والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الاِيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ) ، ويقول سبحانه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(1) ، والظاهر من الآية أنّ يونس بعدما نجا ممّا ابتلي به، أرسل إلى نفس قومه، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتعوا في ظل الاِيمان إلى الوقت الموَجل في علم الله.
وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الاِيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل، بعد كشفه، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَ الْجَرَادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفَادِعَ وَ الدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُوَْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ)(2)
____________
1. الصافات: 147 ـ 148.
2. الاَعراف: 133ـ 135.
والاَوّل من الاِيمانين يخرق حجب الجهل، ويشاهد الاِنسان عبوديته بعين القلب وعظمة الرب ونور الاِيمان، فيصير خاضعاً أمام الله، يعبده ولا يعبد غيره.
والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والاِلجاء، فيوَمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه، ولا يعد ذلك الاِيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف، قال سبحانه: (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الاَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُوَْمِنينَ)(1)
ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الاَنبياء وإرسال الرسل، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم، وإلاّ لم تتخلف عن مراده وأصبح الناس كلّهم موَمنين إيماناً لا عن اختيار، ولكن بما أنّه لا قيمة للاِيمان الخارج عن إطار الاختيار والناشىَ عن الاِلجاء والاضطرار، لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم، وإليه يشير قوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الاَرض كلهم جميعاً) .
2. هل كان كشف العذاب تكذيباً لاِيعاد يونس؟
قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يوَيد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عز من قائل: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ)(2)
____________
1. يونس: 99.
2. غافر: 51.
هذه سنة الله سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.
وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل، فقد تنبّأ بنزول العذاب، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه(4) فبادروا بالتوبة والاِنابة إلى الله حسب إرشاد عالمهم، فكشف عنهم العذاب، وليس في هذا تكذيب ليونس، لو لم يكن فيه تصديق حيث وقفوا على صدق مقالته غير أنّ لله سبحانه سنناً في الحياة، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة، والعفو عنه لاِنابته أيضاً سنّة، ولكل موضع خاص، وهذا
____________
1. هود: 65، 67 ـ 68.
2. الاَعراف: 96.
3. الاَنفال: 53.
4. لاحظ تفسير الطبري: 11/117 ـ 118؛ الدر المنثور: 3/317 ـ 318؛ البحار: 14/396 من الطبعة الحديثة.
3. أسئلة ثلاثة حول عصمته
ألف. ما معنى كونه مغاضباً؟ ومن المغضوب عليه؟
ب. ماذا يراد من قوله: (فظن أن لن نقدر عليه) ؟
ج. كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين؟
هذه هي الاَسئلة الحسّاسة في قصة يونس (عليه السلام)، وقد تمسّك بها المخطّئة، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد:
أمّا الاَوّل: فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.
ولكنّه تفسير بالرأي، بل افتراء على الاَنبياء، وسوء ظن بهم، ولا يغاضب ربَّه إلاّ من كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله، ومثل هذا لا يليق بالموَمن فضلاً عن الاَنبياء.
وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم، فخرج من بينهم.(2)
____________
1. مطبوعة منتشرة.
2. تنزيه الاَنبياء: 102.
وأمّا تفسيره بانّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الاَولياء والاَنبياء.
وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه ـ كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه ـ ابتلاه الله بالحوت فالتقمه.
فوقف على أنّه ترك ما هو الاَولى فعلاً، فندم على عمله (فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت) .
ونقل الزمخشري في كشّافه: عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك، قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبى الله أن لا يقدر عليه؟
____________
1. بحار الاَنوار: 14/387.
2. الطلاق: 7.
3. الاِسراء: 30.
ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق، وهو المناسب لمفاد الآية، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما، خصوصاً الوجه الاَخير، لاَنّ الاَنبياء أجل شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان، فليس له سلطان على المخلصين من عباده، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه: (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(2)
وأمّا السوَال الثالث: فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه، وإن لم يكن عصياناً لاَمر مولاه، فالعطف والحنان المترقب من الاَنبياء غير ما يترقب من غيرهم، فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.
ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة، ويوَيده قوله سبحانه: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(3) ، فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية
____________
1. الكشاف: 2/335 ـ 336.
2. ص: 83.
3. القلم: 48.
ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة.(1) والوجهان: الاَوّل والثاني هما الصحيحان.
وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه: (إذ أبق إلى الفلك المشحون) ، فشبّه حاله بالعبد الآبق، وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لاِباق العبد من خدمة مولاه، فأخذه الله بذلك.
وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الاَليق بحال الاَنبياء تركه، وهو يدور بين أُمور ثلاثة: أمّا ترك قومه من دون إذن، أو طلب العذاب وكان الاَولى له الصبر، أو غضبه على نجاة قومه.
إلى هنا تم توضيح الآيات َلمهمة التي وقعت ظواهرها ذريعة لاَُناس يستهترون بالقيم والفضائل ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الاِلهية، وبقي الكلام في عصمة النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفيض القول فيها في البحث الآتى.
____________
1. بحار الاَنوار: 14/38.
الطائفة الثالثة
عصمة النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وما تمسّكت به المخطّئة
عصمة النبي الخاتم من العصيان والخطأ، من فروع عصمة الاَنبياء كلّهم، فما دلّت على عصمتهم من الآيات، تدلّ على عصمته أيضاً بلا إشكال، ولا نحتاج بعد ذلك إلى إفراد البحث عنه في هذا المجال، فقد أفاض الله عليه ذلك الكمال كما أفاض على سائر الاَنبياء من غير استثناء، فهو معصوم في المراحل الثلاث التالية:
1. مرحلة تلقّي الوحي وحفظه وأدائه إلى الاَُمّة.
2. مرحلة القول والفعل، وعلى ذلك، فهو من عباده المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون.
3. مرحلة تطبيق الشريعة وغيرها من الاَُمور المربوطة بحياته، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسهو ولا يخطأ في حياته الفردية والاجتماعية.
وما دلّ على عصمة تلك الطائفة في هذه المراحل الثلاث دلّ على عصمته فيها أيضاً.
أمّا ما يدل على عصمته من العصيان والخلاف، فيكفي في ذلك قوله سبحانه: (وإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لاَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)(1) أنّ المشركين قالوا له: كف عن شتم آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، واطرد هوَلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان(2) حتى نجالسك ونسمع منك، فطمع في إسلامهم، فنزلت الآية.(3) ولتوضيح مفاد الآيات نبحث عن أُمور:
1. أنّ الآيات كما سنرى تشير إلى عصمته، ومع ذلك استدلت المخطّئة بها على خلافها، وهذا من عجائب الاَُمور، إذ لا غرو في أنّ تتمسك كل فرقة بقسم من الآيات على ما تتبنّاه، وإنّما العجب أن تقع آية واحدة مطرحاً لكلتا الفرقتين، فيفسرها كلّ حسب ما يتوخّاه، مع أنّ الآية لا تتحمل إلاّ معنى واحداً لا معنيين متخالفين.
2. انّ الضمير في كلا الفعلين (كادوا ليفتنونك) يرجع إلى المشركين،
____________
1. الاِسراء: 73 ـ 75.
2. الصنان: نتن الاِبط.
3. مجمع البيان: 3/431.
3. انّ قوله: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) يخبر عن دنو المشركين من إزلاله وصرفه عمّا أُوحي إليه، لا عن دنو النبي وقربه من الزلل والانصراف عمّـا أُوحي إليه، وبين المعنيين فرق واضح.
4. انّ قـوله سـبحانه: (ولـولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً) مركب من جملتين، إحداهما شرطية، والا َُخرى جزائية، أمّا الاَُولى فقوله: (ولولا أن ثبتناك) ، وأمّا الا َُخرى فقوله: (لقد كدت تركن إليهم) ، وبما أنّ لولا في الآية امتناعية(1) تدل على امتناع الجزاء لوجود التثبيت، مثل قولنا: لولا على لهلك عمر، فامتنع هلاكه لوجوده.
5. وليس الجزاء هو الركون بمعنى الميل، بل الجزاء هو القرب من الميل والانصراف كما يدل عليه قوله: (لقد كدت تركن) ، فامتنع القرب من الميل فضلاً عن نفس الميل لاَجل وجود تثبيته.
6. انّ تثبيته سبحانه لنبيّه لم يكن أمراً مختصاً بالواقعة الخاصّة، بل كان أمراً عامّاً لجميع الوقائع المشابهة لتلك الواقعة، لاَنّ السبب الذي أوجب إفاضة التثبيت عليه فيها، يوجب إفاضته عليه في جميع الوقائع المشابهة، ولا معنى
____________
1. يقول ابن مالك:
لولا ولوما يلزمان الابتداإذا امتناعاً بوجود عقدا
والشرط في الآية موَوّل إلى الاسم أي لولا تثبيتنا، لقد كدت تركن إليهم.
وتوهم اختصاصها بالواقعة التي تآمر المشركون فيها لاِزلاله من كلمات رماة القول على عواهنه.
7. انّ التثبيت في مجال التطبيق فرع التثبيت في مجال التفكير، إذ لا يستقيم عمل إنسان مالم يتم تفكيره، وعلى ذلك يفاض على النبي السداد مبتدئاً من ناحية التفكّر منتهياً إلى ناحية العمل، فهو في ظل هذا السداد المفاض، لا يفكّر بالعصيان والخلاف فضلاً عن الوقوع فيه.
8. انّ تسديده سبحانه، لا يخرجه عن كونه فاعلاً مختاراً في عامة المجالات: الطاعة والمعصية، فهو بعد قادر على النقض والاِبرام والانقياد والخلاف، ولاَجل ذلك يخاطبه في الآيات السابقة بقوله: (إذاً لاَذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) .
وعلى ضوء ما ذكرنا فالآية شاهدة على عصمته، ودالة على عنايته سبحانه برسوله الاَكرم فيراقبه ويراعيه ولا يتركه بحاله، ولا يكله إلى نفسه، كل ذلك مع التحفّظ على حريته واختياره في كل موقف.
فقوله سبحانه: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) نظير قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)(1) لكن الاَوّل راجع إلى صيانته عن العصيان، والثاني ناظر إلى سداده عن السهو والخطاء في الحياة، وسيوافيك توضيح الآية الثانية في البحث الآتى.
____________
1. النساء: 113.
الاَوّل: انّـها دلّت على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قرب من أن يفتري على الله، والفرية على الله من أعظم الذنوب.
الثاني: انّها تدل على أنّه لولا أنّ الله تعالى ثبته وعصمه لقرب أن يركن إلى دينهم.
الثالث: أنّه لولا سبق جرم وجناية لم يحتج إلى ذكر هذا الوعيد الشديد.
والجواب عن الاَوّل: أنّ "كاد" معناها المقاربة، فكان معنى الآية قرب وقوعه في الفتنة، وهذا لا يدل على الوقوع.
وعن الثاني: أنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء، لثبوت غيره، نقول: "لولا على لهلك عمر" ومعناه أنّ وجود على (عليه السلام) منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك هاهنا فقوله: (ولولا أن ثبتناك) معناه لولا حصل تثبيت الله لك يا محمد، فكان تثبيت الله مانعاً من حصول ذلك الركون.
وعن الثالث: انّ التهديد على المعصية لا يدل على الاِقدام عليها، والدليل عليه آيات منها قوله تعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الاَقاويل * لاَخذنا منه باليمين) الآيات، وقوله تعالى: (لئن أشركت) وقوله: (ولا تطع الكافرين) .(1)
أدلة المخطّئة
لقد اطّلعت في صدر البحث على عصمة النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنّ هناك
____________
1. مفاتيح الغيب: 5/420.
الاَُولى: العصمة والخطابات الحادة
هناك آيات تخاطب النبي بلحن حاد وتنهاه عن اتّباع أهواء المشركين، والشرك بالله، والجدال عن الخائنين، وغير ذلك، ممّا يوهم وجود أرضية في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصدور هذه المعاصي الكبيرة عنه، وإليك هذه الآيات مع تحليلها:
1. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلـىٍّ وَلا نَصِيرٍ)(1)
وقد جاءت الآية في نفس هذه السورة بتفاوت في الذيل، فقال بدل قوله: (مَالَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِىٍّ ولا نَصِير) ، (إِنَّكَ إِذاً لمِنَ الظَّالِمِينَ)(2) ، كما جاءت أيضاً في سورة الرعد، غير أنّه جاء بدل قوله: (و لا نصير ولا واق) .
وعلى أي حال فقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم وإلاّ فلا وجه للوعيد.
ولكن الاستدلال على درجة من الوهن، إذ لا تدل القضية الشرطية إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء، لا على تحقّق الطرفين، ولا على إمكان تحقّقهما، وهذا من الوضوح بمكان، قال سبحانه: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا)(3) وليس فيها أىّ دلالة على تحقّق المقدّم أو التالي، وبما ذكرنا يتضح حال الآيتين
____________
1. البقرة: 120.
2. البقرة: 145.
3. الاَنبياء: 22.
2. انّه سبحانه يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقضايا شرطية كثيرة قال سبحانه: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً)(1)
ومن المعلوم المقطوع به أنّه سبحانه لا يستلب منه ما أوحى إليه.
3. قال سبحانه: (وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرينَ)(2) ، وقال أيضاً: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَقَاوِيلِ * لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزينَ)(3) فهذه الآيات ونظائرها التي تحكى عن القضية الشرطية لا تدلّ على ما يرتئيه الخصم بوجه من الوجوه، أي وجود أرضية متوقعة لصدور هذه القضايا، وذلك لوجهين:
ألف: أنّ هذه الآيات تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنّه بشر ذو غرائز جامحة بصاحبها، ففي هذا المجال يصح أن يخاطب النبي بأنّه لو فعل كذا لقوبل بكذا، وهذا لا يكون دليلاً على إمكان وقوع العصيان منه بعدما تشرّف بالنبوّة وجُهّز بالعصمة وعُزّز بالرعاية الربانية، فالآيات التي تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما هو بشر لا تعم ذلك المجال.
ب. أنّ هذه الآيات تركز على الجانب التربوي، والهدف تعريف الناس بوظائفهم وتكاليفهم أمام الله سبحانه، فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبى العظمة ـ محكوماً
____________
1. الاِسراء: 86 ـ 87.
2. الزمر: 65.
3. الحاقة: 44 ـ 47.