ثمّ ماذا يقصد (الرازي) من الغائب؟ هل يقصد الموجود المجرّد عن المادّة ولوازمها؟ فبداهة العقل تحكم بأنّ المنزّه عن الجسم والجسمانية والجهة والمكان لا يتصوّر أنْ يقع طرفاً للمقابلة، وإنْ أراد منه الغائب عن الابصار مع احتمال كونه جسماً أو ذا جهة، فذلك ابطال للعقيدة الاسلامية الغرّاء التي تبنّتها الاشاعرة وكذلك الرازي نفسه في غير واحد من كتبه الكلامية وفي غير موضع في تفسيره.
ولقائل أن يسأل الرازي: أنّه لو وقعت الرؤية على ذاته سبحانه فهل تقع على كلِّه أو بعضه؟ فلو وقعت على الكلّ تكون ذاته محاطة لا محيطة، وهذا باطل بالضرورة، ولو وقعت على الجزء تكون ذاته ذا جزء مركب.
وممّا ذكرنا تتبيّن ركاكة ما استدلّ به الرازي على كلامه.
المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية
إنّ مفكّري الاشاعرة الذين لهم أقدام راسخة في المسائل العقليّة لمّا وقعوا في تناقض من جرّاء هذا الدليل ذهبوا إلى الجمع بين الرؤية والتنزيه، وإليك بيان ذلك:
1 ـ الرؤية بلا كيف:
هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الاشاعرة، وربما يعبّر عنه خصومهم بالبلكفة، ومعناه أنّ الله تعالى يرى بلا كيف وأنّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.
يلاحظ عليه: أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلاً للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيّزاً في جهة كيف تكون رؤيته بالعيون والابصار.
والحقّ أنّ اعتماد الاشاعرة على أهل الحديث في قولهم بلا كيف مهزلة لا يُعتمد عليها، فإنّ الكيفية ربّما تكون من مقوّمات الشيء، ولولاها لما كان له أثر، فمثلاً عندما يقولون: إنّ لله يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً بلا كيف ويصرّحون بوجود واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لكن بلا كيفية، فإنّه يلاحظ عليه، بأنّ اليد في اللغة العربيّة وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية، فاثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساوياً لنفي معناه اللغوي، ويكون راجعاً إلى تفسيره بالمعاني المجازية التي تفرّون منها فرار المزكوم من المسك، ومثله القدم والوجه.
وبعبارة أُخرى: أنّ الحنابلة والاشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية، كاليد والرجل والقدم والوجه، في الكتاب والسنّة، يجب أن تُفسّر بنفس معانيها اللغوية، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية، كالقدرة في اليد مثلاً، ولما رأوا أنّ ذلك يلازم التجسيم التجأوا
ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين، فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها، فاثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية، وقد عرفت أنّ الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم.
وقد أوضحنا حال الصفات الخبرية في بحوثنا الكلاميّة(1) .
2 ـ اختلاف الاحكام باختلاف الظروف:
إنّ بعض المثقّفين من الجُدَد لما أدركوا بعقولهم أنّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة التجأوا إلى القول بأنّ كلّ شيء في الاخرة غيره في الدنيا، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الاخرة بلا هذا اللاّزم السلبي.
لكن هذا الكلام رجمٌ بالغيب، لانّه إنْ أراد من المغايرة بأنّ الاخرة ظرف للتكامل وأنّ الاشياء توجد في الاخرة بأكمل الوجوه وامثلها، فهذا لا مناقشة فيه، يقول سبحانه: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) (البقرة/25) ولكن إنْ أراد أنّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الاخرة إلى نقيضها فهذا يوجب انهيار النُظم الكلامية والفلسفيّة والاساليب العلميّة التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم، إذ معنى ذلك أنّ النتائج المثبتة في
____________
(1) لاحظ بحوث في الملل والنحل 2: 96-105.
فعند ذلك لا يستقرّ حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية، ويصير الانسان سوفسطائياً مائة بالمائة.
3 ـ عدم الاكتراث باثبات الجهة:
إنّ أساتذة الجامعات الاسلامية في الرياض ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة بدلاً من أنْ يُجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجرّدوا في مقام التحليل عن الاراء المسبقة، نراهم يقدمون لشباب الجامعات وخريجيها دعماً مالياً وفكرياً لمواصلة البحوث حول الرؤية في محاولة لاثباتها واثبات الجهة لله تعالى، وإليك نموذج من ذلك:
يقول الدكتور أحمد بن محمّد خريج جامعة أُمّ القرى: إنّ إثبات رؤية حقيقيّة بالعيان من غير مقابلة أو جهة، مكابرة عقليّة، لانّ الجهة من لوازم الرؤية، واثبات اللزوم ونفي اللاّزم مغالطة ظاهرة.
ومع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام باثبات الجهة لله بقوله.
إنّ إثبات صفة العلوّ لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنّة في مواضع كثيرة جداً، فلا حرج في اثبات رؤية الله تعالى من هذا العلوّ الثابت له تبارك وتعالى، ولا يقدح هذا في التنزيه، لانّ مَن أثبتَ هذا أعلم البشر بما يستحقّ الله تعالى من صفات الكلمات.
أمّا لفظ الجهة فهو من الالفاظ المجملة التي لم يرِد نفيها ولا
ويلاحظ على هذا الكلام ما يلي:
أوّلاً: كيف ادّعى أنّ الكتاب والسنّة أثبتا العلوّ لله الذي هو مساوق للجهة، فإن أراد قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فقد حُقّقَ في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والارض وعدم عجزه عن التدبير. وأين هو من اثبات العلوّ لله، فقد أوضحنا مفادّ هذه الايات في أسفارنا الكلاميّة(2) .
وإنْ أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة، فكلها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين ويرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ثانياً: إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والارض فكيف يكون محيطاً بكلّ شيء وموجوداً مع كلّ شيء، فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلامٌ على التجسيم.
ونِعْمَ ما قال شاعر المعرّة:
ويا موت زر إنّ الحياة ذميمة | ويا نفس جدي إنّ دهرك هازل |
غير أنّ أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل
____________
(1) أحمد بن ناصر، رؤية الله تعالى، نشر معهد البحوث العلميّة في مكّة المكرّمة: 61.
(2) الالهيّات 1: 330-340.
وأثبتوا لله سبحانه العلوّ والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والاحاديث المستوردة، فأبطلوا بذلك تنزيهه ـ سبحانه ـ وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.
فخالفوا رسالات السماء في موردين أصيلين:
التوحيد: بالقول بقدم القرآن.
التنزيه: باثبات الجهة والرؤية.
3
موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية
إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى تنزيهه عن الجسم والجسمانية، وأنّه ليس له مثل ولا نظير، ولا ندّ ولا كفو، وأنّه محيط بكلّ شيء، ولا يحيطه شيء، إلى غير ذلك من الصفات المنزِّهة التي يقف عليها الباحث إذا جمع الايات الواردة في هذا المجال، وبدورنا نشير إلى بعض منها:
قال سبحانه:
1 ـ (فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الاَْنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/11).
2 ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدُ) (الاخلاص/1-4).
3 ـ (هُوَ الاَْوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) (الحديد/3).
5 ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر/23).
6 ـ (هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/24).
7 ـ (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ وَهُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنََما كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) (المجادلة/7).
8 ـ (أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء مُحِيطٌ) (فصلت/54).
9 ـ (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضَ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة/255).
10 ـ (لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الانعام/103).
وحصيلة هذه الايات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل، وهو أحدٌ لا كُفو له، لم يلد ولم يولد، بل هو أزليّ، فبما أنّه أزليّ الوجود،
وبما أنّه أبديّ الوجود، فهو آخرُ كلّ شيء إذْ لا وجود بعده.
وبما أنّه خالقُ السماوات والارض فالكون قائم بوجوده، فهو باطنُ كلّ شيء، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده، فهو ظاهر كلّ شيء، لا يحويه مكان، لانّه خالق السماوات والارض وخالق الكون والمكان، فكان قبل أنْ يكون أيّ مكان.
وبما أنّ العالم دقيقه وجليله فقير محتاج إليه قائم به، فهو مع الاشياء معيّة قيّوميّة لا معيّة مكانيّة، ومع الانسان أينما كان.
فلا يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسُهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا، وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به، ولا يمكن للقيّوم الغيبوبة عمّا قام به، وفي النهاية هو محيط بكلّ شيء لا يحيطه شيء، فقد أحاط كُرسيُّه السماوات والارض، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لا تُدرِكه الابصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها، ولكنّه لكونه محيطاً يُدركُ الابصار.
هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناه بايجاز وأوردناها بلا تفسير.
وقد علمت أنّ من سمات العقيدة الاسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز، فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها ما يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح.
فسيجد أنّ هذا الكلام يناقض ما تلا من الايات أو استمع إليها، وسيشكك ويقول: اذا كان الخالقُ البارئُ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني، لا يحويه مكان ومحيط بالسماوات والارض، فكيف يرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علوّ ولا جهة، بل هو خالقهما، وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكلّ شيء؟!
ولا يكون هذا التناقض بين الوصفين بأقلّ من التناقض الموجود في العقيدة النصرانيّة من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة.
وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين، لا يستطيع أنْ يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الايات والرواية، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلاميّة والمحاولات الفكريّة للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات منزّه عن الجهة والمكان محيط بعوالم الوجود، وفي نفس الوقت تنزله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات، واقعاً بمرأى ومنظر من الانسان يراه ويبصره كما يبصر
____________
(1) البخارى، الصحيح 4: 200.
وقد عرفت في التمهيد أنّ السهولة في العقيدة والخلوّ من الالغاز هو من سمات العقيدة الاسلاميّة، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه واحداً وثلاثاً.
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما يطرحها ليؤكد عجز الانسان عن نيلها، ويعتبر سؤالها وتَمنّيها من الانسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلُّعاً إلى ما هو دونه.
1 ـ قال سبحانه: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/55-56).
2 ـ وقال سبحانه: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّل عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِيناً) (النساء/153).
3 ـ وقال سبحانه: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الاعراف/143).
4 ـ وقال سبحانه: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا، فَلَمَّا
فالمتدبّر في هذه الايات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه ويعدّ الانسان قاصراً عن أنْ ينالها على وجه ينزل العذاب عند سؤالها.
فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقت آخر، لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الاخرة لا في الحياة الدنيا، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثمّ يحييهم بدعاء موسى، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع تاب إلى الله سبحانه وقال: أنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى.
فالامعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد، بل وإماتة وإنزال عذاب، يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابليّة الانسان، وطلبه لها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال، فعند ذلك لو قيل للمتدبّر في الايات إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير وقال: خرج علينا رسول الله ليلة البدر فقال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته»(1) ، يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الايات ويشكّ أنّه كيف صار الامر الممتنع أمراً ممكناً، والانسان غير المؤهل على الرؤية مؤهلاً لها.
إنّ هنا محاولتين للتخلّص من التضادّ الموجود بين الايات،
____________
(1) البخاري، الصحيح 4: 200.
المحاولة الاُولى
إنّ تعارض الايات والرواية من قبيل تعارض المطلق والمقيد، فلا مانع من الجمع بينهما بحمل الاُولى على الحياة الحاضرة، والثانية على الحياة الاخرة(1) .
يلاحظ عليه: بأنّ الجمع بين الايات والرواية على نحو ما ذكر أشبه بمحاولة الفقيه إذا فوجئ بروايتين تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد.
ولو صحّ ما ذكر فإنّما هو في المسائل الفرعيّة لا العقائدية، وليست الايات الواردة فيها كالمطلق، والحديث كالمقيد، بل هي بصدد بيان العقيدة الاسلامية على أنّه سبحانه فوق أن تناله الرؤية، وانّ من تمنّاها فإنّما يتمنّى أمراً محالاً.
والدافع إلى هذا الجمع إنّما هو تزمّتهم بالروايات وتلقّيهم صحيح البخاري وغيره صحيحاً على الاطلاق لا يقبل النقاش والنقد، فلم يكن لهم محيص من معاملة الروايات والايات معاملة الاطلاق والتقييد، ولاجل ذلك فكلّما تليت هذه الايات للقائلين بالجواز يجيبون بأنّ الجميع يعود إلى هذه الدنيا ولا صلة له بالاخرة، ولكنّهم غافلون عن أنّ الايات تهدف في تنديدها وتوبيخها إلى ملاحظة طلب نفس الرؤية
____________
(1) يظهر ذلك الجواب عن أكثر المتأوّلين لايات النفي حيث يقدّرونها بالدنيا.
وأيمن الله لو لم يكن في الصحاح حديث قيس بن أبي حازم وغيره لما كان لديهم أيّ وازع على تأويل الايات.
المحاولة الثانية
لقد تصدّى أبو الحسن الاشعري للاجابة عن الايات الاخيرة وزعم أنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتاً وعناداً، قال: إنّ بني إسرائيل سألوا رؤية الله عزّ وجلّ على طريق الانكار لنبوّة موسى وترك الايمان به حتى يروا الله لانّهم قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فلمّا سألوه الرؤية على طريق ترك الايمان بموسى (عليه السلام) حتى يريهم الله من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أنْ ينزّل عليهم كتاباً من السماء من غير أنْ يكون ذلك مستحيلاً، ولكن لانّهم أبوا أنْ يؤمنوا بنبيّ الله حتى يُنزّل عليهم من السماء كتاباً»(1) .
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ الاستعظام لاجل كون طلبهم كان عن عناد وتعنّت لا لطلب معجزة زائدة، لو صحّ فإنّما يصحّ في غير هذه الايات، أعني في قوله سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ
____________
(1) الابانة عن أُصول الديانة: 15 ط. دار الطباعة المنيرية، القاهرة.
1 ـ إنّه سبحانه سمّى سؤالهم ظلماً وتعدّياً عن الحدّ.
2 ـ إنّ موسى سمّى سؤالَهم سؤالاً سفهيّاً.
3 ـ عندما طلب موسى الرؤية أُجيب بالخيبة والحرمان، ولم يكن سؤاله عن عناد واستكبار، ولو كانت الخيبة مختصّة بالدنيا، كان عليه سبحانه الرجوع إليه بالعطف والحنان بأنّها غير ممكنة في هذه الدار وسوف تراني في الاخرة.
وثانياً: إنّه سبحانه وإنْ جمع في آية سورة النساء(1) ، بين نزول الكتاب من السماء عليهم، ورؤية الله جهرةً، لكن كون الاوّل أمراً ممكناً لا يكون دليلاً على كون الثاني مثله، وذلك لانّ وجه الشبه بين الامرين ليس الامكان أو الاستحالة حتى يكونا مشاركين فيهما، بل هو طلب أمر عظيم، وشيء ليسوا مستأهلين له، فلا يكون إمكان الاوّل دليلاً على إمكان الثاني.
____________
(1) النساء: 153.
وبذلك يقف على ضعف ما ذكره الرازي في تفسيره، لكونه مأخوذاً من كلام إمامه الاشعري.
ونقل كلام أبي الحسين المعتزلي في كتاب التصفّح وناقشه بوجه غير تامّ(1) .
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 3: 85.
دراسة أدلة النافين
4
الاية الاُولى: لا تدركه الابصار
قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً، وأنّه يعدّ طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً، قبيحاً، موجباً لنزول الصاعقة والعذاب، والايات السالفة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الاجمال، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الايات، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل.
وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق وتحليله.
قال سبحانه: (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل * لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الانعام/102-103) والاستدلال بالاية يتوقّف على البحث في مرحلتين:
المرحلة الاُولى: في بيان مفهوم الدرك لغة
الدرك في اللغة اللحوق والوصول وليست بمعنى الرؤية، ولو أُريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينيّة المتعلّق.
وقال ابن منظور مثله، وأضاف: ففي الحديث «أعوذ بك من درك الشقاء» أي لحوقه، يقال: مشيتُ حتى أدركتهُ، وعشتُ حتى أدركتُه، وأدركتُه ببصري أي رأيته(2) .
إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة، فالادراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، والادراك بالمشي، كما في قول ابن منظور: مشيت حتى أدركته، التحاق الماشي بالمتقدّم بالمشي، وهكذا غيره.
فإذا قال سبحانه: (لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ) يتعيّن ذلك المعنى الكلي (اللحوق والوصول) بالرؤية، ويكون معنى الجملة أنه سبحانه تفرّد بهذا الوصف تعالى عن الرؤية دون غيره.
المرحلة الثانية: في بيان مفهوم الايتين
أنه سبحانه لما قال: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء وَكِيل) ربما يتبادر إلى بعض الاذهان انّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء، يكون جسماً قائماً بتدبير الاُمور الجسمانية، لكن يدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء (لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ) .
____________
(1) ابن فارس، مقاييس اللغة 2: 366.
(2) ابن منظور، اللسان 10: 419.
وبعبارة أُخرى أن الاشياء في مقام التصور على أصناف:
1 ـ ما يَرى ويُرى كالانسان.
2 ـ ما لا يَرى ولا يُرى كالاعراض النسبية كالابوة والنبوة.
3 ـ ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.
4 ـ ما يَرى ولا يُرى وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنه يَرى ولا يُرى، والاية بصدد مدحه وثنائه بأنه جمعَ بين الامرين يَرى ولا يُرى لا بالشق الاول وحده نظير قوله سبحانه: (فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ) (الانعام/14) ودلالة الاية على أنه سبحانه
الشبهة الاُولى
انّ الاية في مقام المدح، فإذا كان الشيء في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء، أمّا إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنّه قدر على حَجب الابصار عن رؤيته وعن ادراكه، كانت هذه القدرة الكاملة دالّة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الاية دالّة على أنه جائز الرؤية حسب ذاته(1) .
إنّ هذا التشكيك يحطّ من مقام الرازي، فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك، وذلك لانه زعم أن المدح بالجملة الاولى، أعني قوله سبحانه: (لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ) وغفل عن أنّ المدح بمجموع الجزئين المذكورين في الاية، بمعنى أنه سبحانه لعلوّ منزلته لا يُدرَك وفي الوقت نفسه يُدرِك غيره، وهذا ظاهر لمن تأمّل في الاية ونظيرتها قوله سبحانه: يُطعِم ولا يُطعَم، فهل يرضى الرازي بأنه سبحانه يمكن له الاكل والطعم.
الشبهة الثانية
إن لفظ الابصار صيغةُ جمع دخل عليها الالف واللام فهو يفيد الاستغراق، فقوله: (لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ) بمعنى لا تراه جميع الابصار،
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 13: 125.
يلاحظ عليه: أن المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الابصار، نظير قوله سبحانه: (إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/190) وقوله سبحانه: (فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/32) وقوله سبحانه: (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/57).
يقول الامام علي (عليه السلام): «الحمد لله الذي لا يبلُغُ مدحتهُ القائلون، ولا يُحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يُدركه بُعد الهِمم، ولا ينالُه غوضُ الفِطَن»(2) .
فهل يحتمل الرازي في هذه الايات والجمل سلب العموم وأنه سبحانه لا يحبّ جميع المعتدين والكافرين والظالمين، ولكن يحب بعضَ المعتدين والكافرين والظالمين، أو أنّ بعض القائلين يبلغون مدحته ويحصون نعماءه.
وهذا دليل على أنّ الموقف المسبق للرازي هو الذي دفعه لدراسة القرآن لاجل دعمه، وهو آفة الفهم الصحيح من الكتاب.
الشبهة الثالثة: الادراك هو الاحاطة
إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فِصَله والرازي في مفاتيح
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 13: 126.
(2) نهج البلاغة، الخطبة الاولى.
وبما أن الاساس لكلام هؤلاء هو ابن حزم الظاهري نذكر نصّ كلامه أوّلاً.
قال: إنّ الادراك في اللغة يفيد معنى زائداً عن النظر، وهو بمعنى الاحاطة، وليس هذا المعنى في النظر والرؤية، فالادراك (الاحاطة) فيض عن الله تعالى على كلّ حال في الدنيا والاخرة، والدليل على ذلك قوله سبحانه: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، ففرّق الله عزّ وجلّ بين الادراك والرؤية فرقاً جليّاً، لانه تعالى أثبت الرؤية بقوله: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) ، وأخبر تعالى بأنه رأى بعضهم بعضاً فصحت منهم الرؤية لبني اسرائيل، ولكن نفى الله الادراك بقول موسى (عليه السلام) لهم: (كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني اسرائيل ولم يدركوهم، ولا شكّ في أنّ ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته، فالادراك غير الرؤية والحجّة لقولنا قول الله تعالى(2) .
يلاحظ عليه: أن الشبهة تعرب عن أنّ صاحبها لم يقف على كيفية الاستدلال بالاية على نفي الرؤية، فزعم أن أساسه هو كون الادراك
____________
(1) وقبلهم الطبري كما سيوافيك نصّه في خاتمة المطاف.
(2) ابن حزم، الفصل في الملل والنحل 3: 32; ولاحظ: ابن القيم، حادي الارواح إلى بلاد الافراح: 229.
وعلى ضوء ذلك إذا جرّد عن المتعلّق مثل البصر والسمع يكون بمعنى اللحوق، وإذا اقترن بمتعلّق مثل البصر يتعيّن في النظر والرؤية، لكن على وجه الاطلاق من غير تقيّد بالاحاطة.
فبطل قوله: بأنّ الادراك يدلّ على معنى زائد على النظر وهو الاحاطة، بل الادراك مجرّداً عن القرينة لا يدلّ على الرؤية أبداً، ومع اقتران القرينة ووجود المتعلّق يدلّ على الرؤية والنظر على وجه الاطلاق من غير نظر إلى الفرد الخاص من الرؤية.
وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلى شيء، حيث قال: لا نسلّم إن إدراك البصر تعبير عن الرؤية، بل هو بمعنى الاحاطة، فالمرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأنّ ذلك الابصار إحاطة به فسمّى هذه الرؤية إدراكاً، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسمّ تلك الرؤية إدراكاً،
ثمّ قال: فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم(1) .
ويلاحظ عليه بأن ما ذكره الرازي كان افتراءً على اللغة للحفاظ على المذهب، وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي، ولولا أنّ الرازي من أتباع المذهب الاشعري لما تجرأ بذلك التصرّف.
ونحن بدورنا نسأله: ما الدليل على أنّ الادراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعنى الادراك الاحاطي، مع أننا نجد خلافه في الامثلة التالية، نقول: أدركت طعمهُ أو ريحهُ أو صوتهُ، فهل هذه بمعنى أحطنا إحاطة تامة بها، أو أنه بمعنى مجرد الدرك بالادوات المذكورة من غير اختصاص بصورة الاحاطة، مثل قولهم أدرك الرسول، فهل هو بمعنى الاحاطة بحياته أو يراد منه إدراكه مرّة أو مرّتين، ولم يفسّره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي.
وحاصل الكلام: أنّ اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الادراك كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلّي أي اللحوق والوصول، على الرؤية والسماع، سواء كان الادراك على وجه الاحاطة أو لا، وأما إذا تجرّدت
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 13: 127.
وقال سبحانه: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى) (طه/77)، أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل.
وقال سبحانه: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء/61) فأثبت الرؤية ونفى الدرك، وما ذلك إلاّ لانّ الادراك إذا جُرّد عن المتعلّق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتاً، بل بمعنى اللحوق.
نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحّضاً في الرؤية من غير فرق بين نوع ونوع، وتخصيصه بالنوع الاحاطي لاجل دعم المذهب افتراءٌ على اللغة.
دراسة أدلة النافين
5
الاية الثانية: ولا يحيطون به علماً
قال سبحانه: (يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه/109-110).
إنّ الاية تتركّب من جزئين:
الاوّل: قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) .
الثاني: قوله: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) .
والضمير المجرور في قوله: (بِهِ) يعود إلى الله سبحانه.
ومعنى الاية
الله يحيطُ بهم لانه (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) ويكون معادلاً لقوله: (وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ) ولكنّهم (لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) . ويساوي قوله (لاَ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ) .
ولكن الرازي لاجل التهرّب من دلالة الاية على امتناع رؤيته سبحانه قال: بأنّ الضمير المجرور يعود إلى قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم، والله سبحانه محيطٌ بما بينَ أيديهم وما خلفَهم.
أقول: إنّ الاية تحكي عن إحاطته العلمية سبحانه يوم القيامة بشهادةِ ما قبلَها (يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) ، وعندئذ يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم) هو الحياة الاُخروية الحاضرة، وقوله سبحانه: (وَمَا خَلْفَهُمْ) هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الاُخروية، وحينئذ لو رجع الضمير في قوله (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) إلى الموصولين يكون مفادُ الاية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين، وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه، وهذا بخلاف ما إذا رجع إلى «الله»، فستكون الاية بصدد التنزيه ويكون المقصود أنّ الله يحيط بهم علماً وهؤلاء لا يحيطون كذلك، على غرار سائر الايات.
دراسة أدلة النافين
6
الاية الثالثة: قال لن تراني
قال سبحانه: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الاعراف/143). لقد استدلّ ـ بهذه الاية ـ كلٌّ من النافي والمثبت، رُغْم أنْ ليس لها إلاّ مدلول واحد، فكان بين القولين تناقض واضح، ومردّ ذلك إلى أن أحد المستدلّين لم يتجرّد عن هواه حينما استدلّ بالاية، وإنّما ينظر إليها ليحتجّ بها على ما يتبنّاه، وهذا من قبيل التفسير بالرأي الذي نهى النبي(صلى الله عليه وآله) عنه بالخبر المتواتر، وبالتالي قلّ من نظر إليها بموضوعية خالية عن كلّ رأي مسبق.
المفهوم الصحيح للاية
لا شكّ أنّنا إذا عرضنا الاية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه
كما أنّ إذا أردنا أن نُفسّر مفاد الاية تفسيراً صناعياً فلا شكّ أنه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها، وذلك لوجوه:
1 ـ الاجابة بالنفي المؤبد:
لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أُجيب بـ (لَنْ تَرَانِي) ، والمتبادر من هذه الجملة أي قوله: (لَنْ تَرَانِي) هو النفي الابدي الدالّ على عدم تحقُّقها أبداً.
والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتى في مورد واحد.
1 ـ قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (الحج/73).
2 ـ (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة/80).
3 ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (محمّد/34).
4 ـ (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ
5 ـ (وَلَنْ تَرَضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة/120).
6 ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَة مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً) (التوبة/83).
إلى غير ذلك من الايات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.
وربّما نوقش في دلالة (لَنْ) على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم «لن» موضوعة للتأبيد، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين ثمّ نعرض المناقشة عليهما.
1 ـ إنّ المراد من التأبيد ليس كونُ المنفي ممتنعاً بالذات، بل كونه غير واقع، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الامكان، نعم ربّما يكون عدم الوقوع مستنداً إلى الاستحالة الذاتية.
2 ـ إنّ المراد من التأبيد هو النفي القاطع، وهذا قد يكون غير محدّد بشيء وربّما يكون محدّداً بظرف خاص، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحالة مادام الظرف باقياً.
إذا عرفت الامرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنّه قال: ما نُقل عن أهل اللغة إنّ كلمة لن للتأبيد دعوى باطلة، والدليل على فساده قوله تعالى في حقّ اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة/95) قال: وذلك لانّهم يتمنّون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار، قال سبحانه: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف/77) فإنّ المراد من (لِيَقْضِ عَلَيْنَا)
ووجه الضعف ما عرفت من أنّ التأبيد على قسمين، غير محدّد ومحدّد باطار خاص، ومن المعلوم أنّ قوله سبحانه (وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ) ناظر إلى التأبيد في الاطار الذي اتّخذه المتكلّم ظرفاً لكلامه وهو الحياة الدنيا، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنّون الموت أبداً، لعلمهم بأنّ الله سبحانه بعد موتهم يُقدّمهم للحساب والجزاء، ولاجل ذلك لا يتمنّوه أبداً قطّ.
وأمّا تمنّيهم الموت بعد ورودهم العذاب الاليم فلم يكن داخلاً في مفهوم الاية الاُولى حتى يُعدّ التمنّي مناقضاً للتأبيد.
ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو: أنه ربّما يقال: إنّ «لن» لا تدلّ على الدوام والاستمرار بشهادة قوله: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) إذ لو كانت (لَنْ) تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة (الْيَوْمَ) لانّ اليوم محدّد معيّن، وتأبيد النفي غير محدّد ولا معيّن، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب: (فَلَنْ أَبْرَحَ الاَْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) (يوسف/80) حيث حدّد بقاءه في الارض بصدور الاذن من أبيه(2) .
وجه الوهن: أنّ التأبيد في كلام النحاة ليس مساوياً للمعدوم المطلق، بل المقصود هو النفي القاطع الذي لا يشق، والنفي القاطع الذي لا يكسر ولا يشق على قسمين:
____________
(1) الرازي، مفاتيح الغيب 14: 227.
(2) عباس حسن، النحو الوافي 4: 281 كما في كتاب رؤية الله للدكتور أحمد بن ناصر.
وأُخرى يكون الكلام محدّداً بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية، فيكون التأبيد محدّداً بهذا الظرف أيضاً، ومعنى قول مريم: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) (مريم/26) هو النفي القاطع في هذا الاطار، ولا ينافي تكلّمها بعد هذا اليوم.
والحاصل: أنّ ما أُثير من الاشكال في المقام ناشئ من عدم الامعان فيما ذكرنا من الامرين، فتارةً حسبوا أنّ المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربّما يكون المدخول أمراً ممكناً كما في قوله: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً) (التوبة/83)، وأُخرى حسبوا أنّ التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق، فناقشوا بالايات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفياً مطلقاً، ولو أنّهم وقفوا على ما ذكرنا من الامرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات.
وبما أنّه سبحانه لم يتّخذ لنفي رؤيته ظرفاً خاصاً، فسيكون مدلوله عدم تحقّق الرؤية أبداً لا في هذه الدنيا ولا في الاخرة.
والحاصل: أنّ الاية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الامر الجلل، ولذلك أمره أنْ ينظر إلى الجبل عند تجلّيه، فلما اندكّ الجبل خرّ موسى مغشيّاً عليه من الذُعْرِ، ولو كان عدم الرؤية مختصاً بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول: لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الاخرة فاصبر حتى يأتيك وقته، والانسان مهما بلغ كمالاً في الاخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي