الصفحة 297
وعلى هذا الاَساس لو دلّتِ الدلائلُ القاطعة من الكتاب والسُّنّة على انحراف فردٍ، أو أفرادٍ لا يَصحُّ في هذه الحالة الاستنادُ إلى المدائح المذكورة لهم.

ولنضربْ مَثَلاً على ذلك ما جاء في القرآن الكريمِ في حق أحد الصحابة.

فإنّ القرآنَ الكريمَ وصف أحد الصحابة بأنّه «فاسق»(1) إذ قال:

(إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنباًَ فَتَبَيَّنُوا)(2)

وقال في آية أُخرى:

(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ) 3.

إنّ هذا الفرد بِشهادة التاريخ القطعيّ هو «الوليد بن عُقبة» وكان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم كونه صحابيّاً ومهاجراً وهما فضيلتان سامقتان إلاّ أنّه لم يتمكّن من المحافظة على هاتين الفضيلتين، بل تسبَّبَ كِذبُه على طائفة «بني المصطَلَق» بأن يُذكَر بلفظ «الفاسق».

ومع الاِلتفات إلى هذه الآية ونظائرها(3) وكذا ملاحظة الاَحاديث التي وَرَدَت في ذمّ بعض الصَّحابة في كتب الحديث(4) وكذا في ضوء

____________

1. راجع التفاسير عند توضيح هاتين الآيتين.

2. الحُجُرات | 6.3. السجدة | 18.

3. لاحظ آل عمران | 153 ـ 154، الاَحزاب | 12، التوبة | 45 ـ 47.

4. جامع الاَُصول، ج 11، كتاب الحوض، الحديث رقم 7972.


الصفحة 298
مطالعة التاريخ الاِسلاميّ والوقوف على سيرة بعضهم(1) لا يمكن اعتبار جميع صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين يتجاوز عددهم المائة ألف شخصٍعُدولاً أتقياء جميعاً.

على أنّ ما نحن بصدد بحثِه ودراستهِ هنا هو «عدالةُ جميع الصحابة» لا سبّ الصحابة، وإنّ من المؤسف أنّه لم يفرّق البعضُ بين المسألتين، وإنّما عمد إلى اتّهام المخالفين في المسألة الاَُولى والاِيقاع فيهم في غير ما حق.

وفي الخاتمة نؤكّدُ على أنّ الشيعةَ الاِماميّة لاترى احترام صحبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مانعاً من مناقشة أفعال بعض صحابته (صلى الله عليه وآله وسلم) والحكم عليها وتعتقد بأنّ معاشرةَ النبي لا تكون سبباً للمصُونيّة من المعاصي إلى آخر العمر.

حبّ النّبي و عترته …

على أنّ موقف الشيعة، في هذا المجال ينطلق من الآيات القرآنية، والاَحاديث الصحيحة، والتاريخ القطعي، والعقل المحايد الحصيف.

الاَصلُ الواحدُ والثلاثون بعد المائة: محبَة النبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم)

إنّ محبَّة النبيّ وأهلِ بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ومودَّتهم من أُصول الاِسلام الّتي أكدَّ عليها القرآنُ والسُّنة، فقد قال القرآن الكريمُ في هذا الصَّدَد:

____________

1. صحيح البخاري، ج 5، تفسير سورة النور، ص 118 ـ 119.


الصفحة 299
(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم منَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(1)

وقال في آية أُخرى:

(فالّذينَ آمَنُوا به وَعزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتّبَعُوا النُّورَ الّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ المُفْلِحُون)(2)

فَإنّ الله تعالى يَعُدُّ ـ في هذه الآية ـ أربع خصوصيات للمفلحين وهي:

1. الاِيمانُ بالنبي: (آمَنُوا به) .

2. تكريمهُ وتوقيره: (وعَزّرُوه) .

3. نصرهُ وتأييده: (ونَصَروه) .

4. إتّباعُ النور (القرآن) الذي أُنزِلَ معه: (واتّبَعَوا النّوُر الّذي أُنزِلَ مَعَهُ) .

ونظراً إلى أن «نصرةَ» النبيّ الاَكرم جاءَت في الخصيصة الثالثة لذا لا مناص من أنْ يكون المرادُ بلفظة «عَزّرُوه» في الخصيصة الثانية هو تكريمُ النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعظيمه ولاشك أنّ تعظيمه وتكريمه لا يختص بزمان

____________

1. التوبة | 24.

2. الاَعراف | 157.


الصفحة 300
حياته، كما أَنّ الاِيمان الذي ورد ذكره في الآية ليس محدوداً كذلك.

وفي مجال لزوم محبّة أهل بيته ومودّتهم يكفي أنّ القرآن الكريم اعتبرها أجراً للرسالة (أي أنّه بمنزلة الاَجر لا الاَجر الواقعي)، إذ يقول تعالى:

(قُلْ لا أسألكُمْ علَيه أجْراً إلاّ المودَّةَ فِي القربى)(1)

إنّ الدعوة إلى محبّة النبيّ، ومودَّته والحث عليها لم يرد في القرآن الكريم وحده. بل جاء التأكيد عليها حتى في الاَحاديث الشريفة التي نذكر منها نموذجين على سبيل المثال لا الحصر:

1. قالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وُلْدِهِ والناسِ أجمعين»(2)

2. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثٍ آخر: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه، ذاقَ طَعمَ الاِيمانِ: مَنْ كانَ لا شيءَ أحبَّ إليه من الله ورسوله، وَمَنْ كان لئِن يُحَرق بالنّارِ أحبّ إليه من أن يرتدَّ عن دِينهِ، وَمَنْ كانَ يحبُّ لله ويُبْغِضُ لله».(3)

كما أنّ محبَّة أهلِ بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومودَّتهم جاءَ التأكيدُ والحثُّ عليها في الاَحاديث الشَرِيفة أيضاً ونود ذكر بعض تلك الاَحاديث على سبيل النموذج:

____________

1. الشورى | 23.

2. كنز العمال ج 1 | 37، ح 70.

3. كنز العمال: ج 1، ح 72؛ وجامع الاَُصول ج 1، ص 238.


الصفحة 301
1. قالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتّى أكونَ أحبَّ إليه من نَفْسِهِ وَتكونُ عِترتي أحبَّ إليه من عِترَتِهِ ويكون أهلي أحبَّ إليه من أَهْلِهِ»(1)

2. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثٍ آخر: «مَنْ أحبَّهُمْ أحَبَّهُ الله، ومَنْ أبْغَضَهُمْ أبَغْضَهُ اللهُ»2.

إلى هنا تَعَرّفنا على أَدلّة هذا الاَصل (وهو لزوم محبّة النبيّ وعترتِهِ ومودّتهم) والآن ينطرح السؤالان التالِيان:

1. ما هي الثمرة الّتي تجنيها الاَُمّةُ من مودَّة النبيّ وعترته؟

2. ما هي كيفيَّة مَودّةِ النبيّ وعترتهِ؟

لابدّ في هذا المجال أن نذكرَ أنّ محبّة الاِنسانِ الفاضِل الكامِل ومودَّته توجب بنفسها صعودَ الاِنسان في مدارج الكمال، فإنَّ الاِنسان إذا أحبّ شخصاً من صميم قلبه سعى إلى التشبّه به في حركاته وسكناته، وتحصيل ما يُسرُّ ذلك الشخص في نفسه وذاته، وترك ما يؤذيه ويزعجه.

ومن الواضح أنَّ وجودَ مثلَ هذه الروحيّة في الاِنسان توجب التحوّل فيه، وتبعَثُه على سلوكِ طريقِ الطاعة واجتنابِ طريقِ المعصيَة دائماً.

إنّ الّذي يُظهرُ التعلُّقَ بأحدٍ ويتظاهر بمودته بينما يخالِفه في مقام العمل يفتقد المحبَّةَ الحقيقيّة.

____________

1 و 2. مناقب الاِمام أمير المؤمنين تأليف الحافظ محمد بن سليمان الكوفي ج 2 ح 619 و 700؛ وبحار الاَنوار ج 17 ص 13؛ وعلل الشرائع الباب 117 ح 3.


الصفحة 302
وقد نُسِب بيتان من الشِعر إلى الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام) جاءت الاِشارة فيهما إلى هذه النقطة، إذ يقول:

تعصي الاِلَه وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُهذا لَعْمري في الِفعالِ بَديعُ

لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لاََطعتهُإنّ المحبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ(1) والآن ـ وبعد أن تَبَيَّن بعضُ ثمرات مودّةِ النبيّ وعترتِه ـ يجب أن نشيرَ إلى أُسلوب إظهار تلك المودة.

لاشك أنّ المقصودَ من «الحبّ» ليس هو الحبُّ الباطنيّ العاريّ عن أيّ عمل يناسبُه، بل المقصودُ هو المودّة التي تَظهَر آثارُها المناسبة على قول الاِنسان وفعله.

ومن أحد الآثار البارزة لمحبّة النبيّ وآله الطاهرين هو اتّباعه العمليّ كما مرّت الاِشارة إلى ذلك، ولكن الحديث هنا هو عن الآثار الاَُخرى لهذه الحالة الباطنية، وتتمثل في كلّ ما يعدّه الناس من الاَقوالِ والاَفعال، علامةً للحبّ والمودّة تحتَ هذه القاعدة، شريطة أن يكون تكريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعملٍ مشروعٍ لا بعملٍ حرامٍ.

إقامة مجالس العزاء …

وعلى هذا فإنّ تكريمَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته: في كلّ زمانٍ، وبخاصة في مواليدهم أو وَفياتهم،يتحقّق بإظهار المودة لهم وإبراز التكريم لشَخصيّاتِهم.

فالاِِحتفال بمواليدهم وإشعال المصابيح ونصب الاََعلام والرّايات

____________

1. سفينة البحار: 1 | 199.


الصفحة 303
الملونة، ونشر معالم الزينة، وإقامة مجالس تُعرَضُ فيها فضائلُ النبيّ أو أهل بيته يُعدّ آيةَ المودة وعلامة المحبّة لهم، وعلى هذا الاََساس كان تكريمُ النبي في يوم مولِدهِ سنّةً مستمرةً بين المسلمين.

يقول القسطلاني في كتابه «المواهب اللدنيّة»: ولا يزال أهل الاِسلامِ يَحتَفلون بشهر مولده (عليه السلام)، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاتِه كل فضلٍ عميم.(1)

الاَصلُ الثاني والثلاثون بعد المائة: إقامة مجالس العزاء

من البيان السابق اتّضَحَت فلسفةُ وحكمةُ إقامة مجالس العزاء، والمآتم لاَئمةِ الدّين، لاَنّ إقامةَ مثل هذه المجالس من أجل ذكر مصائبهم وبيان ما جرى عليهم من المحَن في سبيل الدين، هو نوعٌ من أَنواع إظهار المودَّة والمحبَّة لهم. فإذا ما بكى يعقوبُ لِفِراق وَلَدِهِ العزيز «يوسف» سنيناً عديدة، وذرف دموعاً كثيرة(2) فإنّ ذلك نابعٌ مِن محبته وعلاقتِهِ القَلبيّة بابنِهِ.

وإذا ما بكى محبُّو أهلِ البيت في مُصابهم بسبب علاقتهم القلبيّة بهم، وحبّهم العميق لهم، فإنّهم يتّبعون في هذا العمل النبيّ يعقوبَ (عليه السلام).

إنّ إقامة مجلس في مصاب الاَحبّة والبكاء لفقدانهم هي في الاَساس

____________

1. المواهب اللدُنيّة، ج 1 ص 27؛ وفي تاريخ الخميس ج 1 ص 223 مثله.

2. لاحظ يوسف | 184.


الصفحة 304
عملٌ أسَّسَهُ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك عندما سمع نساء الانصار يبكين قتلاهن في معركة «أحُد»، فقال وهو يَذكر عمّه «حمزة» سيد الشهداء: «وَلكِنَّ حمزة لا بواكي له»(1)

وعندما عرف أصحابُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برغبته في إقامة مجلس العزاء لعمّه «حمزة» أمروا أزواجهم بأن يبكين على قتلاهم الشهداء وعلى «حمزة» ويقمن مجلس العزاء له، فأُقيم مجلسٌ لذلك الغرض فلمّا بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فعلَهُ الاَنصارُ وأزواجهم شكَرَهُم على ذلك، ودعا في حقّهم قائلاً: «رَحم اللهُ الاَنصار»، ثم طلب من أصحابه من الاَنصار بأن يأمُروا أزواجهنّ بأن يَعدن إلى منازِلِهنّ(2)

صيانة الآثار الاِسلامية …

وثمة روايات عديدة تكاد تبلغ حدّ التواتر تعرب عن أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى على الحسين سبطه الاَصغر لما يلمَّ به وبأهله وأنصاره على أيدي الفئة الباغية، في وقعة كربلاء، كما يلاحظ ذلك من يراجع كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر و«نور الاَبصار» للشبلنجي الشافعي، و«المستدرك على الصحيحين» للحاكم النيسابوري 3: 176.

كما رثاه وبكاه طائفة من علماء الاِسلام من سنة وشيعة وانشأوا في مصابه القصائد المطوّلة.

فهذا الاِمام الشافعي يقول:

____________

1. سيرة ابن هشام: 1 | 99.

2. المصدر السابق؛ وإمتاع الاسماع: 11 | 164.


الصفحة 305
تأوّب قلبي فالفؤاد كئيبوأرّق نومي فالسهاد غريب

إلى أن يقول:

فمن مُبلغٌ عَنّي الحسينَ رسالةًوإن كَرِهَتْها أنفسٌ وقلوبُ

ذَبيحٌ بلاَ جُرمٍ كأنَّ قميصَهصَبِيغ بماءِ الاَُرجوان خضيبُ(1)

هذا مضافاً إلى أنّ لاِقامة المآتم ومجالس العزاء للشهداء في سبيل الحق فلسفة هامّة أُخرى وهي أنّ إحياء ذكراهم يوجب الحفاظ على عقيدتهم التي قُتلوا من أجلها... تلك العقيدة التي يتكوّن جوهرُها من التفاني في سبيل الدين وعدم الخضوع للذُلّ، والهوان وهم يردّدون شعار «الموت في عزٍ خيرٌ من الحَياة في الذلّ» ويجدّدون في كلّ يوم عاشوراء هذا المنطق العظيم ويتعلم الشعوب والاَُمم دروساً حيويّة من نهضتهم وثورتهم الكبرى.

الاَصل الثالث والثلاثون بعد المائة: صيانة الآثار الاِسلامية

يسعى كلُّ العقلاء في العالَم في حفظ آثار عظمائهم، وأسلافِهمْ، ويحمونها من الاِندثار والزوال بحجة كونها «تراثاً فكرياً» وآثاراً حضاريّة، وتجتهدُ الاَُممُ المتحضّرة والراقية في حفظ الآثار الوطنيّة القديمة وما خلّفه أسلافُها من مفاخر جديرة بالاِعتزاز، لاَنّ آثار الاَسلاف هي في

____________

1. ديوان الاِمام الشافعي قافية الباء. وراجع للوقوف على المزيد في هذا المجال: سيرتنا وسنتنا للعلاّمة الاَميني.


الصفحة 306
الحقيقة حلقة الوصل بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، وهي ترسم حركة الشّعوب والاَُمم في مسار التقدّم والرقيّ، وتضيَ لها الطريق، والسبيل.

ثم إنّ الآثارَ القديمةَ إذا كانت ترتبط بالرسلِ والاَنبياء فانّ الحفاظَ عليها وحراستَها ـ مضافاً إلى ما ذُكِرَ من الفائدة ـ تساعد بصورةٍ قويةٍ في المحافظة على اعتقاد الناس وإيمانهم بأُولئك الرسُل والاَنبياء، ويكون لها أبلغ الاَثر في تقوية دعائِمها، وتجذيرها وتأصيلها، بينما يؤدّي زوالُها، واندثارها بعد مدّة إلى انقداح روح الشك، والريب في نفوس أتباعهم، ويعرض أصلَ الموضوع لخطر الغموض، والاِبهام، والنسيان والضياع.

وللمثال نشير إلى المجتمع الغربي، فإنّ الناس في هذا المجتمع وإن اصطبغت حياتهم بالصبغة الغربية، وأخذوا بآدابها وأخلاقها تماماً، ولكنهم في مجال العقيدة مدّوا أيديهم نحو الشرق، واعتنقوا الدين المسيحي وخضعوا لسلطانه ردحاً من الزمن بيد أنّهم مع تغيّر الاَوضاع، وتنامي روح البحث والتحقيق لدى الشباب الغربيّ بدأ الشك والترديد يدَبُّ في نفوسهم، وباتوا يشكّون في أصل وجود السيد «المسيح» إلى درجة أنّهم على أثر عدم وجود آثار ملمُوسة من السيّد «المسيح» عادوا يعتبرونه أُسطورةً تاريخيّةً.

في حين أنّ المسلمين ظلّوا في منأى عن مثل هذه الحالة، فقد حافظوا على طول التاريخ وبكلّ فخر واعتزاز على الآثار المتبقّية من

الصفحة 307
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبنائه من خطر الاِندثار، والزوال بسبب الحوادث.

فالمسلمون يَدّعُون أن شخصيّة نبيلة طاهرةً اختيرت قبل أربعة عشر قرناً للنبوة وللرسالة، وقام ذلك النبي بمعونة برنامجه الراقي جداً بإصلاح المجتمع، وأوجد في ذلك المجتمع تحوّلاً عظيماً، وانقلاباً عميقاً، وأسّس حضارة كبرى لا يزال المجتمع يستفيد من معطياتها، وثمارها، ولا سبيل للشك قط في وجود مثل هذه الشخصيّة المُصلِحة، ولا في الحضارة التي أسّسها وأرسى قواعدها، لبقاء آثاره إلى هذا اليوم، فمحل ولادته، ومكان عبادته ومناجاته، والنقطةُ التي بُعثَ فيها، والنقاط الاَُخرى التي ألقى فيها خُطَبَه، والاَماكن التي دافع فيها عن عقيدته ورسالته، والرسائل التي تبودلت بينه وبين ملوك العالم وحكام الدُّول في عصره، والعشرات بل المئات من آثاره، والعلائم الدالة عليه، باقية من دون أنْ تمسّها يدُ التغيير، ومن دون أن تطالها معاول الزوال، فهي محسوسةٌ ومشهودة للجميع.

وهذا البيان يمكن أن يوضّح أَهميّة حفظ الآثار من جهة التفكير الاجتماعي ودورها في هدايته وقيادته.

وهو أمر أيّدته النصوص القرآنية وسيرة المسلمين، فقد قال تعالى في القرآن الكريم:

(فِي بُيُوتٍ أَذنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالْغدوّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِم تجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذكرِ الله وإقامِ الصَّلاةِ وإِيتَآءِ

الصفحة 308
الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالاََبْصَارُ) .(1)

وليس المراد من لفظِ «البيوت» الواردِ في هذه الآية «المساجد» لاَنّ البيوت جاءَ في القرآن الكريم في مقابل المساجد، لاَنّ «المسجد الحرام» غير «بيت الله الحرام» فالبيوتُ في هذه الآية يراد منها بيوتُ الاَنبياء، وخاصة بيت الرسولِ الاَكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذرّيته الطاهرة.

فقد روى السيوطي في تفسيره «الدر المنثور»: عن أنس بن مالك، وبرَيدة، قالَ: قرَأَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية، فقام إليه رجلٌ فقال: أيُّ بُيوتٍ هذِهِ يا رسُول اللهِ؟ قال: «بيوت الاَنبياء».

فقام إليه أبو بكر فقال: يارسول الله هذا البيت منها؟ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة، قال: «نعم من أفاضلها»(2)

والآن ـ بعد أنْ اتّضح المرادُ من «البيوت» ـ لابد من توضيح المراد من «ترفيع البيوت».

إنّ هناك احتمالين في هذا المجال:

1. الترفيع: بمعنى بناءِ البيوت وتشييدها، كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى:

(وَإِذ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)(3)

____________

1. النور | 36 ـ 37.

2. تفسير الدر المنثور ج 5، ص 50.

3. البقرة | 127.


الصفحة 309
2. الترفيع: بمعنى إحترام تلك البيوت وحراستها، والمحافظة عليها.

فعلى المعنى الاَوّل، حيث إنّ بيوت الاَنبياء قد بُنِيَت قبلَ ذلك، لهذا لا يمكن أن يكون المراد من الترفيع في الآية الحاضرة هو إيجاد البيوت، بل المراد هو حفظها من الاِنهدام والزوال.

وبناءً على المعنى الثاني، يكون المراد من حفظ تلك البيوت هو ـ مضافاً إلى صيانتها من الخراب والانهدام ـ حفظها من أيّ نوع من أنواع التلوث المنافي لقداستها وحرمتها.

وعلى هذا الاَساس يجب على المسلمين السعيُ في تكريم، وحراسة البيوت المرتبطة بالرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليهم أنْ يعتبروا هذا العمل أمراً قربيّاً، أي مقرّباً إلى الله سبحانه.

ثم إنّه يُستفاد من الآية التي تدورُ حول أصحاب الكهف أنّه عندما اكتُشفَ موضعُ اختفائهم، اختلف الناس في كيفية تكريمهم فصاروا فريقين:

فريق قالوا: يجب البناء على قبرهم بغية تكريمهم.

وفريق آخر قالوا: يجب بناء مسجد على مرقدهم، وقد أخبر القرآنُ الكريم بكلا الاِقتراحين، وكلا الرأيين، ولو كان هذا العمل، أو ذلك مخالفاً لاَُصول الاِسلام لاَخبر بهما بنحوٍ آخرٍ، ولتناوَلهما بالنقد. ولكنه رواهما من دون نقدٍ، إذ قال:


الصفحة 310
زيارة قبور المؤمنين …

(إِذ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أمرَهُم فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُم أَعْلَمُ بِهِم قَالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم لَنَتَّخذنَّ عَلَيهِم مَّسْجِداً)(1)

إنّ هاتين الآيتين (مع ملاحظة سيرة المسلمين المستمرة من عصر رسول الاِسلام إلى هذا اليوم والمستقرة على حفظ هذه الآثار، والمحافظة على البيوت المرتبطة برسول الله وأهل بيته المطهرين وحراستها) دليل واضحٌ وبرهان قاطع على كون هذا الموقف موقفاً إسلامياً، وأصلاً شرعياً.

ولهذا تقوم مسألة تعمير مراقد الاَنبياء ـ وبصورة خاصّة مراقد رسولِ الله وعترتهِ الطاهِرة صلوات الله عليهم ـ وبناءِ المساجد عليها، أو إلى جانبها، على أساس هذا الاَصل الاِسلامي.

الاَصلُ الرابع والثلاثون بعد المائة: زيارة قبور المؤمنين

تُعتبر زيارةُ قبور المؤمنين، وبخاصّة قبور الاَقرباء والاَبناء منهم، من الاَُصول الاِسلامية التي تنطوي على آثار تربويّة في نفس زائريها، وذلك لاَنّ مشاهدة تلك الديار الصامتة التي يرقد فيها أُناس كانوا قبل ذلك يعيشون في الدنيا، ويقومون بمختلف النشاطات، ولكنّهم أصبحوا بعد حين أجداثاً خامدة، وجثثاً هامدة، جديرة بأن تهزَّ الضمير، وتوقظ القلوب، وتنبّه الغافلين، وتكون درس عبرة لا ينسى.

____________

1. الكهف | 21.


الصفحة 311
فإنّ من يشاهد هذا المنظر سيحدّث نفسه قائلاً: وما قيمة هذه الحياة الدنيا التي سرعان ما تنتهي، وتكون مآلُها موت الاِنسان ورقوده تحت التراب.

هل يستحق العيش في مثل هذه الدنيا الفانية أن يقوم فيها الاِنسانُ من أجله بأعمالٍ ظالمة، وممارسات فاسدةٍ؟

إنّ هذا التساؤل الذي يواجهه ضميرُ الاِنسان المفكّر في مصير البشر، سيدفع به إلى إعادة النظر في سلوكه وممارساته، وسيؤدِّي ذلك إلى حصول تحوّلٍ كبيرٍ في روحه ونفسه.

وقد أشارَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذا الاَثر الهامّ، إذ قال فيحديث شريف: «زُورُوا القبورَ فإنّها تذَكِّرُكُم بِالآخِرَةِ»(1)

ثم إنّه مُضافاً إلى هذا تُعتبر زيارةُ مراقد أئمة الدين وقادته نوعاً من الترويج للقيم الدينيّة، والمعنويّة، كما أنّ إعتناءَ الناس بمراقد أُولئك الشخصيّات سيُقوّي لديهم الفكرة التالية، وهي أنّ الحالة المعنوية التي كانت تلك الشخصيات تتمتّع بها هي التي جذبت قلوب الناس إليهم، وهي التي رفعتهم إلى تلك المنزلة العظيمة التي حازوا بها احترام الناس وتكريمهم لهم، إذ رُبّ رجال من أصحاب السلطان والقوّة يرقدون تحت التراب دون أن يحظوا بمثل هذه العناية والاحترام من قِبَل الناس.

ولقد كانَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يذهبُ في أُخريات حياته إلى البقيع،

____________

1. سنن ابن ماجة ج 1، باب ما جاء في زيارة القبور، ص 113.


الصفحة 312
ويستَغْفر لاَصحاب القبور، ويقول: «أَمَرَني رَبّي أنْ آتي البَقيعَ وأستَغْفِرَ لَهمْ» ثم قالَ: إذا زُرْتُمُوهُمْ فقولوا:

«السلامُ على أهْلِ الدّيارِ مِنِ المُؤمِنِين والمُسْلِمين يَرحَمُ اللهُ المُسْتقدِمِينَ مِنّا والمُسْتَأخِرِين، وإنّا إنْ شاءَ الله بكم لاحِقُون»(1)

وقد اعتُبرت زيارَةُ قُبور أولياء الله وأئمّة الدين ـ في كُتبِ الحديث ـ من الاَعمال المستحبَّة المؤكدة، وكان أئمة أهلِ البيت يَذهَبُون دائماً لزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرهم من الاَئمة المتقدمين عليهم، وكانوا يحثُّون أتْباعَهم على هذا العمل.

المنع عن الغلو …

الاصلُ الخامسُ والثلاثون بعد المائة: المنع عن الغلو

«الغُلُوّ» في اللُّغة هو التجاوز عن الحدّ، وقد خاطب القرآنُ الكريمُ أهلَ الكتاب قائلاً:

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ)(2)

ولقد خاطَبهم القرآنُ بهذا الخطاب لاَنّهم كانُوا يغالُون في حق السيّد «المسيح» ويتجاوزون الحدّ، إذ يقولون إنّه إلَهٌ، أو ابنُ الله، أو ربّ.

وقد ظَهَرتْ بعد وفاةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرقٌ وطوائفُ غالَت فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في الاَئمة المعْصُومين، من بعده وتجاوزت الحدَّ، ووصفوهم بمقامات

____________

1. صحيح مسلم، ج 2، باب ما يقال عند دخول القبور، ص 64.

2. النساء | 171.


الصفحة 313
مختصَّة بالله وحده، ومن هنا سُمّي هؤلاء بالغُلاة، لتجاوزِهم حدود الحق.

يقولُ الشيخُ المفيد؛: «الغُلاة من المتظاهرين بالاِسلام همُ الذين نَسَبوا أمير المؤمنين إلى الالُوهية والنبوَّة، ووصفوهم من الفضلِ في الدين والدنيا، إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ، وخَرَجُوا عن القصد»(1)

ويقول العلاّمةُ المجلسيّ: إنّ الغُلُوّ في النبيّ والاَئمّة: إنّما يكون بالقول بأُلُوهيتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة، أو في الخلق، والرزق، أو أنّ الله تعالى حلَّ فيهم، أو اتّحدَ بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحيٍ أو إلهامٍ من الله تعالى، أو بالقولِ في الاَئمّة أنّهم كانوا أنبياء، أو القول بأنّ معرفتهم تُغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي(2) .

ولقد تبرَّأَ الاِمامُ عليٌّ وأبناؤُهُ الطاهرون صلوات الله عليهم من الغلاة، وكانوا يلعنونهم على الدّوام، ونحن هنا نكتفي بإدراج حديثٍ واحدٍ في هذا المجال.

يقول الاِمام جعفر الصادق (عليه السلام): «إحذَرُوا على شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفْسدُوهُمْ، فإنَّ الغلاةَ شرُّ خلقِ اللهِ، يُصغِّرونَ عظمةَ اللهِ ويَدَّعُون الرَّبوبيَّة لِعبادِ اللهِ»(3) .

____________

1. تصحيح الاعتقاد ص 131.

2. بحار الاَنوار ج 25، ص 364.

3. المصدر السابق، ص 365.


الصفحة 314
ولهذا لاقيمة لتظاهر الغُلاة بالاِسلام، فهم عند أئمةِ الدين كفارٌ ضُلاَّلٌ.

هذا ومن الجدير بالذِكر هنا أنْ يقال: كما يجب الاجتنابُ حتماً عن الغلوّ، يجب أن لا نعتبر كلَّ تصوّرٍ واعتقادٍ في حقّ الاَنبياء، وأولياء الله غُلوّاً، ويجب الاحتياط في هذا المجال كبقيّة المجالات الاَُخرى، وتقييم العقائد بشَكل صحيح.