الصفحة 23

الكون في نظر الاِسلام

الاَصلُ السادس: الكون مخلوق لله

الكون ـ أَيْ كل ما سِوَى الله ـ مخلوقٌ لله تعالى، وليس واقعُ الكونِ هذا سِوَى التعلّق، والرَّبط بالله تعالى، وليست الكائنات في غنىً عن الحقّ تعالى ولا لحظةً واحدة، ومعنى قولنا: إِنَّ الكون مخلوق لله، هو أَنَّ الكون خُلِقَ بإِرادة الله ومشيئته، وأنّ نسبته إلى الله ليس مِنْ نمطِ نسبة الوَلد إلى الوالد، فليست العَلاقة بين الكون وبين الله علاقة توْليد، وَولادةٍ، يقول سبحانه: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(1)

الاَصلُ السابع: نظام الكون الحالي ليس أبديّاً

النِّظام الحالي للكون ليس خالداً ولا أبديّاً، بل سينهدمُ ويندثر بعد زمانٍ يعلمه الله وحده على وجه التحديد، ويقوم مكانه نظامٌ آخر هو العالم الاَُخروي وما يسمّى بالمعاد، كما يقول تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الاَرضُ غيرَ الاَرْضِ والسَّماواتُ وَبَرَزُوا لله الْوَاحِدِ الْقَهّارِ)(2) .

وفي قوله سبحانه: (إِنّا للهِ وَإِنّا إِليْهِ راجِعُونَ)(3) إِشارَة إلى هذه الحقيقة.

____________

1. الاِخلاص | 3.

2. إبراهيم | 48.

3. البقرة | 156.


الصفحة 24

الاَصلُ الثامن: العلّة والمعلول

النِّظامُ الكوني الرّاهنُ قائمٌ على أَساس العلَّة والمعلول، وتقومُ بين ظواهرِهِ وأجزائه رابطةُ العليّة والمعلوليّة.

وتأثيرُ كلّ ظاهرة في ظاهرة أُخرى متوقّف على الاِذن الاِِلهي وَالمشيئة الاِلَهيَّة، وقد تَعلَّقت المشيئة الاِلَهيَّة الحكيمة بتحقيق فيّاضيّته غالباً عن طريق النِّظام السببيّ، وعَبْرَ الاََسباب والمسبّبات.

ومن الواضح أَنَّ الاِِعتقاد بتأثير الظّواهر بعضُها في بعض، لا يعني الاِعتقاد بخالقيّتها قَطُّ، بل المقصود هو أنّ تلك الاََسبابَ والعلل توفِّر ـ بإِذن الله ومشيئته ـ أرضيّة تحقّق ظواهر أُخرى، وأَن أيّ نوع من أَنواع التأثير والتأثر مظهرٌ من مشيئة الله وإِرادته الكلّيّة.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى كلا المطلبين المذكورَين ونعني خضوع الظواهر الطّبيعية لقانون العليّة وكذا توقُّفَ تأثيرِ كلّ علّةٍ وسبب في الكون على الاِذن الاِلَهي الكلّي.

ففي المجال الاََوّل نكتفي بذكر الآية التالية:

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمرَاتِ رِزَقاً لَكمْ)(1)

وفي المَجالِ الثّاني نكتفي بالآيةِ التّالِيَة أَيْضاً:

(وَالْبلَدُ الطَّيّبُ يخرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّه)(2) (3) .

____________

1. البقرة | 22.

2. الاَعراف | 58.

3. للتَّوسُّع ومَزيد الاطِّلاعِ في هذا المجال تُراجَع كتب التّفسير والكلام (العقائد) منها: تفسير الميزان: 1 | 74 طبعة بيروت، والاِلهيّات: 2 | 51 ـ 54.


الصفحة 25

الاَصلُ التاسع: الوجود ليس مساوقاً للطبيعة المادية

الوجودُ ليس مساوِقاً للطبيعة المادّيّة، فهو لا ينحصرُ في المادّة وحدها بل هو أوسع من المادة ومن ما وراءَها الَّذي أَطلقَ عليه القرآنُ اسْمَ عالَمِ الغيبِ في مقابل عالَمِ الشَّهادةِ.

وكما انّ الظواهر المادية يؤثر بعضُها في بعضٍ بإذن الله تعالى كذلك تؤثّر الموجوداتُ الغيبية في عالَم الطبيعة بالاِذن الاِلَهيّ.

وبعبارة أُخرى: هي وسائط للفيض الاِلَهي.

ويتحدث القرآنُ الكريمُ عن تأثير مَلائكةِ الله وتسَبّبِها لحوادثِ العالَمِ الطبيعيّ إذ يقول:

(فَالمُدَبِّراتِ أمْراً)(1)

(وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ويُرسِلُ عَليكم حَفَظَةً)(2)

نَستَنتجُ من الآيات الصَريحة السابقة:

أنّ عالَمَ الخلق بقسمَيْه: الطبيعة وما وراء الطبيعة مع ما يسوده من النظام السببي قائمٌ برمَّته بمشيئة الله سبحانه ومرتبط به، بلا استثناءٍ.

____________

1. النازعات | 5.

2. الاَنعام | 61.


الصفحة 26

الاَصلُ العاشر: خضوع الكون لهداية خاصة

إنَّ الكونَ حقيقةٌ تخضع لهدايةٍ خاصّةٍ، وانّ جميع ذرات العالم ـ كلٌّ في مرتبته ـ تتمتع بحسب ما هي عليها بنورِ الهداية.

كما وإنّ مراتب هذه الهداية العامّة والشاملة تتكون من الهداية الطبيعية، والغريزية والتكوينية.

وَلقد ذكَّر القرآنُ الكريمُ في آيات عديدةٍ بهذه الهداية التكوينيّة والعامّة نأتي فيما يلي بواحدةٍ منها:

(ربُّنا الّذِي أَعطى كُلّ شيْءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى)(1)

الاَصلُ الحادي عشر: الكون نظام كامل

إنَّ نظامَ الخليقة الحاضر هو النظامُ الاَكملُ والاَحسنُ، وإنّ جهاز الوجود قد صُوِّر على أفضل صورة، فلا يمكن تصوّر ما هو أكمل وأفضل مما عليه الآن.

يقول القرآن الكريم: (الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شيءٍ خَلَقَهُ)(2)

والدليلُ العقليُّ يدعمه، وذلك لاََنّ فعلَ أيّ فاعل يتناسب ـمن حيث الكمال والنقص ـ مع ما عليه الفاعلُ من حيث الصفات والكمالات،

____________

1. طه | 50.

2. السجدة | 7.


الصفحة 27 )
فإذا كان الفاعلُ منزَّهاً عن أيّ نقص من حيث الصفات الوجوديّة، كان فعلهُ كذلك عارياً عن أيّ نوع من أنواع النقص والعيب.

وحيث إنّ الله تعالى يُوصف بكلّ الكمالات الوجوديّة على وجهها الاَتمّ الاَكمل يكون فعله أيضاً ـ وبطبيعة الحال ـ أكملَ فعلٍ وأفضلَه.

هذا مضافاً إلى أنّ كونَ اللهِ حكيماً يقتضي ما دام خلقُ العالمِ الاَحسنِ ممكناً، أن لا يوجِدَ غيره.

والجدير بالذِكرِ أنّ ما في العالَم الطبيعيّمما يسمّى بالشُّرور لاينافي النظامَ الاَحسنَ للوجود، وتوضيحُ هذه النقطة سيأتي في أبحاث «التوحيدِ في الخالقيّة».

الاَصلُ الثاني عشر: الحكمة في خلق الكون

حيث إنَّ العالَمَ مَخلوقٌ لله الّذي هو الحقُّ المطلَق وفعلهُ، فإنَّ مصنوعَه كذلك حقٌ ويتَّسم بالحِكمة، فلا مجالَ للعبثيّة واللاهدفيّة فيه.

وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى هذا الموضوع في آياتٍ عديدةٍ نذكر واحدةً منها هنا:

(ماخَلَقْنا السَّماواتِ والاَرْضَ وَمَابيَنَهما إلاّ بِالحقِّ)(1)

على أنّ غايةَ هذا العالم والاِنسان إنما تَتَحقّق عندما تقومُ القيامة، كما قال الاِمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «فإنّ الغاية القِيامة».(2)

____________

1. الاَحقاف | 3.

2. نهج البلاغة، الخطبة 190.


الصفحة 28

الاِنسانُ في نَظَر الاِسلام

الاَصلُ الثالثُ عشر: الاِنسان

الاِنسان كائنٌ مركّبٌ من الروح والجَسَد، وجَسَده يتلاشى بعد الموت وتتفرق أَجزاؤه، إلاّ أنَّ روحه تواصل حياتها، وموت الاِنسان لا يعني فناءه، ولهذا فانّه سيمرّ بحياةٍ برزخيةٍ حتى تقومَ القيامة، ولقد أشار القرآن الكريم عند بيان مراتب خَلْق الانسانِ وتكوّنه، إلى آخر مرحلةٍ من تلك المراحل، وهي التي تتحقّق بنفخ الروح في جثمانه إذ يقول:

(ثُمَّ أنْشَأناهُ خَلْقاً آخرَ)(1)

كما أنّ القرآن أشار إلى حياة الاِنسان البرزخية في عدة آيات أيضاً، ومن تلك الآيات قوله:

(ومِن وَرَائِهِم بَرزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُون)(2) .

____________

1. المؤمنون | 14.

2. المؤمنون | 100.


الصفحة 29

الاَصلُ الرابعُ عشر: خلق الاِنسان بفطرة سليمة

يولَد كلُ إنسان بفطرةٍ نقيّةٍ توحيديّةٍ بحيث إذا بقي بعيداً عن تأثير العوامل الخارجية (كالتربية والصَداقةِ والاِعلام) التي تُسبِّب انحرافَ عقيدتهِ، سَلَكَ طريقَ الحق.

فليس ثمة شرّيرٌ بالولادة والخلقة بل الشرور والقبائح أُمور ذات صفة عارضة وطارئة تنشأ بسبب العوامل الباطنية والاختيارية.

ولهذا فانَّ فكرةَ المعصية الذاتية في بني آدم، المطروحة من قِبل المسيحيّة المعاصرة، لا أساس لها من الصحّة قط.

يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصدد: (فَأقِم وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فطْرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها)(1)

الاَصل الخامسُ عشر: الاِنسان كائن حرّ الاِرادة

الاِنسان كائنٌ حرُّ الاِرادة، مخيّرٌ، يعني انّه بَعد أن يدرسَ النواحي المختلفة لموضوعٍ مّا في ضوء العقل، يختار فعلَهُ أو تركَه، دون إجبار.

يقول القرآن الكريم: (إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إمّا شاكِراً وإمّاكَفُورا)(2) .

ويقول أيضاً: (وقُلِ الحَقُّ مِن رَّبّكُم فَمَن شاءَ فَلْيُؤمِن وَمَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(3)

____________

1. الروم | 30.

2. الاِنسان | 3.

3. الكهف | 29.


الصفحة 30

الاَصلُ السادسُ عشر: الاِنسان مخلوق قابل للتربية والتأديب

حيث إنّ الاِنسان يتمتع بفطرةٍ سليمةٍ وقوة تُمكِّنه من معرفة الخير والشرّ، كما انّه كائن مخيّر غير مجبور، لذلك كلهِ فهو موجودٌ قابل للتربية والتأْديب، قادرٌ على سلوك طريق الرشد والتكامل، وباب العودة إلى الله مفتوحٌ عليه، اللّهم إلاّ أن يتوبَ إلى الله لحظة المعاينة، ومشاهدة الموت التي لا تُقبل فيها التوبة، ولا تنفع فيها العودة إلى الله.

ومن أَجل هذا تكون دعوةُ الاَنبياء موجَّهة إلى جميع البشر حتى نظير فرعون كما يقول تعالى:

(فَقُلْ هَلْ لَّكَ إلى أن تَزَكّى * وأهدِيَك إلى رَبّك فَتَخْشى)(1)

وعلى هذا الاََساس يجب أن لا ييأس الاِنسانُ من الرحمةِ والمغفرةِ الاِلَهيّتين كما يقول تعالى:

(لا تَقْنَطُوا مِن رَّحمَةِ الله إنّ الله يَغفِرُ الذُّنوبَ جميعاً)(2)

الاَصلُ السابعُ عشر: الاِنسان كائن مسؤول

حيث إنّ الاِنسان يتمتع بنورِ العقل وموهبة الاختيار لذلك فإنّه كائنٌ مسؤُولٌ، مسؤولٌ أمام الله، وأمام الانبياء، والقادة الاِلَهيين، وأمام غيره من

____________

1. النازعات | 18 ـ 19.

2. الزمر | 53.


الصفحة 31
أبناء البشر الآخرين، وأمام العالَم.

وقد صَرّحَ القرآن الكريم بهذه المسؤولية الّتي تَقَعُ على الاِنسان في آيات عديدة يقول: (وأَوفُوا بالعَهْد إنَّ العَهْدَ كانَ مَسؤُولاً)(1)

ويقول كذلك: (أيَحْسَبُ الاِنسانُ أنْ يُترَكَ سُدىً)(2)

ويقول الرسولُ الاَكرم محمد 6: «كُلُّكُمْ راعٍ وَكُلُّكُمْ مَسؤُولٌ عَنْ رَعِيّتهِ»(3) .

الاَصلُ الثامنُ عشر: ملاك التفاضل بين الناس

لا فَضْلَ لاِنسانٍ على إنسان آخر إلاّ بما يكسبه، ويحصل عليه من الكمالات المعنوية، وأفضل هذه الكمالات التي هي ملاكُ التفوّق والاَفضليّة هو التقوى كما يقول تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِن ذَكرٍ وأُنثى وَجَعَلْناكُم شُعُوباً وَقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنّ أكرَمَكُمْ عِند الله أتْقاكُمْ)(4)

وعلى هذا الاَساس لا تكون الخصائصُ العرقية والجغرافية وغيرها من وجهة نظر الاِسلام سبباً للتمييز، ومبرِّراً للتفاخر والتكبّر، والاستعلاء على الآخرين.

____________

1. الاِسراء | 34.

2. القيامة | 36.

3. مسند أحمد: 2 | 54؛ وصحيح البخاري: 3 | 284 (كتاب الجمعة، الباب 11، الحديث 2).

4. الحجرات | 13.


الصفحة 32

الاَصلُ التاسعُ عشر: ثبات الاَُسس الاَخلاقية

الاَُسُسُ الاَخلاقية التي تُمثّل ـ في الحقيقة ـ أُسُسَ الهويّة الاِنسانية، ولها جذورٌ فطريّةٌ، أُسسٌ ثابتةٌ وخالدةٌ، وهي لا تتغيّر بسبب مُضِيّ الزمان وطروءِ التحوّلات والتطوّرات الاِجتماعية.

فمثلاً؛ حسنُ الوفاء بالعهد والعقد، أو حسن مقابلة الاِحسان بالاِحسان، قضيّةٌ خالدةٌ، وحقيقةٌ ثابتةٌ مطلقاً، وهذا القانون الاَخلاقي لا يتغير أبداً.

وهكذا الحكمُ بقبح الخيانة وخُلف الوعد.

وعلى هذا الاَساس فإنّ في الحياة البشرية الاجتماعية طائفةً من الاَُصول والاَُسُس التي امتزجت بالفطرة، والطبيعة البشرية وتكون ثابتةً وخالدةً.

وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى بعض هذه الاَُصول والاَُسُس العقليّة الاَخلاقية الثابتة إذ قال: (هَلْ جزاءُ الاِحسانِ إلاّ الاِحسانُ)(1)

(ما عَلى المُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ)(2) .

(فإنَّ اللهَ لايُضِيعُ أجرَ المُحْسنينَ)(3) .

(إنّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ والاِحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وَيَنْهَى عنِ الفَحْشاء والمُنْكَرِ والبَغي)(4) .

____________

1. الرحمن | 60.

2. التوبة | 91.

3. يوسف | 90.

4. النحل | 90.


الصفحة 33

الاَصلُ العشرون: العلاقة بين عمل الاِنسان والظواهر الكونية

إنّ أعمال الاِنسان وتصرّفاته مضافاً إلى أنّها تستتبع أجراً، أو عقاباً مناسباً لها في اليوم الآخر (القيامة)، لا تخلو من نتائج حَسَنة أو سَيّئة في هذه الدنيا، لاَنّ ثمت قوىً شاعرةً ومدركةً وُصِفت في القرآن الكريم بالمدبّرات (فالمُدبّراتِ أمْراً)(1) تدبّر أُمورَ الكون بإذن الله، ولن تقفَ من أعمال الاِنسان حَسَنة كانت أو سيّئة موقفَ المتفرج، وفي الواقع إنّ عملَ الاِنسان فعلٌ، وبعضُ حوادث العالَم المنتهية إلى تلك المدبرات ردةُ فعل على عمله. وهذه حقيقةٌ كَشَفَ الوحيُ القناع عنها، وتوصّل إليها الاِنسانُ بعلمه إلى درجة مّا أيضاً.

وللقرآن الكريم في هذا المجال آياتٌ عديدةٌ نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: (وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا علَيْهم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماء والاََرضِ)(2)

الاَصلُ الواحدُ والعشرون: العلاقة بين تقدّم الاَُمم أو تخلّفها وبين عقائدها وأخلاقها

إنّ تقدّمَ الاَُمم أو تخلّفها نابعٌ من عِلَل وعواملَ داخليّة تعود في الاَغلب إلى عقائدها وأخلاقها، وبالتالي إلى سلوكها أَنفسها، مضافاً إلى بعض العوامل الخارجية.

____________

1. النازعات | 5.

2. الاَعراف | 96.


الصفحة 34
على أنّ هذا الاَصل لا يتنافى مَعَ مبدأ القضاء والقدر الاِلَهيّين، لاَن هذا الاَصل (أي تأثير سلوك الاَُمم في مصيرها) هو نفسُه من مظاهر التقدير الاِلَهي الكلّي.

يعني أنّ المَشيئة الاِلَهيّة الكُليّة تعلّقت بأن تَصنع الاَُممُ هي مصائِرَها كأن يحظى المجتمعُ الذي يقيمُ علاقاته الاجتماعية على أساس العَدالة، بحياة طيبة، ومستقرة، ويكون وضع الاَُمة التي تقيم علاقاتها الاجتماعية على خلاف ذلك سَيّئاً، وحالتها متدهورةً.

إنّ هذا الاَصلَ هو ما يسمّى حسب مصطلح القرآن الكريم بالسنن الاِلَهيّة حيث قال: (فَلَمّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إلاّ نُفُوراً * استِكْباراً في الاَرضِ ومَكْرَ السّيّىَ ولا يحيقُ المَكْرُ السَيّىَُ إلاّ بأهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرونَ إلاّ سُنّتَ الاَوَّلين فَلنْ تَجِدَ لِسُنّتِ الله تبديلاً وَلنْ تجِدَ لِسُنّتِ اللهِ تحويلاً)(1)

وقال: (.. وأنتُمُ الاَعلَوْنَ إنْ كُنتُمْ مؤمِنينَ *... وتلِكَ الاَيّامُ نداولها بَينَ النّاسِ..)(2) .

الاَصلُ الثاني والعشرون: وضوح المستقبل البشري

إنّ مستقبلَ البشريّة واضحٌ لا إبهام فيه، صحيح أنّ حياة البشرية اقترنت في الاَغلب مع أَلوان مختلفة من التمييز، والفوضى، إلاّ أنّ هذا الوضع لن يستمرَّ إلى الاَبد، بل يَتحرَّك التاريخ البشري باتجاه مستقبلٍ

____________

1. فاطر | 42 ـ 43.

2. آل عمران | 139 ـ 140.


الصفحة 35
مشرقٍ يسودُ فيه العدلُ، ويخيِّم عليه القسطُ الشاملُ، وتكونُ الحاكميةُ في الاَرض لمِن أسماهم القرآن الكريم بالصالحين إذ قال تعالى:

(وَلَقَد كَتَبْنا في الزَبُورِ مِن بَعدِ الذكرِ أنّ الاَرضَ يرثُها عِبادِيَ الصالِحون)(1) .

ويقول أيضاً:

(وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصالحاتِ ليَستَخْلفَنَّهُمْ في الاَرضِ كَما اسْتَخلفَ الذيِنَ مِنْ قبْلِهِمْ)(2) .

وعلى هذا الاَساس فإنّ النصر النهائي في مستقبل التاريخ، وفي خاتمة المطاف في حَلَبة الصراع المستمر بين الحق والباطل إنّما هو للحقِ دون سواه، وإن تأخر ذلك بعض الشيء وطال الاَمَد، كما يقولُ القرآن الكريم:

(بَل نقذِفُ بِالحقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدمَغُه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ)(3) .

الاَصلُ الثالثُ والعشرون: كرامة الاِنسان وحرّيته

يحظى الاِنسانُ ـ حسب رؤية القرآن الكريم ـ بكرامةٍ خاصّة إلى دَرَجةِ أنّه أصبحَ مَسجوداً للملائكة كما قال تعالى:(وَلَقد كَرَّمْنا بَني آدمَ وَحَمَلْناهُمْ في البر والبَحرِ وَرَزَقْناهُم من الْطّيباتِ وفَضّلْناهُمْ على كثيرٍ مِمّن خَلَقْنا تَفْضيلاً)(4)

____________

1. الاَنبياء | 105.

2.النور | 55.

3. الاَنبياء | 18.

4. الاِسراء | 70.


الصفحة 36
وحيث إنّ جوهر الحياة الاِنسانية يكمنُ في حفظ الكرامة والعزّة، لهذا منَعَ الاِسلامُ من أيّ عمل يضرَّ بهذه الموهبة، وبعبارة أكثر وضوحاً؛ إن أيّ نوع من التسلّط على الآخرين وكذا قبول السلطة من الآخرين ممنوعٌ من وجهة نظر الاِسلام منعاً باتاً، فلابدّ أن يعيش المرء حُرّاً كريماً بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال الصغار والذل.

قال الاِمامُ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «ولا تكُنْ عَبْدَ غيرِك وقدْ جَعَلك الله حُرّاً»(1)

كما قال أيضاً: «إنّ الله تبارَك وتعالى فَوَّض إلى المؤمن كلَّ شيء إلاّ إِذلالَ نفسهِ»(2)

ومن الواضح جداً انّ الحكومات الاِلَهيّة المشروعة لاتنافي هذا الاَصل كما سيأتي توضيحه مستقبلاً.

الاَصلُ الرابعُ والعشرون: رؤية الاِسلام للعقل الاِنساني

إنّ للعقل الاِنساني مكانةً خاصةً في رؤية الاِسلام ونظره، وذلك لاَنّ ما يميّز الاِنسان عن سائر الاَحياء بل ويجعله مفضّلاً عليها هو عقله ومدى قوته التفكيرية.

من هنا دُعِيَ البشر ـ في آيات عديدة من القرآن الكريم ـ إلى التفكّر

____________

1. نهج البلاغة، قسم الكتب، الكتاب رقم 38.

2. وسائل الشيعة: 11 | 424 (كتاب الاَمر بالمعروف الباب 12، الحديث 4).


الصفحة 37
والتأمّل، والتدبّر والتعقّل، إلى درجة، عُدَّت تنمية القوة العقليّة، والتفكّر في مظاهر الخلق، من علائم العقلاء وذوي الاََلباب قال تعالى في القرآن الكريم: (الّذيِنَ يَذْكُرُون اللهَ قِياماً وَقُعوُداً وعلى جُنُوبِهِم وَيَتَفكَّرونَ فِي خَلقَ السَّمواتِ والاَرْض رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطلاً)(1)

هذا وإنّ الآيات التي ترتبط بضرورة التفكّر والتأمّل في مظاهر الخلقة أكثر بكثير من أن يمكن سردها في هذا البيان المقتضب.

وعلى أساس هذه الرؤية نجد القرآن الكريمَ ينهى الناس عن التقليد الاَعمى، وعن الاتّباع غير المدروس للآباء والاَجداد.

الاَصلُ الخامسُ والعشرون: الانسجام بين الحرية الفردية ومبدأ التكامل المعنوي

إنّ الحريات الفرديّة (الشخصيّة) في المجالات الاقتصادية السياسيّة مقيّدة في الاِسلام بأنْ لا تُنافي مبدأَ التكامل المعنوي للاِنسان كما هي مقيّدة بأن لا تضرّ بالمصالح العامة.

وفي الحقيقة إن حكمة التكليف بالوظائف والواجبات الدينية في الاِسلام تكمن في أنّ الاِسلام يريد بهذه الوظائف التي يُكلّف بها الاِنسان أن يحافظ على كرامته الذاتيَّة، وفي الوقت نفسه يضمن سلامة واستمرار المصالح الاِجتماعية.

إنّ مَنع الاِسلام من الوثنيّة، ونهيه المؤكد عن تعاطي ومعاقرة الخمر

____________

1. آل عمران | 191.


الصفحة 38
وما شابه ذلك إنّما هو للحفاظ على الكرامة الاِنسانية (فرداً وجماعة). وبهذا تتضح حكمة التشريعات الجزائية في الاِسلام أيضاً.

فالقرآن الكريم يعتبر القصاص ضماناً للحياة الاِنسانية إذ يقول:

(وَلكُمْ فِي القِصاصِ حياةٌ يا أُولي الاَلبابِ)(1)

يقول النبي الاَكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ المعصيةَ إذا عَمِلَ بها العبدُ لم تَضرّ إلاّ عامِلَها، فإذا عَمِل بها علانيةً، ولم يُغَيّر أضرّت بالعامة».

ويضيف الاِمام جعفر الصادق بعد نقل هذا الحديث قائلاً: «ذلك أنّهُ يُذلّ بعَملِه دينَ الله، وَيَقْتدي به أهلُ عَداوةِ اللهِ»(2)

الاَصلُ السادسُ والعشرون: لا إكراه في الدين

إنّ من مظاهر الحرية الفردية في الاِسلام هو أن لا يُجبرَ الشخصُ على قبول الدين واعتناقه كما قال تعالى:

(لا إكراهَ فِي الدِّين قَد تَبَيَّنَ الرشدُ مِنَ الغيِّ)(3)

وذلك لاَن الدين المطلوب في الاِسلام هو الاعتقاد والاِيمان القلبيّان وهما لا يتحقّقان في قلب الاِنسان بالعُنف والقهر، والقسر والاِجبار، بل ينشئان بعد حصول مقدمات أهمها اتضاح الحق والباطل

____________

1. البقرة | 179.

2. وسائل الشيعة: 11 | 407، (كتاب الاَمر بالمعروف).

3. البقرة | 256.


الصفحة 39
وتميّز أحدهما عن الآخر.

فإذا حَصَلت مثل هذه المعرفة اختار الاِنسانُ الحقَّ في ظروف طبيعية قطعاً.

صحيح أن «الجهاد» هو أحد الفرائض والواجبات الاِسلامية المهمّة جداً، ولكن لا يعني الجهادُ قط إجبارَ الآخرين على اعتناق الاِسلام، بل المقصود منه إزالة الموانع والعراقيل عن طريق الدعوة الاِسلامية وإبلاغ الرسالة الاِلَهيّة إلى مسامع الناس في العالم كَيما يتبيّن الرشد من الغيّ.

ومن الطبيعيّ إذا مَنَعَ أرباب الثروة والسلطة انطلاقاً من الدوافع المادية والشيطانية من إبلاغ الرسالة الاِلَهيّة الهادية إلى مسامع الناس وأفئدتهم، اقتضت فلسفة النبوة (وهي هداية البشرية وإرشادهم) أن يقوم المجاهدون بإزالة هذه الموانع، والعراقيل، لتتوفّر الشروط والظروف اللازمة لاِبلاغ دعوة الحق إلى أبناء البشرية.

اتّضح مّما سبق من الاَبحاث ـ رؤية الاِسلام حول الكون والاِنسان والحياة ـ على أنّ هناك نقاطاً وأصولاً أُخرى أيضاً سنأتي بها في مكانها المناسب.

وها نحن نشرع في استعراض مواقف الاِسلام ورؤاه في صعيد المعتقدات والاَحكام.


الصفحة 40