كليات في العقيدة
7
الفصل الثامن
عالَمُ ما بَعد الموتِ
الاَصلُ الثالثُ بعد المائة: يوم القيامة
تَتّفِقُ جميعُ الشَرائعُ السَّماويّة في لزوم الاِيمان بالآخرة ووجوب الاِعتقاد بالقيامة، فقد تحدّث الاَنبياءُ جميعاً ـ إلى جانب التوحيد ـ عن المَعاد، وعالم ما بعد الموت أَيضاً. وجَعَلُوا الاِيمانَ باليوم الآخر في طليعة ما دَعَوا إليه.
وعلى هذا الاَساس يكونُ الاِعتقاد بالقيامة من أركانِ الاِيمان في الاِسلام.
إنّ مسألةَ المعاد وإن طُرحَت في كتاب العهدين (التوراة والاِنجيل معاً) إلاّ أنّها طُرحت في العَهد الجديدِ بشكلٍ أوضح، ولكنّ القرآنَ الكريمَ إهتمّ بهذه المسألة أكثر من جميع الكتب السماوية الاَُخرى، حتى أنَّهُ اختص قسمٌ عظيمٌ من الآيات القرآنية بهذا الموضوع.
وقد أُطلق على المعاد في القرآن الكريم أسماءٌ كثيرة مثل: يومِ القيامة، يوم الحِساب، اليوم الآخر، يوم البعث وغير ذلك.
وعلّة كلّ هذا الاِهتمام والعِناية بمسألة القيامة هي أن الاِيمان والتديّن من دون الاِعتقاد بيوم القيامة غير مثمر.
الاَصل الرابعُ بعد المائة: ضرورة المعاد
لقد أقام الحكماء والمتكلّمون المُسلمون أدلّة عديدة ومتنوعة على ضرورة المعاد، وحياة ما بعد الموت، وفي الحقيقة كان القرآن الكريم هو مصدر الاِلْهام في جميع هذه الاَدلَّة.
من هنا فإننا نذكر بعضَ الدلائل القرآنية على هذه المسألة:
ألف: إنّ الله تعالى حقٌ مطلقٌ، وفعلُهُ كذلك حقٌ، منزَّهٌ عن أي باطلٍ ولغوٍ. وخَلق الاِنسانِ من دونِ وجودِ حياةٍ خالدةٍ سيكون لغواً وعبثاً كما قال:
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُم عَبَثاً وأنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)(1)
ب: إنّ العدلَ الاِلَهيَّ يوجبُ أن لا يعامَل المحسنون والمسيئون في مقام الجزاءِ على شكلٍ واحدٍ.
ومن جانِبِ آخر انّه لا يمكن تحقّقُ العدالةِ الكاملةِ بالنسبة إلى الثَّوابِ والعِقاب في الحياة الدنيوية، لاَنّ مصيرَ كلا الفريقين في هذا العالم متداخِلَين وغير قابلَين للتفكِيك والفَصل.
ومن جهة ثالثة فإنّ لِبعض الاَعمال الصالِحة، والطالحة جزاءً لا يسع له نطاقُ هذا العالم.
فَمَثَلاً هناك من ضَحّى بنفِسِه في سَبِيل الحق، وهناك من خضّب
____________
1. المؤمنون | 115.
ولهذا لا بُدَّ مِن وجود عالمٍ آخر يتحقَّق فيه العدلُ الاِلَهيّ الكاملُ في ضوءِ الاِمكانات غير المتناهية. كما قال: (أَم نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الاََرضِ أَم نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(1)
ويقولُ أيضاً: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)(2)
ج: إن خلقَ البشَر بَدَأَ في هذا العالمَ من ذَرّةٍ حقيرةٍ ثم ترقّى في مدارج الكمال الجسمي شيئاً فشَيئاً، حتى بَلغَ مرحلةً نُفِخَت فيها الرُّوح في جسمه.
وَقدْ وَصَفَ القرآنُ الكريمُ، خالقَ الكون بكونه «أحسنَ الخالقين» نظراً إلى تكميل خلقِ هذا الموجودِ المتميّز.
ثم إنّه ينتَقل بالمَوْت من مَنْزله الدنيويّ إلى عالمٍ آخر، يُعتَبَر كمالاً للمرحلة المتقدّمة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى إذ قال: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامةِ تُبْعَثُونَ)(3)
____________
1. ص | 28.
2. يونس | 4.
3. المؤمنون | 14 ـ 16.
الاَصلُ الخامسُ بعد المائة: جواب الشبهات المثارة حول المعاد
لقد طَرَحَ مُنكروا القيامة والمعاد في عصر نزول القرآن، شُبُهاتٍ ردّ عليها القرآن، ضمن توضيحه لاَدلّة وجود المعاد.
وفيما يلي بعضُ هذه الموارد:
ألف: تارةً يؤكّدُ القرآنُ الكريم على قدرة اللهِ المطلقة فيقول:
(إِلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِيرٌ)(1)
ب: وتارةً يُذكّر بأنّ الذي يقدرُ على خَلق الاِنسان ابتداءً قادرٌ على إعادته، ولملمة رفاته، وإرجاع الروح إليه ثانية.
فهو مَثَلاً ينتقدُ قولَ المنكرين للمعاد قائلاً: (فَسَيَقولونَ مَن يُعيدُنا) ؟
ثم يقول: (قلِ الّذي فَطركم أوَّلَ مَرَّةٍ)(2)
ج: وفي بَعضِ الموارد يُشَبِّهُ إحْياءَ الاِنسان بعدَ مَوْته بإعادةِ الحَياة إلى الاَرض في فَصْل الرَّبيع بعد رقدةٍ شتائيّة من جديدٍ وولوج الحياة في الطبيعة وعلى هذا يقيسُ المعادَ وعودةَ الرُّوح إلى الموتى قال تعالى: (وَتَرى الاَرضَ هامِدَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيها الماءَ اهتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأنْبَتَتْ من كلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذلِكَ بأنّ اللهَ هُوَ الحقُّ وأنّه يُحيي الموَتى وأنّه على كلّ شَيءٍ قَديرٌ * وأنّ الساعةَ آتِيةٌ لا رَيبَ فِيها وأنّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي القبُوُر)(3)
____________
1. هود | 4.
2. الاِسراء | 51.
3. الحج | 5 ـ 7.
وفي موضع آخَر يُخبرُ عَن ذلك العلم الواسع قائلاً: (قدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الاََرضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيْظٌ) 2.
هـ: ربّما يتصوّر أنّ الاِنسان يتألف من أجزاء جسمانية، وأعضاء مادّية تنحل بموته وتستحيل إلى تراب. فكيف يكون الاِنسان يوم القيامة هو عينه في الحياة الدنيا، وبعبارة أُخرى ما هي الصلة بين البدن الدنيوي والاَُخروي كي يحكم بوحدتهما؟
والقرآن ينقل تلك الشبهة عن لسان الكافرين ويقول: (أَءِذَا ضَلَلنَا في الاََرضِ أَءِنَّا لفي خلقٍ جَديد)(3)
ثُمّ يعود ويجيب عليها بقوله: (قُلْ يَتَوّفاكُم مّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) 4.
ويكمن حاصل الجواب في الوقوف على معنى «التوفّي» المأخوذ في الآية. الذي هو «الاََخذ»، وهو يعرب انّ للاِنسان وراء البدن الذي يبلى حين موته شيئاً آخر يأخذه ملك الموت وهي الروح، فحينها تتضح إجابة القرآن عن الشبهة.
____________
1. يس | 81.
2. ق | 4.
3. السجدة | 10.
4. السجدة | 11.
فيستفاد من هذه الآية ونظائرها انّ الاِنسان المحشور يوم البعث هو عينه الموجود في نشأة الدنيا، قال سبحانه: (قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وُهَو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(1)
الاَصلُ السادس بعد المائة: معاد الاِنسان هو جسماني وروحاني
صرّحت الآيات القرآنية والاَحاديث على أنّ معاد الاِنسان: جسماني وروحاني، ويراد من الاَوّل هو حشر الاِنسان ببدنه في النشأة الاَُخرى، وأنّ النفس الاِنسانية تتعلّق بذلك البدن في تلك النشأة فيثاب أو يعاقب بأُمور لا غنى في تحقّقها عن البدن والقوى الحسية.
ويراد من الثاني أنّ للاِنسان وراء الثواب والعقاب الحسيّين لذّات والآم روحيّة ينالها الاِنسان دون حاجة إلى البدن، وقد أُشير إلى هذا النوع من الجزاء في قوله سبحانه: (وَرِضَوانٌ مِنَ اللهِ أَكَبرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ) 2، وقال سبحانه: (وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الاَمْرُ وَهُمْ في غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(3) .
فرضوانه سبحانه من أكبر اللذائذ للصالحين، كما أنّ الحسرة من أكبر الآلام للمجرمين.
____________
1. يس | 79.
2. التوبة | 72.
3. مريم | 39.
الاَصلُ السابع بعد المائة: البرزخ
ليس الموت نهاية للحياة وانعدامها، بل انتقال من نشأة إلى أُخرى، وفي الحقيقة إلى حياة خالدة نعبّر عنها بالقيامة، بيد أنّ بين النشأتين نشأة ثالثة متوسطة تدعى بالبرزخ، والاِنسان بموته ينتقل إلى تلك النشأة حتى قيام الساعة، إلاّ أنّنا لا نعلم عن حقيقتها شيئاً، سوى ما جاء في القرآن والاَحاديث، ولنذكر طائفة من الآيات القرآنية بغية التعرّف على ملامح تلك النشأة.
ألف: انّ المحتضر إذا وقف على سوء مصيره يتمنّى عوده إلى الدنيا ليتدارك ما فات منه، يقول سبحانه: (حَتَّى إِذا جَاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ)(1)
ولكن يخيب سعيه، ويُردُّ طلبه، ويقال له: (كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائلُها ومِنْ وَرَائهِم بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(2)
والآية تحكي عن وجود حياة برزَخية مخفية للمشركين.
ب: ويصف حياة المجرمين، لاسيما آل فرعون، بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوَّاً وعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ)(3)
____________
1. المؤمنون | 99 ـ 100.
2. المؤمنون | 100.
3. غافر | 46.
ج: ويصف سبحانه حياة الشهداء في تلك النشأة، بقوله: (ولا تَقُولُوا لِمنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللهِ أَمْواَتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلِكنْ لا تَشْعُرُونَ)(1)
ويصف في آية أُخرى حياة الشهداء بقوله: (فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبشرُونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحَقوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ ألاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاهُمْ يَحْزَنُونَ)(2) .
الاَصلُ الثامن بعد المائة: السؤال في القبر
تبتدأ الحياة البرزَخية بقبض الروح عن البدن، وعندما يودع بدن الاِنسان في القبر، يأتي إليه ملائكة الربّ فيسألونه عن التوحيد والنبوُة وأُمور عقائدية أُخرى، ومن الواضح أنّ إجابة المؤمن ستختلف عن إجابة الكافر وبالتالي يكون عالم البرزخ مظهراً من مظاهر الرحمة للمؤمن، أو مصدراً من مصادر النقمة والعذاب للكافر.
إنّ السؤال في القبر وما يستتبع من الرحمة أو العذاب من الاَُمور المسلّمة عند أئمة أهل البيت، وفي الحقيقة أنّ القبر يُعدّ أُولى المراحل للحياة البرزخية التي تدوم إلى أنْ تقوم الساعة.
____________
1. البقرة | 154.
2. آل عمران | 170.
فقد قال الشيخُ الصدوق؛: إعتقادُنا في المساءلةِ في القَبرِ، انَّه حقٌ لابدَّ منها، فمن أجابَ بالصواب فازَ برَوحٍ ورَيحانٍ في قَبرهِ، وبِجَنّةِ النعيمِ في الآخرة، ومَن لم يُجِبْ بِالصَّوابِ فَلهُ نُزُلٌ من حميمٍ في قبره، وتَصْلِيةُ جَحيم في الآخرةِ.(1) وقال الشيخُ المفيد في كتابه «تصحيحُ الاِعتقاد»: جاءَت الآثارُ الصحيحة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الملائكة تنزل على المقبُورين فتسألُهم عن أدْيانهم، وألفاظُ الاَخبارِ بذلك متقاربة فمِنها أنّ مَلكَينِ لله تعالى يُقالُ لهما ناكر ونكير ينزلان على الميّتِ فَيَسألانِهِ عن رّبِهِ ونبيِّهِ ودينِهِ وإمامِهِ، فإنْ أجابَ بالحق سَلَّموهُ إلى ملائكةِ النَعيم، وإن ارتجَّ عليه سَلَّموهُ إلى ملائكةِ العَذاب(2)
وقال المحقّق نصيرُ الدين الطوسي في كتابه: «تجريد الاعتقاد» أيضاً: وعذابُ القبر واقعٌ لاِمكانِهِ، وتواتُرِ السَمعِ بِوقوعِهِ.(3) ومن راجَعَ كتب العقائد لدى سائر المذاهب الاِسلامية اتّضح له أنّ هذه العقيدة هي موضع إتفاقٍ بين جميع المسلمين، ولم يُنسَب إنكار عذابِ القبر إلاّ إلى شخص واحِدٍ هو «ضرار بن عمرو»(4)
____________
1. اعتقادات الصدوق، الباب 17، ص 37.
2. تصحيح الاعتقاد للمفيد: ص 45 ـ 46.
3. كشف المراد: المقصد 6، المسألة 14.
4. راجع كتاب «السنة» لاَحمد بن حنبل؛ و «الاِبانة» لاَبي الحسن الاَشعري؛ وشرح الاَُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي.