الله عزوجل يقول: (يمحو الله ما يشاء ويثبت و عنده أم الكتاب). [التوحيد167 ح 1،معاني الأخبار:18 ح 15].
وروى العيّاشي، عن يعقوب بن شعيب، و عن حمّاد، عن أبي عبدالله عليه السلام، نحو ذلك.[ تفسير العياشي 1/330ح 146 و147].
هذه الروايات و غيرها- مما نذكره في هذه الرسالة - موجودة في كتاب البحار لشيخنا المجلسي، 4/92-134(ج2 ص131-142 ط كمباني).
أقسام القضاء الألهيّ
الأول:
قضاء الله الذي لم يطّلع عليه أحداً من خلقه، و العلم المخزون الذي استأثره لنفسه.
و لا ريب في أنّ البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في روايا ت كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ البداء إنما ينشأ من هذا العلم.
روى الشيخ الصدوق في «العيون» بإسناده عن الحسن ابن محمد النوفلي، أنّ الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي:
«رويت عن أبي، عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: إنّ لله عزّو جلّ علمين: علماً مخزوناً مكنوناً، لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء؛ و علماً علّمه ملائكته و رسله، فالعلماء من أهل البيت نبيّك يعلمونه...(3).
و روى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في «بصائر الدرجات» بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال:
____________
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/181 باب 13 في ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي، و فيه: «نبينا» بدل «نبيك»، وعنه في بحارالأنوار4/95 ح2(باب البداء والنسخ، ج 2 ص 132ط كمباني) - و كان المتن منقولاً من البحار-.
الثاني:
قضاء الله الذي أخبر نبيه و ملائكته بأنّه سيقع حتماً.
و لا ريب في أنّ هذا القسم - أيضاً- لا يقع فيه البداء، و إن افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ منه.
قال الرضا عليه السلام لسليمان المروزي - في الرواية المتقدمة-عن الصدوق:
«إنّ علياً عليه السلام كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه الله ملائكته و رسله، فما علمه ملائكته و رسله فأنه يكون، و لا يكذب نفسه و لا ملائكته و لا رسله؛ و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدم منه ما يشاء، و يؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء» (5).
و روى العياشي، عن الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر
____________
4- بصائر الدرجات: 129 ح 2، و عنه في بحار الأنوار4/109 ح 27(باب البداء والنسخ، ج2 ص 136 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار-، و الكافي 1/114 ح 8 وفيه: «فنحن» بدل «ونحن»، و عنه في الوافي 1/513 ح 414 (باب البداء، ج1ص 113).
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/182(باب 13)، و رواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام في الكافي 1/114 ح 6 بأختلاف يسير، و عنه في الوافي 1/512 ح 412 (باب البداء ج ص 113).
«من الأمور أمور محومة جائية لا محالة، و من الأمور أمور موقوفة عند الله، يقدّم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء، و يثبت منها ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحداً - يعني الموقوفة- فأما ما جاء ت به الرسل فهي كائنة، لا يكذب نفسه، ولا نبيه، و لا ملائكته»(6).
الثالث:
قضاء الله الذي أخبر نبيه و ملائكته بوقوعه في الخارج، إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئتة الله بخلافه.
وهذا القسم هوالذي يقع فيه البداء:
(يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب)(7) (لله الأمر من قبل و من بعد) (8).
و قد دلت على ذلك روايات كثيرة، منها هذه:
1 - ما في «تفسير علي بن إبراهيم» عن عبدالله بن مسكان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال :
«إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة إلى سماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً، أو يؤخره، أو ينقص شيئا،
____________
6- تفسير العياشي 2/217 ح 65 بأختلاف يسير، و عنه في بحار الأنوار4/119 ح 58(باب البداء و النسخ ج 2 ص 133 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار-.
7- سورة الرعد 39:13.
8- سورة الروم 4:30.
قلت: و كلّ شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟
قال: نعم.
قلت: فأيّ شيء يكون بعده؟
قال: سبحان الله ! ثمّ يحدث الله أيضاً ما يشاء، تبارك و تعالى»(9).
2 - ما في تفسيرة أيضاً، عن عبدالله بن مسكان، عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسن عليهم السلام، في تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمرٍ حكيم) (10).
«أي: يقدر الله كل أمر من اللحق و من الباطل، و ما يكون في تلك السنة، و له فيه البداء و المشيئة، يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء من الآجال و الأرزاق والبلايا و الأعراض و الأمراض، و يزيد فيها ما يشاء و ينقص ما يشاء...» (11).
3 - ما في كتاب «الأحتجاج» عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال:
«لولا آية في كتاب الله، لأخبرتكم بما كان، و بما يكون، و بما هو كائن إلى يوم القيامة، و هي هذه الآية: (يمحو
____________
9- تفسير القمي 1/366 بأختلاف يسير، و عنه في بحار الأنوار 4/99 ح 9 (باب البداء و النسخ ج 2 ص 133 ط كمباني) - و كان المتن منقولاً من البحار.
10- سورة الدخان4:44.
11- تفسير القمي 1/366، و عنه في بحارالأنوار 4/101 ح 12(باب البداء والنسخ ج2 ص134 ط كمباني) - و كان المتن منقولاً من البحار-.
و روى الصدوق في «الأمالي» و «التوحيد» بإسناده عن الأصبغ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام، مثله (13).
4 - ما في «تفسير العياشي» عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
«كان علي بن الحسين عليه السلام يقول: لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة.
فقلت: أية آية؟
قال: قول الله: (يمحو الله...)(14).
5 - ما في«قرب اللإ سناد» عن البزنطي، عن الرضا عليه السلام قال:
«قال أبوعبدالله، و أبوجعفر، و علي بن الحسين، و الحسين بن علي، والحسن بي علي، و علي بن أبي طالب عليهم السلام: و الله لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: (يمحو الله...)» (15).
____________
12- الأحتجاج: 258 (ص 137، المطبعة المرتضويّة، النجف الأشرف).
13-الأمالي: 280ح 1ب 55، التوحيد: 305، و عنهما في بحارالأنوار 4/97 ذح 4.(م).
14- تفسير العياشي 2/215 ح 59، وعنه في بحارالأنوار 4/118 ح 52(باب البداء و النسخ ج2 ص 139 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار-.
15- قرب الإسناد: 353 ح 1266، و عنه في بحارالأنوار 4/97 ح 5(باب البداء و النسخ ج 2 ص132 ط كمباني) - و كان المتن منقولاً من البحار-.
وخلاصة القول:
إن القضاء الحتمي المعبّر عنه باللوح المحفوظ، و بأم الكتاب، والعلم المخزون عندالله، يستحيل أن يقع فيه البداء.
و كيف يتصوّر فيه البداء ؟! و أنّ الله سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء.
روى الصدوق في «إكمال الدين» بإسناده عن أبي بصير و سماعة، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال:
«من زعم أنّ الله عزّو جلّ يبدو له في شيء[اليوم ] (16) لم يعلمه أمس فابرأوا منه»(17).
وروى العياشي عن ابن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، يقول:
«إن الله يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء، و عنده أم الكتاب.
____________
16- أثبتناه من المصدر.(م).
17- إكمال الدين: 70، وعنه في بحارالأنوار4/111 ح 30(باب البداء و النسخ ج2 ص136)- و كان المتن منقولاً من البحار-.
و روى أيضاً عن عمار بن موسى، عن أبي عبدالله عليه السلام:
«سئل عن قول الله: (يمحو الله...).
قال: إن ذلك الكتاب كتاب يمحو الله [ فيه] (19) ما يشاء و يثبت، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء، و ذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يردّ به القضاء، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً»(20).
و روى الشيخ الطوسي في كتاب «الغيبة» بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال:
«[قال] (21) علي بن الحسين، و علي بن أبي طالب قبله، و محمد بن علي، و جعفربن محمد: كيف لنا بالحديث مع هذه الآية: (يمحوالله...) فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم
____________
18- تفسير العياشي 2/218 ح 71 وفيه: «لكل» بدل «فكل»، و عنه في بحار الأنوار4/121ح 63 (باب البداء و النسخ ج2 ص 139) - و كان المتن منقولاً من البحار-.
21- أثبتناه من المصدر.(م).
والروايات الأثورة عن أهل البيت عليهم السلام أن الله لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حدّ الإحصاء (23)، و قد اتّفقت على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقاً لكتاب الله و سنّة رسوله، جرياً على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.
____________
22- الغيبة: 430 ح 420، و عنه في بحارالأنوار4/115 ذح40(باب البداء والنسخ ج2 ص136 ط كمباني)- و كان المتن منقولاً من البحار-.
و روى الشيخ الكليني بإسناده عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: «مابدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له».
الكافي 1/114 ح 9، وعنه في الوافي 1/514 ح 416 (باب البداء ج1ص 113).
23- أنظر ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - في: الكافي 1/67 ح 2 باب أدنى المعرفة، و 1/83-84 ح 1-6 باب صفات الذات، و 1/104- 109 ح1 و4 و6 باب جوامع التوحيد، و 1/115 ح11 باب البداء، التوحيد: 135 ح 5 و6،و ص 136 ح8، و ص 137 ح 9 باب العلم، و ص 139-148 ح 1-19 باب صفات الذات و صفات الأفعال.
و كذا ما ورد في تفسير قوله تعالى: (و ما يعمّرمن معمّرو لاينقص من عمره إلا في كتاب) سورة فاطر11:35، و قوله تعالى: (كلّ يوم هو في شأن) سورة الرحمن 29:55، وقوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في انفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) سورة الحديد 22:57، و قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر...) سورة القدر1:97-5 وغيرها كثير.(م).
ثمرة الاعتقاد بالبداء
والبداء:
انما يكون في القضاء الموقوف، المعبّر عنه بلوح المحو واللإثبات. والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه، و ليس في هذاالالتزام ما ينافي عظمته و جلاله.
فالقول بالبداء:
هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان الله و قدرته في حدوثه و بقائه، و أنّ إرادة الله نافذة في الأشياء أزلا وابدا.
بل وفي القول بالبداء يتّضح الفارق بين العلم الإلهي ّ و بين علم المخلوقين.
فعلم المخلوقين- و إن كانوا أنبياء أو أوصياء- لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فانّ بعضاً منهم و إن كان عالما- بتعليم الله إياه - بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه، فإنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى- لوجود شيء- أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الختم.
و القول بالبداء:
يوجب انقطاع العبد إلى الله، و طلبه إجابة دعائه منه، و كفاية مهماته، و توفيقه للطاعة، و إبعاده عن المعصية.
فإن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير
فإنّ ما يطلبه العبد من ربّه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة، و لا حاجة إلى الدعاء و التوسّل.
و إن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبداً، و لم ينفعه الدعاء و التضرّع.
و إذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه، حيث لا فائدة في ذلك، و كذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين عليهم السلام انها تزيد في العمر أو في الرزق، أو غير ذلك ممّا يطلبه العبد.
وهذا هوسرّ ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام من الاهتمام بشأن البداء.
فقد روى الصدوق في كتابه «التوحيد بإسناده عن زرارة، عن أحدهما عليهما السلام، قال:
«ما عبد الله عزّو جلّ بشيء مثل البداء.»(24).
وروى بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال:
____________
24- التوحيد: 332 ح 1(باب البداء ص 272 ط سنة 1386، و في نسخة أخرى: «أفضل من البداء» بدل «مثل البداء»)، ورواه الشيخ الكليني أيضاً في الكافي 1/113 ح 1، وعنه في الوافي 1/507 ح 403(باب البداء ج 1 ص113).
و روى و بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال:
«ما بعث الله عزوجل نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، و خلع الأنداد، و أنّ الله يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء» (26).
والسرّ في هذاالاهتمام:
أنّ إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً؛ فإن كلا القولين يؤيس العبد من إجابة دعائه، و ذلك يوجب عدم توجّهه في طلباته إلى ربّه.
____________
25- التوحيد: 333 ح 2 (باب البداء ص 272 ط سنة 1386)، و رواه الشيخ الكليني أيضاً في الكافي 1/113 ذ ح 1، و عنه في الوافي1/507 ح 404 (باب البداء ج 1ص 113).
26- التوحيد: 333 ح 3 (باب البداء ص272 ط سنة1386)، و رواه الشيخ الكليني أيضاً في الكافي 1/114 ح 3 وفيه: «الإقرار له»، و عنه في الوافي1/510 ح 406 (باب البداء ج1ص113).
[ و روى الشيه الكليني بإسناده عن مالك الجهني، قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه. الكافي 1/115 ح12.(م).]
حقيقة البداء عند الشيعة
وعلى الجملة:
فإن البداء- بالمعني الذي تقول به الشيعة الإمامية- هومن الإبداء (الإظهار) حقيقةً (27)، و إطلاق لفظ البداء عليه مبني على التيزيل و الإطلاق بعلاقة المشاركة؛ وقد أطلق بهذا المعنى في بعض الروايات من طرق أهل السنة.
روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة، أنّ أبا هريرة حدّثه أنة سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
«إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا لله عزّ و جلّ أن يبتليهم ن فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص...»(28).
و قد وقع نظير ذلك في كثير من الاستعمالات القرآنية:
كقوله تعالى: (الآن خفّف الله عنكم و علم أنّ فيكم ضعفاً) (29).
وقوله تعالى: (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) (30).
و قوله تعالى:(لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً) (31).
____________
27- أنظر مادّة «بدا» من: لسان العرب 14/65 و الصحاح 6/2278.(م).
28- صحيح البخاري 4/208(4/146 باب ما ذكر عن بني إسرائيل).
29- سورة الأنفال66:8.
30- سورة الكهف 12:18.
31- سورة الكهف 7:18.
أما ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السلام من الإنباء بالحوادث المستقبلة، فتحقيق الحال فيها: أنّ المعصوم متى ما أخبر بوقوع أمر مستقبل على سبيل الحتم و الجزم، و دون تعليق، فذلك يدلّ أنّ ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم، وهذا هو القسم الثاني (الحتمي) من أقسام القضاء المتقدّمة؛ و قد علمت أنّ مثله ليس موضعاً للبداء، فإنّ الله لا يكذّب نفسه و لانبيّه.
و متى ما أخبر المعصوم بشيء معلقاً على أن لا تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه، و نصب قرينةً- متّصلة أو منفصلة-
____________
32- و من الروايات التي تفيد أنّ الدعاء يغير القضاء ما يلي:
. روى سليمان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] و سلّم: لا يردّ القضاء إلا الدعاء، و لا يزيد في العمر الا البرّ.
رواه الترمذي في سننه 4/448 ح 2139 (8/350 باب ما جاء: لا يردّ القدر إلا الدعاء).
و روى ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: لا يزيد في العمر إلا البرّ، ولا يردّ القدر إلا الدعاء، و إن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها [ أو: بالذنب يصيبه].
رواه ابن ماجة في سننه 1/35 ح 90 [ و2/1334ح 4022] (1/24 باب في القدر)، و رواه الحاكم في المستدرك 1/493 و صحّحه و لم يتعقبه الذهبي، و رواه أحمد في مسنده 5/277 و280 و282.
و الروايات بهذا المعنى كثيرة تطلب من مظانّها.
على ذلك، فهذا الخبر إنّما يدلّ على جريان القضاء الموقوف، الذي هو موضع البداء.
و الخبر الذي أخبر به المعصوم صادق و إن جرى فيه البداء، و تعلقت المشيئة الإلهية بخلافه، فإنّ الخبر- كما عرفت - منوط بأن لا تخالفه المشيئة.
روى العياشي عن عمروبن الحمق، قال:
«دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو، إني مفارقكم. ثمّ قال: سنة السبعين فيها بلاء...
فقلت: بأبي أنت و أمّي، قلت: إلى السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟
قال: نعم يا عمرو، إنّ بعد البلاء رخاء... و ذكر آية (يمحو الله...) (33).
33- تفسير العياشي 2/217 ح68، وعنه في بحار الأنوار 4/119 ح 60.(م).
مصادر التوثيق والتعضيد
1- القرآن الكريم.
2- الاحتجاج على أهل اللجاج، لأبي منصورأحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي(ق6ه) تعليق: السيد محمد باقر الموسوي الخرسان، نشر: دارالمرتضى، مشهد/1403 ه (مصوّر على طبعة مؤسسة الأعلمي، بيروت/1403 ه).
3-الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، للشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (336-413ه) تحقيق و نشر: مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لإحياء التراث، قم /1413ه.
4-أعاجيب الأكاذيب، للشيخ محمد جواد البلاغي (1282-1352ه) إعداد: السيد محمد علي الحكيم، نشر: دار الإمام السجاد عليه السلام، قم /1412ه.
5- الأعلام، لخير الدين الزركلي، المتوفى سنة1396ه، الطبعة السادسة، نشر: دارالعلم للملايين، بيروت/1984م.
6- إعلام الورى بأعلام الهدى، لأمين الإسلام أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، المتوفى سنة548ه، تقديم: السيّد محمد مهدي الخرسان، الطبعة الثالثة، منشورات دار الكتب الإسلامية، طهران، بالتصوير على طبعة النجف الأشرف.
7-أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين العاملي، تحقيق: السيد حسن الأمين، نشر: دارالتعارف، بيروت/1403ه.
8- إكمال الدين و إتمام النعمة، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن
9- الأمالي، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمدبن علي بن الحسين بن بابويه القمي، المتوفى سنة 381ه، تقديم: الشيخ حسين الأعلمي، نشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت/1400ه.
10- بحارالأنوار، لشيخ الإسلام العلامة محمد باقر المجلسي، المتوفى سنة 1110ه، الطبعة الثانية، نشر: مؤسسة الوفاء، بيروت/1403 هجرية.
11- بصائر الدرجات الكبرى، لشيخ القمييّن أبي جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار، المتوفى سنة290ه، منشورات مؤسسة الأعلمي، طهران/1404ه.
12- تفسيرالعياشي، لأبي النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي(ق3ه) تحقيق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، نشر: المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.
13- تفسيرالقمي، لأبي الحسن علي بن إبراهيم القمي (ق 3 و4ه) تصحيح و تعليق: السيد طيب الموسوي الجزائري، الطبعة الثالثة، مؤسسة دارالكتاب، قم/1404 ه(مصوّرة على طبعة بيروت الثانية، سنة1387ه).
14- التفسير الكبير، للفخر الرازي، المتوفى سنة606 ه، الطبعة الثالثة.
15- التوحيد، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي، المتوفى سنة381 ه، تصحيح و تعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
16- الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للعلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني، المتوفى سنة1389ه، الطبعة الثالثة، نشر: دارالأضواء، بيروت/1403 ه.
17- سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني (207-275ه) تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، نشر: دار الفكر.
18- سنن الترمذي (الجامع الصحيح)،لأبي عيسى محمد بن عيسى ابن سوره(209-297ه) تحقيق و شرح: أحمد محمد شاكر، نشر: دارإحياء التراث العربي، بيروت.
19- الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمدعبدالغفور عطار، الطبعةالثالثة، نشر: دارالعلم للملايين، بيروت/1404ه.
20- صحيح البخاري، لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي(194-256) تحقيق: أحمد محمد شاكر، نشر: دارإحياء التراث العربي، بيروت.
21- عيون أخبار الرضا عليه السلام، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، المتوفى سنة381 ه، تصحيح: السيد مهدي الحسيني اللاجوردي، نشر: انتشارات جهان، طهران.
22-الغيبة، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(385-460 ه) تحقيق: الشيخ عبادالله الطهراني و الشيخ علي أحمد ناصح، نشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، قم/1411ه.
23- قرب الإسناد، للشيخ أبي العباس عبدالله بن جعفر الحميري
24 - الكافي، لثقة الإسلام أبي جعفرمحمد بن يعقوب الكليني الرازي، المتوفى سنة 329ه، تصحيح: الشيخ نجم الدين الآملي، تعليق: علي أكبرالغفاري، نشر: المكتبة الإسلامية، طهران/1388ه.
25- كفاية الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر، لأبي القاسم علي ابن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي(ق4ه) تحقيق: السيد عبداللطيف الحسيني الكوه كمري الخوئي، نشر: انتشارات بيدار، قم/1401ه.
26- الكنى و الألقاب، للمحدّث الشيخ عباس قمي، المتوفى سنة1359 ه، تصحيح: السيد حسن الحسيني اللواساني النجفي، مطبعة العرفان، صيدا/1357ه.
27- لسان العرب، لابن منظور المصري، أدب الحوزة، قم/1405 ه(مصوّر).
28- معاني الأخبار، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمدبن علي بن الحسين بن بابويه القمي، المتوفى سنة 381ه، تصحيح: علي أكبر الغفاري، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم/1361ه.ش.
29- محصل افكار المتقدّمين والمتأخّرين، لفخرالدين محمد بن عمرالخطيب الرازي(544-606ه) تعليق: طه عبدالرؤوف سعد، الطبعة الأولى، نشر: دارالكتاب العربي، بيروت/1404ه.
30- المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري، المتوفىسنة405 ه، نشر: دارالفكر، بيروت/1398 ه.
32- معجم رجال الحديث، لآية الله العظمى السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي(1317-1413ه) الطبعة الثالثة، بيروت/1403ه،منشورات مدينة العلم -قم.
33- نصائح الهدى والدين، للشيخ محمد جواد البلاغي(1282-1352 ه) الطبعة الأولى، مطبعة دارالسلام، بغداد/1339 ه.
34- نقباء البشر في القرن الرابع عشر(طبقات أعلام الشيعة)، للعلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني، المتوفى سنة1389 ه، تعليق: السيد عبدالعزيز الطباطبائي، الطبعة الثانية، نشر: دارالمرتضى، مشهد/1404 ه.
35- الهدى إلى دين المصطفى، للشيخ محمد جواد البلاغي(1282-1352ه) نشر: دارالكتب الإسلامية، قم (مصوّر على الطبعة الثانية- النجف الأشرف).
36- الوافي، للمحدث الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني، المتوفى سنة1091 ه، نشر: مكتبة الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام،أصفهان/1406 ه.