ولاَجل ذلك قال الاِمام الطاهر على بن موسى الرضا (عليهما السلام) في حق ابن نوح: "لقد كان ابنه ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، وكذا من كان منّا لم يطع الله عزّ وجلّ فليس منّا، وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت".(2) نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة والعرف، وهو الاكتفاء بالوشيجة المادية، ونرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه: (وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن آمن) ، فأطلق لفظ الاَهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الاَنبياء، كافراً كان أم موَمناً، ثم أخرج الكافر من الحكم (احمل) لا من الموضوع وهو (الاَهل) وقال: (إلاّ من سبق عليه القول) .
وفي الوقت نفسه يجيب نداء نوح (عليه السلام) بعد قوله: (انّ ابنى من أهلى) بقوله: (انّه ليس من أهلك) .
الوجه الثاني: لا دلالة لقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) على صدور سوَال غير لائق بساحة الاَنبياء:
قد عرفت ما في الوجه الاَوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الاَنبياء نوح (عليه السلام) في قوله: (انّ ابنى من أهلى) ، فهلمّ معى ندرس الوجه الثاني، وهو أنّ قوله
____________
1. هود: 40.
2. البحار: 49/219 ضمن ح 3.
فنقول: إنّ الله عزّ وجلّ قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، وهذا الاستثناء كان دليلاً على أنّ في جملة "أهله" من هو مستوجب للعذاب، وأنّهم كلّهم ليسوا بناجين، وعندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين، وليس داخلاً في المستثنى منهم، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه.(1) وعلى هذا يكون المراد من قوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) النهي عن السوَال الذي لا يليق أن يطرح ويسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن والتفكر في أطراف القضية، وإلاّ فالسوَال انّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم. هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.
وهناك جواب أوضح ولعلّه أليق بساحة الاَنبياء، وهو: أنّه لما وعد نوحاً بنجاة الاَهل بقوله: (إلاّ من سبق عليه القول منهم) ولم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه موَمن، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للاَهلية ولم يعارضه يقين ولا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه، فلذلك (نادى ربّه) .
وأمّا قوله: (اني أعظك أن تكون من الجاهلين) فليس راجعاً إلى كلامه وندائه، بل كان نداوَه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول، وكان السوَال صحيحاً ورصيناً، بل هو راجع إلى وقوع السوَال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره، وأنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين، والغرض من ذلك
____________
1. الكشاف: 2/101.
جواب ثالث للوجه الثاني
هذا وللعلاّمة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال: إنّ قول نوح: (رب انّ ابني من أهلي وانّ وعدك الحق) في مظنة أن يسوقه إلى سوَال نجاة ابنه، وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله، فشملته العناية الاِلهية وحال التسديد الغيبي بينه وبين السوَال فأدركه النهي بقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) بتفريع النهي على ما تقدّم، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك، لكونه عملاً غير صالح، فلا سبيل لك إلى العلم به، فإيّاك أن تبادر إلى سوَال نجاته، لاَنّه سوَال ما ليس لك به علم، والنهي عن السوَال بغير علم لا يستلزم تحقق السوَال منه لا مستقلاً ولا ضمناً، والنهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً، وانّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً ومورداً لابتلاء المكلّف، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم، وكلّما اقتربوا مما من شأنّه أن يزل فيه الاِنسان نبههم الله لوجه الصواب، ودعاهم إلى السداد والتزام طريق العبودية، قال تعالى: (وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)(2)
وممّا يدل على أنّ النهي في قوله (فلا تسألن) نهى عمّا لم يقع بعد، قول
____________
1. الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للاِمام ناصر الدين الاسكندري المالكي: 2/101 على هامش الكشاف.
2. الاِسراء: 74 ـ 75.
ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول: أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك، وممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه: (انّي أعظك أن تكون من الجاهلين) تعليلاً لنهيه (فلاتسألن) ، فلو كان نوح (عليه السلام) سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين، لاَنّه سأل ما ليس له به علم.
وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السوَال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الاَنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله، كما ورد نظيره في القرآن الكريم: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ... يَعِظُكُمْ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً)(1)(2) إلى هنا تبيّـن الجواب عن السوَال الثاني، واتضح أنّه لم يسبق منه (عليه السلام) سوَال غير لائق بساحته، بقي الكلام في السوَال الثالث.
الوجه الثالث: تفسير قوله تعالى: (وإلاّ تغفر لي وترحمني)
وحاصله: أنّ طلب الغفران في قوله: (وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) لا يجتمع مع العصمة.
أقول: إنّ هذا كلام، صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه منالتعليم والتأديب، أمّا أنّ صورته صورة التوبة، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى الله تعالى بالاستعاذة، ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته، أي ستره على الاِنسان ما
____________
1. النور: 15 ـ 17.
2. الميزان: 10/245.
وأمّا كون حقيقته الشكر، فإنّ العناية الاِلهية التي حالت بينه وبين السوَال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين، كانت ستراً إلهياً على زلة في طريقه، ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله: (وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلاّت، لخسرت، فهو ثناء وشكر لصنعه الجميل.(1) وتظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبياً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الاَولياء والاَنبياء، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم ـ تكميلاً لعصمتهم ـ طلب الغفران والرحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين، وليس الخسران منحصراً في الاِتيان بالمعصية، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً وخيبة، كما أوضحناه في قصة آدم.
نعم لم يصدر من شيخ الاَنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنة صدور ذلك الفعل، وهو السوَال عمّـا لا يعلم، فلأجل ذلك صح له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الاِلهية الحائلة بينه وبين صدوره.
إلى هنا تبيّـن مفاد الآيات وأنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب واللوم.
ثم إنّ لبعض المفسرين من العدلية أجوبة أُخرى للاَسئلة المطروحة، فمن أراد الوقوف عليها، فليرجع إلى مظانها.(2)
____________
1. الميزان: 10/238.
2. لاحظ تنزيه الاَنبياء: 18 ـ 19؛ مجمع البيان: 3/167؛ بحار الاَنوار: 11/213 ـ 314 إلى غير ذلك.
3
عصمة إبراهيم الخليل (عليه السلام) والمسائل الثلاث(1)
إنّ الله سبحانه أثنى على إبراهيم (عليه السلام) بطل التوحيد بأجمل الثناء، وحمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد، وكرر ذكره باسمه في نيّف وستين موضعاً من كتابه، وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئاً كثيراً وقال: (وَلَقَد اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيَا وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين)(2) . وقد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية لما سمّى هذا الدين القويم بالاِسلام ونسب التسمية به إليه قال تعالى: (مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)(3) . وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّني هَدَاني رَبّي إِلَى صِـرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .(4) ومع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيم (عليه السلام) نرى أنّ بعض المخطّئة للاَنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه مستدلاً بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة ونبيّـن حالها.
____________
1. أ. قوله للنجم: (هذا ربي). ب. قوله: (بل فعله كبيرهم). ج. قوله لقومه: (إنّي سقيم).
2. البقرة: 130.
3. الحج: 78.
4. الاَنعام: 161.
الآية الاَُولى
(وكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالا ََرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِين * فَلَمّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبّي لا ََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْركُونَ)(1)
قالت المخطّئة: إنّ قوله: (هذا ربي) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّه (عليه السلام) كان يعتقد في وقت من الاَوقات بربوبية هذه الاَجرام السماوية، وهذا ممّا لا يجوز على الاَنبياء عند العدلية، وإن زعمت العدلية أنّه (عليه السلام) تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً، فهذا أيضاً غير جائز على الاَنبياء، لاَنّه يقول شيئاً غير معتقد به، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.
والجواب: انّ الاستدلال ضعيف، لاَنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين:
الاَُولى: انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة، لاَنّه ـ كما قيـل ـ كان صبياً لم يبلغ الحلم، وصار بصدد التحقيق والتحري، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد، ثم شرع في إبطال كل واحد منها، إلى أن وصل إلى الرب الواقعى والمدبّر الحقيقي.
وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات، ثم يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية، وعلى هذا
____________
1. الاَنعام: 75 ـ 78.
وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى ـ جواباً عن السوَال ـ: إنّه لم يقل ذلك مخبراً، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل.
ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شىء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يوَدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الاَجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يوَدي إليه ذلك الفرض من الفساد.(1) وقد روي هذا المعنى عن الاِمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل عن قول إبراهيم: (هذا ربّي) أأشرك في قوله: (هذا ربّي) ؟ فقال (عليه السلام): "لا، بل من قال هذا، اليوم فهو مشرك، ولم يكن من إبراهيم شرك، وانّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك".(2)
وفي رواية أُخرى عن أحدهما (الباقر والصادق عليهما السلام): "انّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً، وانّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته". (3)
غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية، لاَنّ الاَنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً، خالقاً وربّاً، ولو كان هناك إراءة من الله لخليله كما في قوله: (وكذلك نرى إبراهيم) كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.
____________
1. تنزيه الاَنبياء: 22.
2 و 3. نور الثقلين: 1/610 ـ 611، الحديث 149 و 150 و 151.
وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك، ولا في زمان مهلة النظر والفكر، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربَّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب، وانّما قال ذلك على أحد وجهين:
الاَوّل: انّه ربّي عندكم، وعلى مذاهبكم، كما يقول أحدنا على سبيل الاِنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.
الثاني: انّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها.(1) والوجه الاَوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.
الآية الثانية
قوله سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمينَ... وَتَاللّهِ لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ... قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
____________
1. تنزيه الاَنبياء: 23.
فزعمت المخطّئة أنّ قوله (بل فعله كبيرهم) كذب لا شك فيه، لاَنّه هو الذي كسر الاَصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيرها، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها؟
ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً، مثل الشبهة السابقة، لاَنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره، بالاِرادة الجدية، وانّما ذكره لغاية أُخرى، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً، والقرينة في الكلام أمران:
الاَوّل: قوله (عليه السلام) عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله: (وتَاللّهِ لاََكيدنَّ أصنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين)(2) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته، لا بصورة المشافهة والمصارحة، وذلك لاَنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للاَصنام، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الاَصنام جذاذاً، أساءوا الظن به، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبراهِيمُ)(3)
الثاني: انّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الاَصنام أنّ آلهتهم صغيرها
____________
1. الاَنبياء: 51 ـ 67.
2.الاَنبياء: 57.
3. الاَنبياء: 60.
ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص: إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الاَصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي: أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته مما يعتقدون.
فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.
وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي، وطلب منهم أن يسألوا الاَصنام بأنفسهم، وأنّه مَن فعل هذا بهم؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية، أعنى قولهم: (لقد علمت ما هوَلاء ينطقون) حتى يتسنّى للخليل (عليه السلام) كبتهم وتوبيخهم ـ بأنّه إذا كان هوَلاء على ما يصفون ـ بقوله (عليه السلام): (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم * أُف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)(1) وفي موضع آخر يقول: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(2) فتبين من ذلك أنّ قوله: (بل فعله كبيرهم) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى
____________
1. الاَنبياء: 66 ـ 67.
2. الصافات: 95 ـ 96.
ولما كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة، لم يجد القوم جواباً له إلاّ الحكم عليه بالتعذيب والاِحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أفحم، كما يقول سبحانه: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاََسْفَلِينَ)(1) ، وفي آية أُخرى: (قَالُوا حَرّقُوهُ وَ انصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)(2) هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم، ومن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.
جواب آخر عن السوَال
وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وانّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً، وانّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال: (بل فعله كبيرهم هذا فاسئَلوهم إن كانوا ينطقون) فكأنّه قال: فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الاَصنام المكسورة ناطقة، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، وكان الشرط ـ أعني نطقها ـ منتفياً كان المشروط ـ أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل ـ منتفياً أيضاً.
وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية، لاَنّها تشتمل على فعلين:
أحدهما قريب من الشرط، والآخر بعيد عنه، ومقتضى القاعدة رجوع
____________
1. الصافات: 97 ـ 98.
2. الاَنبياء: 68.
1. بل فعله كبيرهم: الفعل البعيد من الشرط.
2. فاسألوهم: الفعل القريب من الشرط.
3. ان كانوا ينطقون: هذا هو الشرط.
فرجوعه إلى الاَوّل وحده، أو كليهما، خلاف الظاهر، والمتعين رجوعه إلى الثاني، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.
الآية الثالثة
استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة، أعني قوله سبحانه: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيم * إِذْ قَالَ لأِبيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أئِفكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُريدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبّ العَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوا عَنْهُ مُدْبِرينَ * فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)(1)
فاستدلوا بقوله: (إنّي سقيم) قائلين بأنّه لم يكن سقيماً، وانّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.
أضف إلى ذلك انّ قوله: (فنظر نظرة في النجوم) يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الاَوضاع الفلكية، الاَحداث الاَرضية.
والجواب: انّ الاِشكال مبني على أنّه (عليه السلام) قال: (إنّي سقيم) ولم يكن سقيماً، ولم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت،
____________
1. الصافات: 83 ـ 91.
ويوَيد ذلك أنّه (عليه السلام) قاله عندما دعاه قومه إلى الخروج معهم لعيد لهم، فعند ذلك نظر إلى النجوم وأخبرهم بأنّه سقيم، ومن المعلوم أنّ الخروج إلى خارج البلد لاَجل التنزّه لم يكن في الليل بل كان في الضحى، فلو كانت الدعوة عند مطلع الشمس وأوّل الضحى لم يكن النظر إلى النجوم بمعنى ملاحظة الاَوضاع الفلكية، إذ كانت النجوم عندئذ غاربة، فلم يكن الهدف من هذه النظرة إلاّ التفكر والتأمل.
نعم لو كانت الدعوة في الليل لاَجل الخروج في النهار كان النظر إلى النجوم مظنة لما قيل، ولكنه غير ثابت.
نعم هناك معنى آخر لقوله: (فنظر نظرة في النجوم) ، وهو أنّه (عليه السلام) كان به حمّى ذات نوبة تعتريه في أوقات خاصة متعينة بطلوع كوكب أو غروبه، فلأجل ذلك نظر في النجوم، ووقف على أنّها قريبة الموعد، والعرب تسمّى المشارفة على الشيء باسم الداخل فيه، ولهذا يقولون لمن أضعفه المرض، وخيف عليه الموت "هو ميت" وقال تعالى لنبيّه: (إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيّتُونَ)(1)
وأمّا استعمال كلمة "في" مكان "إلى" في قوله: (في النجوم) ، فلأجل أنّ الحروف يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى: (ولاَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل
____________
1. الزمر: 30.
وافتحي الباب وانظري في النجومكم علينا من قطع ليل بهيم
جواب آخر عن الشبهة
وربّما يجاب عن الاِشكال: انّه من قبيل المعاريض في الكلام، والمعاريض: عبارة عن أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده، فلعلّه نظر في النجوم نظر الموحّد في صنعه تعالى، الذي يستدل به على خالقه وصفاته، ولكن القوم حسبوا أنّه ينظر إليها نظر المنجّم فيها ليستدل بها على الحوادث، فقال: (إنّي سقيم) .(2) ولا يخفى أنّ الجواب مبني على أنّه لم يكن سقيماً آنذاك، وهو بعد غير ثابت، على أنّ المعاريض غير جائزة على الاَنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.
وبذلك يعلم قيمة ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن من طرق كثيرة عن أبي هريرة: انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: لم يكذب إبراهيم (عليه السلام) غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: (إنّى سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله في سارة: (هي أُختى) .(3) وقد عرفت أنّ إبراهيم لم يكذب في الاَُوليين، وأمّا الثالثة فهي مروية في التوراة المحرّفة، فهل يمكن بعد هذا، الاعتماد على الرواية؟!
والعجب أنّ ابن كثير صار بصدد تصحيح الرواية، وقال: ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلاّ، وانّما أُطلق الكذب على هذا
____________
1. طه: 71.
2. تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/13.
3. تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/13.
والعجب أنّ رواة هذا الحديث يزرون على الشيعة في قولهم بالتقية، بأنّها مستلزمة للكذب مع أنّ التقية من المعاريض التي جوّزها القرآن والسنّة في شرائط خاصة لاَشخاص معينين.
هذه هي الآيات التي استدلت المخطّئة بها على عدم عصمة بطل التوحيد، وقد عرفت مفادها، وهناك آيات أُخر آيات نزلت في حقه، ربّما وقعت ذريعة لهوَلاء المخطّئة، وبما أنّها واضحة المضمون لا نرى حاجة إلى البحث عنها، وكفانا في هذا المضمار ما ذكره السيد المرتضى في "تنزيهه" فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليه.
كما أنّهم استدلّوا بآيات نزلت في حق يعقوب، لتخطئته وبما أنّ الشبهات ضعيفة تركنا البحث عنها وعطفنا عنان القلم إلى بعض ما استدلت به المخطّئة في هذا المضمار في حق صدّيق عصره ونزيه دهره سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام.
____________
1. تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/13.
4
عصمة يوسف (عليه السلام) وقول الله(... وهمّ بها)
يوسف الصدّيق هو الا َُسوة
إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات، لاَجلى دليل على أنّه الاِنسان المثالي الذي لا يعدّ له مثال، كيف؟ وقد دلّت الآيات على أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته وصباه، وعلّمه من تأويل الاَحاديث، وأتمّ نعمته عليه، وقد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة على طهارته ونزاهته وعصمته من الذنوب، وصيانته من المعاصي، وتفانيه في مرضاة الله، كيف؟ وقد ابتلاه الله سبحانه بلاءً حسناً، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات والمحرمات، وناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه الله سبحانه، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه، وتجلّت به حقيقته، وبان أنّه الاِنسان الذي حاق به الخوف من الله سبحانه، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين ولا يبدل رضاه بشيء.
كيف؟ ومن طالع القصة يقف على أنّ نجاة يوسف من مخالب الشهوة وخدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة، ولولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة، بل كانت أمراً أشبه بالروَيا منه باليقظة.
فقد كان يوسف رجلاً، ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شاباً، بالغاً أشده، وذاك أوان غليان الشهوة وفوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الاَلباب، والجمال والملاحة يدعوان إلى الهوى؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة وهنىء العيش، محبوراً بمثوى كريم، وذلك من أقوى أسباب التهوّس، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك والعظماء، وكانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر ـ ومع ذلك ـ عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الاِكرام والاِحسان والاِنعام ليوسف، وذلك كلّه مما يقطع اللسان ويصمت الاِنسان وقد تعرّضت له، ودعته إلى نفسها، والصبر مع التعرّض أصعب، وقد راودته هذه الفتّانة وأتت بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألّـحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه، والصبر معه أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي رتبة خصّها بها العزيز، وكان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنىء.
وكانا في خلوة، وقد غلّقت الاَبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن من الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الاَمر وانتهاك الستر، لاَنّـهـا كانت عزيزة، بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزّة والمال.
فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدّته، أو أقبلت على صخرة صمّـاء لاَذابتها، ولم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهور
أمّا الخوف من ظهور الاَمر فقد مرّ أنّه كان في أَمن منه، ولو كان بدا من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها، فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاءً، فلم يوَاخذها بشيء، وقلبت العقوبة على يوسف حتى سجن.
وأمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّـا هو أعظم من الزنا وأشد اثماً، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف، فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله ويلقوه في غيابت الجب، ويبيعوه من السيّارة بيع العبيد، ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكى حتى ابيضّت عيناه.
وأمّا قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، والقوانين الاجتماعية إنّما توَثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة وذلك إنّما يتم فيما إذا كان الاِنسان تحت سلطة القوّة المجرية والحكومة العادلة، وأمّا لو أغفلت القوّة المجرية، أو فسقت فأهملت، أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين.
فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الاَسباب القوية التي كانت لها عليه، إلاّ أصل التوحيد وهو الاِيمان بالله.
وإن شئت قلت: المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها محلاً ولا موضع أصبع.(1)
____________
1. الميزان: 11/137 ـ 139.
ومحل الاستدلال: قوله (وهمَّ بها) أي همّ بالمخالطة، وانّ همّه بها كان كهمّها به، ولولا أنّ رأي برهان ربّه لفعل، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة ـ بعد الهمّ بها ـ روَية البرهان.
وبعبارة أُخرى: انّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف والمعطوف عليه (ولقد همّت به ـ وهمّ بها) كلاماً مستقلاً غير مقيّد بشيء، وكأنّه قال:
ولقد همّت به: أي بلا شرط وقيد.
وهمّ بها: أي جزماً وحتماً.
ثم بعد ذلك ـ أي بعد الاِخبار عن تحقّق الهم من الطرفين ـ استدرك بأنّ العزيزة بقيت على همّها وعزمها إلى أن عجزت، وأمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لاَجل روَية برهان ربّه، ولاَجل ذلك قال:
(لولا أن رأي برهان ربّه) أي ولولا الروَية لاقترف وفعل وارتكب، لكنّه رأي فلم يقترف ولم يرتكب، فجواب لولا محذوف وتقديره "لاقترف".
ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الاِسرائيليات التي لا
____________
1. يوسف: 23 ـ 24.
غير انّ رفع الستر عن مرمى الآية يتوقف على البحث عن أُمور:
1. ما هو معنى "الهم" في قوله: (ولقد همّت به وهمّ بها) .
2. ما هو جواب (لولا أن رأي برهان ربّه) وهذا هو العمدة في تفسير الآية.
3. ما هو معنى البرهان؟
4. دلالة الآية على عصمة يوسف، وإليك تفسيرها واحداً تلو الآخر.
1. ما معنى الهم؟
لقد فسّـره ابن منظور في لسانه بقوله: همّ بالشىء يهم همّاً: نواه وأراده وعزم عليه، قال سبحانه: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)(1)
روى أهل السير: أنّ طائفة من المنافقين عزموا على أن يغتالوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العودة من تبوك، ولاَجل ذلك وقفوا على طريقه، فلمّا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بتنحيتهم، وسمّـاهم رجلاً رجلاً.(2)
____________
1. التوبة: 74.
2. مجمع البيان: 3/51 وغيره.
أضف إلى ذلك أنّ الهمين في الموردين بمعنى واحد، وبما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم والاِرادة، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا على خطور الشيء بالبال، لاَنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعنى بلا قرينة، ولكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر، لاَنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم روَية برهان ربّه، وبما أنّ العدم انقلب إلى الوجود، ورأي البرهان لم يتحقق هذا الهم من الاَساس، كما سيوافيك، نعم لا ننكر أنّ الهم قد يستعمل بالقرينة في مقابل العزم، قال كعب بن زهير:
فكم فهموا من سيد متوسـع | ومن فاعل للخير ان همّ أو عزم |
كما ربّما يستعمل في معنى المقاربة فيقولون: همّ بكذا وكذا، أي كاد يفعله، وعلى كل تقدير فالمعنى اللائح من الهم في الآية هو العزم والاِرادة.
2. ما هو جواب لولا ؟
لا شك أنّ "لولا" في قوله سبحانه: (لولا أنْ رأي بُرهَانَ رَبّه) ابتدائية. فلا تدخل إلاّ على المبتدأ مثل "لوما" قال ابن مالك.
لولا ولوما يلزمان الابتداء | إذ امتناعاً بوجــود عقدا |
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية | لولا رجاوَك قد قتلت أولادي |
وربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق، كقوله سبحانه: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(1) ، أي ولولا فضل الله ورحمته عليكم لهلكتم، وربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله: "قد كنت هلكت لولا أن تداركتك"،وقوله: "وقتلت لولا أنّي قد خلصتك"، والمعنى لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي لقُتلت، ومثل لولا سائر الحروف الشرطية قال الشاعر:
فلا يدعني قومي صريعاً لحـرة | لئن كنت مقتولاً ويسلم عامـر |
فلا يدعني قومي ليـوم كريهــة | لئن لم أعجل طعنة أو أعجــل |
وبالجملة: لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة، وجواب "لولا" خاصة، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه والمقام
____________
1. النور: 10.
أمّا المطلقة فهي قوله: (ولقد همّت به) ، وهو يدل على تحقّق "الهم" من عزيزة مصر بلا تردد.
أمّا المقيدة فهي قوله: (وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) وتقديره: "لولا أن رأي برهان ربّه لهمّ بها" فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأي برهان ربّه، وأمّا الجملة المتقدمة على "لولا" أعني قوله (وهم بها) فلا تدل على تحقق الهم، لاَنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها، حتى تدل على تحقق الهمّ، وانّما هي قائمة مكان الجواب، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله، وسيوافيك تفصيله عن قريب.
3. ما هو البرهان؟
البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين، قال سبحانه: (فَذَانِكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِه)(1) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ)(2) وقال سبحانه: (أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(3) هو الحجة اليقينية التي تجلى الحق ولا تدع ريباً لمرتاب، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام)؟
والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الاِنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية،
____________
1. القصص: 32.
2. النساء: 174.
3. النمل: 64.
ويمكن أن يكون المراد منه سائر الاَُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها.(1)
4. دلالة الآية على عصمة يوسف (عليه السلام)
إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف (عليه السلام)قبل أن تدلّ على خلافها.
توضيحه: انّه سبحانه بيّـن همّ العزيزة على وجه الاِطلاق وقال: (وهمّت به) ، وبيّـن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال: (وهمَّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة "لولا " الدالة على عدم وقوعهما.
فإن قلت: إنّ كلاًّ من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله: (وهمّ بها) مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة "لولا ".
قلت: إنّ جواب "لولا " محذوف وتقديره "لهمّ بها" وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال: انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب، لاَنّه إذا كان
____________
1.راجع ص 21 ـ 25 من هذا الكتاب.
وقال سبحانه: (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيءٍ)(2) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله.
والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.
وحاصل الكلام: أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط، وفي مورد الآية، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية، وغيرها من قوى النفس الاَمارة، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء، ولكن صارت خائبة غير موَثرة لاَجل روَية برهان ربّه، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها.
وإن شئت قلت: منعته المحبة الاِلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه، فلم تترك لغيرها موضع قدم، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة.
وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الاَربع التي قدّمناها.
وعلى ذلك فبما انّ "اللام" في قوله: (ولقد همّت به) للقسم يكون معنى
____________
1. الاِسراء: 74.
2. النساء: 113.
أسئلة وأجوبة
ولاَجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الاَكمل تجب الاِجابة عن عدة من الاَسئلة التي تثار حول الآية، وإليك بيانها وأجوبتها:ص
السوَال الاَوّل
انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الاَبواب وقالت هيت لك) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله: (ولقد همّت به وهمّ بها) خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعنى قوله: (هيت لك) .
والجواب: انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لاِفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة، ولاَجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه، فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.
السوَال الثاني
إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه: (فَذانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ)(4) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الاِعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.
والجواب: انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الاِنسان عن اقتراف
____________
1. تفسير المنار: 12/286.
2. التوبة: 13.
3. التوبة: 74.
4. القصص: 32.
السوَال الثالث
إنّ قوله سبحانه: (كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ) ظاهر في أنّ (السوء) غير (الفحشاء) فلو فسر قوله: (ولقد همّت به وهمّ بها) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.
والجواب: انّ المراد من (السوء) هو الهم والعزم، والمراد من (الفحشاء) هو نفس العمل، فالله سبحانه صرف ببركة العصمة ـ نفس الهم ونفس الاقترافـ كلا الاَمرين.
قال العلاّمة الطباطبائي: الاَنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا، ثم قال: ومن لطيف الاِشارة ما في قوله: (لِنَصرف عنه السوء والفحشاء) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أىّ داع من دون الله سبحانه.
ثم قال: وقوله: (انّه من عبادنا المخلصين) في مقام التعليل لقوله: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك، لاَنّه من عبادنا المخلصين، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان
السوَال الرابع
لو كان المراد من (برهان ربّه) هو العصمة، فلماذا قال سبحانه: (رأي برهانه ربّه) ، فإنّ هذه الكلمة تناسب الاَشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.
أقول: إنّ الروَية كما تستعمل في الروَية الحسية والروَية بالاَبار، تستعمل أيضاً في الاِدراك القلبى والروَية بعين الفوَاد قال سبحانه: (مَا كَذَبَ الْفُوََادُ مَا رَأَى)(2) شخ، وقوله سبحانه: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً)(3) وقوله سبحانه: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنْا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ)(4) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الروَية تستعمل في الاِدراك القلبى والاستشعار الباطنى.
وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر، كان المتوقع بحكم كونه بشراً، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الاِتيان بالمعصية، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.
هذا هو المعنى المختار في الآية، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم
____________
1. الميزان: 11/142.
2. النجم: 11.
3. فاطر: 8.
4. الاَعراف: 149.