الصفحة 192

الاَصلُ السابعُ والثمانون: حديث الغدير

كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما يبدو في الاَحاديث السالفةُ ـ يعرّف بخليفته ووصيه تارةً بصورةٍ كليّةٍ، وأُخرى بصورةٍمعيّنةٍ، أي بذكر اسم الخليفة والوصيّ بحيث يمثّلُ كلُ واحدٍ من تلك الاَحاديث حجةً كاملةً وتامّةً لمن يطلبُ الحقيقة وهو شهيدٌ واعٍ. ولكن مع ذلك ولكي يُوصِلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نداءَه إلى كلّ قاصٍ ودانٍ من المسلمين في ذلك اليوم، ويرفعَ كلّ إبهام وغموضٍ، ويدفع كلّ شكٍ أو تشكيكٍ في هذا المجال، توقّفَ عند قُفوله ومراجَعَته من حَجّة الوَداع في أرض تسمى بغدير خم، وأخبر من مَعَه من الحجيج بأنّه كُلِّف مِن جانب الله تعالى بأن يُبلِّغ رسالة إليهم، وهي رسالة تحكي عن القيام بأمرٍ جدّ عظيم، بحيث إذا لم يُبلِّغها يكون كأنّه لم يُبَلّغ شيئاً من رسالته كما قال تعالى:

(يَا أَيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَّبِكَ وإن لَمتَفْعَلْ فَماَ بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(1).(2)

ثم رقى النبيُّ منبراً من أقتاب الاِبل وحُدُوجها، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً الناس: «يوشك أنْ اُدعى فأجيب فماذا أنتم قائلون؟»

قالوا: نَشهدُ أنّك قد بَلّغتَ ونَصحتَ وجَهَدتَ فجزاك اللهُ خيراً.

____________

1. المائدة | 67.

2. أشار المحدّثون والمفسِّرون المُسلمون إلى نُزُول هذه الآية في حَجّة الوداع، يومَ الغدير، اُنظر: كتابَ «الدرّ المنثور» للسيوطي 2 | 298، و «فتح القدير» للشوكاني 2 | 57؛ وكشف الغمة للاِربلّيّ، ص 94؛ «ينابيع المودّة» للقندوزي، ص 120؛ المنار: 6 | 463 وغيرها.


الصفحة 193
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألَسْتم تَشهَدون أن لا إلَه إلاّ الله وأنّ محمّداً عَبدُه ورسولهُ وان الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها؟»

قالوا: بَلى نَشْهدُ بذلك.

قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «فإنّي فَرَطٌ (أي أسبقكُم) على الحوض (أي الكوثر)، فَانظُرُوا كيفَ تَخلِفوُني في الثَقَلَين؟»

فنادى مناد: وما الثَقَلان يا رَسولَ الله ؟

قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «الثَقَلُ الاَكبر كتابُ الله طَرَفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وطَرَفٌ بأيدِيكُمْ فتمَسَّكُوا به لا تَضِلُّوا، والآخَرالاَصغَر عترتي، وإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أَنَّهما لنْ يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوضَ، فلا تقدمُوهُما فتَهلكوا، ولا تقصِّروا عنْهما فَتَهْلَكُوا».

ثم أخذ بيد «عليّ» فَرفَعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفَه القومُ أجمعون فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أيُّها الناسُ من أولى النّاس بالمؤْمِنين من أنفسِهِم؟»

قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلمُ.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الله مولايَ، وأنا مَولى المؤمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنفسهِمْ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌ مولاهُ».

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللّهُمَّ والِ مِن والاهُ، وعادِ من عاداهُ، وأحِبَّ من أحَبَّهُ، وابْغَضْ مَن أبْغَضَهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ من خَذَلهَ، وأدِرِ الحقَّ معه حيث دارَ، ألا فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغائبَ».


الصفحة 194

الاََصلُ الثامِنُ والثمانُون: حديث الغدير من الاَحاديث المتواترة

إنّ حديثَ الغَدِير منَ الاََحاديثِ المتَواتِرة، وقد رَواهُ من الصَّحابة والتابعين وعُلماءِ الحديث في كلّ قرنٍ بصورَةٍ متواترةٍ.

فقد نقل حديثَ الغدير ورواه (110) من الصحابة، و (89) من التابعين، و(3500) من العلماء والمحدِّثين، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى أيُّ مجالٍ للشَكِ في أصالةِ، وصحّة هذا الحديث.

كما أَنّ فريقاً من العُلَماء ألَّفوا كُتباً مستَقِلّةً حولَ حديث «الغدير» أشْمَلُها وأكثرُها اسْتِيعاباً لِطُرق وأسنادِ هذا الحديث كتابُ «الغدير» للعلاّمة الشيخ عبد الحسين الاَميني (1320 ـ 1390 هـ).

والآن يجب أن نَرى ما هو المقصود من لفظة «الموَلى» وماذا تَعني «مولويّة» عليّ (عليه السلام)؟

إنّ القرائن والشواهدَ الكثيرةَ والعديدةَ تشهد بأنَّ المقصودَ من هذه اللَفظة، والكلمة هو: الزعامة والقيادة، وها نحن نشيرُ إلى بعض هذه الشَواهدِ والقرائن:

ألف: في واقعة الغدير، أمَرَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنْ يحطَّ الحُجّاج الّذين كانوا يرجعون معه من الحج، في أرض قاحِلةٍ لا ماء فيها، ولا كلاَ، وفي وقتِ الزوال، وتحت أشعّة الشَّمس الحارقة.

ولقد كانت حرارةُ الهَجير من الشِدّة في ذلك الوَقت بحيث أنّ الشخص من الحاضرين في ذلك المشهد كان يضع بعض عباءته تحت

الصفحة 195
رجليه وبعضها فوق رأسه تَوقِّياً من شدّة الرَمضاء، وحرارة الشّمس.

من الطبيعي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يريد في هذه الحالة الخاصّة، أن يقول ماله دورٌ مصيريٌّ هامٌ في هداية الاَُمّة.

ترى أي شيء يمكنه أن يكون له دور مصيريٌّ وهامٌّ في حياة المسلمين أكثر من تعيين القيادة التي توجب وحدةَ كَلِمةِ المسلمين، وتكونُ حافظة لدينهم.

ب: لقد تحدّث رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذكر مسألة ولاية الاِمام علي (عليه السلام) عَن أُصول الدين الثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وأخَذَ من الناس الاِقرارَ بها، ثم طرَحَ مسألة ولاية الاِمام علي (عليه السلام) بعد ذلك.

إنّ التقارن بين إبلاغ هذه الرسالة وأخذ الاعتراف والاِقرار بالاَُصول المذكورة يمكن أن يقودنا إلى معرفة أهميّة الرسالة التي أمَرَ النبيُّ بإبلاغِها إلى النّاس في «غدير خم»، ويمكن معرفة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كانَ يقصُد مِن ذلك الاِجتماع العظيم في تلك الظروفِ الاِستثنائيّةِ والملابَسات الخاصّة التوصية فقط بمحبّة وموادّة شخصٍ معيّنٍ..

ج: قبل إبلاغِ الرِسّالة الاِلَهيّة في شأنِ عليٍّ (عليه السلام) تحدَّثَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ولايَته ومولويَّتهِ وقال: اللهُ مولايَ وأنا مولى المْؤُمِنِين، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنْفسِهِمْ.

إنّ ذكر هذه المطالب دليلٌ على أنّ «مولويّةَ الاِمام علي (عليه السلام)» كانت من نمط وسنخ مولوية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ النبي أثبت بأمر الله تعالى مَولويّته

الصفحة 196
وأولويّته بالاَمر لعليّ أيضاً.

د: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال بعد إبلاغ هذه الرِسّالة الاِلَهيّة: فَلْيبلّغِ الشاهدُ الغائبَ.

الاَصلُ التاسعُ والثمانون: كفاءة الخليفة المنتخب قطعت كيد الاَعداء

إنّ تاريخَ الاِسلام يشهدُ بأنّ أعداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استَخْدَموا كلَّ وسيلةٍ مُمكنةٍ لاِطفاءِ نور الرسالةِ المحمديّة، وعَرْقَلَةِ مسير الدَّعوة الاِسلاميّة بدءاً من اتّهام النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسِحر والشعوَذة وانتهاءً بمحاولة اغتياله في فراشه، ولكنّهم بفضل العناية الاِلَهيّة، فشِلوا في خُططهم جمعاء، وحفظ اللهُ نبيّه من كيد المشركين والكافرين، فلم يبقَ لهم من أمل إلاّ أن يموتَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيطفئوا جَذوة دعوته، ويُخمدوا نورَ رسالته (خاصّة أنّه لم يُخَلّف وَلَداً من الذكور).

وقد حكى اللهُ عن أمَلهم الشّرِير هذا بقوله:

(أمْ يَقُولُونَ شاعرٌ نَتربَّصُ به رَيبَ المَنُونِ)(1)

ولقد كانت هذه النيّة الخبيثَة، وهذه الفطرةُ الشّريرةُ تراوِدُ ذهنَ الكثيرِ من المشركين والمنافقين، ولم يكن عددُهم بين أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بِقليلٍ.

ولكنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِنَصبه خليفةً قوياً وجديراً بالخلافة يقودُ الاَُمّة من

____________

1. الطور | 30.


الصفحة 197
بَعده وقد تحلّى بسوابق جهاديّةٍ وإيمانيّةٍ مشرقةٍ، وتمتّع بإيمانٍ، وصدقٍ، وثباتٍ في سبيل الاِسلام، فوّت الفرصة على المعارضين لرسالته وخيَّب آمالهم، وأبدلها باليأس والقنوط، وبهذا ضَمِنَ بقاء الدين، ورسّخ قوائِمهَ وقواعده، وأكملَ اللهُ بتعيين القائدِ والخليفةِ نعمة الاِسلام، ولهذا نزل قول الله تعالى ـ بعد نصبِ عليٍّ (عليه السلام) لخلافةِ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يومَ «غدير خم» ـ:

(اليَوْمَ يئسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن دينكُمْ فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَونِ اليومَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلام دِينَاً)(1) - (2)

____________

1. المائدة | 3

2. ولقد اعتبرَ فريقٌ من الصَحابة والتابعين الآية المذكورة مرتبطةً بواقعة «غدير خم» وذلك مثل: أبي سعيد الخدري، وزيد بن الاَرقم، وجابر بن عبد الله الاَنصاري، وأبي هريرة، ومجاهد المكي.

وللوقوف على روايات الاَشخاص المذكورين حول الواقعة المذكورة راجع: كتاب «الولاية» لاَبي جعفر الطبري، والحافظ ابن مردويه الاصفهاني برواية ابن كثير في ج 2، من تفسيره؛ والحافظ أبا نعيم في كتاب «ما نزل من القرآن في عليّ» والخطيب البغدادي في ج 8 من تاريخه، والحافظ أبا سعيد السجستاني في كتاب «الولاية» والحافظ أبا القاسم الحسكاني في «شواهد التنزيل»، وابن عساكر الشافعي برواية السيوطي في «الدر المنثور» 2 | 295، والخطيب الخوارزمي في كتاب «المناقب». وعباراتهم موجودة في الغدير 1 | 23ـ236.

وقال الفخر الرازي في تفسيره (ج 3 ص 529) إنه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعَمِّر بعدَ نُزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً وَلَم يَحْصَل في الشريعةِ بَعدها زِيادة ولا نَسخٌ، وَلا تبديلُ البتّةَ.

فعلى هذا الاَساس لابُدّ مِنَ القول أنَّ هذه الآية نَزَلت يوم غدير خم. أي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع. وحيثُ إنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حسبَ رأي أهلِ السُّنّة توفي في الثاني عشر من ربيع الاَوّل، وكانت الاَشهر الثلاثة (ذي الحجة، ومحرّم وصفر) 29 يوماً صح أنّه توفي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نُزُول الآية المذكورة بـ 81 يوماً (تفسير الفخر الرازي سورة المائدة، الآية الثالثة).


الصفحة 198
ثم إنّ هناك ـ مضافاً إلى الرّوايات المتواترة المذكورة التي تُثبت أنّ مسألة خلافة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مسألةٌ إلَهيّةٌ، وأنّه ليس للنّاس أيّ خيارٍ فيها ـ رواياتٍ تحكي عن أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منذ الاَيام الاَُولى من دعوته في مكّة، يوم لم تُشكَّلْ فيها حكومةٌ في المدينة بعدُ، يرى أنّ مسألة خلافتهِ مسألةٌ إلَهيّةٌ يعود أمر البتّ والتعيين فيها إلى الله وحده دون غيره.

فعندما أتى رئيس قبيلة «بني عامر» إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في موسم الحج مثَلاً، وقال: أرأيتَ إنْ نَحنُ بايعناكَ على أمرِكَ، ثم أظهرَكَ اللهُ على من خالَفَك، أيكونُ لنا الاَمرُ من بَعدك قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الاَمرُ إلى اللهِ يَضَعُهُ حيثُ يَشاء(1) .

إنّ من البديهيّ أنّ أمرَ مسألة القيادة والخلافَة إذا كانت متروكةً للنّاس، وانتخابهم لكانَ على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: «الاَمرُ إلى الاَُمّة» أو «إلى أهلِ الحَلّ والعَقد» ولكن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ غير هذا. وبذلك طابَقَ كلامُالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شأنِ الخلافة كلامَ الله تعالى في شأن الرسالةِ إذ قال:

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(2)

____________

1. سيرة ابن هشام: 2 | 422.

2. الاَنعام | 124.