كليات في العقيدة
2
الفصل الثالث
في صفات الله سبحانه
الاَصلُ الرابع والثلاثون: الصفات الجمالية والجلالية لله سبحانه
حيث إنّ الذاتَ الاِلَهيّة لا مثيلَ لها ولا نظير، ولا يُتصوّر لله عديل ولا شبيه، فهو سبحانه أعلى من أن يعرفه الاِنسان بالكُنْه، أي ليس للاِنسان سبيلٌ إلى معرفةِ حقيقة الذات الاِلَهية، على حين يمكن معرفته تعالى عن طريق صفاته الجمالية والجلالية.
والمقصود من الصفات الجمالية هي الصفات التي تدلّ على كمالِ الله في وجوده وذلك كالعلم والقدرة، والحياة، والاِرادة والاِختيار وما شابه ذلك. وتُسمّى بالصفات الثبوتية أيضاً.
والمقصود من الصفات الجلالية هي الصفات التي يجلّ الله تعالى عن وصفه بها، لاَنّ هذه الصفات تدلّ على نقص الموصوف بها وعجزه، والله تعالى غنيٌ غِنىً مطلقاً، ومنزّه عن كلِّ نقص وعيب.
والجسمانية، والاِحتياج إلى المكان والزمان، والتركيب وأمثاله من جملة هذه الصفات، وتسمّى هذه الصفات أيضاً بالصفات السلبية في مقابل الصفات الثبوتية (التي مرَّ ذكرها أوّلاً) والمقصود في كلتا التسميتين واحد.
الاَصلُ الخامسُ والثلاثون: طرق معرفة صفاته سبحانه
لقد أسلفنا في بحث المعرفة أنّ أبرز طرق المعرفة بالحقائق تتمثّل في: الحسّ، والعقل، والوحي.
ويمكن لمعرفة الصفات الاِلَهيّة الجمالية والجلاليّة الاِستفادة من الطريقين التاليين:
في صفاته سبحانه …
1 ـ طريق العقل: فإنّ التأمّل في عالم الخَلق، ودراسة الاَسرار الكامنة فيه والتي تدل برمّتها على أنّها مخلوقة لله، تقودنا إلى كمالات الله الوجودية، فهل يمكن أن يتصوّر أحدٌ أنّ بناء الكَون الشاهق قد تمّ من دون عِلمٍ وقدرةٍ واختيارٍ.
إنّ القرآن الكريم يدعو ـ تأْييداً لحكم العقل في هذا المجال ـ بالتدبّر في الآيات التكوينية في صعيد الآفاق والاَنفس إذ يقول: (قُلِ انْظُرُوا ماذا في السَّماواتِ وَالاَرْضِ)(1)
أي أُنظُروا نظرة تدبّر وتأمل لتكتشفوا الحقائق العظيمة.
على أَنّ من البديهيّ أنّ العقلَ يسلك هذا الطريق بمعونة الحسّ، أي أنّ الحس يبدأ أوّلاً باكتشاف وإدراك الموضوع بصورةٍ عجيبةٍ، ثم يعتبر العقل عظمة الموضوع، وتكوينه العجيب، دليلاً على عظمة الخالق وجماله.
2 ـ طريق الوحي: فبعد أن أثبتت الاَدلةُ القاطعةُ النبوّةَ والوحيَ،
____________
1. يونس | 101.
ويكفي أن نعرف أنّه جاء بيان قرابة 140 صفة لله تعالى في القرآن الكريم، ونكتفي هنا بذكر آية واحدة تذكر بعض تلك الصفات: (هُوَ اللهُ الّذِي لا إلَهَ إلاّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ اْلمُؤْمِنُ الْمُهَيمنُ الْعَزيزُ الْجَبّارُ المُتَكَبّرُ سُبْحانَ اللهِ عمّا يُشْركُونَ * هُوَ اللهُ الخالِقُ البارىَُ المُصَوِّرُ لَهُ الاَسْماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّمواتِ وَالاَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ)(1)
هذا والجدير بالذكر أنّ هناك من احتج بعجز البشر عن معرفة الموجودِ الاَعلى فترك البحثَ عن صفات الله، ونهى عن ذلك، وهؤلاء في الحقيقة هم «المعطِّلة» لاَنَّهم حَرَموا الاِنسان من المعارف السامية التي أرشد إليها العقلُ والوحيُ معاً.
ولو كانَ البحثُ والنّقاش حولَ هذه المعارف مَمنُوعاً حقاً لكان ذِكرُ كّلِ هذه الصفات في القرآن الكريم، والاَمرُ بالتدَبر فيها غيرَ ضروريّ بل لغواً.
ويجب أن نقول ـ مع بالغ الاَسف ـ إنّ هذا الفريق حيث إنّه أوصد على نفسه بابَ المعرفة، وقع نتيجةً لتعطيل البحث العلمي في ورطة «تجسيم الله وتشبيهه وإثبات الجهة له سبحانه».
____________
1. الحشر | 23 ـ 24.
الاَصلُ السادسُ والثلاثون: صفات الذات وصفات الفعل
تنقسمُ الصِفات الاِلَهيّة من جهة أُخرى إلى قسمين:
ألف: صِفات الذات.
ب: صِفات الفِعل.
والمقصودُ من (صفات الذات) هي الصفات الّتي يلازم تصوُّرها تصوّرَ الذات الاِلَهية، كالعلم والقدرة والحياة، وإن لم يصدر منه سبحانه فعلٌ من الاَفعال.
والمقصود من (صفات الفِعل) هي الصفات التي تُوصف الذات الاِلَهيّة بها بملاحظة صدور فعل مّا منه تعالى، كالخالقية، والرازقية وما شابَهَ ذلك من الصفات التي تنتزَعُ من مقام الفعل، ويوصَف بها اللهُ تعالى بعد ملاحظة ما صدر منه من الاَفعال.
وبعبارةٍ أُخرى مالم يصدر من الله فعل كالخالقية والرازقيّة والغفارية والراحمية لا يمكن وصفه فعلاً بالخالق والرازق وبالغفّار والرحيم، وإن كان قادراً ذاتاً على الخلق والاِرزاق والمغفرة والرحمة.
ونذكّر في الخاتمة بأنّ كلَّ صفات الفعل التي يوصف بها اللهُ تعالى نابعةٌ من كماله الذاتي، وأن الكمال الذاتي المطلق له تعالى هو مبدأ جميع هذه الكمالات الفعلية ومنشؤها.
صفات الله الثبوتيّة
بعدما تبيّن انقسامُ الصفات الاِلَهيّة إلى صفاتٍ ثبوتيّة وسلبيّة، وذاتيّة فعليّة ينبغي أن نطرح على بساط البحث أهمّ المسائل والقضايا المتعلّقة بها.
الاَصلُ السابعُ والثلاثون: صفاته الذاتية
ألف: العلمُ الاََزَليّ
عِلمُ الله ـ لكونه عينَ ذاته ـ أزليٌّ، كما انّه مثل ذاته مطلقٌ، ولا نهاية له.
إنّ الله تعالى ـ مضافا إلى علمه بذاته ـ يعلم بكل شيء ممّا سوى ذاته، كليّاً كان أم جزئياً، قبل وقوعه وتحقّقه، وبَعد وقوعه وتحقّقه.
ولقد أكّد القرآنُ الكريمُ على ذلك تأكيداً كبيراً إذ قال: (إنَّ اللهَ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيْمٌ)(1)
____________
1. العنكبوت | 62.
ولقد وَرَدَ مثل هذا التأكيد المكرّر والقويِّ على أزليّة العلمِ الاِلَهيّ، وسعته وإطلاقه في الاَحاديث المرويّةَ عن أئمة أهل البيت: مثل قول الاِمامِ جَعْفَرِ الصادق (عليه السلام):
«لَمَ يَزَل عالِماً بالمَكانِ قَبْلَ تَكوينه كَعِلْمِهِ به بَعْدَ ما كوَّنَهُ وَكَذلِكَ عِلمُهُ بِجَمِيِعِ الاََشياءِ»(2)
ب: القُدرةُ الواسِعَةُ
إنّ قدرةَ الله مثلُ عِلمه أَزَليّةٌ، وَلكونها عينَ ذاته فهي مثلُ عِلمِهِ تعالى، مطلقةٌ وغير محدودة.
إنّ القرآن الكريم يؤكّد على سِعةِ قدرة الله ويقول: (وَكانَ اللهُ على كُلِّ شيءٍ قَدِيراً)(3)
…
ويقول: (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِراً) 4.
وقالَ الاِمامُ جعفرُ الصّادق (عليه السلام):
«الاَشياءُ لَهُ سَواءٌ عِلماً وقُدْرةً وَسُلْطاناً، ومُلْكاً وإحاطةً»(4)
____________
1. الملك | 14.
2. التوحيد للصدوق ص 137، الباب 10، الحديث 9.
3. الاَحزاب | 27.4. الكهف | 45.
4. التوحيد للصدوق الباب 9 الحديث 15.
يقول الاِمامُ عليٌّ (عليه السلام) في الردّ على من سَألَ حول إيجاد الممتنعات: «إنّ الله تباركَ وتعالى لايُنسَبُ إلى العَجز، والّذي سَألْتنِي لا يَكُونُ»(1) .
ج: الحياة
إنّ اللهَ العالِمَ القادرَ حيٌّ كذلك قطعاً، لاَنّ الصفتين السابقتين من خصوصيات الموجود الحي وتوابعه، ومن هذا تتضح دلائل الحياة الاِِلَهيّة أَيضاً.
على أنّ صِفة الحياة التي يُوصف بها الحقُ تعالى هي مثل سائر الصفات الاِلَهيّة منزَّهةٌ عن كلّ نقص، ومن كل خصوصيّات هذه الصّفة في الاِنسان وما شابهه (كعروض الموت)، وحيث إنّ اللهَ حيٌ بالذات لهذا لاسبيلَ للموت إلى ذاته المقدّسة كما يقول:
(وَتَوَكَّلْ على الحيِّالذي لايَموتُ)(2)
____________
1. التوحيد للصدوق: ص 130، باب القُدرة.
2. الفرقان | 58.
إنَّ الفاعلَ الواعي لفعله أكملُ من الفاعِلِ غير الواعي لفعله، كما أنّ الفاعلَ المريدَ لفعلِهِ المختار فيه (وهو الّذي إذا أراد أن يفعلَ فَعَل، وإذا لم يُردْ أن يفعَلَ لم يفعل) أكمل من الفاعل المضطرّ المجبور، أي الذي ليس أمامَه إلاّ أحد أمرين: إمّا الفعل وإمّا الترك.
وبالنظر إلى ما قلناه، وكذلك نظراً إلى أنّ الله أكملُ الفاعلين في صفحة الوُجود، فإنَّ من البديهي أن نقول إنَّ اللهَ فاعلٌ مختارٌ، وليس تعالى بمجبورٍ من جانب غيرهِ، ولا بمضطرٍ من ناحية ذاته.
والمقصود من قولنا: إن اللهَ مريدٌ، هو أنّه تعالى مختارٌ وليس بمجبورٍ ولا مضطَرّ.
إنّ الاِرادة ـ بمعناها المعروف في الاِنسان والذي هو أمر تدريجي وحادث ـ لا مكان لها في الذات الاِِلَهيّة المقدسة.
من أجل هذا وُصِفت الاِرادة الاِلَهيّة في أحاديث أهل البيت: بأنّها نفسُ إيجاد الفعل وعينُ تحقّقه، مَنعاً من وقوع الاََشخاص في الانحراف والخطأ في تفسير هذه الصفة الاِلَهيّة وتوضيحها.
قال الاِمام موسى بن جعفر (عليه السلام): «الاِرادة من الخَلق: الضميرُ وما يَبْدُو لهم بعدَ ذلك من الفِعْل. وأمّا مِنَ الله تعالى فإرادتُهُ: إحداثُه لاغير، ذلك لاَنَّه لايُرَوّي ولايَهِمُّ ولا يَتَفَكَّرُ، وهذهِ الِصّفاتُ مَنْفيّةٌ عَنْهُ وَهيَ صِفاتُ الخَلْقِ.
فظهر ممّا ذكرناه: انّ وصفه سبحانه في مقام الذات بأنّه مريد، بمعنى انّه مختار ووصفه به في مقام الفعل بمعنى انّه موجد ومحدث.
____________
1. أُصول الكافي ج1، ص109 باب الاِرادة انّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل،الرواية 3.
الله وصفاتُ الفِعل
والآن بعد أن اطَّلعنا على أُمهات المطالب المتعلّقة بصفات الذات ينبغي التعرّف على بعض صفات الفعل.
وندرس هنا ثلاث صفات فقط من صفات الفِعل:
1. التكلّم.
2. الصِدق.
3. الحِكمة.
الاَصلُ الثامن والثلاثون: كون الله متكلّماً
إنّ القرآن الكريم يصفُ الله تعالى بصفة التكلّم إذ يقول: (وَكَلَّم اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)(1)
وقال أيضاً: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكلِّمَهُ اللهُ إلاّ وَحْياً أوْ مِن وَراءِ حِجابٍ أو يُرْسِلَ رَسُولاً)(2)
____________
1. النِسَاء | 164.
2. الشورى | 51.
إنّما الكلام هو في حقيقة التكلّم وأنّ هذه الصِفة هل هي من صِفات الذات أم من صفات الفعل؟ إذْ مِنَ الواضح أنّ التكلّم بالشَكل الموجود عند الاِنسان لا يجوزُ تصوّرُهُ في الحقّ تعالى.
وحيث إنّ صفَةَ التَكّلم ممّا نطق بها القرآن الكريم، وَوَصَف بها الله، لذلك يجب الرّجوع إلى القرآنِ نفسه لِفَهم حقيقته كذلك.
إنّ القرآن يقسّم تكلّم اللهِ مع عباده ـ كما عرفنا ـ إلى ثلاثةِ أنواع، إذ يقول: (وَما كانَ لِبشَرٍ أن يُكلِّمهُ اللهُ إلاّ وَحْياً أو مِن وَراء حِجابٍ أو يُرسِلَ رَسُولاً فيوُحِيَ بإذنِهِ ما يشاء إنّه عَليٌّ حَكيْمٌ)(1)
إذَن فلا يمكن للبشر أن يكلّمهُ الله إلاّ من ثلاث طرق:
1 ـ «وَحْياً» الاِلهام القلبي.
2 ـ «أو مِنْ وَراءِ حِجابٍ» كأن يكلّم اللهُ البشرَ من دون أن يراه كتكلّم اللهِ مع موسى (عليه السلام).
3 ـ «أو يُرسِلَ رسولاً...» أي مَلَكاً يوحي إلى النبيّ بِإذنِ الله تعالى.
ففي هذه الآية بَيَّنَ القرآنُ تكلُّمَ اللهِ بأنّه تعالى يوجدُ الكَلامَ تارةً من دون واسطةٍ، وَأحْياناً مع الواسطةِ، عَبر مَلك من الملائكة.
كما أنّ القِسمَ الاَوّل تارةً يكون عن طريقِ الاِلقاء والاِلهام إلى قلب النبي مباشرةً، وتارةً بالاِلقاء إلى سَمْعِهِ ومنه يصلُ الكَلامُ إلى قلبه.
____________
1. الشورى | 51.
إنّ هذا التَفْسير والتحليل لصفة التكلّم الاِِلَهيّ هو أحدُ التفاسير التي يمكن استفادتها بمعونةِ القرآنِ وإرشاده وهدايته.
وهناكَ تفسيرٌ آخرٌ لهذه الصفةوهو: أنَّ اللهَ اعتبر مخلوقاتهِ من كلماتِه فقال: (قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ مِداداً لِكَلماتِ رَبّي لَنَفدَ البَحرُ قَبْلَ أنْ تَنَفَدَ كَلِماتُ رَبِيّ وَلوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(1)
فالمقصودُ من «الكلمات» في هذه الآية هو مخلوقات الله الّتي لا يقدرُ شيءٌ غيرُ ذاته سبحانه على إحصائها وعدّها، ويدعم هذا التفسيرَ للكلمة وصفُ القرآن الكريم المسيحَ ابنَ مريم (عليه السلام) بأنّه «كلمة الله» إذ قال: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إلى مَرْيمَ)(2)
إنّ الاِمام أميرَ المُؤْمنين (عليه السلام) فسّر تَكَلّم الله تعالى في إحدى خُطَبِه وأحاديثه بأنّه إيجادٌ وفِعلٌ، فقال: «يَقُولُ لِمَنْ أرادَ كَوْنَهُ «كُنْ»، لا بصَوتٍ يَقرَعُ، ولا بنداءٍ يُسْمَعُ وَإنّما كَلامُهُ سُبحانَه فِعلٌ منه، أنشَأهُ وَمَثَّله»(3)
فإذا كان الكلام اللفظيّ معرباً عمّا في ضمير المتكلّم، فما في الكون من عظائم المخلوقات إلى صغارها يعرب عن علم الله تعالى وقدرته وحكمته.
____________
1. الكهف | 109.
2. النساء | 171.
3. نهج البلاغة، الخطبة 186.