(لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .الانعام/103
وقال تعالى وتقدّس:
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) . الاعراف/143
وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل
والحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لانّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضيءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.
ولهذا كرّسَ رسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لارساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الاخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.
ولهذا ـ ونظراً للحاجةِ المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للاُمةِ الاسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّة من كتاب اللهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الاُمةِ الكرام، والله الموفِّق.
معاونيّة التعليم والبحوث الاسلاميّة
تمهيد
سمات العقيدة الاسلاميّة
إنّ للعقيدة الاسلاميّة سمات نذكر منها ما يلي:
1 ـ سهولة العقيدة
للعقيدة الاسلامية صفات متعدّدة، منها: سهولة فهمِها وتعلّمها; لانّها عقيدة شاملة لا تختص بالفلاسفة والمتكلّمين والمفكِّرين، إلاّ أنّ ذلك لا يعني سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، بل يعني أنها في متانتها ورصانتها وخضوعها للبراهين والادلة، بعيدة عن الالغاز والابهامات، فلو فُسّرت وبُيّنت لفهمها عامة الناس حسب مستوياتهم، فهي بهذه الصفة تخالف ما تتبنّاه نصرانية اليوم والامس، التي أحاطت بها ابهامات في العقيدة وألغاز في الدين، بحيث لم يتيسّر لاحد لحدّ الان حلُ مشاكلها وألغازها، فالمسلم مثلاً إذا سئل عن عقيدته في التوحيد، وعن صفات الله تعالى يقول: (هُوَ اللهُ أَحَد، اللهُ الصَمَد، لَمْ
وقد جاء في الاثر أنّ جماعة من أهل الكتاب سألوا النبي (صلى الله عليه وآله)وقالوا: إنسب لنا ربّك، فنزلت سورة التوحيد(1) .
فالعقيدة الاسلامية في هذا المجال واضحة المفاهيم، جليّة المعالم، لا يكسوها إبهام ولا يسترها لغز، فيخرج المسلم في مقام الوصف وتبيين العقيدة مرفوع الرأس، فللعقيدة براهينها الواضحة، التي يمكن أن يقف عليها كل من درسها.
وأمّا لو سُئل النصراني عن ذلك، فإنه يتلعثم في بيان عقيدته، فتارةً يقول: إنّه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، ثمّ يضيف أنه لا منافاة بين كون الشيء واحداً وكثيراً.
ومن المعلوم أنّ هذه العقيدة بهذا الابهام والاجمال لا تقبلها الطباع السليمة; إذ كيف تُذْعِن بأنه سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ندّ، ولكنه مع ذلك له أنداد ثلاثة وأمثال متعدّدة، فهذه العقيدة تناقض أولها آخرَها ويردّ آخرُها أوّلها، فهو سبحانه إمّا واحد لا نظير له وإمّا كثير له أمثال.
وقِسْ على ذلك سائر المواضيع في العقيدة الاسلامية وقابِلْها مع ما تقول سائر الشرائع فيها، ترى تلك الصفة بنفسها في العقيدة الاسلامية ونقيضها في غيرها.
إنّ من العوامل التي ساعدت على سرعة انتشارالاسلام في مختلف الحضاراتوتغلغلهابين الاوساط،اتصافهابسهولة العقيدةويُسرالتكليف.
____________
(1) الطبرسي، مجمع البيان 5: 564.
يقول الله عزّ وجلّ في حثّ العباد على التفكّر في خلقه وآثاره وما له من تصريف وتدبير: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَات لاُِولِي الاَْلْبَابِ) ، (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ) ، (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقِ) ، (أُنْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنَعِهِ) ، (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ، (قُلْ سِيرُوا فِي الاَْرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) ، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) .
ويقول الله عزّ وجلّ في وصف نفسه واعلام المخلوقين بأنه فوق ما يعقلون أو يدركون: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحْد) ، (وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنِّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم * ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل * لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) .
فالقرآن الكريم لم يأت لنا أبداً بشيء يُفصِحُ عن ذات الله تعالى من حيث الحقيقة والكُنْه، وإنّما هو يُلفِتُ دائماً إلى آثار الله في الخلق والتصريف(1) .
____________
(1) القاهرة، دار التقريب بين المذاهب الاسلامية، مجلة رسالة الاسلام، العدد 49: 50-51.
2 ـ الاذعان في العقيدة والتعبّد في الاحكام
وهناك أمرٌ ثان نلفت إليه نظر القارئ، وهو الفرق الواضح بين العقيدة والاحكام الشرعية العملية، فإنّ المطلوب في الاُولى هو الاعتقاد الجازم، ومن المعلوم أنّ الاذعان بشيء متوقّف على ثبوت مقدّمات بديهية أو نظرية منتهية إليها حتى يستتبعها اليقين والاذعان، وهذا بخلاف الاحكام الشرعية، فإنّ المطلوب فيها هو العمل وتطبيقها في مجالات الحياة، ولا تتوقّف على القطع بصدورها عن الشارع، وهذا الفرق بين العقائد والاحكام يجرّنا إلى التأكّد من صحة الدليل وإتقانه أو ضعفه وبطلانه في مجال العقائد أكثر من الاحكام، ولذلك نرى أئمة الفقه يعملون بأخبار الاحاد في مجال الاحكام والفروع العملية ولا يشترطون إفادتها القطعَ أو اليقينَ، وهذا بخلاف العقائد التي يُفترض فيها اطمئنان القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس، فيرفضون خبر الاحاد في ذلك المجال ويشترطون تواتر النص أو استفاضته إلى حدٍّ يورث العلم.
3 ـ خضوعها للبرهان العقلي
وهناك أمر ثالث وراء هذين الامرين، وهو أنه لا يمكن لايّ باحث إسلامي أن يرفض العقل ويكتفي بالنص إذا أراد أن يعتمد الاُسلوب العلمي في مجال العقيدة; لانّ الاخذ بالنص متوقف على ثبوت أُصول موضوعية مسبقة تتبنّى نبوّة الرسول الاكرم وحجيّة قوله، فما لم يثبت للعالم صانع حكيم، قد بعث الانبياء والرسل بالمعجزات
وهذا هو الذي يفرض علينا أن نستجيب للعقل، باعتباره العمود الفقري للعقائد التي يبنى عليها صَرح النبوّة المحمديّة (صلى الله عليه وآله)، ولذلك نرى أنّ الكتاب العزيز يثبت هذا الاصل من الاُصول بدلالة العقل وإرشاده، فيستدلّ على أُصول التوحيد بمنطق العقل، ويتكلّم باسم العقل ويقول: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الانبياء/22)، فيستدل على توحيده ونفي الالهة المتعدّدة بقضية شرطية، وهي ترتب الفساد في حالة تعدد الالهة.
ويقول سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون/91).
ويقول سبحانه: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغُوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الاسراء/42).
فالايات الثلاث على اختلافها في الاجمال والتفصيل تستبطن برهاناً مشرقاً خالداً على جبين الدهر.
ويقول سبحانه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور/35) فيعتمد على الفطرة في إبطال وجود الممكن وتحققه بلا علّة وصانع.
كما نرى أتقن البراهين وأوضحها في إبطال ربوبيّة الاجرام
فقد بلغ الخليل النهاية في مجال المعرفة على وجه رأى ملكوت السماوات والارض، فأراه سبحانه ملكوتهما، أي كونهما قائمين بالله سبحانه، وما ذلك إلاّ ليكون موقناً ومذعناً لاُصول التوحيد، وما أراه ملكوت السماوات والارض إلاّ بإلهامه البرهانَ الدامغ الذي أثبت به بطلان ربوبيّة الكوكب والقمر والشمس، وانتهى في آخره إلى أنّه لا إله إلاّ هو، وقال بعد ذكر البراهين (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الانعام/79).
فهذه الايات ونظائرها تكشف عن أصل موضوعي في الشريعة الاسلامية وهو أنّ الغاية من طرح الاُصول العقائدية للاذعان بها والوصول إلى اليقين، لا التعبّد بها دون يقين، وهذا يفرض علينا أن نفتح مسامعنا لنداء العقل ودعوته، خصوصاً في الاُصول الاولية التي تُبنى عليها نبوّة النبي الاكرم. فمن حاول تعطيل العقل وأبعده عن ساحة البحث واكتفى بالنص، فقد لعب بورق خاسر، إذ أنّ بديهة العقل تحكم
إنّ رفض العقل في مجال البرهنة على العقيدة ـ من قبل بعض الفرق ـ صار سبباً لتغلغل العقائد الخرافية بين كثير من الطوائف الاسلامية، وفي ظلّ هذا الاصل، أي إبعاد العقل، دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق الاحبار والرهبان الذين تظاهروا بالاسلام وأبطنوا اليهودية والنصرانية وخدعوا عقول المسلمين فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدّثين والسُذَّج من الناس اغتراراً باسلامهم وصدق لهجتهم.
إنّ من مواهبه سبحانه أنه أنار مصباح العقل في كلّ قرن وزمان ليكون حصناً أمام نفوذ الخرافات والاوهام، وليميّز به الانسان الحقَ عن الباطل فيما له فيه حق القضاء، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ المرجع الوحيد في العقيدة هو العقل دون الشرع، وإنّما يهدف إلى أنّ اللبنات الاولية لصرح العقيدة الاسلامية تجب أن تكون خاضعة للبرهان، ولا تناقض حكم العقل.
وعندما تثبت الاُصول الموضوعية في مجال العقيدة وتثبت في ظلها نبوّة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)، يكون كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) حجة في العقائد والاحكام، لكن بشرط الاطمئنان بصدورها عن النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله).
وقد خرجنا في هذه المقدّمة الموجزة بثلاث نتائج:
الاُولى: أنّ العقيدة الاسلامية عقيدة سهلة يمكن اعتناقها بيُسر دون تكلّف.
الثالثة: أنّ الاُصول التي تبنى عليها ثبوت النبوّة لا تثبت إلاّ بالعقل دون الشرع.
ففي ضوء هذه النتائج الثلاث ندرس فكرة رؤية الله تعالى يوم القيامة التي أحدثت ضجة في الاونة الاخيرة، لكن ستقف على حقيقة الامر بإذنه سبحانه.
1
حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية
لمّا انتشر الاسلام في الجزيرة العربية، ودخل الناس في الاسلام زرافات ووحدانا، لم يجد اليهود والنصارى المتواجدون فيها محيصاً إلاّ الاستسلام، فدخلوا فيه متظاهرين به، غير معتقدين غالباً إلاّ من شملتهم العناية الالهية منهم وكانوا قليلين، ولكن الاغلبية الساحقة منهم خصوصاً الاحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد السابقة.
وبما أنهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والاُصول والعقائد، عمِدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاصّ، وبطريقة تعليميّة، ولما كانت السذاجة تغلب على عامة المسلمين لذا تلقوهم كعلماء ربانيين، يحملون العلم، فأخذوا ما يلقونه إليهم بقلب واع ونيّة صادقة، وبالتالي نشر هؤلاء في هذا الجوّ المساعد كلّ ما عندهم من القصص الانحرافية والعقائد
ولم تكن رؤية الله بأقلّ مما سبق في تركيزهم عليها.
فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الاخبار الكثيرة حول التجسيم، والتشبيه، والقدر السالب للاختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلى الانبياء، فكلّ ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى. فقد حسبها المسلمون حقائق راهنة وقصِصاً صادقة فتلقّوها بقبول حسن نشرها السلف بين الخلف، ودام الامر على ذلك.
ومن العوامل التي فسحت المجال للاحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين، النهي عن تدوين حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية، خصوصاً من قبل الكهنة والرهبان.
فقد كان التحدّث بحديث الرسول (صلى الله عليه وآله) أمراً مكروهاً، بل محظوراً من قبل الخلفاء إلى عصر عمر بن عبد العزيز (19-101هـ)، بل إلى عصر المنصور العباسي (341هـ)، ولكن كان المجال للتحدّث بالاساطير من قبل هؤلاء أمراً مسموحاً به، فهذا هو تميم بن أوس الداري من رواة الاساطير، وقد أسلم سنة تسع للهجرة، وهو أول من قصّ بين المسلمين واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذن له،
ولمّا سَمِحت الظروف لمثل هذا الكتابي أن يتحدّث بما تعلّم في حياته السابقة ومنع من أراد التحدّث بحديث الرسول، لذا كان المجال خصباً لنشر الاساطير والعقائد الخرافية.
يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الاسلام أحاديثَ متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدّة من التوراة(2) .
وهذا هو المقدسي يتكلم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهلية، يقول: وكان فيهم من كلّ ملة ودين، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، وعبادة الاوثان في سائرهم(3) .
قال ابن خلدون: انّ العرب لم يكونوا أهلَ كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والاُميّة، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوقّ إليه النفوس البشرية في أسباب المكوَّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهلَ الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الاحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلات التفاسير من
____________
(1) ابن عبد البر، الاستيعاب، في هامش الاصابة; وابن حجر، الاصابة 1: 189; والجزري، أُسد الغابة 1: 215; والمتقي الهندي، كنز العمال 1: 281 برقم 29448.
(2) الشهرستاني، الملل والنحل 1: 117.
(3) المقدسي، البدء والتاريخ 4: 31.
ولو أردنا أن ننقل كلمات المحققين حول الخسارة التي أحدثها اليهود والنصارى لطال بنا الكلام وطال مقالنا مع القرّاء.
ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالاسلام هو كعب الاحبار، حيث خدع عقولَ المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال، وقد أسلم في زمن أبي بكر وقدِمَ من اليمن في خلافة عمر، فانخدع به الصحابة وغيرهم.
قال الذهبي: العلامة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر (رض)، وجالس أصحاب محمّد، فكان يحدّثهم عن الكتب الاسرائيلية ويحفظ عجائب، ـ إلى أن قال: ـ حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي(2) .
وعرفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنه من أوعية العلم(3) .
____________
(1) ابن خلدون، المقدمة: 439.
(2) الذهبي، سير أعلام النبلاء 3: 489.
(3) الذهبي، تذكرة الحفاظ 1: 52.
وقد تنبه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر لفيف من القدماء، منهم ابن كثير في تفسيره، حيث أنه بعدما أورد طائفة من الاخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان، قال: والاقرب في مثل هذه السياقات انها متلقاة عن أهل الكتاب ممّا وجد في صحفهم، كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى ـ في ما نقلاه إلى هذه الاُمة من أخبار بني اسرائيل من الاوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن، وممّا حُرِّف وبُدِّل وفُسِخَ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ(1) .
والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنه ربّما ينقل شيئاً من العهدين، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ينسب نفس ما نقله إلى الرسول! والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول أمراً واقعياً، فنسبوه إلى النبي زاعمين أنه إذا كان كعب الاحبار عالماً به فالنبي أولى بالعلم منه.
فإن كنت في شكٍّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للامام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الاحبار في حشر
____________
(1) ابن كثير، التفسير، قسم سورة النمل 3: 339.
1 ـ قال الطبري: عن عكرمة، قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر، قال: وكان متكئاً فاحتفز ثمّ قال: وما ذاك؟ قال: زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً، ثمّ قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرّات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الاسلام، الله أجل وأكرم من أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ) ، انما يعني دؤوبهما في الطاعة، فكيف يعذّب عبدين يُثني عليهما أنهما دائبان في طاعته؟ قاتلَ الله هذا الحبر وقبّح حبريته، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله، قال: ثمّ استرجع مراراً(1) .
2 ـ قال ابن كثير: روى البزار، عن عبد العزيز بن المختار، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد ـ مسجد الكوفة ـ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدّث، قال: حدّثنا أبو هريرة أنّ رسول
____________
(1) الطبري، التاريخ 1: 44 ط بيروت.
ولما كان إسلام كعب الاحبار بعد رحيل الرسول، لذلك تعذر عليه إسناد ما رواه من أساطير إلى النبي الاكرم، ولو أنه أدرك شيئاً من حياته (صلى الله عليه وآله) وإن كان قليلاً لنسب تلك الاساطير إليه، ولكن حالت المشيئة الالهية دون أمانيه الباطلة، ولكن أبا هريرة لما صحب النبي واستحسن الظنّ بكعب الاحبار، وكان أُستاذه في الاساطيرنسب الرواية إلى النبي(صلى الله عليه وآله).
هذا نموذج قدمته إلى القرّاء لكي يقفوا على دور الاحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، وأن لا يحسنوا الظن بمجرّد النقل من دون التأكد من صحته.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا، ولولا أنّه سبحانه قيّض في كلّ آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الاساطير بروعة الاسلام وصفائه وجلاله.
كعب الاحبار وتركيزه على التجسيم والرؤية
انّ المتفحص فيما نقل عن ذلك الحبر يقف على أنه كان يركز على فكرتين يهوديّتين: الاُولى فكرة التجسيم، والثانية رؤية الله تعالى.
____________
(1) تفسير ابن كثير 4: 475 ط دار الاحياء.
ففي هذه الكلمة الصادرة عن هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أولاً، وتركيز على انّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الارض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرّف.
كما أنه ركّز على الرؤية، حيث أشاع فكرة التقسيم، فقال: إنّ الله تعالى قسّم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمّد (ص)(2) ، وعنه انتشرت هذه الفكرة، أي فكرة التقسيم بين المسلمين.
ومن أعظم الدواهي أنّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وتحدّث عن الكثير من القصص الخرافية، وبعدما توفي عثمان تزلّف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته، ومن كلماته في حق الدولة الاموية، يقول: مولد النبي بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام(3) .
____________
(1) أبو تميم الاصفهاني، حلية الاولياء 6: 20.
(2) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 3: 237.
(3) الدارمي، السنن 1: 5.
الرؤية في كتب العهدين
إذا كان كعب الاحبار وزملاؤه يحملون فكرة الرؤية، فلا غروّ ولا عجب في أنهم اتبعوا في نشر الفكرة في العهد القديم، وإليك بعض ما ورد فيه من تصريح برؤية الرب:
1 ـ وقال (الرب): لا تقدر أن ترى وجهي; لانّ الانسان لا يراني ويعيش.
وقال الرب: هو ذا عندي مكان فتقفُ على الصخرة، ويكون من اجتاز مجدي اني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى اجتاز ثمّ أرفعُ يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يرى(1) .
وعلى هذا فالربّ يُرى قفاه ولا يُرى وجهه!
2 ـ رأيت السيد جالساً على كرسي عال.. فقلت: ويل لي لان عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود(2) .
والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.
3 ـ كنت أرى أنه وضعتْ عروش، وجلس القديم الايام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار(3) .
____________
(1) سفر الخروج، آخر الاصحاح الثالث والثلاثون.
(2) أشعيا 6: 1-6.
(3) دانيال 7: 9.
5 ـ فقال منوح لامرأته: نموت موتاً لاننا قد رأينا الله(2) .
6 ـ فغضب الربّ على سليمان، لانّ قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرّتين(3) .
7 ـ وقد رأيت الرب جالساً على كرسيّه، وكل جند البحار وقوف لديه(4) .
8 ـ كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر، وأنا بين المسبيّين عند نهر خابور، أن السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله ـ إلى أن قال: ـ هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم(5) .
إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالاسلام، كالاحبار والرهبان، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الاسلامية، بحيث يُكفّر منكرها أحياناً أو يفسق، ولما صارت تلك العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين، عاد المتكلّمون الذين تربوا بين أحضانهم للبرهنة والاستدلال على تلك الفكرة من الكتاب أولاً والسنة ثانياً، ولولا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عبء الاستدلال وجهد البرهنة، وسوف
____________
(1) مزامير داود 17: 15.
(2) القضاة 13: 23.
(3) الملوك الاول 11: 9.
(4) الملوك الاول 22: 19.
(5) حزقيال 1: 1و28.
إنّ مسألة رؤية الله تعالى قد طرحت على صعيد البحث والجدال في القرن الثاني، عندما حيكت العقائد على نسق الاحاديث، ووردت فيها رؤيته سبحانه يوم القيامة، فلاجل ذلك عدّت من العقائد الاسلامية، حتى انّ الامام الاشعري عند ما تاب عن الاعتزال ولحق بأهل الحديث رقى يوم الجمعة كرسياً ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن وانّ الله لا يُرى بالابصار وانّ أفعال الشرّ أنا أفعلها، وانّي تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة(1) .
وقال في الابانة: وندين بأنّ الله تعالى يرى في الاخرة بالابصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله(2) .
وقال في كتابه الاخر: بسم الله، إن قال قائل: لم قلتم إن رؤية الله بالابصار جائزة من باب القياس؟ قيل له: قلنا ذلك لانّ ما لا يجوز أن يوصف به تعالى ويستحيل عليه لا يلزم في القول بجواز الرؤية(3) .
وهذا النص يعرب عن انّ الرؤية كانت في ذلك العصر وفي عصر الامام أحمد جزء من العقائد الاسلامية، ولذلك لا تجد كتاباً كلامياً إلاّ
____________
(1) ابن النديم، الفهرس: 271; ابن خلكان، وفيات الاعيان 3: 285.
(2) الامام الاشعري، الابانة: 21.
(3) الامام الاشعري، اللمع: 61 بتلخيص.
ثمّ إنّهم اختلفوا في الدليل على الرؤية، ففرقة منهم اعتمدوا على الادلة العقلية دون السمعية، كسيف الدين الامدي أحد مشايخ الاشاعرة في القرن السابع (155-316 هـ) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي، إذ ما سواه لا يخرج عن المظاهر السمعية، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلاّ على سبيل)التقريب»(2) .
وفرقة أُخرى كالرازي وغيره قالوا: العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو جواز السمع، وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الاقدام(3) .
الرؤية بالابصار لا بالقلب ولا بالرؤيا
محل النزاع بين الاشاعرة ومن قبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث، وبين غيرهم من أهل التنزيه، هو رؤية الله سبحانه بالابصار التي هي نعمة من نعم الله سبحانه وطريق إلى وقوف الانسان على الخارج.
____________
(1) الغزالي، قواعد العقائد: 169.
(2) الامدي، غاية المرام في علم الكلام: 174.
(3) الرازي، معالم الدين: 37; والاربعون: 148; والمحصل: 138; والشهرستاني، نهاية الاقدام: 369.
فالمُثبتُ للرؤية والنافي لها يركّزُ على موضوع واحد هو الرؤية بالابصار، وأنّ الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة.
وبذلك يظهر أنّ الرؤية بغير الابصار تأويل للعقيدة التي أصرّ عليها أصحاب أحمد، بل الملتحق به الامام الاشعري، ولا يمتّ إلى موضوع البحث بصلة، فقد نقل عن ضرار وحفص الفرد: انّ الله لا يرى بالابصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا فندركه بها(1) .
يقول ابن حزم: إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة بالعين، بل بقوّة أُخرى موهوبة من الله(2) .
إلى غير ذلك من الكلمات التي حرّفت النقطة الرئيسية في البحث، ومعتقد أهل الحديث الاشاعرة، ونحن نركّز في البحث على الرؤية بالابصار، وأمّا الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله.
فإذا كانت الحنابلة والاشاعرة مصرّين على جواز الرؤية، فأئمة
____________
(1) الامام الاشعري، مقالات الاسلاميين: 261.
(2) ابن حزم، الفصل 3: 2.
فالبيت الاموي والمنتمون إليه من أهل الحديث كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة، والرؤية لله سبحانه، وأما الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وبيته الطاهر وشيعتهم فكانوا من دعاة التنزيه والاختيار، ومن الرافضين لهذه البدع المستوردة من اليهود بحماس.
وقد نجم في ظلّ العراك الفكري بين العلويين والامويين منهجان في مجال المعارف كلّ يحمل شعاراً، فشيعة الامام وأهل بيته يحملون شعار التنزيه والاختيار، والامويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر، وقد اشتهر منذ قرون، القول بأنّ: التنزيه والاختيار علويان، والتشبيه والجبر أمويان.
فصارت النتيجة في النهاية أنّ كلّ محدّث مُتزلّف إلى البيت الاموي يحشّد أخبار التجسيم والجبر، بلا مبالاة واكتراث، لكن الواعين من أُمّة محمّد الموالين لاهل بيته كانوا يتجنّبون نقل تلك الاثار.
قال الرازي في تفسير قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) : احتجّ علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الاية على نفي كونه جسماً مركباً من الاعضاء والاجزاء، حاصلاً في المكان والجهة.
قالوا: لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الاجسام، فيلزم حصول الامثال والاشباه، وذلك باطل بصريح قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ـ إلى أن قال: ـ
إلى أن قال: وأقول هذا المسكين الجاهل إنّما وقع في أمثال هذه الخرافات لانّه لم يعرف حقيقة المثلين، وعلماء التوحيد حقّقوا الكلام في المثلين ثمّ فرعوا عليه الاستدلال بهذه الاية(1) .
وليس ابن خزيمة أوّل أو آخر محدّث تأثّر بهذه البدع، بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث الذين منهم:
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 27: 150-151.
2 ـ حشيش بن أصرم، مؤلف كتاب الاستقامة، يعرّفه الذهبي: بأنه يرد فيه على أهل البدع، ويريد به أهل التنزيه الذين يرفضون أخبار التشبيه، توفي عام 352 هـ.
3 ـ أحمد بن محمّد بن الازهر بن حريث السجستاني السجزي، نقل الذهبي في ميزان الاعتدال عن السلمي قال: سألت الدار قطني عن الازهري، فقال: هو أحمد بن محمّد بن الازهر بن حريث، سجستاني منكر الحديث، لكن بلغني أنّ ابن خزيمة حسن الرأي فيه، وكفى بهذا فخراً(1) .
يلاحظ عليه أنه: كفى بهذا ضعفاً، لانّ ابن خزيمة هذا رئيس المجسّمة والمشبّهة، ومنه يعلم حال السجستاني. توفي سنة 312 هـ(2) .
4 ـ محمّد بن اسحاق بن خزيمة، ولد عام 311 هـ وقد ألّف «التوحيد وإثبات صفات الرب»، وكتابه هذا مصدر المشبّهة والمجسّمة في العصور الاخيرة، وقد اهتمّت به الحنابلة، وخصوصاً الوهابية، فقاموا بنشره على نطاق وسيع، وسيأتي الحديث عنه.
5 ـ عبد الله بن أحمد بن حنبل، ولد عام 213 هـ وتوفي عام 290 هـ، يروي أحاديث أبيه (الامام أحمد بن حنبل)، وكتابه «السنة» المطبوع
____________
(1) ميزان الاعتدال 1: 132.
(2) سير أعلام النبلاء 14: 396.
وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالاسرائيليات والمسيحيات جرّت الويل على الاُمة وخدع بها المغفّلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنّون أنهم يحسنون صنعاً.
الرؤية في كلمات الامام علي (عليه السلام)
من يرجع إلى خطب الامام علي (عليه السلام) في التوحيد وما أُثِر عن أئمة العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية، وأنه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون، وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب:
1 ـ قال الامام علي (عليه السلام) في خطبة الاشباح: «الاول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والاخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسي الابصار عن أن تناله أو تدركه»(1) .
2 ـ وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): أَفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان، قريب من
____________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 87 طبعة مصر المعروف بطبعة عبده. والاناسي جمع إنسان، وإنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتاز عنها في لونها.
3 ـ وقال (عليه السلام): «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر»(2) .
إلى غير ذلك من خطبه (عليه السلام) الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والابصار به(3) .
وأمّا المروي عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد عقد ثقة الاسلام الكليني في كتابه «الكافي» باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثمان روايات(4) ، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية، يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسيّة البصريّة، وقسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه في محله(5) .
ثمّ إنّ للامام الطاهر عليّ بن موسى الرضا احتجاجاً في المقام على مقال المحدّث أبي قرة، حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر «كعب الاحبار»: من أنه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين، كما تقدّم.
فقال أبو قرة: فإنّا روينا: أنّ الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسّم لموسى (عليه السلام) الكلام، ولمحمّد (صلى الله عليه وآله) الرؤية.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلِّغ عن الله إلى الثقلين الجنّ
____________
(1) نهج البلاغة، الخطبة 174.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 180.
(3) لاحظ الخطبتين 48و81 من الطبعة المذكورة.
(4) الكافي 1: 95 باب إبطال الرؤية.
(5) التوحيد: 107-122 باب 8.
قال أبو الحسن (عليه السلام): فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، ويقول: إنّه لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء، ثمّ يقول: أنا رأيته بعينيّ وأحطتُ به علماً وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ أما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.
فقال أبو قرة: إنّه يقول: (وَلَقَدْ رَآهُ نزلةً أُخْرَى) (النجم/13).
فقال أبو الحسن (عليه السلام): انّ بعد هذه الاية ما يدلّ على ما رأى حيث قال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (النجم/11) يقول: ما كذب فؤاد محمّد (صلى الله عليه وآله)ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأت عيناه فقال: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم/18) فآيات الله غير الله، وقال: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه/110) فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرة: فتكذّب بالرواية؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الابصار، وليس كمثله شيء(1) .
____________
(1) الطبرسي، الاحتجاج 2: 375-376.
2
الرؤية في منطق العلم والعقل
إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلاّ إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاًّ في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسبَ رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإنّ القدماء كانوا يفسّرون الرؤية على النحو التالي:
خروج الشعاع من العين وسقوطه على الاشياء ثمّ انعكاسه عن الاشياء ورجوعه إلى العين لكي تتحقّق الرؤية.
ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنّها صدور الاشعة من الاشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكيّة العين فتُحقّق الرؤية.
وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الابصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي أو حكم المقابلة، كما في رؤية الصور في المرآة.
وبعبارة واضحة: أنّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة، وما شأنه هذا لا يتعلّق إلاّ بالمحسوس لا بالمجرّد.
ثمّ إنّ الرازي أراد الخدش في هذا الامر البديهي ولكنّه رجع خائباً، واعترض على هذا الاستدلال بوجهين:
الاوّل: أنّ ادّعاء الضرورة والبداهة على امتناع رؤية الموجود المنزّه عن المكان والجهة أمر باطل، لانّه لو كان بديهياً لكان متّفقاً عليه بين العقلاء، وهذا غير متّفق عليه بينهم، فلا يكون بديهياً، ولذلك لو عرضنا قضيّة أنّ الواحد نصف الاثنين لا يختلف فيه اثنان، وليست القضيّة الاُولى في البداهة في قوّة القضيّة الثانية(1) .
يلاحظ عليه: بأنّه خفى على الرازي بأنّ للبداهة مراتب مختلفة، فكون نور القمر مستفاداً من الشمس قضيّة بديهية، ولكن أينَ هذه البداهة من بداهة قولنا: الواحد نصف الاثنين، أضف إلى ذلك أنّ العقلاء متّفقون على لزوم المقابلة أو حكمها على تحقّق الرؤية، وإنّما خالف فيه أمثال من خالف القضايا البديهية كالسوفسطائيّين، حيث ارتابوا في وجودهم وعلومهم وأفعالهم مع أنّهم كانوا يُعدّون من
____________
(1) الرازي، الاربعون: 190 ; ولاحظ أيضاً مفاتيح الغيب 13: 130.
الثاني: أنّ المقابلة شرط في الرؤية في الشاهد، فلمَ قلتم إنّه في الغائب كذلك.
وتحقيقه هو أنّ ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤها في اللوازم، فلم يلزم من كون الادراك واجباً في الشاهد عن حضور هذه الشرائط، كونه واجباً في الغائب عند حضورها(1) .
هذا كلامه في كتاب الاربعين، ويقول في تفسيره: ألم تعلموا إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب أنّ القائلين بالامتناع يدعون الفطنة والكياسة ولم يتنبه أحد لهذا السؤال، ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام(2) .
يلاحظ عليه: أنّ الرازي غفل عن أنّ الرؤية من الاُمور الاضافية القائمة بالرائي والمرئي، فالتقابل من لوازم الرؤية بما هي هي، فاختلاف المرئي في الماهيات كاختلاف الرائي في كونه حيواناً أو انساناً لا مدخليّة له في هذا الموضوع، فافتراض نفس الرؤية وتعلّقها بالشيء وغضّ النظر عن الرائي وخصوصيات المرئي يجرّنا إلى القول: بأنّ الرؤية رهن التقابل أو حكمه، وذلك لانّ الموضوع لحكم العقل من لزوم المقابلة في الرؤية هو نفسها بما هي هي، والموضوع متحقّق في
____________
(1) الرازي، الاربعون: 190-191، و انظر أيضاً: 217، 218، 313.
(2) الرازي، مفاتيح الغيب 13: 130.