الصفحة 210
بهذه الاَحكام ومخاطباً بها، فغيره أَولى أن يكون محكوماً بها.

وعلى ذلك فتكون الآيات واردة ذمجرى: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، فهوَلاء الذين يتخذون تلك الآيات وسيلة لاِنكار العصمة، غير مطّلعين على "ألف باء" القرآن، وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات النازلة في هذا المجال، يقول سبحانه عندما يأمره بالصلاة إلى المسجد الحرام:

4. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(1) ، ويريد بذلك تعليم الناس أن لا يقيموا وزناً لاِرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله: (سَيَقُولُ الْسُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)(2)

5. انّه سبحانه يبطل إلوهية المسيح (عليه السلام) بحجّة أنّه وليد مريم "عليها السلام" بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم، قال سبحانه: (إنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون) ، فعند ذلك يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(3) .

ولا شك أنّ الخطاب جرى مجرى ما ذكرنا: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، فإنّ النبي الاَعظم بعدما اتصل بعالم الغيب وشاهد ورأي الملائكة وسمع كلامهم، هل يمكن أن يتسرّب إليه الشك حتى يصح أن يخاطب بقوله: (فلا تكن من الممترين) على الجد والحقيقة؟

6. انّه سبحانه يخاطب النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)عندما جلس على كرسى القضاء

____________

1. البقرة: 147.

2. البقرة: 142.

3. آل عمران: 59 ـ 60.


الصفحة 211
بقوله: (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً)(1) . فالآية تكلّف النبي أن لا يدافع عن الخائن، ومن الواضح أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن في زمن حياته مدافعاً عن الخائن، وانّما هو خطاب عام أُريد منه تربية المجتمع وتوجيهه إلى هذه الوظيفة الخطيرة، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.

7. وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُن لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(2)

وأخيراً نقول: إنّ سورة الاِسراء تحتوي على دساتير رفيعة المستوى، ترجع إلى وظائف الاَُمّة: الفردية والاجتماعية، وهو سبحانه يبتدىَ الدساتير بقوله: (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولا)(3) ، وفي الوقت نفسه يختمها بنفس تلك الآية باختلاف يسير فيقول: (ولا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) .(4) فهذه الخطابات وأشباهها وإن كانت موجهة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن قصد بها عامة الناس لنكتة سبق ذكرها، وإلاّ فالنبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم من أن يشرك بالله تعالى بعد تشرّفه بالنبوّة، كيف، وهو الذي كافح الوثنية منذ نعومة أظفاره إلى أن بعث نبيّاً لهدم الشرك وعبادة غير الله تبارك وتعالى.

____________

1. النساء: 107.

2. النساء: 105.

3. الاِسراء: 22.

4. الاِسراء: 39.


الصفحة 212
وقس على ذلك كلّما يمرُّ عليك من الآيات التي تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحن شديد، فتفسير الجميع بالوجهين اللّذين قدمنا ذكرهما.

الآية الثانية: العصمة والعفو والاعتراض

كان النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدد خلق مجتمع مجاهد يقف في وجه الروم الشرقية، فأذن بالجهاد إلى ثغرها (تبوك)، فلبّت دعوته زرافات من الناس بلغت ثلاثين ألف مقاتل، إلاّ أنّ المنافقين أبوا الاشتراك في صفوف المجاهدين، فتعلّقوا بأعذار واستأذنوا في الاِقامة في المدينة، وأذن لهم النبي الاَكرم، وفي هذا الشأن نزلت الآية التالية:

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)(1)

والآية تصرّح بعفوه سبحانه عنه كما يقول: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) ، كما تتضمن نوع اعتراض على النبي حيث أذن لهم في عدم الاشتراك، كما يقول سبحانه: (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، وعندئذ يفرض هذا السوَال نفسه:

ألف: كيف يجتمع العفو مع العصمة؟

ب: ما معنى الاعتراض على إذن النبي؟

أقول: أمّا الجملة الاَُولى: فتوضيحها بوجهين:

الاَوّل: أنّها إنّما تدل على صدور الذنب ـ على فرض التسليم ـ إذا كانت جملة خبرية حاكية عن شمول عفوه سبحانه للنبي في الزمان الماضى، وأمّا إذا

____________

1. التوبة: 43.


الصفحة 213
كانت خبرية ولكن أُريد منها الاِنشاء وطلب العفو، كما في قوله: (أيّدك الله) (غفر الله لك) ، فالدلالة ساقطة، إذ طلب العفو والمغفرة للمخاطب نوع دعاء وتقدير وتكريم له.

الثاني: ليس على أديم الاَرض إنسان يستغنى عن عفوه ومغفرته سبحانه حتى الاَولياء والاَنبياء، لاَنّ الناس بين كونهم خاطئين في الحياة الدنيا، وكونهم معصومين، ووظيفة الكل هي الاستغفار.

أمّا الطائفة الاَُولى فواضحة، وأمّا الثانية فلوقوفهم على عظمة الرب وكبر المسوَولية، وانّ هنا أُموراً كان الاَليق تركها، أو الاِتيان بها، وإن لم يأمر بها الرب أمر فرض، أو لم ينه عنها نهي تحذير، والمترّقب منهم غير المترقب من غيرهم.

ولاَجل ذلك كان الاَنبياء يستغفرون كل يوم وليلة قائلين: "ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك".

وحاصل الوجهين: أنّ طلب العفو نوع تكريم واحترام للمخاطب بصورة الدعاء، وليس إخباراً عن واقعية محقّقة حتى يستلزم صدور ذنب من المخاطب، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ كل إنسان مهما كان في الدرجة العالية من التقوى، يرى في أعماله حسب عرفانه واستشعاره عظمة الرب وكبر المسوَولية، أنّ ما هو الاَليق خلاف ما وقع منه، فتوحي إليه نفسه الزكية، طلب العفو والمغفرة لاِزالة آثار هذا التقصير في الآجل والعاجل.

وأمّا الجملة الثانية:

فلا شك أنّها تتضمن نوع اعتراض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن لا على صدور ذنب أو خلاف منه، بل لاَنّ إذنه كان مفوتاً لمصلحة له، وهو معرفة الصادق في

الصفحة 214
إيمانه من الكاذب في ادّعائه، كما يعرب عنه قوله: (حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) .

توضيحه: أنّ المنافقين كانوا مصمّمين على عدم الخروج مع الموَمنين إلى غزو الروم، وكان لهم تخطيط في غياب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبطله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتخليفه علياً مكانه، قال سبحانه: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)(1) ، والآية تدلُّ على أنّهم كانوا عازمين على الاِقامة في المدينة، وكان الاستئذان نوع تغطية لقبح عملهم حتى يتظاهروا بأنّ عدم ظعنهم مع الموَمنين كان بإذن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن جانب آخر أنّهم لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلاّ فتنة وخبالاً وإضعافاً لعزائم الموَمنين، وفيهم سمّـاعون لهم يتأثرون بدعاياتهم وإغوائهم كما يقول سبحانه: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَ لاَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(2)

وبما أنّهم كانوا عازمين على القعود أوّلاً، وعلى الاِضرار والفتنة في جبهات الحرب ثانياً، لذلك لم يكن في الاِذن أيّة تبعة سوى فوت تميّز الخبيث من الطيب، ومعرفة المنافق من الموَمن، إذ لو لم يأذن لهم لظهر فسقهم وتمردهم على كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومثل هذا لا يعد عمل خلاف حتى يكون الاعتراض عليه دليلاً على صدور الذنب.

ولو كانت المخطّئة عارفة بأساليب البلاغة وفنون الكلام لعرفت أنّ

____________

1. التوبة: 46.

2. التوبة: 47.


الصفحة 215
اسلوب الكلام في الآية، اسلوب عطف وحنان، وأشبه باعتراض الولى الحميم، على الصديق الوفي، إذا عامل عدوه الغاشم بمرونة ولين، فيقول بلسان الاعتراض: لماذا أذنت له، ولم تقابله بخشونة حتى تعرف عدوك من صديقك، ومن وفي لك ممّن خانك، على أنّه وإن فات النبي معرفة المنافق عن هذا الطريق لكنه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرح به القرآن في غير هذا المورد، فإنّ النبي الاَكرم كان يعرف المنافق من الموَمن بطريقين آخرين:

1. كيفية الكلام، ويعبّـر عنه القرآن بلحن القول، وذلك أنّ الخائن مهما أصر على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير الموَمنين (عليه السلام): "ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه".(1) وفي ذلك يقول سبحانه: (وَلَوْ نَشَاءُ لاَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)(2)

2. التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه قال: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُوَْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَن يَشاءُ)(3) ، والدقة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيب.

وعلى ذلك فلم يفت على النبي الاَكرم شىء وإن فاتته معرفة المنافق من هذا الطريق، ولكنّه وقف عليها من الطريق الآخر أو الطريقين الآخرين.

____________

1. نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 26.

2. محمد: 30.

3. آل عمران: 179.


الصفحة 216

الآية الثالثة: العصمة والاَمر بطلب المغفرة

إنّه سبحانه يأمر نبيّه الاَعظم، بطلب الغفران منه ويقول مخاطباً رسوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الْنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَ اسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(1) ويقول سبحانه: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُوَْمِنِينَ وَ الْمُوَْمِنَاتِ وَ اللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)(2) . وعندئذ يخطر في ذهن الاِنسان: كيف تجتمع العصمة مع الاَمر بطلب الغفران؟

أقول: التعرّف على ما مرّ في الآيتين ونظائرهما، رهن الوقوف على الاَصل المسلَّم بين العقلاء، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسوَولية متحالفان، وربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.

توضيح ذلك: انّ الاَحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح، ولا محيص عن الاِتيان بالواجب وترك الحرام، نعم هناك رخصة في ترك المستحب والاِتيان بالمكروه ولكن المترقب من العارف بمصالح الاَحكام ومفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، وترك المحرمات مع ترك المكروهات ولا يقصر عنه المباح، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.

فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسوَولية ما لا يتحمله غيره، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر، ولو صدر منه ما لا يليق، وتساهل في هذا

____________

1. النساء: 105 ـ 106.

2. محمد: 19.


الصفحة 217
الطريق، يتأكد منه الاستغفار وطلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسوَوليته.

وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر والبدوي، فالمرجوّ من الاَوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الاِنسانية، ولكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقف أشد وأكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.

وهذه الاَمثلة ونظائرها الوافرة تثبت الاَصل الذي أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ عظمة الشخصية وكبر المسوَولية متحالفان وأنّ الوظائف لا تنحصر في الاِتيان بالواجبات، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، وكلّما زاد العلم والعرفان توفرت الوظائف وتكثرت المسوَوليات، ولاَجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الاَولياء ذنباً، وهو في الواقع ليس بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل ذنباً إذا قيس إلى ما أُعطوا من الاِ يمان والمعرفة ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو، فإنّما هو لاَجل هذه الجهات.

نرى أنّ شيخ الاَنبياء نوحاً (عليه السلام) يقول: (رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِىَ مُوَْمِناً)(1) .

ويقتفيه إبراهيم (عليه السلام) ويقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُوَْمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ

____________

1. نوح: 28.


الصفحة 218
الْحِسَابُ)(1) .

ويقول النبي الاَعظم: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(2)

والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الاَعمال والطاعات وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.

وعلى ذلك يحمل ما رواه مسلم في صحيحه، عن المزنى، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "ليُغان على قلبي وإنّي لاَستغفر الله في اليوم مائة مرّة".(3) وقد ذكر المحدّثون حول الحديث نكات عرفانية من أراد التعرّف عليها، فليرجع إلى كتاب "شفاء القاضي".

يقول العلاّمة المحقّق علي بن عيسى الاِرْبِلي: الاَنبياء والاَئمّة: تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلّقة بالمبدأ، وهم أبداً في المراقبة، كما قال (عليه السلام): "اعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تره، فإنّه يراك" فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالاَكل والشرب والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه.

وإلى هذا أشار (صلى الله عليه وآله وسلم): "انّه ليُران على قلبي وإنّي لاَستغفر الله بالنهار سبعين مرّة" ولفظة سبعين ترجع إلى الاستغفار لا إلى الرين. وقوله: حسنات الاَبرار

____________

1. إبراهيم: 41.

2. البقرة: 285.

3. صحيح مسلم: 8/72، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. وقوله: "ليغان" من الغين بمعنى الستر والحجاب والمزن.


الصفحة 219
سيئات الاَقربين... فقد بان بهذا أنّه كان بعد اشتغاله في وقت ما، بما هو ضرورة للاَبدان معصية يستغفر الله منها، وعلى هذا فقس البواقي وكلّما يرد عليها من أمثالها... ثم قال: إنّ هذا معنى شريف يكشف بمدلوله حجاب الشبهة ويهدي به الله من حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمه.(1) وما ذكره من الجواب فإنّما يتمشّى مع الآيات التي تمسك بها المخالف، وأمّا الاَدعية التي اعترف فيها الاَئمّة بالذنب من قوله في الدعاء الذي علمه لكميل بن زياد: "اللّهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللّهم اغفر لى الذنوب التي تنزل النقم" فهذا من باب التعليم للناس.

وأمّا ما كانوا يناجون ربّهم في ظلمات الليل وفي سجداتهم، فيحمل على ما حققه العلاّمة الاِرْبِلي وأوضحنا حاله.

الآية الرابعة: العصمة وغفران الذنب

إذا كان النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه: ما تقدم منه وما تأخر ؟ قال سبحانه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً)(2)

الجواب: انّ الآية تعد أكبر مستمسك لمخطّئة عصمة الاَنبياء مع أنّ إمعان النظر في فقرات الآيات خصوصاً في جعل غفران الذنب غاية للفتح المبين، يوضح المقصود من الذنب وأنّ المراد منه الاتهامات والنسب التي كانت الاَعداء

____________

1. كشف الغمة: 3/43 ـ 45.

2. الفتح: 1 ـ 3.


الصفحة 220
تصفه بها، وانّ ذلك الفتح المبين دلّ على افتعالها وعدم صحتها من أساسها وطهر صحيفة حياته عن تلك النسب، وإليك توضيح ذلك ببيان أُمور:

1. ما هو المراد من الفتح في الآية؟

لقد ذكر المفسرون هنا وجوهاً، فتردّدوا بين كون المقصود فتح مكة، أو فتح خيبر، أو فتح الحديبية.

لكن سياق آيات السورة لا يساعد الاحتمالين الاَوّلين، لاَنّها ناظرة إلى قصة الحديبية والصلح المنعقد فيها في العام السادس من الهجرة، والفتح الذي يخبر عن تحقّقه ووقوعه، يجب أن يكون متحقّقاً في ذاك الوقت، وأين هو من فتح مكة الذي لم يتحقّق إلاّ بعد عامين من ذلك الصلح حيث إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتحها في العام الثامن من هجرته؟!

ولاَجل ذلك حاول من قال: إنّ المراد منه فتح مكة، أن يفسره: بأنَّ إخباره عن الفتح، بمعنى قضائه وتقديره ذلك الفتح، والمعنى قضى ربُّكَ وقدَّر ذاك الفتح المبين، فالقضاء كان متحقّقاً في ظرف النزول وإنْ لم يكن نفس الفتح متحقّقاً.

ولكنّه تكلّف غير محتاج إليه، وقصة الحديبية وإن كانت صلحاً في الظاهر على ترك الحرب والهدنة إلى مدّة معينة لكن ذلك الصلح فتح أبواب الظفر للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الجزيرة العربية، وفسح للنبي أن يتوجّه إلى شمالها ويفتح قلاع خيبر، ويسيطر على مكامن الشر والموَامرة، ويبعث الدعاة والسفراء إلى أرجاء العالم، ويسمع دعوته أُذن الدنيا، كل ذلك الذي شرحناه في أبحاثنا التاريخية كان ببركة تلك الهدنة، وإن كان بعض أصحابه يحقّرها ويندّد بها في أوائل الاَمر.


الصفحة 221
لكن مرور الزمان، كشف النقاب عن عظمتها وثمارها الحلوة، فصح أن يصفها القرآن: (الفتح المبين) .

وعلى كل حال: فسياق الآيات يَدل بوضوح على أنّ المراد من الفتح هو وقعة الحديبية قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُوَْتيِهِ أَجْرَاً عَظِيماً) .(1)

وأيضاً يقول: (لَقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُوَْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الْشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيباً) .(2) وقال أيضاً: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) .(3) ولا شك أنّ المراد من البيعة هو بيعة الرضوان التي بايع الموَمنون فيها النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة وأعرب سبحانه عن رضاه عنهم.

روى الواحدي عن أنس: انّ ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، فأخذهم أُسراء فاستحياهم، فأنزل الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)(4) .

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه يخبر في نفس السورة عن فتح قريب، وهذا

____________

1. الفتح: 10.

2. الفتح: 18.

3. الفتح: 24.

4. أسباب النزول: 218.


الصفحة 222
يعرب عن أنّ الفتح المبين غير الفتح القريب، قال سبحانه: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّوَْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تُخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيباً)(1) خ؟، وهذا الفتح القريب إمّا فتح خيبر، أو فتح مكة. والظاهر هو الثاني، وأمّا روَيا النبي فقد تحقّقت في العام القابل، عام عمرة القضاء، فدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والموَمنون مكة المكرمة آمنين محلّقين روَوسهم ومقصّـرين، وأقاموا بها ثلاثة أيام، ثم خرجوا متوجهين إلى المدينة، وذلك في العام السابع من الهجرة، وفي العام الثامن توفق النبي لفتح مكة وتحقّق قوله سبحانه: (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) .

هذا كلّه حسب سياق الآيات، وأمّا الروايات فهي مختلفة بين تفسيرها بالحديبية، وتفسيرها بفتح مكة، والقضاء فيها موكول إلى وقت آخر، ولا يوَثر هذا الاختلاف فيما نحن بصدده في هذا المقام.

2. ما هو المراد من الذنب ؟

قال ابن فارس في المقاييس: ذنب له أُصول ثلاثة: أحدها الجرم، والآخر: موَخّر الشيء، والثالث: كالحظ والنصيب.(2) وقال ابن منظور: الذنب: الاِثم والجرم والمعصية، والجمع ذنوب، وذنوبات جمع الجمع، وقد أذنب الرجل، وقوله عزّ وجلّ في مناجاة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنْبٌ)(3) ، عنى بالذنب قتل الرجل

____________

1. الفتح: 27.

2. معجم مقاييس اللغة: 2/361.

3. الشعراء: 14.


الصفحة 223
الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان الرجل من آل فرعون.(1) وقد وردت تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات وأُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه: (غَافِرَ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)(2) ، وقال عزّ وجلّ: (وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) .(3) وعلى ذلك فكون الذنب بمعنى الجرم مما لا ريب فيه، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً وناقضاً للقانون، وأمّا الذي عصي وطغي عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف، وليست خصوصية العصيان لله سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية، وهذا هو الاَساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.

3. الغفران في اللغة

الغفران في اللغة، هو: الستر، قال ابن فارس في المقاييس: عظم بابه الستر، ثم يشذُّ عنه ما يُذكر، فالغَفر: السَّتر، والغفران والغَفْر بمعنًى يقال: غفر الله ذنبه غَفراً ومغفرةً وغفراناً.(4) وقال في اللسان بمثله.(5)

____________

1. لسان العرب: 3/389.

2. غافر: 3.

3. التكوير: 8 و 9.

4. معجم مقاييس اللغة: 4/385.

5. لسان العرب: 5/25.


الصفحة 224

4. الفتح لغاية مغفرة الذنب

الآية تدل على أنّ الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما تقدّم منه وما تأخّر، غير أنّ في ترتب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادىَ النظر، والاِنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش، سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الاَُخرى أو ملازمة لها، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الاَعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الاِصحار بالحق، ونشر التوحيد، ودحض الباطل، كان الترتب أمراً طبيعياً، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الاَصقاع، فالرابطة غير واضحة.

وهذه هي النقطة الحساسة في فهم مفاد الآية، وبالتالى دحض زعم المخطّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.

فنقول: كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية، وكانت العرب تقدّس أوثانها وتعبد أصنامها، وتطلب منهم الحوائج، وتتقرب بعبادتها إلى الله سبحانه هذا من جانب، ومن جانب آخر: جاء النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) داعياً إلى التوحيد في مجالى الخلق والاَمر، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله، وأنّه لا

الصفحة 225
معبود سواه ولا شفيع إلاّ بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الاَصنام، وأنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة والمغفرة، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلاً عن عبدتهم، فصارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الاَكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر، ومفتر وكذّاب، وقد أعربوا عن نواياهم السيئة عندما رفعوا الشكوى إلى سيّد الاَباطح وقالوا: إنّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامَنا وضلل آباءَنا، فإمّا أن تكفّه عنا وإمّا أن تخلّـي بيننا وبينه.(1) ولمّا وقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده وثباته في طريق رسالته بقوله: "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الاَمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته" قال: ثم استعبر فبكى، ثم قام. فلمّا ولى ناداه أبو طالب فقال: اقبل يابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله ما أُسلّمك لشيء أبداً".(2)

فلمّـا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالموَامرة والتخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره، فنجّاه الله من أيديهم.

ولمّا استقرَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في يثرب واعتز بنصرة الاَنصار ومن حولها من القبائل جرت بينه وبين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش وإراقة دمائهم على وجه الاَرض في "بدر" و "أحد" ووقعة "الاَحزاب".

____________

1. تاريخ الطبري: 2/65.

2. السيرة النبوية لابن هشام: 1/285 من الطبعة الحديثة.


الصفحة 226
فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، وحدوث التفرقة في صفوفهم، والفتك بصناديدهم على يد النبي الاَكرم، صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها، مجازر لقريش، ومذابح لاَسيادهم، فأىّ جرم أعظم من هذا، وأي ذنب أكبر منه عند هوَلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّـر من الشرير، والصديق من العدو، والمنجي من المهلك؟

فإذن ما هو الاَمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.

إنّ الاَمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الاَوهام والاَباطيل، ليست إلاّ الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة، ونواياه الصالحة، حيث تصالح مع قومه ـ الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره، وأخرجوه من موطنه ومهاده ـ بعطف ومرونة خاصة، حتى أثارت تعجب الحضّار من أصحابه ومخالفيه، حيث تصالح معهم على أنّه "من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه".(1)

وهذا العطف الذي أبداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، وقريش في حالة الانحلال والضعف، صوّر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قومه

____________

1. السيرة النبوية لابن هشام: 2/317 ـ 318. ط2، 1375 هـ.


الصفحة 227
وأتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال، وعضّوا الاَنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الاِسلام زرافات ووحداناً، فأسلم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والتحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على مكة وحواليها.

إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفار منها خلقه العظيم، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الاَلدّاء بينه وبين قومه، فعرفوا أنّ ما يرمى به نبىّ العظمة ويوصف به بين أعدائه، كانت دعايات كاذبة وكان هو منزّهاً عنها، بل عن الاَقل منها.

ولا تقصر عن هذه الواقعة، فتح مكة، فقد واجه قومه مرّة أُخرى ـ وهم في هزيمة نكراء، ملتفون حوله في المسجد الحرام ـ فخاطبهم بقوله: "ماذا تقولون وماذا تظنون؟!" فأجابوا: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقدرت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين".(1)

وهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الاَعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن والساحر أدون من أن يقوم بهذه الاَُمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري ولا يكذب، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم وموَامراتهم عليه، مرّة بعد أُخرى في موطنه ومهجره، فجعلوه في قفص الاتهام

____________

1. المغازي للواقدي: 2/835؛ وبحار الاَنوار: 21/107 ـ 132.


الصفحة 228
أوّلاً، وواجهوا أنصاره وأعوانه بألوان التعذيب ثانياً، فقتل من قتل وأُوذي من أُوذي، وضربوا عليه وعلى الموَمنين به، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً، وعمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً، ولولا جرائمهم الفظيعة لما اخضرت الاَرض بدمائهم ولا لقي منهم بشيء يكرهه، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية والشرطية، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، وقد كسرته هذه الواقعة، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.

وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

وإلى ما ذكرنا يشير مولانا الاِمام الرضا (عليه السلام) عندما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال: "لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاَنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّـا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الاِخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ * وَ انْطَلَقَ الْمَلاَ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمَلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)(1) ، فلمّـا فتح اللهُ عزّ وجلّ على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة، قال له: يا محمد: (إنّا فتحنا لك (مكة) فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله عزّ وجلّ فيما تقدّم، وما تأخّر، لاَنّ مشركي

____________

1. ص: 5 ـ 7.


الصفحة 229
مكة، أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن.(1) وقد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية وقلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يوَثر فيما نرتئيه، فلاحظ.

الآية الخامسة: العصمة والتولّـي عن الاَعمى

استدلّ المخالف لعصمة النبي الاَعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الاَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمّا مَنِ اسْتَغْنَى * فأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(2)

روى المفسرون أنّ عبد الله بن أُمّ مكتوم الاَعمى أتى رسول الله وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأُبيّاً وأُمية ابني خلف، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم؛ فقال عبد الله: اقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله، فجعل ينادي ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هوَلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فعبس (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم، فنزلت الآيات، وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه يقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي.(3) ويقول: هل لك من

____________

1. بحار الاَنوار: 17/90.

2. عبس: 1 ـ 10.

3. أسباب النزول للواحدي: 252.


الصفحة 230
حاجة، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين.(1) وهناك وجه آخر لسبب النزول روي عن أئمّة أهل البيت:، وحاصله أنّ الآية نزلت في رجل من بنى أُميّة كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّـا رآه تقذّر منه، وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.(2) والاعتماد على الرواية الاَُولى مشكل، لاَنّ ظاهر الآيات عتاب لمن يقدم الاَغنياء والمترفين، على الضعفاء والمساكين من الموَمنين، ويرجح أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة، وهذا لا ينطبق على النبي الاَعظم من جهات:

الاَُولى: انّه سبحانه حسب هذه الرواية وصفه بأنّه يتصدى للاَغنياء ويتلهّى عن الفقراء، وليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه عليهم، كيف؟ وقد قال سبحانه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُوَْمِنينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(3)

الثانية: انّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم، وهي ثانية السور التي نزلت في مكة (وأُولاها سورة العلق) بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(4) ومع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة والتولّـي؟ وهذه السورة حسب ترتيب النزول وان كانت متأخرة عن سورة القلم، لكنّها متقاربة معها حسب النزول، ولم تكن هناك فاصلة

____________

1. مجمع البيان: 10/437 وغيره من التفاسير.

2. مجمع البيان: 10/437؛ تفسير القمي: 2/405.

3. التوبة: 128.

4. القلم: 4.


الصفحة 231
زمنية طويلة الاَمد.(1) الثالثة: انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ * وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُوَْمِنِينَ)(2) ،كما يأمره أيضاً بقوله: (وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُوَْمِنينَ)(3) ، (فَاصْدَعْ بِمَا تُوَْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(4)

إنّ سورتي الشعراء والحجر، وإن نزلتا بعد سورة "عبس"، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة، أي العام الثالث من البعثة عندما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة والاِصحار بالحقيقة، وعلى ذلك فهي متقدمة حسب النزول على سورة "عبس" أويصح بعد هذه الخطابات، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّـى عن الموَمن؟! كلاّ ثم كلاّ.

الرابعة: إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)قال في نفسه: "يقول هوَلاء الصناديد: إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم" وعندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فهل أخبر به النبي ؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر ؟!

والاَوّل بعيد جداً، والثاني مجهول.

الخامسة: أنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجى جماعة من المشركين، وعند ذلك أتى عبد الله ابن أُمّ مكتوم وقال: يا رسول الله أقرئني، فهل كان

____________

1. تاريخ القرآن للعلاّمة الزنجاني: 36 ـ 37، وقد نقل ترتيب نزول القرآن في مكة والمدينة معتمداً على رواية محمد بن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص 7 طبع مصر.

2. الشعراء: 214 ـ 215.

3. الحجر: 88.

4. الحجر: 94.


الصفحة 232
إسكات ابن أُم مكتوم متوقفاً على العبوسة والتولّـي عنه، أو كان أمره بالسكوت والاستمهال منه حتى يتم كلامه مع القوم، أمراً غير شاق على النبي، فلماذا ترك هذا الطريق السهل؟

وهذه الوجوه الخمسة وإن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة والتولّـي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق العظيم وغيره، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية ويسلب الاعتماد عليها.

هذا كلّه حول الرواية الاَُولى.

وأمّا الرواية الثانية:

فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات، لاَنّ محصلها أنّ رجلاً من بنى أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم، فلمّـا رآه ذلك الرجل تقذّر منه وجمع نفسه، وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

ولكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفى في توضيح الآيات، ولا يرفع إبهامها، لاَنّ الظاهر أنّ العابس والمتولّـي، هو المخاطب بقول سبحانه: (وما يدريك لعله يزّكى) إلى قوله: (فأنت عنه تلهّى) ، فلو كان المتعبس والمتولّـي، هو الفرد الاَموي، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الاَمويين عبس وتولّـى عندما جاءه الاَعمى فقط، ولا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الاَُوليين وإنّـها إلى من تهدف، فهل تقصد ذاك الرجل الاَموي وهو بعيد، أو النبي الاَكرم ؟

هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول، وقد عرفت الاَسئلة

الصفحة 233
الموجهة إليهما.

وعلى فرض صحة الرواية الاَُولى لابدّ أن يقال:

إنّ الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موضع عنايته سبحانه ورعايته، فلم يكن مسوَولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط، بل كان مسوَولاً حتى عن نظراته وانقباض ملامح وجهه، وانبساطها، فكانت المسوَولية الملقاة على عاتقه من أشد المسوَوليات، وأثقلها صدق الله العلي العظيم حيث يقول: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(1)

كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يناجى صناديد قومه وروَساءهم لينجيهم من الوثنية ويهديهم إلى عبادة التوحيد، وكان لاِسلامهم يوم ذاك تأثير عميق في إيمان غيرهم، إذ الناس على دين روَسائهم وأوليائهم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الظروف يناجي روَساء قومه إذ جاءه ابن أُم مكتوم غافلاً عمّـا عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاَمر المهم، فلم يلتفت إليه النبي، وجرى على ما كان عليه من المذاكرة مع أكابر قومه.

وما سلكه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن أمراً مذموماً عند العقلاء، ولا خروجاً على طاعة الله، ولكن الاِسلام دعاه وأرشده إلى خلق مثالي أعلى ممّـا سلكه، وهو أنّ التصدي لهداية قوم يتصورون أنفسهم أغنياء عن الهداية، يجب أن لا يكون سبباً للتولّـي عمّـن يسعى ويخشى، فهداية الرجل الساعي في طريق الحق، الخائف من عذاب الله، أولى من التصدي لقوم يتظاهرون بالاستغناء عن الهداية وعمّـا أنزل إليك من الوحي، وما عليك بشيء إذا لم يزكّوا أنفسهم، لاَنّ القرآن تذكرة فمن شاء ذكره (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(2)

____________

1. المزمل: 5.

2. الغاشية: 21 ـ 22.


الصفحة 234
فعظم المسوَولية اقتضى أن يعاتب الله سبحانه نبيّه لترك ما هو الاَولى بحاله حتى يرشده إلى ما يعد من أفاضل ومحاسن الاَخلاق، وينبهه على عظم حال الموَمن المسترشد، وأن تأليف الموَمن ليقيم على إيمانه، أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه، ومن هذا حاله لا يعد عاصياً لاَمر الله ومخالفاً لطاعته.

وأمّا الرواية الثانية: فالظاهر أنّ الرواية نقلت غير كاملة، وكان لها ذيل يصحح انطباق الخطابات الواردة في الآيات حقيقة على الشخص الذي عبس وتولّـى، وعلى فرض كونها تامّة فالضمير الغائب في "عبس" و "تولّـى" و "جاءه" يرجع إلى ذلك الفرد، وأمّا الخطابات فهي متوجهة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن من وجه إليه الخطاب غير من قصد منه، فهو من مقولة: "إياك أعني واسمعي يا جارة" ومثل هذا يعد من أساليب البلاغة، وفنون الكلام.


الصفحة 235

دين النبي الاَكرم قبل البعثة

دلّت الاَدلة العقلية والنقلية على عصمة الاَنبياء عامّة والنبي الاَكرم خاصة إلاّ أنّ الحكم بعصمته قبل التشرف بالنبوة، يتوقف على إحراز تدينه بدين قبل أن يبعث، وهذا ما نتلوه عليك في هذا البحث تكميلاً لعصمته (صلى الله عليه وآله وسلم).

من الموضوعات المهمة التي شغلت بال المحققين من أهل السير والتاريخ موضوع دين النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد اتفق جمهور المسلمين على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان على خط التوحيد منذ نعومة أظفاره إلى أن بُعث لهداية أُمّته، فلم يسجد لصنم ولا وثن، وكان بعيداً عن الاَخلاق والعادات الجاهلية التي تستقى جذورها من الوثنية، وإن اختلفوا في أنّه هل كان متعبداً بشريعة أحد من الاَنبياء أو بشريعة نفسه، أو بما يلهم من الوظائف والتكاليف؟ وعلى ذلك فنركّز البحث على نقطتين:

1. إيمانه وتوحيده قبل البعثة.

2. الشريعة التي كان يعمل بها في حياته الفردية والاجتماعية.

أمّا بالنسبة إلى النقطة الاَُولى: فقد كان النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على الدين الحنيف لم يعدل عنه إلى غيره طرفة عين، وتظهر هذه الحقيقة بالتعرّف على

الصفحة 236
ملامح البيت الذي ولد فيه، وتربّى في أحضان رجاله فنقول:

كان النبي كريم المولد، شريف المحتد، ولد من أبوين كريمين موَمنين بالله سبحانه وموحدين، وتربى في حضن جده عبد المطلب، وبعده في حجر عمّه أبي طالب 8، وقد كان الدين السائد في ذلك البيت الرفيع، دين التوحيد، ورفض عبادة غير الله تعالى والعمل بالمناسك والرسوم الواصلة إليه عن إبراهيم(عليه السلام).

لا أقول إنّ جميع من كان ينتمي إلى البيت الهاشمي كان على خط التوحيد وعلى الشريعة الاِبراهيمية، إذ لا شك أنّ بعضهم كان يعبد الاَصنام، ويدافع عنها كأبي لهب، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

بل أقول: الديانة السائدة في ذلك البيت هي عبادة الرحمن ورفض الاَصنام والاَوثان.

ويتضح وضع هذا البيت ببيان ديانة أشياخه وأسياده وأخص بالذكر منهم سيده الكبير "عبد المطلب" وشيخ الاَباطح "أبو طالب"، وإليك الكلام في ديانتهما:

1. عبد المطلب وإيمانه

عبد المطلب هو الرجل الاَوّل في هذا البيت، وكفى في صفائه وإيمانه ما ذكره الموَرّخون في حقه، وإليك بعضه:

1. يقول اليعقوبي في الحديث عنه:... ورفض عبد المطلب عبادة الاَوثان والاَصنام، ووحَّد الله عزّ وجلّ، ووفي بالنذر، وسنّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنّة الشريفة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، وهي الوفاء بالنذر، ومائة من

الصفحة 237
الاِبل في الدية، وأن لا تنكح ذات محرم، ولا توَتى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموَودة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا والحد عليه، والقرعة، وأنّ لا يطوف أحد بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وأن لا ينفقوا إذا حجّوا إلاّ من طيب أموالهم، وتعظيم الاَشهر الحرم، ونفي ذوات الرايات.(1)

2. إذا اطّلعنا على موقف عبد المطّلب من جيش إبرهة، وتوكّله على الله تعالى، وأخذه بحلقة باب الكعبة، نعلم بأنّه كان الرجل الموحد الذي لا يلتجىَ في المصائب والمكاره إلى غير كهف الله، ولا يعرف إلاّ باب الله، على عكس ما كانت الوثنية عليه فإنّهم كانوا يستغيثون بالاَصنام المنصوبة حول الكعبة، وإليك إجمال القضية:

قدم عبد المطلب إلى معسكر إبرهة، فلمّـا رآه إبرهة أجلّه وأكرمه، وبعدما وقف الملك على أنّه جاء ليردّ عليه إبله التي استولى عليها عسكره، قال له إبرهة: أتكلّمني في إبلك وتترك بيتاً، هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟! قال له عبد المطلب: أنا ربُّ الاِبل، وللبيت ربّ يمنعه، قال إبرهة: ما كان يمنعه مني وأمر برد إبله، فلمّـا أخذها قلّدها وجعلها هدياً وبثّها في الحرم كى يصاب منها شيء فيغضب الله عزّ وجلّ، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر، ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على إبرهة وجنده، فقال عبد المطلب:

____________

1. تاريخ اليعقوبي: 2/9، طبعة النجف. أقول: في عدّ بعض ما ذكر ذلك الموَرخ من سنن عبد المطلب نظر: فإنّ لبعضها كالوفاء بالنذر، والنهي عن قتل المووَدة، والقرعة، سابقة تاريخية ترجع إلى فترات قبله.


الصفحة 238
يا ربّ لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إنَّ عدوّ البيـت من عاداكا امنعهــم أن يخربـوا فناكا
وقال أيضاً:

لا هُمَّ إنّ العبدَ يَمنع رَحْلَه فامنع حِلالَكْ
لا يَغلِبَنَّ صَلِيبهم ومِحالُهم غَدْوا مِحالَكْ(1)
3. وليست هذه الواقعة وحيدة من نوعها بل لسيد قريش مواقف أُخرى تشبه هذه الواقعة حيث توسل لكشف غمته فيها بالله سبحانه وتعالى، وإليك مثالين:

ألف. تتابعت على قريش سنون جدب، ذهبت بالاَموال، وأشرفت على الاَنفس، واجتمعت قريش لعبد المطلب وعلوا جبل أبي قبيس ومعهم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو غلام، فتقدّم عبد المطلب وقال:

"لاهم(2) هوَلاء عبيدك وإماوَك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظلف والخف والحافر، فأشرفت على الاَنفس، فأذهب عنّا الجدب، وائتنا بالحياء والخصب"، فما برحوا حتى سالت الاَودية، وفي هذه الحالة تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر

إلى أن تقول:

____________

1. السيرة النبوية لابن هشام: 1/50؛ الكامل لابن الاَثير: 1/12، وغيرهما.

2. مخفّف "اللّهم".


الصفحة 239
مبارك الاسم يستسقى الغمام به ما في الاَنام له عدل ولا خطر(1)

وقد نقل هذه الواقعة الشهرستاني في الملل والنحل قال: وممّا يدل على معرفته (عبد المطلب) بحال الرسالة وشرف النبوّة أنّ أهل مكة لمّا أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين، أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فأحضره وهو رضيع في قماط، فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء، وقال يا ربّ بحق هذا الغلام ورماه ثانياً وثالثاً. وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلا، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد.

وقال أيضاً: وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الاَخلاق وينهاهم عن دنيّات الاَُمور، وان يقول في وصاياه: إنّه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر وقال: والله انّ وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته.(2)

إنّ توسّله بالله سبحانه وتوليه عن الاَصنام والاَوثان والتجاءه إلى ربّ الاَرباب آية توحيده الخالص، وإيمانه بالله وعرفانه بالرسالة الخاتمة، وقداسة صاحبها، فلو لم يكن له إلاّ هذه الوقائع لكفت في البرهنة على إيمانه بالله وتوحيده له.

____________

1. السيرة الحلبية: 1/131 ـ 133.

2. الملل والنحل للشهرستاني: القسم الثاني: 248 و 249 من الطبعة الثانية، تخريج محمد بن فتح الله بدران القاهرة.