وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب "المنار" وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي:
المعنى الثاني للآية
انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)(1) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه غير انّه رأي انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّـهـام يوسف وبهته، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.
وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عندما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقق له غرضه، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز، فإنّـها عندما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف، دفعها الشعور بالهزيمة والاِخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله:
____________
1. التوبة: 74.
ولم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه، ولكنّه لما استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته واتهامه، اعتصم عن ضربها والهمّ بها، وهذا معنى قوله: (وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربّه) .
وهذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير، واختاره صاحب المنار، وسعى في تقويته بقوله: تالله لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها وهي في نظرها سيدته وهو عبدها وقد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة، ولكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية وخرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها وتمنعها وهبط بالسيدة المالكة من عز سيادتها وسلطانها وعندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان.(1) ثم إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير انّه فسر (برهان ربّه) بغير الوجه المذكور في هذا الرأي بل فسره بانفتاح الباب بإرادة الله سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلقت الاَبواب وأحكمت سدها، وعندما وقع هذا الشجار بينها وبين يوسف، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها وانفتح الباب له بإرادة الله سبحانه، وهذا هو برهان الرب الذي رآه، ويدل على ذلك انّ القرآن يصرح بغلق الاَبواب ولا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر، وهذا يدل على أنّ المراد من (برهان ربّه) هو فتح الباب من عند الله سبحانه في وجه يوسف كرامة له.
ولا يخفى ضعف هذا التفسير، وذلك لاَنّه لو كان المراد من البرهان هو
____________
1. تفسير المنار: 12/278.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...)(1)
(وَ اسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)(2)
ترى أنّه يذكر همّه بها وروَية البرهان في آية ثم يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها (إنّه كان من المخلصين) ، فلو كان المراد من "روَية البرهان" هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.
على أنّ الظاهر من قوله "وغلّقت الاَبواب" هو سدّ الاَبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر، وإنّما لم تقفلها لاَنّها لم تكن تتوقع من يوسف أن لا يستجيب لها ويعصي أمرها.
المعنى الثالث للآية
انّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم عليه، وربّما يستعمل الهم في ذلك، قال كعب بن زهير:
فكم فهموا من سيد متوسع ومن فاعل للخير انّ همّ أو عزم
ولا يخفى أنّ هذا التفسير عليل، لاَنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد ولم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلاّ العزم، والتفكيك بين الهمين خلاف الظاهر.
وعلى كل تقدير فقصة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل
____________
1. يوسف: 24.
2. يوسف: 25.
ثم إنّ هناك لاَكثر المفسرين أقوالاً في تفسير الآية أشبه بقصص القصّاصين، وقد أضربنا عن ذكرها صفحاً، فمن أراد فليرجع إلى التفاسير.
وفي مختتم البحث نأتى بشهادة العزيزة بنزاهة يوسف عند ما حصحص الحق وبانت الحقيقة وقد نقلها سبحانه بقوله: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(1) وشهدت في موضع آخر على طهارته واعتصام نفسه وقالت: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) .(2)
____________
1. يوسف: 51.
2. يوسف: 32.
5
عصمة موسى (عليه السلام) وقتل القبطي ومشاجرته أخاه
إنّ الكليم موسى بن عمران أحد الاَنبياء العظام، وصفه سبحانه بأتم الاَوصاف وأكملها، قال عزّ من قائل: (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الاَيمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً) .(1)
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ)(2) ووصف كتابه بقوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً)(3)
ومع ذلك كلّه: فقد استدل المخالف بعدم عصمته بأمرين:
أحدهما: قتله القبطي وتوصيفه بأنّه من عمل الشيطان.
ثانيهما: مشاجرته أخاه مع عدم كونه مقصّـراً، وإليك البحث عن كل واحد منهما.
____________
1. مريم: 51 ـ 53.
2. الاَنبياء: 48.
3. الاَحقاف: 12.
قال عزّ من قائل: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُليْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّه فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوّ مُضِلّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفْسِي فَاغْفِر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(1)
ويذكر القرآن تلك القصة في سورة الشعراء بصورة موجزة ويقول سبحانه:(أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُركَ سِنينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكَافِرينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)(2)
وتدلّ الآيات على أنّ موسى (عليه السلام) ورد المدينة عندما كان أهلها غافلين عنه، إمّا لاَنّه ورد نصف النهار والناس قائلون، أو ورد في أوائل الليل، وإمّا لغير ذلك، فوجد فيها رجلين كان أحدهما إسرائيلياً والآخر قبطياً يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته على الآخر، فنصره، فضربه بجمع كفه في صدره فقتله، وبعدما فرغ من أمره ندم ووصف عمله بما يلي:
1. (هذا من عمل الشيطان) .
2. (رب إنّي ظلمت نفسي) .
3. (فاغفر لي فغفر له) .
4. (فعلتها إذاً وأنا من الضّالّين) .
____________
1. القصص: 14 ـ 17.
2. الشعراء: 18 ـ 20.
أقول: قبل توضيح هذه النقاط الاَربع نلفت نظر القارىَ الكريم إلى بعض ما كانت الفراعنة عليه من الاَعمال الاِجرامية، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (إِنَّ فِرْعَونَ عَلا فِي الا ََرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويَسْتَحْىِ نِساءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدينَ)(1) ، ولم يكن فرعون قائماً بهذه الاَعمال إلاّ بعمالة القبطيين الذين كانوا أعضاده وأنصاره، وفي ظل هذه المناصرة ملكت الفراعنة بني إسرائيل رجالاً ونساءً، فاستعبدوهم كما يعرب عن ذلك قوله سبحانه: (وتِلْكَ نِعمَةٌ تَمُنُّها عَلَىَّ أنْ عَبَّدتَّ بنِى إسْرائيل)(2) ولمّا قال فرعون لموسى: (ألَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً)(3) واستعلى عليه بأنّه ربّاه وليداً منذ أن ولد إلى أن كبر... أجابه موسى بأنّه هل تمن على بهذا وقد عبدت بني إسرائيل؟
وعلى ذلك فقتل واحد من أنصار الطغمة الاَثيمة التي ذبحت مئات بل الآف الاَطفال من بني إسرائيل واستحيوا نساءهم، لا يعد في محكمة العقل والوجدان عملاً قبيحاً غير صحيح، أضف إلى ذلك أنّ القبطي المقتول كان بصدد قتل الاِسرائيلي لو لم يناصره موسى كما يحكي عنه قوله: (يقتتلان) ، ولو قتله القبطي لم يكن لفعله أىّ رد فعل، لاَنّه كان منتمياً للنظام السائد الذي لم يزل يستأصل بني إسرائيل ويريق دماءهم طوال سنين، فكان قتله في نظره من قبيل قتل الاِنسان الشريف أحد عبيده لاَجل تخلّفه عن أمره.
إذا وقفت على ذلك، فلنرجع إلى توضيح الجمل التي توهم المستدل بها
____________
1. القصص: 4.
2. الشعراء: 22.
3. الشعراء: 18.
1. انّ قوله: (هذا من عمل الشيطان) يحتمل وجهين:
الاَوّل: أن يكون لفظ "هذا" إشارة إلى المناقشة التي دارت بين القبطى والاِسرائيلي وانتهت إلى قتل الاَوّل، وعلى هذا الوجه ليست فيه أيّة دلالة على شيء ممّا يتوخاه المستدل... وقد رواه ابن الجهم عن الاِمام الرضا (عليه السلام) عندما سأله المأمون عن قوله: (هذا من عمل الشيطان) فقال: الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله.(1) الثاني: انّ لفظ "هذا" إشارة إلى قتله القبطى، وإنّما وصفه بأنّه من عمل الشيطان، لوجهين:
ألف: انّ العمل كان عملاً خطأً محضاً ساقه إلى عاقبة وخيمة، فاضطر إلى ترك الدار والوطن بعد ما انتشر سره ووقف بلاط فرعون على أنّ موسى قتل أحد أنصار الفراعنة، وأتمروا عليه ليقتلوه، ولولا أنّ موَمن آل فرعون أوقفه على حقيقة الحال، لاَخذته الجلاوزة وقضوا على حياته، كما قال سبحانه: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(2) ، فلم تكن لهذا العمل أيّة فائدة فردية أو اجتماعية سوى إلجائه إلى ترك الديار وإلقاء الرحل في دار الغربة "مدين"، والاشتغال برعي الغنم أجيراً لشعيب (عليه السلام).
فكما أنّ المعاصي تنسب إلى الشيطان، قال سبحانه: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الاََنْصابُ وَ الاََزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُلَعَلَّكُمْ
____________
1. البرهان: 3/224؛ عيون أخبار الرضا: 1/199.
2. القصص: 20.
فالمعاصي والاَعمال الخاطئة كلاهما تصح نسبتهما إلى الشيطان بملاك أنّه عدو مضل للاِنسان، والعدو لا يرضى بصلاحه وفلاحه بل يدفعه إلى ما فيه ضرره في الآجل والعاجل، ولاَجل ذلك قال بعدما قضى عليه: (هذا من عمل الشيطان انّه عدو مضل مبين) .
ب. انّ قتل القبطي كان عملاً ناجماً عن العجلة في محاولة تدمير العدو، ولو أنّه كان يصبر على مضض الحياة قليلاً لنبذ القبطي مع جميع زملائه في اليم من دون أن توجد عاقبة وخيمة، كما قال سبحانه: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمينَ)(2)
2. وبذلك يعلم مفاد الجملة الثانية التي هي من إحدى مستمسكات المستدل أعني قوله: (ربِّ إنّي ظلمت نفسي) ، فإنّ الكلام ليس مساوقاً للمعصية ومخالفة المولى، بل هو كما صرح به أئمة اللغة وقدمنا نصوصهم عند البحث عن عصمة آدم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه، وقد عرفت أنّ عمل موسى كان عملاً واقعاً في غير موقعه، وخاطئاً من جهتين: من جهة أنّه ساقه إلى عاقبة مرة، حيث اضطر إلى ترك الاَهل والدار والديار، ومن جهة أُخرى أنّه كان عملاً ناشئاً من الاستعجال في إهلاك العدو بلا موجب، ولاَجل تينك الجهتين كان عملاً واقعاً في غير محله، فصح أن يوصف العمل بالظلم، والعامل بالظالم، والذي يعرب عن ذلك إنّه جعله ظلماً لنفسه لا للمولى، ولو كان معصية لكان ظلماً لمولاه وتعدياً على حقوقه، كما هو الحال في الشرك فإنّه ظلم
____________
1. المائدة: 90.
2. القصص: 40.
3. وأمّا الجملة الثالثة، أعني قوله: (فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم) ، فليس طلب المغفرة دليلاً على صدور المعصية، لاَنّه بمعنى الستر، والمراد منه إلغاء تبعة فعله وإنجاوَه من الغم وتخليصه من شر فرعون وملائه، وقد عبر عنه سبحانه: (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً)(2) ، وقد نجّاه سبحانه بإخبار رجل من آل فرعون عن الموَامرة عليه، فخرج من مصر خائفاً يترقّب إلى أن وصل أرض مدين، فنزل دار شعيب، وقص عليه القصص، وقال له شعيب: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظالِمِين) .(3) وبذلك غفر وستر عمله ونجاه سبحانه من أعين الفراعنة، ومكّن له الورود إلى ماء مدين والنزول في دار أحد أنبيائه:.
أضف إلى ذلك: أنّ قتل القبطي وإن لم يكن معصية ولكن كان المترقب من موسى تركه وعدم اقترافه، فصدور مثله من موسى يناسب طلب المغفرة، فإنّ حسنات الاَبرار سيئات المقربين، إذ ربّ عمل مباح لا يوَاخذ به الاِنسان العادي ولكنّه يوَاخذ به الاِنسان العارف، فضلاً عن شخصية إلهية سوف تبعث لمناضلة طاغية العصر، فكان المناسب لساحتها هو الصبر والاستقامة في حوادث الحياة، حلوها ومرّها، والفصل بين المتخاصمين بكلام ليّـن، وقد أمر به عند ما بعث إلى فرعون فأمره سبحانه أن يقول له قولاً ليناً(4) ، وقد أوضحنا مفاد هذه الكلمة عند البحث عن آدم وحواء إذ: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
____________
1. لقمان: 13.
2. طه: 40.
3. القصص: 25.
4. طه: 44.
4. وأمّا قوله سبحانه: (فعلتها إذاً وأنا من الضالين) ، فالمراد من الضلال هو الغفلة عمّا يترتب على العمل من العاقبة الوخيمة، ونسيانها، وليس ذلك أمراً غريباً، فقد استعمل في هذين المعنيين في الذكر الحكيم، قال سبحانه: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الا َُخْرَى)(2) ، فالمراد نسيان أحد الشاهدين وغفلته عما شهد به، وقال سبحانه: (ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الاََرْضِ ءَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(3) أي إذا غبنا فيها.
قال في لسان العرب: الضلال: النسيان وفي التنزيل: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاَُخْرَى) أي يغيب عن حفظها، ومنه قوله تعالى: (فعلتها إذاً وأنا من الضالين) وضللت الشيء: أنسيته. وأصل الضلال: الغيبوبة يقال ضل الماء في اللبن إذا غاب، ومنه قوله تعالى: (ءَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الاََرْضِ ءَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ)(4) .
وعلى الجملة: إنّ كليم الله يعترف بتلك الجملة عندما اعترض عليه فرعون بقوله: (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) ويعتذر عنها بقوله: (فعلتها إذاً وأنا من الضالين) ، والمناسب لمقام الاعتذار هو تفسير الضلال بالغفلة عمّا يترتب على العمل من النتائج ونسيانها.
____________
1. الاَعراف: 23.
2. البقرة: 282.
3. السجدة: 10.
4. لسان العرب: 11/392ـ 393، مادة "ضل".
ومن اللحن الواضح تفسير الضلالة بضد الهداية، كيف وانّ الله سبحانه يصفه قبل أن يقترف القتل بقوله: (آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(1) ، كما أنّ نفس موسى بعد ما طلب المغفرة واستشعر إجابة دعائه قال: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(2) ، أفيصح بعد هذا تفسير الضلالة بالغواية ضد الهداية؟! كلا و لا.
هذا كلّه حول المستمسك الاَوّل، أعني: قتل القبطي، فهلم معي ندرس المستمسك الثاني للخصم من اتهام كليم الله الاَعظم، عليه وعلى جميع رسل الله آلاف الثناء والتحية، بعدم العصمة.
ب. مشاجرته أخاه هارون (عليه السلام)
إنّ الله سبحانه واعد موسى ـ بعد أن أغرق فرعون ـ بأن يأتي جانب الطور الاَيمن فيوفيه التوراة التي فيها بيان الشرائع والاَحكام وما يحتاج إليه، وكانت المواعدة على أن يوافي الميعاد مع جماعة من وجوه قومه، فتعجّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربّه وسبقهم على أن يلحقوا به، ولمّا خاطبه سبحانه بقوله: (وما أعجلك عن قومك يا موسى) أجابه بأنّهم (على أثري) وورائي يدركونني عن قريب، وعند ذلك أخبره سبحانه بأنّه امتحن قومه بعد فراقه (وأضلّهم السامري) ، فرجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل حزيناً مغضباً، فرأي أنّ
____________
1. القصص: 14.
2. القصص: 17.
1. لماذا ألقى الاَلواح؟
2. لماذا ناقش أخاه وقد قام بوظيفته؟
وإليك تحليل السوَالين بعد بيان مقدمة وهي:
إنّ موسى قد خلف هارون عندما ذهب إلى الميقات، وقد حكاه سبحانه بقوله: (وَقَالَ مُوسَى لاَِخِيهِ هَارُونَ اخُلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(3) . وقام هارون بوظيفته في قومه، فعند ما أضلّهم السامري ناظرهم بقوله: (يا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)(4) كع واكتفى في ذلك بالبيان واللوم ولم يقم في وجههم بالضرب والتأديب وقد بيّنه لاَخيه بقوله: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ
____________
1. الاَعراف: 150.
2. طه: 86، 92 ـ 94.
3. الاَعراف: 142.
4. طه: 90.
هذا ما يخص هارون، وأمّا ما يرجع إلى موسى، فقد أخبره سبحانه عن إضلال السامري قومه بقوله: (فَإنَّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرىُّ) (1) ، ورجع إلى قومه غضبان أسفاً وخاطبهم بقوله: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجَلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكمْ) وقال أيضاً: (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ) . وفي هذا الظرف العصيب أظهر كليم الله غضبه بإنجاز عملين:
1. إلقاء الاَلواح جانباً.
2. مناقشته أخاه بقوله: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ، فعند ذلك يطرح السوَالان نفسهما:
لماذا ألقى الاَلواح أوّلاً ؟ ولماذا ناقش أخاه وناظره وقد قام بوظيفته ثانياً؟ فنقول:
لا شك أنّ ما اقترفه بنو إسرائيل من عبادة العجل كان من أقبح الاَعمال وأفظعها، كيف؟! وقد أهلك الله عدوهم وأورثهم أرضهم، فكان المترقب منهم هو الثبات على طريق التوحيد ومكافحة ألوان الشرك ـ ومع الاَسف ـ فإنّهم كفروا بعظيم النعمة، وتركوا عبادته سبحانه، وانخرطوا في سلك الثنوية مع الجهل بقبح عملهم وفظاعة فعلهم.
إنّ أُمّة الكليم وإن كانت غافلة عن مدى قبح عملهم، لكن سيدهم ورسولهم كان واقفاً على خطورة الموقف وتعدّي الاَُمّة، فاستشعر بأنّه لو لم يكافحهم بالعنف والشدة ولم يقم في وجههم بالاستنكار مع إبراز التأسف والغضب، فربّما تمادى القوم في غيّهم وضلالهم وحسبوا أنّهم لم يقترفوا إلاّ ذنباً خفيفاً أو مخالفة صغيرة ولم يعلموا أنّهم حتى ولو رجعوا إلى الطريق المهيع،
____________
1. طه: 85.
فأوّل ما يبادر إليه هو مواجهة القائم مقامه الذي خلفه في مكانه، وأدلى إليه مفاتيح الاَُمور، فإذا ثبتت براءته ونزاهته وأنّه قام بوظيفته خير قيام حسب تشخيصه ومدى طاقته، تركه حتى يقف على جذور الاَمر والاَسباب الواقعية التي أدت إلى الفساد والانهيار.
وهكذا قام الكليم بمعالجة القضية، وعالج الواقعة المدهشة التي لو بقيت على حالها، لانتهت إلى تسرب الشرك إلى عامة بني إسرائيل وذهب جهده طوال السنين سدى، فأوّل رد فعل أبداه، أنّه واجه أخاه القائم مقامه في غيبته، بالشدة والعنف حتى يقف الباقون على خطورة الموقف، فأخذ بلحيته ورأسه مهيمناً عليه متسائلاً بأنّه لماذا تسرب الشرك إلى قومه مع كونه فيهم؟! ولمّا تبيّنت براءته وأنّه أدّى وظيفته كما يحكيه عنه سبحانه بقوله: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِىَ الاَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) اندفع إليه بعطف وحنان ودعا له فقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلاَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(1) . انّ طلب المغفرة لنفسه وأخيه لا يدل على صدور أي خلاف منهما، فإنّ الاَنبياء والاَولياء لاستشعارهم بخطورة الموقف وعظمة المسوَولية، ما زالوا يطلبون غفران الله ورحمته لعلو درجاتهم كما هو واضح لمن تتبع أحوالهم، وسيوافيك بيانه عند البحث عن عصمة النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعدما تبيّـن انّ السبب الواقعي لتسرب الشرك إلى قومه هو السامري وتبعه السفلة والعوام، أخذ بتنبيههم بقوارع الخطاب وعواصف الكلام بما هو
____________
1. الاَعراف: 151.
ولمّا واجه السامري خاطبه بقوله: (فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرىُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الْرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قَالَ فَاذْهَبْ فِإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلَى إِلَـهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفَاً * إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً)(2)
وبما ذكرنا يعلم أنّه لماذا ألقى الاَلواح وتركها جانباً؟ فلم يكن ذاك العمل إلاّ كرد فعل على عملهم القبيح وفعلهم الفظيع إلى حد استولى الغضب على موسى فألقى الاَلواح التي ظل أربعين يوماً في الميقات لتلقّيها حتى يحاسب القوم حسابهم ويقفوا على أنّهم أتوا بأعظم الجرائم وأكبر المعاصي.
____________
1. الاَعراف: 152.
2. طه: 95 ـ 98.
6
عصمة داود (عليه السلام) وقضاوَه في النعجة
قد وصف سبحانه داود النبي (عليه السلام) بأسمى ما توصف به الشخصية المثالية، قال سبحانه: (واذكر عَبدنا داود ذا الاَيد انّه أوّاب) .
وقد ذكر ملكه وسلطنته على الجبال والطيور على وجه يمثل أقوى طاقة نالها البشر طيلة استخلافه على الاَرض.
قال سبحانه: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَ الاِشْراقِ * وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)(1) .
فقد أخبر في الآية الاَخيرة بأنّه أُوتى الحكمة وفصل الخطاب، الذي يعد القضاء الصحيح بين المتخاصمين من فروعه وجزئياته.
ثم انّه سبحانه ينقل بعده قضاءه في "نبأ الخصم" ويقول:
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الِْمحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوْا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَ اهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُوََالِ
____________
1. ص: 18 ـ 20.
لقد تمسكت المخطّئة لعصمة الاَنبياء بقوله تعالى: (فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرَنَا لَهُ ذَلِكَ) حيث إنّ الاستغفار وغفرانه سبحانه له، آية صدور الذنب.
والاِجابة عن هذا الاستدلال تحتاج إلى بيان مفردات الآية وإيضاح القصة فنقول:
إنّ تفسير الآية يتم ببيان عدة أُمور:
1. توضيح مفرداتها.
2. إيضاح القصة.
3. هل الخصمان كانا من جنس البشر ؟
4. لماذا استغفر داود، وهل كان استغفاره للذنب أو لاَجل ترك الاَولى؟
وإليك بيان هذه الاَُمور:
1. توضيح المفردات
"الخصم": مصدر "الخصومة"، أُريد به الشخصان.
____________
1. ص: 21 ـ 26.
"الفزع": انقباض ونفار يعتري الاِنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع.
"الشطط": الجور.
"النعجة": الا َُنثى من الضأن.
والمراد من قوله: "اكفلنيها": اجعلها في كفالتى وتحت سلطتى، ومن قوله "عزني في الخطاب": انّه غلبنى فيه.
هذا كله راجع إلى توضيح مفردات الآية.
2. إيضاح القصة
كان داود (عليه السلام) جالساً في غرفته إذ دخل عليه شخصان بغير إذنه، وكانا أخوين يملك أحدهما تسعاً وتسعين نعجة ويملك الآخر نعجة واحدة، وطلب الاَوّل من أخيه أن يعطيه النعجة التي تحت يده، مدعياً كونه محقاً فيما يقترحه على أخيه، وقد ألقى صاحب النعجة الواحدة كلامه على وجه هيّج رحمة النبي داود وعطفه.
فقضى (عليه السلام) طبقاً لكلام المدعي من دون الاستماع إلى كلام المدعى عليه، وقال: (لقد ظلمك بسوَال نعجتك إلى نعاجه) .
ولما تنبّه أنّ ما صدر منه كان غير لائق بساحته، وانّ رفع الشكوى إليه كان فتنة وامتحاناً منه سبحانه بالنسبة إليه (فاستغفر ربّه وخر راكعاً وأناب) .
إنّ القرائن الحافة بالآية تشعر بأنّ الخصمين لم يكونا من جنس البشر، وهذه القرائن عبارة عن:
1. تسوّرهم المحراب ودخولهم عليه دخولاً غير عادي مع أنّ طبع الحال يقتضي أن يكون محرابه محفوفاً بالحرس ولا أقل بمن يطلعه على الاَمر، فلو كان الدخول بإذنهم كان داود (عليه السلام)مطّلعاً عليه ولم يكن هناك أىّ فزع.
2. خطاب الخصمين لداود (عليه السلام) بقولهم: (لا تخف) مع أنّ هذا الخطاب لا يصح أن تخاطب به الرعية الراعي، وطبيعة الحال تقتضي أن يخاطب به الراعي الرعية.
3. انّ خطابهما لداود بما جاء في الآية، أشبه بخطاب ضيف إبراهيم له(عليه السلام)، يقول سبحانه: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)(1) ، ويقول سبحانه: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) .(2) 4. تنبهه (عليه السلام) بأنّه كان فتنة من الله له وامتحاناً منه، وهي تشعر بأنّ الواقعة لم تكن عادية، وهذا يناسب كون الدعوى مطروحة من جانبه سبحانه عن طريق الملائكة.
5. انّ الهدف من طرح تلك الواقعة كان لغاية تسديده في خلافته وحكمه بين الناس حتى يمارس القضاء بالنحو اللائق بساحته ولا يغفل عن التثبت
____________
1. الحجر: 51 ـ 53.
2. الذاريات: 28.
نعم كانت القصة وطرح الشكوى عنده أمراً حقيقياً كقصة ضيف إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا بصورة الروَيا وما أشبهها.
4. كون الاستغفار لاَجل ترك الاَولى
استدلت المخطّئة باستغفاره وإنابته إلى الله، على صدور ذنب منه ولكنّه لا يدل على ذلك:
أمّا أوّلاً: انّ قضاءه لم يكن قضاء باتاً خاتماً للشكوى، بل كان قضاء على فرض السوَال، وإنّ من يملك تسعاً وتسعين نعجة ولا يقتنع بها ويريد ضم نعجة أخيه إليها، ظالم لاَخيه، وكان المجال بعد ذلك بالنسبة إلى المعترض مفتوحاً وإن كان الاَولى والاَليق بساحته هو أنّه إذا سمع الدعوى من أحد الخصمين، أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها ولا يتسرع في القضاء ولو بالنحو التقديري.
وإنّما بادر إليه لاَنّه (عليه السلام) فوجىَ بالقضية ودخل عليه المتخاصمان بصورة غير عادية فلم يظهر منه التثبت اللائق به.
ولمّا تنبّه إلى ذلك وعرف أنّ ما وقع، كان فتنة وامتحاناً من الله بالنسبة إليه (استغفر ربّه وخر راكعاً وأناب) تداركاً لما صدر منه ممّا كان الاَولى تركه، أوّلاً، وشكراً وتعظيماً لنعمة التنبّه الذي نال به فوراً بعد الزلّة، ثانياً.
وثانياً: انّ من الممكن أن يكون قضاوَه قبل سماع كلام المدّعى عليه، لاَجل انكشاف الواقع له بطريق من الطرق وانّ الحق مع المدّعي، فقضى بلا
وثالثاً: لما كانت الشكوى مرفوعة إليه من قبل الملائكة، ولم يكن ذلك الظرف ظرف التكليف، كانت خطيئة داود في ظرف لا تكليف هناك، كما أنّ خطيئة آدم (عليه السلام) كانت في الجنة ولم تكن الجنّة دار تكليف، ومع ذلك كلّه لمّا كان التسرع في القضاء بهذا الوجه أمراً مرغوباً عنه، استغفر داود وأناب إلى الله استشعاراً بخطر المسوَولية بحيث يعد ترك الاَولى منه ذنباً يحتاج إلى الاستغفار.
نعم قد وردت في التفاسير أحاديث في تفسير الآية لا يشك ذو مسكة من العقل أنّها إسرائيليات تسربت إلى الاَُمّة الاِسلامية عن طريق أحبار اليهود ورهبان المسيحية، فالاَولى الضرب عنها صفحاً، وسياق الآيات يكشف عن أنّ زلته لم تكن إلاّ في أمر القضاء فقط لا ما تدّعيه جهلة الاَحبار من ابتلائه بما يخجل القلم عن ذكره، ولاَجله يقول الاِمام على (عليه السلام) في حق من وضع هذه الترهات أو نسبها إلى النبي داود (عليه السلام): "لا أُوتى برجل يزعم أنّ داود تزوج امرأة "أُوريا" إلاّ جلدته حدّين: حدّاً للنبوة وحدّاً للاِسلام".(1)
____________
1. مجمع البيان: 4/472. ط. المكتبة العلمية الاِسلامية ـ طهران.
7
عصمة سليمان (عليه السلام)
ومسألة عرض الصافنات الجياد وطلب الملك
إنّ سليمان النبي (عليه السلام) أحد الاَنبياء وقد ملك من القدرة أروعها ومن السيطرة والسطوة أطولها، وآتاه الله الحكم والحلم والعلم، قال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً)(1) ، وقال عز من قائل: (وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمَاً)(2) ، وعلّمه منطق الطير قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ)(3) صلا، ووصف الله قدرته بقوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الاَنْسِ وَ الطَّيْرِ)(4) ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في توصيف قدرته وسعة علمه وعلو درجاته.
روى أصحاب السير: كان سليمان صلى الصلاة الاَُولى، وقعد على كرسيه والخيل تعرض عليه حتى غابت الشمس. فقال: "آثرت حبَّ الخيل على ذكر ربّي، وأنّ هذه الخيل شغلتني عن صلاة العصر" فأمر برد الخيل فأخذ يضرب سوقها وأعناقها، لاَنّها كانت سبب فوت صلاته.(5)
____________
1. النمل: 15.
2. الاَنبياء: 79.
3. النمل: 16.
4. النمل: 17.
5. تفسير الطبري: 23/99 ـ 100؛ الدر المنثور: 5/309.
فهل لما ذكروه مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، أو أنّ الآيات تهدف إلى أمرٍ آخر خفي على هوَلاء، وأنّهم أخذوا ما ذكروه من علماء أهل الكتاب، كما سيوافيك بيانه؟
ونقد هذه القصة المزعومة يتوقف على توضيح مفاد الآيات حتى يقف القارىَ على أنّـها من قبيل التفسير بالرأي، الممنوع، ومن تلفيقات علماء أهل الكتاب التي حمّلت على القرآن وهو بريء منها.
أقول:
1. (الصافنات) : جمع "الصافنة"، وهي الخيل الواقفة على ثلاث قوائم، الواضعة طرف السنبك الرابع على الاَرض حتى يكون على طرف الحافر.
2. (الجياد) : جمع "الجواد"،وهي السراع من الخيل، كأنّها تجود بالركض.
3. (الخير) : ضد "الشر"، وقد يطلق على المال كما في قوله سبحانه: (إنْ تَرَكَ خَيراً)(3) ، والمراد منه هنا هي "الخيل"، والعرب تسمّى الخيل خيراً،
____________
1. مجمع البيان ناسباً إلى "القيل": 4/475.
2. ص: 30 ـ 33.
3. البقرة: 180.
4. "الحب": ضد البغض، قال في اللسان: أحببته وحببته بمعنى واحد.
5. (حب الخير) : بدل عن المفعول المحذوف، وتقديره إنّي أحببت الخيل حبَّ الخير، ويريد أنّ حبي للخيل نفس الحب للخير، لاَنّ الخيل كما عرفت وسيلة نجاح الاِنسان في حياته الفردية والاجتماعية، خصوصاً عند الجهاد مع العدو والهجوم عليه، ويحتمل أن يكون (حب الخير) مفعولاً لا بدلاً عن المفعول.
6. (عن ذكر ربّي) : بيان لمنشأ حبّه للخير وسببه، وأنّ حبه له ناش عن ذكر ربّه.
وتقدير الجملة: أحببت الخير حبّاً ناشئاً عن ذكر الله سبحانه وأمره، حيث أمر عباده المخلصين بالاِعداد للجهاد ومكافحة الشرك وقلع الفساد بالسيف والخيل، ولاَجل ذلك قمت بعرض الخيل، كل ذلك امتثالاً لاَمره سبحانه لا إجابة لدعوة الغرائز التي لا يخلو منها إنسان كما أشار إليه سبحانه بقوله: (زُيّنَ للِنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ و الْبَنِينَ وَ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالاَنْعَامِ والْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ)(1) .
____________
1. آل عمران: 14.
7. فاعل الفعل في قوله: (حتى توارت بالحجاب) أي الصافنات الجياد والمقصود: إنّ الخيل أخذت بالركض حتى غابت عن بصره.
8. انّ الضمير في قوله: (ردّوها) يرجع إلى الخيل التي تدل عليها الصافنات الجياد، والمقصود أنّه أمر بردّها عليه بعدما غابت عن بصره.
9. وعند ذلك يطرح السوَال، وهو: أنّه لماذا أمر بالرد، وما كان الهدف منه؟ فبيّنه بقوله: (فطفق مسحاً بالسوق والاَعناق) أي شرع بمسح أعراف خيله وعراقيبها بيده تقديراً لركابها ومربيها الذين قاموا بواجبهم بإعداد وسائل الجهاد.
إلى هنا اتضح مفاد مفردات الآية وجملها، وعلى هذا تكون الآيات هادفة إلى تصوير عرض عسكري قام به أحد الاَنبياء ذوي السلطة والقدرة في أيّام ملكه وقدرته.
وحاصله: انّ سليمان النبي (الذي أشار القرآن إلى ملكه وقدرته وسطوته وسيطرته على جنوده من الاِنس والجن وتعرّفه على منطق الطير، إلى غير ذلك من صنوف قدرته وعظمته التي خصصها به بين الاَنبياء) قام في عشية يوم بعرض عسكري، وقد ركب جنوده من الخيل السراع، فأخذت تركض من بين يديه إلى أنْ غابت عن بصره، فأمر أصحابه بردّها عليه، حتّى إذا ما وصلت إليه قام تقديراً لجهودهم بمسح أعناق الخيل وعراقيبها.
____________
1. الاَنفال: 60.
وهذا هو الذي تهدف إليه الآيات وينطبق عليها انطباقاً واضحاً، فهلّم معي ندرس المعنى الذي فرض على الآيات، وهي بعيدة عن تحمّله وبريئة منه.
نقد التفسير المفروض على القرآن
إنّ في نفس الآيات قرائن وشواهد تدل على بطلان القصة التي اتخذت تفسيراً للآيات، وإليك بيانها:
1. انّ الذكر الحكيم يذكر القصة بالثناء على سليمان ويقول: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدِ إِنَّهُ أوَّابٌ) فاسلوب البلاغة يقتضي أن لا يذكر بعده ما يناقضه ويضادّه، فأين وصفه بحسن العبودية والرجوع إلى الله في أُمور دينه ودنياه، من انشغاله بعرض الخيل وغفلته عن الصلاة اامفروضة عليه؟!
ولو فرضت صحة الواقعة، فلازم البلاغة ذكرها في محل آخر، لا ذكرها بعد المدح والثناء المذكورين في الآية.
2. انّما يصح حمل قوله: (أحببت حب الخير عن ذكر ربّي) على ما جاء في القصة إذا تضمن الفعل (أحببت) معنى الترجيح والاختيار، والتقدير أي أحببت حب الخير مقدّماً إيّاه على ذكر ربّي ومختاراً إيّاه عليه، وهو يحتاج إلى
____________
1. وقد اختار هذا التفسير السيد المرتضى في تنزيه الاَنبياء: 95 ـ 97، والرازي في مفاتيح الغيب: 7/136، والمجلسي في البحار: 14/103 ـ 104 من الطبعة الحديثة.
3. ولو قلنا بالتضمين، فيجب أن يقال مكان (عن ذكر ربّي) "على ذكر ربي"، أي أحببت حب الخير واخترته على ذكر الله، كما في قوله سبحانه: (فَاسْتَحَبُّوا العَمَى على الهُدَى)(1) ، وقوله تعالى: (إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الاِيمان)(2) . 4. انّ ضمير الفعل في قوله تعالى: (توارت) يرجع إلى الصافنات المذكورة في الآية، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وليست مذكورة في الآية، ودلالة لفظ (بالعشى) عليها ضعيفة جداً.
5. الضمير في قوله: (ردّوها) على المختار ـ يرجع إلى الصافنات، وعلى التفسير المفروض يرجع إلى الشمس، وهي غير مذكورة.
6. انّ الخطاب في قوله: (ردّوها) على المختار متوجه إلى روَساء الجنود وهو واقع موقعه، وعلى التفسير المنقول عن بعضهم(3) يكون متوجهاً إلى الملائكة، وهو لا يناسب، إلاّ كونه منه سبحانه لعلوّه واستعلائه، لا من مثل سليمان بالنسبة إليهم.
7. لا شك أنّ للصفوة من عباده سبحانه ولاية تكوينية ومقدرة موهوبة على التصرّف في الكون بإذنه سبحانه، لغايات مقدّسة لاِثبات نبوّتهم وكونهم مبعوثين من الله سبحانه لهداية عباده، وتدلّ عليها آيات كثيرة تعرضنا لبعضها في كتابنا مفاهيم القرآن(4) . ولم يكن المقام هنا مناسباً للتحدّي حتى يتوصل إلى
____________
1. فصلت: 17.
2. التوبة: 23.
3. نسبه الطبرسي إلى "القيل" كما مرَّ.
4. لاحظ الجزء الاَول: 444 ـ 446.
8. لو كان المراد من (ردّوها) طلب رد الشمس من ملائكته سبحانه، فاللازم أن يذكر الغاية من ردّها بأن يقول: حتى أتوضّأ وأُصلي، وليس لهذا ذكر في الآية، بل المذكور قوله: (فطفق مسحاً بالسوق والاَعناق) ، وهذا يعرب عن أنّ الغاية المترتبة على الرد هي مسح السوق والاَعناق، لا التوضّوَ والصلاة.
9. انّ تفسير المسح بالقطع، تفسير بلا دليل، إذ المتبادر من المسح هو إمرار اليد عليها لا قطعها واجتثاثها، ولو كان هذا هو المراد ممّا ورد في القصة فالاَنسب أن يقول: فطفق ضرباً بالسوق، لا مسحاً.
10. انّ التفسير المذكور ينتهي إلى كذّاب الاَحبار، وهو كعب الذي لم يزل يدسّ في القصص والاَخبار بنزعاته اليهودية، ومن أراد أن يقف على دوره في الوضع والكذب وغير ذلك في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى أبحاثنا في الملل والنحل.
11. انّ بعض المفسرين قاموا بتفسير قوله: (فطفق مسحاً بالسوق والاَعناق) بمسحها بالماء كناية عن الوضوء. وهو في ضعفه كما ترى، إذ لو كان المراد ما ذكره ذلك البعض، فلماذا بدل الغسل بالمسح، والساقين بالسوق والعنق بالاَعناق، مع أنّه لم يكن لسليمان إلاّ ساقان وعنق واحد؟
12. إنّ قتل الخيل التي عبّر عنها نفس سليمان (بالخير) بحجة أنّ الاشتغال بعرضها صار سبباً لفوت الصلاة أشبه بعمل إنسان لا يملك من العقل شيئاً، وحاشا سليمان الذي آتاه الله الحكم والعلم وسلّطه على الاَرض من
وفي الختام نلفت نظر القارىَ إلى ما ذكره "سيد قطب" في تفسير هذه الآيات في تفسيره قال:
أمّا قصة الخيل: انّ سليمان (عليه السلام) استعرض خيلاً له بالعشي، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب، فقال: ردّوها علىّ، فردّوها عليه، فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربّه.
وفي رواية: روي أنّه جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها، لاَنّها كانت خيلاً في سبيل الله.
ثم قال: وكلتا الروايتين لا دليل عليها، ويصعب الجزم بشيء منها.(1) والعجب من السيد أنّه أعطى الروايتين مكانة واحدة مع أنّ الاَُولى تضاد حكم العقل، وسيرة الاَنبياء والعلماء، لذلك يسهل الجزم ببطلانها، وأمّا الثانية فهي تنطبق على ظاهر الآيات كمال الانطباق، وهو المروي عن حبر الاَُمّة ابن عباس.
وقد نقل الرواية الاَُولى عن أُناس كانوا لا يتحرّزون من الاَخذ عن الاَحبار المستسلمين، فنقلها الطبري في تفسيره، عن السدي وقتادة، حتى أنّ الطبري مع نقله أُولى الروايتين اختار قول ابن عباس واستوجهه، وقال: إنّ نبي الله لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب سوى أنّه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها.(2)
____________
1. في ظلال القرآن الكريم: 23/100.
2. تفسير الطبري: 3/100.