كليات في العقيدة
6
الفصل السابع
الإمامَةُ والخِلافَةُ
ومع رحيل النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) انقطعَ الوحيُ، وانتهت النُبوَّةُ، فلم يكن نبيٌّ بعده ولا شريعةٌ بعد شريعته، إلاّ أنّ الوظائف والتكاليف التي كانت على عاتق النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (ما عدا مسألة تلقِّي الوحي وإبلاغه) لم تنته حتماً.
ولهذا كان يجب أن يكونَ بعد وفاته شخصيةٌ واعيةٌ وصالحةٌ تواصل القيام بتلك الوظائف والمهام وتقود المسلمين ويكون لهم إمامٌ خلافةً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ مسألة ضرورة وجود خليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موضعُ اتّفاق بين المسلمين، وإنْ اختلف الشيعة والسنة في بعض صفات ذلك الخليفة وطريقة تعيينه.
فلابدّ في البداية من توضيح معنى «الشيعة» و «التشيع»، وتاريخ نشأته وظهوره، ليتسنّى بعد ذلك البحثُ في المسائل المتعلّقة بالاِمامة والخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الاَصلُ الثالث والثمانون: الشيعة لغة واصطلاحاً
«الشِيعَة» في اللغة بمعنى التابِع، وفي الاصطلاح تُطلَقُ هذه اللفظة أو التسمية على فريقٍ من المسلمين يعتقدون بأنّ قيادة الاَُمّة الاِسلاميّةِ بعد وفاةِ رَسُول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي من حق الاِمام عليّ (عليه السلام) وأبنائه المعصومين.
الاِمامَة والخلافة …
وقد تَحَدّثَ النبيُّ الاَكرمُ أيّام حياته عن فضائل الاِمام عليّ (عليه السلام) ومناقبه، وكذا عن قيادته وزعامته للاَُمّة الاِسلاميّة من بعده، مراراً وفي مناسبات مختلِفة، بشهادة التاريخ المدوَّن.
إنّ هذه التوصيات والتأكيدات تسبَّبت ـ كما تحدِّثُنا الاَحاديثُ الموثّقة ـ في أن يلتَفَّ فريقٌ مِنَ الصحابة حول الاِمام عليّ (عليه السلام) في حياة النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحبّه قلوبُهم، فتُعْرف بشيعةِ عليّ (عليه السلام).
ولقد بقيت هذه الثُلّة من الصحابة على ولائها واعتقادها السابق بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أنْ تؤثر المصالحَ الفرديّةَ على تنصيص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيَّته في مجال الخلافة وقيادة الاَُمّة من بعده.
وهكذا سُمِّيَت جماعةٌ من المسلمين في عصر رسول الله، وبَعد حياته الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشيعة. وقد صَرحَ بهذا جماعةٌ من المؤلّفين في الملل والنحل.
فالنوبختي (المتوفّى 310 هـ) يكتب قائلاً: الشيعة هُم أتباع علي بنِ أبي طالب (عليه السلام) المسَمُّون بِشيعةِ علي (عليه السلام) في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده،
معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(1)
وقال أبو الحسن الاََشعري: وإنّما قيل لهم (شيعة) لاَنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2)
وقال الشهرستاني: الشيعة هم الذين شايَعوا علِيّاً على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافتِهِ نصّاً ووصيّة.(3)
وعلى هذا الاَساس فليس للشيعة تاريخ غير تاريخ الاِسلام وليس له مبدأُ ظهور غير مبدأ ظهور الاِسلام نفسه، وفي الحقيقة إنّ الاِسلام والتشيّع وَجْهان لعُملةٍ واحدةٍ أو وَجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، وتوأمان وُلدا في زَمَنٍ واحدٍ.
وقد ذكر المحدّثون والمؤرّخون أنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا في السَنَوات الاَُولى من دعوته بني هاشم، وجمعهم في بيته وأعلن فيهم عن خلافة عليّ ووصايته (في ما يسمّى بحديث بَدء الدعوة أو يوم الدار)(4) وأعلن عن ذلك للناس فيما بعد مكرّراً، وفي مناسبات مختلفة ومواقف متعدّدة، وبخاصة في يوم الغدير، الّذي طرح فيه خلافة عليٍ بصُورةٍ رسميّة، وأخذَ البيعة من النّاس له وسيوافيك تفصيله.
إنّ التشيُّع ليس وليدَ حوادث السقيفة ولا فتنة مصرع عثمان وغيرها
____________
1. فِرَق الشيعة، ص 17.
2. مقالات الاِسلاميين: 1 | 65.
3. الملل والنحل: 1 | 131.
4. راجع تاريخ الطبري: 2 | 62 ـ 64.
من الاَساطير، بل انّ النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي بذر بذرة التشيع لاََوّل مرة وغرس غرستها في قلوب الصحابة بتعاليمه السماوية المكرّرة.
ونمت تلك الغرسة فيما بعد شيئاً فشيئاً، وعُرِف صحابةٌ كبارٌ كأبي ذرّ، وسلمان، والمقداد، باسم الشيعة.
وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ آمَنوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُوْلئكَ هُمْ خَيْرُ البَريّةِ)(1)
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «هُمْ عَلِيٌّ وَشِيْعَتُهُ»(2)
على أنّه لا تَسَعُ هذه الرسالةُ المختصرةُ لذكر أسماء الشيعة الاَوائل من الصَّحابة، والتابعين الذين اعتَقَدُوا بخلافَتِهِ للنبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورةٍ مباشرةٍ وبلا فصل.
إنّ التشيُّعَ بالمفهوم المذكور هو الوجه المشترك بين جميع الشيعة في العالم، والذين يشكّلون قِسماً عظيماً مِن مُسْلِمِي العالم.
ولقد كانَ للِشيعة جنباً إلى جنب مع سائر المذاهب الاِسلامية وعلى مدى التاريخ الاِسلامي إسهامٌ عظيمٌ في نشر الاِسلام، وقَدَّمُوا شخصياتٍ عِلميّة وأَدَبيّة وسياسيّة جدّ عظيمة إلى المجتمع البشري ولهم حضور فاعل في أكثر نقاط العالم الراهِن أيضاً.
____________
1. البينة | 7.
2. الدر المنثور، سورة البيّنة.
الاَصلُ الرابعُ والثمانون: الاِمامة مسألة إلهية
إنّ مسألةَ «الاِمامة» ـ كما سنثبِتُ ذلك من خلال الاَُصول القادمة ـ كانت مسألة إلَهيّة، وسماويّة، ولهذا كان من اللازم أن يتم تعيينُ خليفة النبي كذلك عبر الوحي الاِِلَهيّ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقوم النبيُّ بإبلاغه إلى الناس.
وقبل أن نعمدَ إلى استعراض وبيان الاَدلّةِ النقليّة والشرعيّة في هذا المجال، نستعرض حُكم العقلِ في هذه الحالة، آخذين بنظر الاعتبار ظروف تلك الفترة (أي فترة ما قبل وما بعد رحيل النبيّ)، وملابساتها.
إنَّ العقلَ البديهيَّ يحكم بأنّ أي إنسانٍ مصلحٍ إذا استطاع من خلال جهودٍ مُضنيةٍ دامت سَنَواتٍ عديدةً، من تنفيذ أُطروحةٍ اجتماعيّة خاصة له، وابتكر طريقة جديدة للمجتمع البشريّ فإنّه لا بدّ من أن يفكِّر في وسيلةٍ مؤثِّرة للاِبقاء على تلك الاَُطروحة، وضمان استمرارها، بل رُشدها، ونموّها أيضاً، وليس من الحكمة أن يؤسّسَ شخصٌ مّا بناءً عظيماً، متحمّلاً في ذلك السبيل متاعبَ كثيرة، ولكن لا يفكِّر فيما يقيه من الاَخطار، ولا ينصب أحداً لصيانته والعناية به، من بعده.
إنَّ النبيَّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو من أكبر الشخصيّات العالميّة في تاريخ البشريّة، قد أوجَد ـ بما أتى من شريعة ـ أرضيّةً مساعدةً لتحوّلٍ إلهيٍّ عالميٍ كبيرٍ، ومَهَّدَ لقيام حضارةٍ جدُّ حديثةٍ، وفريدةٍ.
إنّ هذه الشخصيّة العظيمة، التي طَرَحَت على البشريّة شريعةً
خالدةً، وقادت المجتمعَ البشريّ في عصرِهِ وأيام حياته، من المسلَّم أنّه فَكَّر لحفظ شريعته من الاَخطار والآفات المحتملة التي تهدِّدها في المستقبل، وكذا لهداية أُمّته الخالدة، وإدارتها، وبيّن صيغة القيادة من بعده، وذلك لاَنّه من غير المعقول أن يؤسّس هذا النبيُ الحكيمُ قواعدَ شريعةٍ خالدةٍ أبديّةٍ، دون أنْ يطرح صيغة قويّة لقيادتها من بعده، يضمن بها بقاء تلك الشريعة.
إنَّ النبيَّ الَّذي لم يألُ جُهداً في بيان أَصغر ما تحتاج إليه سعادةُ البشرية، كيفَ يُعقَل أنْ يسكتَ في مجال قيادة المجتمع الاِسلامي وصيغتها، وكيفيتها، والحال أنها من المسائل الجوهريّة، والمصيريّة، في حياة الاَُمّة، بل وفي حياة البشريّة، وفي الحقيقة يترك المجتمعَ الاِسلاميَّ حيارى مهمَلين، لا يَعرِفون واجبهم في هذا الصعيد؟!
وعلى هذا الاَساس لا يمكن مطلقاً القبولُ بالزَّعم القائل بأنَّ النبيّ الاَكرم أغمض عينيه عن الحياة دون ان ينبس ببنت شفة في مجال قيادة الاَُمّة.
الاَصلُ الخامسُ والثمانون: الاِمامة والخطر الثلاثي المشؤوم: الروم والفرس والمنافقون
إنّ مراجعةَ التاريخ، وأخذِ الظروف التي كانت تحيط بالمنطقة، وبالعالم في زمان رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقُبَيل وفاتهِ بالذات بنظر الاعتبار تثبت ـ بِوُضوحـ بداهة وضرورةَ «تنْصيصيَّة» منصب الاََمامة وذلك لاَنّ أخطاراً ثلاثة كانت تهدّد الدينَ والكيانَ الاِسلاميَّ، وتحيط به على شكلِ
الضِلعُ الاَوَّل مِن هذا المثلَّث الخَطِر كان يتمثَّل في الاِمبراطورية الروميّة.
والضلع الثانِي كانَ يَتمثّل في الاِمبراطوريّة الفارسيّة.
والضلعُ الثالث كان يَتَمثَّل في فريق المنافقين الداخِلِيّين.
وبالنسبة لخَطَر الضلعِ الاَوّل، وأهميّته القُصْوى يكفي أنَ نعلمَ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل يفكر فيه حتى آخر لحظة من حياته، ولهذا جهّزَ ـ قُبَيل أيّام بل ساعاتٍ من وفاته ـ جيشاً عظيماً بقيادة «أُسامة بن زيد» وبَعَثَه لمواجهة الروم، كما ولَعَنَ مَن تَخلَّفَ عنه أيضاً.
وبالنسبة لخطَر الضِلعِ الثاني يكفي أن نعرفَ أنّه كان عَدُوّاً شرساً أيضاً أقدمَ على تمزيقِ رسالةِ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتب إلى حاكم اليمن بأنْ يقبضَ على رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبعث به إليه، أو يرسلَ إليه برأسه.
وبالتالي بالنسبة إلى الخَطَر الثالث يجب أن نعلمَ أنّ هذا الفريق (أي المنافقين) كان يقوم في المدينة بمزاحمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باستمرار وكان المنافقون هؤلاء يؤذونه بالمؤامرات المتنوعة، ويعرقلون حركته، وقد تحدّث القرآنُ الكريمُ عنهم وعن خصالهم، ونفاقهم، وأَذاهم، ومحاولاتهم الخبيثة في سوره المختلفة إلى درجة انّه سمّيت سورة كاملة باسمهم، وهي تتحدّث عنهم وعن نواياهم وأعمالِهم الشرّيرةِ.
والآن نطرحُ هذا السؤالَ وهو: هل مع وجودِ هذا المثلَّث الخَطِر كانَ
من الصحيحِ أنْ يترك النبيُ الاَكرمُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الاَُمّة الاِسلاميةَ، والدينَ الاِسلاميَ اللّذَين كانا محاطَين بالاَخطار من كلّ جانب، وكان الاَعداءُ لهما بالمرصاد من كلّ ناحية، من دونِ قائدٍ معيّنٍ؟!!
إنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاشكَّ كانَ يَعْلَم أن حياةَ العرب حياة قَبَليّة، عشائرية وأنّ أفرادَ هذه القبائِل كانَتْ مُتَعَصِبّة لرؤساء تلك القبائل، فهم كانوا يطيعون الرؤساء بشدّة، ويخضَعُون لهُمْ خضوعاً كبيراً، ولهذا فإنَّ ترك مِثل هذا المجتمع مِن دون نصبِ قائدٍ معيّن سوف يؤدّي إلى التشتت والتنازع بين هذه القبائل، وسيستفيد الاَعداء من هذا التخاصُم والتَنازع، والاِختلاف.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة قال الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا: «الاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف»(1) .
الاَصلُ السادسُ والثمانون: تعيين الاِمام والخليفة في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
والآن وَبعدَ أنْ ثَبَتَ أنَّ حِكمةَ النبيّ وعلمهُ كانا يقتَضِيانِ بأن يتخذ موقفاً مناسِباً في مجالِ الِقيادة الاِسلاميّة مِن بَعدِهِ، فَلْنرَى ماذا كانَ الموقف الذي اتخذه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصعيد؟
هُناكَ نظريَّتان في هذا المَجال نُدرِجُهُما هنا، ونعمَدُ إلى مناقشتهما:
النظرية الاَُولى: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختار بأمرِ الله تعالى شخصاً مُمتازاً
____________
1. الشفاء، الاِلَهيات، المقالة العاشرة، الفصل الخامس، 564.
صالِحاً لقيادةِ الاَُمّة الاِسلامِيّة، ونَصَبَهُ لِخلافَتهِ وأخبرَ النّاسَ بذلك.
النظرية الثانية: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوكَلَ اختيار القائد والخليفة من بعده إلى النّاس، انفسِهِم، لينتَخِبوا ـ هم بأنفسِهِم ـ شخصاً لهذا المنصب.
والآن يجب أن نرى أيّة واحدة من النظريتين تُستفاد من الكِتابِ والسُّنة والتاريخِ؟
إنَّ الاِمعانَ في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مُنذ أن كُلّف بتبليغِ شرِيعتهِ إلى أقربائِهِ وعَشيرته، ثم الاِعلان عن دعوتهِ إلى النّاس كافّة، يفيد أن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سلك طريق «التنصيص» في مسألة القيادة، والخلافة، مراراً، دون طريق «الاِنتخاب الشعبيّ» وهذا الموضوع نثبتهُ من خلال الاَُمور التالية:
1. حديث يوم الدار
بعد أن مضت ثلاثُ سَنَوات على اليوم الذي بُعِثَ فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كَلّفهُ اللهُ تعالى بأن يبلّغَ رسالَتَه لاَبناءِ قَبيلتِهِ، وذلك عندما نَزَل قولهُ عز وجلّ: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاََقْرَبِينَ)(1)
فَجَمَع النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤوسَ بني هاشم وقال: «يا بني عبد المطّلب إنّي واللهِ ما أعلمُ شابّاً في العَرَبِ جاء قومَه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنيّ قد جئتكُم بخَيِر الدُنيا والآخِرة وقد أمَرَنيَ اللهُ تعالى أنْ أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الاَمر يكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم».
____________
1. الشعراء | 214.
ولقد كرّر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العبارة الاَخيرة ثلاثَ مرّات، ولم يقمْ في كلّ تلك المرّات إلاّ الاِمامُ علي (عليه السلام)، الّذي أعلَنَ عن استعدادِهِ في كلّ مرّة لمؤازرةِ النَبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ونُصْرته، وفي المرّة الثالِثة قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنَّ هذا أخِي وَوَصيِّي وخَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاْسمَعوا لَه وأطيعُوا»(1)
2. حَديِثُ المَنْزِلَةِ
لَقد اعتبر النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منزلةَ «عليّ (عليه السلام)» منه على غرارِ منزلةِ هارون من موسى8، ولم يستثنِ من منازِلِ ومراتبِ هارون من موسى إلاّ النبوّة حيث قال: «يا عليّ أما ترضى أن تكونَ مِنّي بمنزلةِ هارونَ من مُوسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي»(2) ن وهذا النفي والسَلب هو في الحقيقة من بابِ «السالبة بإنتفاءِ الموضوعِ». اذ لم تكن بعد رسولِ الله الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) نبوّةٌ حتى يكونَ عليٌ نبيّاً من بعده إذ بنُبُوّة رسولِ الاِسلام خُتمت النبوّات، وبِشريعتِهِ خُتِمت الشّرائِع.
ولقد كانَ لِهارون ـ بنَصّ القرآنِ الكريمِ ـ مقامُ «النبوّة»(3) و «الخلافة»(4)
____________
1. مسند أحمد: 1 | 159؛ تاريخ الطبري: 2 | 406؛ تفسير الطبري (جامع البيان): 19 | 74 ـ 75، تفسير الشعراء، الآية 214.
2. صحيح البخاري: 6 | 3 طبع 1312 هـ، باب غزوة تبوك؛ صحيح مسلم: 7 | 120، باب فضائل الاِمام علي (عليه السلام)؛ سنن ابن ماجة: 1 | 55 باب فضائل أصحاب النبي؛ مسند الامام أحمد: 1 | 173، 175، 177، 179، 182، 185 و 230؛ والسيرة النبوية لابن هشام: 4 | 163 (غزوة تبوك).
3. (وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمتنَا أخاهُ هارُونَ نَبِيّاً) (مريم | 53).
4. (وَقَالَ مُوسَى لاََخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْني في قَوْمِي) (الاَعراف | 142).
و«الوزارة»(1) في زمانِ مُوسى، وقد أثبتَ حديثُ «المنزلة» جميعَ هذه المناصب الثابتة لهارون للاِمام عليّ (عليه السلام) ما عدا النُبُوَّة، على أنّه إذا لم يكن المقصودُ مِن هذا الحَديث هو إثباتُ جميعِ المناصبِ والمقاماتِ لعليّ إلاّ النبوَّة، لم يكنْ أيّة حاجة إلى استثناء النُبوّة.
3. حَدِيثُ السَّفِينَةِ
لقد شَبَّه النبيُّ الاَكرمُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أهلَ بيته بِسَفينةِ نوح الّتي من رَكبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق في الطوفانِ كما قال: «ألا إنّ مَثَل أهلِ بيتي فِيكم مَثلُ سَفينة نُوح في قومه مَن رَكبها نَجا، ومَن تَخلَّفَ عَنها غرِق»(2)
ونحنُ نَعلمُ أنّ سَفينة «نوح» كانت هي الملجأ الوحيد لنجاة الناس من الطوفان في ذلك الوقت.
وعلى هذا الاَساس فإنّ أهلَ البيت النبويّ ـ وفقاً لحديث سفينة نوح ـ يُعتَبرُون الملجأ الوَحيد للاَُمّة للنجاة من الحوادث العصيبة والوقائع الخطيرة التي طالما تُؤدّي إلى انحراف البشرية وضلالها.
4. حديث «أمان الاَُمّة»
لقدَ وَصَفَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته بكونهم سَبَباً لوحدة المسلمين،
____________
1. (وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (طه | 29).
2. مستدرك الحاكم: 3 | 351؛ الصواعق المحرقة، ص 91؛ ميزان الاعتدال: 1 | 224؛ تاريخ الخلفاء، ص 573؛ الخصائص الكبرى: 2 | 266؛ ينابيع المودة، ص 28؛ فتح القدير، ص 113؛ وكتب أُخرى.
وممّا يوجِبُ ابتعادهم عن الاِختلاف والتَشتّت وأماناً من الغَرق في بحر الفِتنة، إذ قال: «النجومُ أمانٌ لاَهل الاَرض من الغَرَق وأهلُ بَيتي أمانٌ من الاِختلاف، فإذا خالَفتها قبيلةٌ مِنَ العَرَب اختَلَفوا فصارُوا حزب إبليس»(1) .
وبهذا شبّه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل بيته الكرام بالنجوم التي يقول عنها اللهُ سبحانه: (وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون)(2)
5. حَديثُ الثَقَلَين
إنّ حديثَ الثَقَلينِ مِنَ الاَحاديث الاِسلاميّة المتواترة، الّتي نَقَلها وَرَواها علماءُ الفريقين في كتبهم الحديثية.
فقد خاطَبَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الاَُمّة الاِسلامية قائلا: «إنّي تاركٌ فيكُم الثَقَلَيْن كتابَ الله وَعِتْرَتي أهلَ بَيْتي ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بهما لَنْ تَضلُّوا أبَداً وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ»(3)
إنّ هذا الحديثَ، يُثبتُ ـ بوضوح ـ المرجَعيّة العِلميّة لاَهلِ البَيْت
____________
1. مستدرك الحاكم: 3 | 149.
2. النحل | 16.
3. صحيح مسلم: 7 | 122؛ سنن الترمذي: 2 | 307؛ سنن الدارمي: 2 | 432؛ مسند أحمد: 3 | 14، 17، 26، 59، و ج 4 | 59، 366 و 371، و ج 5 | 182 و 189؛ الخصائص العلوية، للنسائي ص 20؛ مستدرك الحاكم: 3 | 109، 148، و 533، وغيرها.
ويمكن مراجعةِ رسالَة «حديثِ الثَقَلين» من منشورات «دار التَقريب بَين المذاهب الاِسلامية» القاهرة، مطبعة مخيمر، في هذا المجال أيضاً.
النَبَويّ جَنْباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وَيُلزِمُ المُسلمين بأن يتمسَّكُوا ـ في الاَُمور الدينيّة ـ بأهل البيت إلى جانب القرآن الكريم، ويلتمسوا رأيهم.
ولكنّ المؤسفَ جدّاً أن يَلتَمس فريقٌ من النّاس رأيَ كلّ أحد إلاّ رأيَ أهلِ البيت، ويطرقوا بابَ بَيْت كلّ أحد إلاّ باب بيتِ أهل البيت:.
إنّ «حديث الثقلين» الذي يتفق على روايته الشيعةُ والسنةُ يمكنهُ أن يجمع جميع مسلمي العالم حول محور واحدٍ، لاَنّه إذا ما اختلفَ الفريقان في مَسألة تعيين الخليفة والقائد، والزعيم السياسي للاَُمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان لكلّ فريقٍ نظريّته وآلَ الاستنباطُ التاريخيّ في هذا الصعيد إلى انقسام المسلمين إلى فريقين، فإنّه لا يوجَدُ هناك أيُّ دليلٍ للاِختلاف في مرجَعيّة أهلِ البيت العلِميّة، ويجب أن يكونوا ـ طِبقاً لحديث الثقلين المتَّفَق عليه ـ متفقين على كلمةٍ واحدةٍ.
وأساساً كانت مرجعيَّة أهلِ البَيت العلميّة في عَصر الخُلَفاء لعليّ (عليه السلام) أيضاً، فقد كانوا يرجعون إليه عند الاِختلاف في المسائل الدينيّة وكانت المشكلة تُحلُّ بواسطته.
وفي الحقيقة منذُ أن عُزل أهلُ بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ساحة المرجَعيّة
العلميّة ظهرَ التفرُّقُ والتشرذُمُ، وبرزت الفِرَقُ الكلامِيّةُ المتعدّدةُ الواحدةُ
تلو الاَُخرى.