الصفحة 77

الاَصل التاسعُ والثلاثون: هل القرآن مخلوق أم قديم؟

اتّضح مِنَ البَحْث المتَقَدّم الذّي تضمّن تفسيراً لِحقيقة كلامِ الله، بنحوين، أنَّ التفسيرَ الثاني لا يخالف التفسير الاَوّل، وانّه سبحانه متكلم بكلا الوجهين.

كما ثَبَتَ أنَّ كلامَ اللهِ حادثٌ وليس بقديمٍ، لاَنّ كلامَهُ هو فِعْلُه، ومن الواضح أنّ الفِعلَ حادثٌ، فَيَنتُجُ من ذلك أنّ «التكلّم» أمرٌ حادِثٌ أيضاً.

ومع أنّ كلامَ الله حادثٌ قطعاً فإنّنا رعايةً للاَدب، وكذا دَرءاً لسوءِ الفهم لا نقول: إنّ كلام الله (القرآن) مخلوق إذ يمكن أن يصفه أحدٌ في ضوء ذلك بالمجعول والمختلق وإلاّ فإنّ ما سوى اللهِ مخلوقٌ قطعاً.

يقول سليمان بن جعفر الجعفري: سألت الاِمامَ عليَ بن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا اْبن رسول الله أخبِرني عن القرآن أخالقٌ أو مخلوقٌ؟ فأجاب (عليه السلام) قائلاً: «ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ، ولكنّه كلامُ الله عزّ وجلّ»(1)

وهنا لابدّ من التذكير بنقطةٍ تاريخيةٍ في هذا المجال وهي أنّه طُرحت في أوائل القرن الثالث الهجري، في عام 212 هـ في أوساط المسلمين مسألة ترتبط بالقرآن الكريم، وهي: هل القرآنُ حادثٌ أو قديمٌ؟

وقد صارت هذه المسألة سبباً للفرقة والاختلاف الشديدين، على

____________

1. التوحيد للصدوق: ص 223 باب القرآن ما هو، الحديث 2.


الصفحة 78
حين لم يمتلك القائلون بِقدَم القرآن أيَّ تبرير صحيح لمزعمتهم، لاَنّ هناك احتمالات يكون القرآنُ حسب بعضها حادثاً، وحسب بعضها الآخر قديماً.

فإذا كان المقصود من القرآن هو كلماته التي تُتلى وتُقرَأ، أو الكلمات التي تلقّاها الاَمينُ جبرائيل، وأنزلها على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ كل ذلك حادثٌ قطعاً ويقيناً.

وإذا كان المقصود هو مفاهيم الآيات القرآنية ومعانيها، والتي يرتبط قسمٌ منها بقصص الاَنبياء، وغزوات الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي أيضاً لا يمكن أن تكون قديماً.

وإذا كان المقصودُ هو علم الله بالقرآن لفظاً ومعنى فإنّ من القطعيّ والمسلَّم به هو أنّ علم الله قديمٌ، وهو من صفات الذات، ولكن العلِمَ غيرُ الكلام كما هو واضحٌ.

الاَصلُ الاَربعون: كون الله صادقاً

ومن صفاته سبحانه «الصدقُ» وهو القول المطابق للواقع في مقابل الكذب الذي هو القول المخالف للواقع.

فاللهُ تعالى صادقٌ لا سبيلَ للكذب إلى قوله، ودليلُ ذلك واضحٌ تمام الوضوح، لاَنّ الكذبَ شيمةُ الجَهَلة، والعَجَزة والجُبَناء. والله منزهٌ عن ذلك كُلّه.

وبعبارة أُخرى؛ إنَّ الكذبَ قبيحٌ والله منزهٌ عن القبيح.


الصفحة 79

الاَصلُ الواحدُ والاَربعون: كون الله حكيماً

ومِنَ الصّفات الكماليّة الاِلَهيّة «الحكمةُ» كما يوحي بذلك تسميتهُ تعالى بالحكيم.

والمقصود من كون الله حكيماً:

أوّلاً: أنّ أفعال الله تعالى تتسم بمنتهى الاِتقان والكمال.

ثانياً: أنَّ الله تعالى منزّهٌ عن الاَفعال الظالمة، والعابثة.

ويدل نظامُ الخلق الرائع العجيب على المعنى الاَوّل حيث أُقيم صرحُ الكَون العظيم على أتّم نظامٍ وأحسن صورةٍ، إذ يقول:

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شيءٍ)(1)

ويشهد بالمعنى الثاني قولُه تعالى:

(وما خَلَقْنا السَّماءَ واْلاََرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً)(2)

وهو أمرٌ يَدْعَمُه العلمُ والعقْلُ كلَّما تقدَّم بهما الزمنُ، وَوَقفنا على أَسرارِ الكونِ وقوانينه.

____________

1. النمل | 88.

2. ص | 27.


الصفحة 80

صفاتُ الله السلبيّةُ

الاَصلُ الثاني والاَربعون: إنّ الله لا يرى بالعين مطلقاً

ذكَرْنا عند تصنيف صفات الله تعالى أنَّ الصفات الاِِلَهيّة على نَوعين: صفات الجمال، وصفات الجلال، وأنّ ما هو من سِنخ الكمال ومقولته يُسمّى «الصفات الجماليّة» أو «الثبوتية»، وما هو من مقولة النقص وسنخه يسمّى «الصفات الجلالية» أو «السلبية».

والهَدَف من الصّفات السَلبيّة هو تنزيه ذات الله سبحانه من النقص، والحاجة والفقر.

إنّ الله تعالى ـ لكونه غنيّاً موصوفاً بالكمال المطلق ـ منَّزهٌ عن كُلّ وصفٍ يحكي النقص، والحاجة والفقر، ولهذا قال علماء العقيدة المسلمون (علماء الكلام) إنّ الله ليس بجسمٍ ولا جسماني، ولا محلاً لِشيءٍ، ولا حالاًّ في شيء، ذلك لاَنّ كل هذه الخصوصيات ملازمة للنقص والاحتياج ومستتبعة للفقر والاِمكان، وهي تعارضُ كونه غنياً غنىً مطلقاً، وتنافي كونه واجبَ الوجود قطعاً ويقيناً.

هذا ومن الصفات التي تحكي النقص كون الشيء مرئياً، ذلك لاَن

الصفحة 81
الشيء لا يكون مرئياً إلاّ بعد تحقّق شروط ضرورية هي:

ألف: أن يكون في مكانٍ وجهةٍ خاصةٍ.

ب: أن لا يكون في ظلمة، بل يشع عليه النور.

جـ: أن يكون بينه وبين الرائي فاصلة معينة ومسافة مناسبة.

ومن الواضح أنّ هذه الشرائط من آثار الكائن الجسماني ومن خصائص الموجود المادّي لا الاِلَه ذي الوجود الاَسمى والاَعلى من ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ كون الله مرئياً لا يخلو من حالتين:

إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً.

وإمّا أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً.

وفي الصورة الاَُولى يكون الله المحيط؛ مُحاطاً ومحدوداً.

وفي الصورة الثانية يكونُ الحق تعالى ذا أجزاء وأبعاض.

وكلا الاَمرين لا يليقان بالله سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به، مطلق غير مقيد، منزّه عن التركب والتبعّض.

على أنَّ ما قلناه يرتبط بالرؤية الحسيّة والبصرية، لا الرؤية القلبيّة، والشهود الباطنيّ الّذي يتحقّق للمرء بفضل الاِيمان الكامل، واليقين الصادق فإنّ هذا القسمَ خارجٌ عن محطّ البحث، وإطار النقاش. ولا ريب في إمكان وقوعه بل وقوعه لاَولياءِ الله، وعبادة الصالحين المقربين.


الصفحة 82
قال ذعلب اليمانيّ ـ وهو من أصحاب الامام علي (عليه السلام) ـ قلت للاِِمام (عليه السلام) هل رأيتَ ربَّك يا أميرَ المؤمنيِن؟

قالَ الاِمامُ (عليه السلام): «أفَأَعْبُدُ ما لا أرى».

فقال ذعلب: وكيف تراهُ ؟

فقال (عليه السلام): «لاَ تراهُ العُيُونُ بمشاهدة العَيانِ وَلكِنْ تدرِكهُ القُلُوب بِحَقائِقِ الاِِيمانِ»(1)

إنّ الرؤية بالبصر علاوةً على كونِها ممتنعةً عقلاً، مرفوضةً من جانبِ القرآن الكريم، فقد صرّحَ القرآن الكريم بنفِي إمكان ذلك.

فعندما طَلَب النبيّ موسى (عليه السلام) من الله (تحت إلحاحٍ وضغطٍ مِن قومه) أن يريه نفسَه ردّ عليه سبحانه بالنفي المؤكد المؤبد كما يقول: قائلاً: (رَبّ أرِنِي أَنْظُرُ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) 2.

ويمكن أن يَسأَل أحد: إذا كانت رؤيةُ الله بالبصر والعَين غير ممكنة فلماذا قال القرآن الكريم: (وُجُوهٌ يَوْمِئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ) 3.

والجواب على ذلك هو: أنّ المقصود من النظر في الآية الكريمة، هو انتظار الرحمة الاِلَهية، لاَنّ في الآية شاهدين على ذلك:

1 ـ إن النظر في هذه الآية نُسِبَ إلى الوجوه وقال ما معناه: إنّ الوجوه المسرورة تنظرُ إليه. ولو كان المقصود هو رؤية الله بالبصر لنُسِبَ النظر

____________

1. نهج البلاغة: الخطبة 179.

2. الاَعراف | 143. 3. القيامة | 22 ـ 23.


الصفحة 83
إلى العيون لا إلى الوجوه.

2 ـ إن الكلام في هذه السورة عن فريقين: فريق يتمتّع بوجوهٍ مسرورةٍ مشرقةٍ وقد بيّن ثوابَها بقوله: (إلى رَبّها ناظِرَةٌ) .

وفريق يتسم بوجوه حَزينة مكفهرّة وقد بيّن جزاءها وعقابها بقوله: (تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرَةٌ) .

والمقصود من الفقرة الثانية واضح وهو أنّ هذا الفريق يعلم بأنّه سيصيبه عذابٌ يفقر الظهر، ويكسره ولهذا فهو ينتظر مثل هذا العذاب الاَليم.

وبقرينة المقابلة بين هذين الفريقين يمكن معرفة المقصود من الآية الاَُولى وهو أنَّ أصحاب الوجوه المسرورة تنتظر رحمة الله، فقوله تعالى: (إلى رَبّها ناظِرة) كنايةٌ عن انتظار الرَّحمة الاِلَهية، ولهذا النّوع من التكنية وذكر شيء وإرادة شيء آخر كنايةً نظائر في المحاورات العرفية فيقال فلانٌ عينه على يد فلان أي أنّه ينتظر إفضالهَ وإنعامه عليه.

وخلاصة القول؛ أنّه كما ينتظر أصحابُ الوجوهِ الحزينةِ عذاباً إلَهيّاً، ينتظرُ أصحابُ الوجوهِ المسرورةِ رحمةً إلَهيةً كُنّي بها بالنَظَر إليه جرياً على العادةِ المألوفةِ في المحاورات العرفيّة العربيّة، وبقرينة المقابلة التي هي من قوانين البلاغة وقواعدها.

هذا مضافاً إلى أنّه يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنية بآيةٍ واحدةٍ بل لابدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع،

الصفحة 84
والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات.

وفي مسألة الرُؤية لو لاحظنا كلّ الآيات المتعلّقة بها في القرآن الكريم، بالاِضافةِ إلى الاَحاديثِ الشريفةِ في هذا المجال لاتّضحَ عدمُ إمكان رؤية الله تعالى في نظر الاِسلام من دون غموضٍ.

وفي خاتمة المطاف تفسّر الرؤية الواردة في قصة موسى (عليه السلام) مع أصحابه، انّ موسى (عليه السلام) اختار من قومه سبعين رجلاً لميقات ربه لكي يشاهدوا نزول التوراة، فلمّا بلغوا الميقات اقترحوا عليه ان يريهم الله سبحانه، يقول تعالى:

(وإذ قُلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللهَ جَهْرَةً)(1) وقال سبحانه: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتابِ أن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنا الله جَهْرةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)(2) فلما أفاقوا بدعاء من نبيهم موسى (عليه السلام) اقترحوا عليه شيئاً آخر، فقالوا: إنك تسمع كلام الله وتصفه لنا أدع ربك حتّى يريك نفسه فتنقله إلينا فأصرّوا وألَحّوا في ذلك، فطلب موسى (عليه السلام) بضغط وإِلحاح من قومه ان يريه الله ذاته مع علمه بامتناع رؤيته، وقال: (رَبِّ أَرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ) فوافاه الجواب: (قالَ لَنْ تَرانِي)(3) .

فتبيَّن من ذلك انّ طلب موسى لم يكن من تلقاء نفسه بل كان إجابة لاِِلحاح قومه المعروفين باللجاج والاِصرار.

____________

1. البقرة | 55.

2. النساء | 153.

3. الاَعراف | 143.


الصفحة 85

الصِّفات الخَبَريّة

الاَصلُ الثالثُ والاَربعون

كُلُّ ما ذُكر إلى هُنا من الصّفاتِ الاِلَهيّة (ما عدا التكلّم) كانَ برمّته مِن نوع الصّفاتِ التّي يقضي العقلُ بِإِثباتِها للهِ أو نَفْيِها عنهُ.

غَير أنَّ هناكَ مجموعةً من الصّفات وَرَدَت في آياتِ القرآنِ وفي السُّنة ولم يكن لها من مُسْتَنَدٍ ومَصْدرٍ سوى النقلِ مثل:

1 ـ يَدُ الله: (إنَّ الّذينَ يُبايعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيْدِيهِمْ)(1)

2 ـ وَجْهُ الله: (وَللهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأَيْنما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إنَّ اللهَ واسعٌ عَليمٌ) .

3 ـ عَيْنُ اللهُ: (وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(2)

4 ـ الاِسْتواء عَلى العَرش: (الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ استوى) 4.

والعلّة في تسمية هذا النوع من الصفات، بالصفات الخبرية، هو

____________

1. الفتح | 10.

2. البقرة | 115.

3. هود | 37.

4. طه | 5.


الصفحة 86
ثبوتها لله بإخبار الكتابِ والسُنّة بِها فقط.

وللحصول على التفسير الواقعيّ لهذا النوع من الصفات يجب أيضاً ملاحظة كلّ الآيات المتعلّقة بهذا المجال.

كما أنّه يجب أن نعلم أنّ اللّغة العربية شأنها شأن غيرها من اللّغات الاَُخرى زاخرة بالكنايات والاِستعارات والمجازات، وبما أنّ القرآن نزل بلغة القوم لذلك استخدم هذه الاَساليب أيضاً.

وإليك الآن بيان هذه الصفات وتفسيرها في ضوءِ ما مرَّ.

ألف: في الآية الاَُولى قال تعالى: (إنّ الّذيْنَ يُبايِعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللهَ) لاَنّ مبايعة الرسول بمنزلةِ مبايعةِ المرسِلِ.

ثم يَقُول بعد ذلك: (يَدُ اللهِ فوقَ أيْدِيهِمْ) وهذا يعني أن قدرة الله أعلى وأقوى من قدرتهم وَلا يعني أنّ لله يَداً جسمانية حِسيّة تكون فوق أياديهم.

ويشهد بذلك أنّهُ قال في ختام الآية وعقيب ما مرّ: (فَمَنْ نَكثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوفى بما عاهَدَ عَلَيْه الله فسيُؤتيِه أَجْراً عَظِيماً) .

فمن نكث بيعته فلا يضرّ الله شيئاً لاَنّ قدرة الله فوق قدرتهم.

إنّ هذا النمط من الكلام والخطاب الذي يتضمن تهديدَ الناكثين لعهدهم، والتنديد بهم، وامتداح الموفين بعهدهم وتبشيرهم، يدل على أنّ المقصود من «يَدِ الله» هو القدرةُ والحاكمية الاِِلَهية.


الصفحة 87
على أنّ لفظة «اليَد» تُستخدَم أحياناً في جميع اللُغات للكناية عن القُدرةِ والقُوةِ، والسُلطةِ والحاكميةِ، ومن هذا الباب قولِهم: فَوْقَ كل يدٍ يدٌ، أي فوقَ كُلّ قوةٍ قوةٌ أعلى، وفوق كلّ قدرةٍ قدرةٌ أكبر.

ب: إنّ المقصودَ من الوَجه الذي نُسِبَ إلى الحقّ تعالى هنا هو ذاته سبحانه لا العضوُ الخاصُ الموجودُ في جسم الاِنسان وما يشابِهُهُ.

فالقرآنُ عندما يتحدّث عن هلاك ما سوى الله وفنائه يقول: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)(1)

ثم يخبر عقيبَ ذلك مباشرةً عن بقاء الذات الاِِلَهيّة ودوامِها وأنّه لا سبيل للفناء إليها فيقول: (وَيَبْقى وجهُ ربِّك ذو الجَلالِ والاِِكرامِ)(2)

أي تَبقى ذاته المقدسة، ولا تفنى أبداً.

من هذا البيان يتّضح بجلاءٍ معنى الآية المبحوثة هنا ويتبين أنّ المقصودَ هو أنّ الله ليس في جهةٍ أو نقطةٍ معيّنةٍ، بل وجوده محيط بجميع الاَشياء فأينما وَلَّيْنا وُجوهَنا، فقد وَلَّيْنا وجوهَنا شطرهُ.

ثم إنّ القرآن أتى لاِثبات هذه الحقيقة العظيمة بوصفين لله تعالى:

1 ـ واسعٌ: أيْ إِنّ وجود الله لا نهاية له ولا حدود.

2 ـ عَلِيْمٌ: أيْ إنّه عارفٌ بجميع الاَشياء.

ج: في الآية الثالثة يذكر القرآنُ الكريم أنّ نوحاً (عليه السلام) كُلّف من جانب

____________

1. الرحمن | 26.

2. الرحمن | 27.


الصفحة 88
اللهِ بصنع سفينة وإعدادها.

وحيث إنّ صنعَ تلك السفينة كان في مكان بعيدٍ عن البحر، لذلك استهزأ قومُه به، وسخر به الجهلة منهم، وآذَوه.

ولذا في مثل هذه الظروف قال له الله تعالى: إصنع أنتَ السفينة ولا تُبالي، فأنتَ تفعل ذلك تحت إشرافنا، وهو أمرٌ قد أوحينا نحن به إليك.

فالمقصود من قوله (واصنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُننا) هو ان نوحاً قامَ بما قام من صُنْع السفينة حسب أمر الله له، ولهذا فانّ الله سيحفظه ويكَلاَوه برعايته، ويحميه، ولن يَصل إليه من المستهزئين شيءٌ إذ هو في رعاية الله، ويعمل تحت عنايته.

د: إنّ العَرشَ في اللغة العربية بمعنى السرير، ولفظ «الاستواء» إذا جاء مع لفظة «على» كان المعنى هو الاستقرار والاستيلاء.

وحيث إنّ الملوك والاَُمراء بعد أن جلسوا على منصة العرش يعمدون إلى تدبير الاَُمور، وتسييرها في بلادهم، لهذا كان هذا النوعُ من التعبير (أعني: الاِستواء على العرش) كناية عن الاِستيلاء، والسيادة، والقدرة على تدبير الاَُمور، خاصة إذا نُسِبَ ذلك إلى الله سبحانه.

هذا مضافاً إلى أنّ الاَدِلّة العَقلية والنقلية أثبتت تنزّه الحق تعالى عن المكان.

وممّا يشهد بأنّ الهدف من هذا النمط من التعابير، ليس هو الجلوسُ على السَرير الماديّ، بل هو كناية عن تدبير أُمور العالم أمران:


الصفحة 89
1 ـ إنّ هذه العبارة جاءت في كثير من آيات الكتاب العزيز مسبوقةً بالحديث عن خلق السماوات والاَرض، للاِشارة إلى أنّ هذا الصرح العظيم قائم من غير أعمدة مرئيّة.

2 ـ إن هذه العبارة جاءت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز ملحوقةً بالكلام عن تدبير العالم.

إنّ مجيىَ هذا التعبير في القرآن الكريم مسبوقاً تارةً بالحديث عن الخلق، وملحوقاً تارة أُخرى بالحديث عن التدبير يمكن أن يساعِدَنا على فهم المقصود من الاستواء على العرش، وأنّ القرآن يُريدُ بهذه العبارة أن يُفَهّمَ البشريةَ أنَّ خلق الوجود على سعته، وعظمتهِ، لم يوجب خروج هذا الكون العظيم عن نطاق تدبيره ومشيئته، بل الله تعالى مضافاً إلى كونه خالقَ الكون، وموجده، فهو مدّبرُه، ومصرّفُ شؤونه.

وها نحن نختارُ من بين الآيات العديدة في هذا الصعيد آيةً جامعةً للحالتَين (المذكورتين سابقاً) تفيد ما ذكرناه:

(إنّ رَبَّكُمُ اللهُ الّذي خَلَقَ السَّماواتِ والاَرْضَ في ستَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتوى عَلى العَرْش يُدَبّرُ الاََمرَ ما مِنْ شَفِيْعٍ إلاّ مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ..)(1)

____________

1. يونس | 3.

2. يراجَع في هذا الصدد الآيات: 2 | الرعد، 4 | السجدة، 54 | الاَعراف.


الصفحة 90