الصفحة 240
ب. روى أصحاب السير أنّه وقع النقاش بين عبد المطلب وقريش في حفر بئر زمزم بعد ما حفره عبد المطلب، فاتفقوا على الرجوع إلى كاهنة، فقصدوا طريق الشام فعطشوا في الطريق وأشرفوا على الموت، فاقترح أن يحفر كلّ حفرة لنفسه بما بكم الآن من قوة، فكلّما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلاً واحداً فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً، قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إنّ عبد المطلب قال لاَصحابه: والله إنّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الاَرض ولا نبتغى لاَنفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا؛ فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هو فاعلون، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّـر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملاَوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا؛ فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إنّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة، لهو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها.(1)

4. عن أُمّ أيمن (رضي الله عنها) قالت: كنت أحضن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أقوم بتربيته وحفظه ـ فغفلت عنه يوماً فلم أدر إلاّ بعبد المطلب قائماً على رأسي يقول: يا "بركة" قلت: لبيك، قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري، قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإنّ أهل الكتاب يزعمون

____________

1. سيرة ابن هشام: 1/144 ـ 145، طبعة مصر.


الصفحة 241
أنّه نبي هذه الاَُمّة وأنا لا آمن عليه منهم، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلاّ يقول: علىّ بابنى، أي احضروه، ويجلسه بجنبه وربّما أقعده على فخذه ويوَثره بأطيب طعامه.(1) هذا هو عبد المطلب وتعوذّه ببيت الله الحرام ومواقفه بين قومه وكلماته في المبدأ والمعاد وعطفه على رسالة خاتم النبيين، أبعد هذا يبقى لاِحدٍ شك في توحيده وإيمانه، بل واعترافه برسالة الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!

قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفيفاً من عمره في رعايته فلمّـا بلغ أجله أوصى إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى أبي طالب برسول الله وسقاية زمزم، وقال له: قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأُون به رقاب الناس، وقال لاَبى طالب:

أوصيك يا عبد مناف بعديبمفرد بعد أبيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهدفكنت كالاَُمّ له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبدفأنت من أرجى بنيَّ عندي

لدفع ضيم أو لشدّ عقد(2)

2. شيخ الاَباطح أبو طالب وإيمانه

قد تعرّفت على إيمان "عبد المطلب" الكفيل الاَوّل لصاحب الرسالة، فهلمّ معي ندرس حياة كفيله الآخر بعده، وهو أبو طالب شيخ البطحاء، فقد

____________

1. سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/64.

2. تاريخ اليعقوبي: 2/10، طبعة النجف.


الصفحة 242
اتفقت كلمة أهل السير والتاريخ على كفالته لصاحب الرسالة بعد جدّه، ودرئه عنه كل سوء وعادية طيلة حياته، وان اختلفت آراوَهم في إيمانه بالرسول الاَكرم بعد البعثة، ولاَجل تحقيق الحال نركّز على البحث عن نقطتين: إيمانه قبل البعثة، وإيمانه بعد البعثة:

إيمانه بالله قبل البعثة

يكفي في إيمانه بالله وخلوص توحيده عدّة أُمور نشير إليها:

1. ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه، عن جلهمة بن عرفطة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلمّ واستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس دجى تجلّت عنه سحابة قتماء وحوله اغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ باصبعه الغلام وما في السماء، قزعة(1)

فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي واخصب البادي والنادي، ففي ذلك يقول أبو طالب ويمدح به النبي أكثر من ثمانين بيتاً:

وأبيض يستسقى الغمام بوجههثمال اليتامى عصمة للاَرامل

يلوذ به الهلاّك من آل هاشمفهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرةووزان صدق وزنه غير هائل(2)

____________

1. القزعة: قطعة من السحاب.

2. السيرة الحلبية: 1/116. لاحظ فتح الباري: 2/494، والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام: 1/272 ـ 280.


الصفحة 243
وما نسبه إليه من الاَشعار جزء من قصيدته المعروفة التي نظمها أيام الحصار في الشعب، ويشير بها إلى الواقعة التي استسقى فيها بالنبى وقد كان غلاماً في كفالته، ولو كان آنذاك عابداً للوثن لتوسل باللات والعزى وسائر الآلهة المنصوبة حول الكعبة.

2. روى الحافظ الكنجي الشافعي: أنّ أحد الزهّاد والعبّاد قال لاَبي طالب: يا هذا انّ العلي الاَعلى ألهمني إلهاماً، قال أبو طالب: وما هو ؟ قال: ولد يولد من ظهرك وهو ولي الله عزّ وجلّ، فلمّـا كانت الليلة التي ولد فيها علىّ (عليه السلام) أشرقت الاَرض، فخرج أبو طالب وهو يقول: أيّها الناس ولد في الكعبة ولى الله، فلمّـا أصبح دخل الكعبة وهو يقول:

يا رب هذا الغسق الدجىّوالقمر المنبلج المضي

بيّـن لنا من أمرك الخفىّماذا ترى في اسم ذا الصبي

قال: فسمع صوت هاتف يقول:

يا أهل بيت المصطفى النبيخصصتم بالولد الزكى

انّ اسمه من شامخ العليعليّ اشتق من العلي(1) 3. انّ أبا طالب كان ممن تعرّف على مكانة النبي الاَعظم عن طريق الراهب "بحيرا"، وذلك حينما خرج في ركب إلى الشام تاجراً،فلمّـا تهيّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول الله فأخذ بزمام ناقته،وقال: يا عم إلى من تكلني لا أب لي ولا أُمّ لي؟ فرقّ له أبو طالب وقال: والله لاَخرجن به معى ولا يفارقنى ولا أُفارقه أبداً. قال: فخرج به معه، فلمّـا نزل الركب "بصرى" من أرض الشام نزلوا

____________

1. الغدير: 7/347، نقلاً عن كفاية الطالب للحافظ الكنجي الشافعي: 260.


الصفحة 244
قريباً من صومعة راهب يقال له "بحيرا"، فلمّـا رأي النبي جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر أشياء من جسده، فجعل يسأله عن نومه وهيئته، ورسول الله يخبره، ثم نظر إلى ظهره، فرأي خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال لاَبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغنّه شراً، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فاسرع به إلى بلاده، فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام، وفي ذلك يقول أبو طالب:

انّ ابن آمنة النبي محمداًعندي يفوق منازل الاَولاد

لما تعلق بالزمام رحمتهوالعيس قد قلّصن بالاَزواد

فارفضّ من عيني دمع ذارفمثل الجمان مفرق الاَفراد

إلى أن قال:

حتى إذا ما القوم بصرى عاينوالاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاًعنه وردّ معاشر الحسّاد

فما رجعوا حتى رأوا من محمدأحاديث تجلو غمّ كل فوَاد

وحتى رأوا أحبار كل مدينةسجوداً له من عصبة وفراد(1) وما رأي أبو طالب من ابن أخيه في هذا السفر من الكرامات وخوارق العادات التي ضبطها التاريخ، وما سمعه من بحيرا من مستقبل أمره وانّ اليهود له بالمرصاد، كاف لاِرشاد كل إنسان صافي الذهن مستقيم الطريقة، فكيف بأبى طالب الذي كان بالاِضافة إلى هاتين الصفتين، يحبه حبّاً جماً أشدّ من حبه

____________

1. السيرة النبوية لابن هشام: 1/182؛ الطبقات الكبرى: 1/120؛ تاريخ ابن عساكر: 1/269 ـ 272؛ ديوان أبي طالب: 33 ـ 35؛ إلى غير ذلك من المصادر التي اهتمت بنقل هذه الواقعة.


الصفحة 245
لاَولاده وإخوته، فكانت هذه الكرامات كافية في هدايته لخط التوحيد ورسالة ابن أخيه وإن لم يكن يصرح بها لفظاً قبل البعثة، لكنه جهر بها بعده كما سيوافيك إن شاء الله.

مضافاً إلى أنّه كان موضع الثقة من عبد المطلب، وقد أوصاه برعاية ابن أخيه بعده، فلا يصح لعبد المطلب الموَمن الموحّد أن يدلي بوصيته وكفالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من لم يكن على غير خط التوحيد، ولم تكن بينهما وحدة فكرية، وإلى ذلك يشير أبو طالب في هذه القصيدة الدالية:

راعيت فيه قرابة موصولةوحفظت فيه وصية الاَجداد

إيمانه بعد البعثة

أمّا دلائل إيمانه بالله أوّلاً، وبرسالة ابن أخيه ثانياً، بعد بعثة النبي الاَكرم فحدث عنه ولا حرج وإن كان بعضهم قد هضم حق أبي طالب قرة عين الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا بما لا ينسجم مع الحقائق التاريخية، ولو نقل معشار ما ورد عن إيمانه من فعل أو قول، في حق غيره لاتفق الكل على إيمانه وتوحيده، ولكن ـ ويا للاَسف ـ انّ بعض الجائرين على الحق لا يريدون أن يعتبروا تلك الدلائل وافية لاِثبات إيمانه.

لم يزل سيدنا أبو طالب يكلأ ابن أخيه ويذب عنه ويدعو إلى دينه الحنيف منذ بزوغ شمس الرسالة إلى أن لقي ربّه، وكفانا من إفاضة القول في ذلك، الكتب الموَلفة حول تضحيته لاَجل الحق ودفاعه عنه شعراً ونثراً، ونكتفي بالنزر اليسير من الجم الغفير:

1. كتب أبو طالب إلى النجاشي عندما نزل المهاجرون من المسلمين

الصفحة 246
بقيادة جعفر الطيار أرض الحبشة وهو يحضه على حسن الجوار:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداًنبىّ كموسى والمسيح بن مريم

وانّكم تتلونه في كتابكمبصدق حديث لا حديث المبرجم(1)

2. نحن نفترض الكلام في غير أبى طالب، فإذا أردنا الوقوف على نفسية فرد من الاَفراد والعلم بما يكنّه من الاِيمان أو الكفر، فما هو الطريق إلى كشفها؟ فهل الطريق إليه إلاّ كلامه وقوله، أو ما يقوم به من عمل، أو ما يروي عنه مصاحبوه ومعاشروه، فلو كانت هذه هي المقاييس الصحيحة للتعرف على النفسية، فكلّها تشهد بإيمانه القويم وتوحيده الخالص، فإنّ فيما أثر عنه من نظم ونثر، أو نقل من عمل بار، وسعي مشكور في نصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفظه، والدعوة لرسالته وما روى عنه مصاحبوه ومعاشروه ـ فإنّ في هذه ـ لدلالة واضحة على إيمانه بالله ورسالة ابن أخيه وتفانيه في سبيل استقرارها.

كيف، وهو يقول في أمر الصحيفة التي كتبها صناديد قريش في سبيل ضرب الحصار الاقتصادي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنى هاشم وبنى المطلب:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداًنبيّاً كموسى خط في أوّل الكتب

وأنّ الذي ألصقتمُ من كتابكملكم كائن نحساً كراغية السقب(2) ففي هذه الاَبيات التي تزهر بنور التوحيد، وتتلألاَ بالاِيمان بالدين الحنيف دلالة واضحة على إيمانه بالرسالات الاِلهية عامة، ورسالة ابن أخيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، وكم وكم له من قصائد رائعة يطفح من ثناياها الاِيمان الخالص، والاِسلام

____________

1. مستدرك الحاكم: 2/623 ـ 624.

2. السيرة النبوية: 1/352، وذكر من القصيدة 15 بيتاً.


الصفحة 247
الصحيح، ونحن نكتفي في إثبات إيمان كفيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا المقدار ونحيل التفصيل إلى الكتب المعدة لذلك.

فإنّ نقل ما أثر عنه من شعر ونثر، أو روي من عمل مشكور، يحتاج إلى تأليف كتاب مفرد وقد قام لفيف من محققي الشيعة بتأليف كتب حول إيمانه، بين مسهب في الاِفاضة وموجز في المقالة، وفيما حقّقه وجمعه شيخنا العلاّمة الاَميني في غديره كفاية لطالب الحق.(1) هذا إيمان عبد المطلب وذلك توحيد ابنه البار أبي طالب، وقد تربَّى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وترعرع وشب واكتهل في أحضانهما، وفي قانون الوراثة أن يرث الاَبناء ما في الحجور والاَحضان من الخصال والاَخلاق وقد قضى النبي الاَكرم قسماً وافراً من عمره الشريف في تلك الربوع واستظل بفيئها.

.

إيمان والدي النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)

لقد تعرفت على إيمان كفيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهلمّ معى ندرس حياة والديه وإيمانهما، فقد ذهبت الاِمامية والزيدية وجملة من محقّقي أهل السنّة إلى إيمانهما وكونهما على خط التوحيد، وشذَّ من قال: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من كثرة ما أنعم الله عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام والديه.

فإنّ هذه الكلمة صدرت من غير تحقيق، فإنّ التاريخ لم يضبط من حياتهما إلاّ شيئاً يسيراً، وفيما ضبط إيعاز لو لم نقل دلالة على إيمانهما وكونهما على الصراط المستقيم.

____________

1. راجع تفصيل ذلك الغدير: 7/330 ـ 409 و 8/1 ـ 29.


الصفحة 248
أمّا الوالد: فقد نقلت عنه كلمات وأبيات تدل على إيمانه، فإليك ما نقله عنه أهل السير، عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً عليها:

أمّا الحرام فالممات دونهوالحل لا حل فاستبينه

يحمي الكريم عرضه ودينهفكيف بالاَمر الذي تبغينه(1) وقد روي عن النبي الاَكرم أنّه قال: "لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات". ولعل فيه إيعازاً إلى طهارة آبائه وأُمّهاته من كل دنس وشرك.(2)

وأمّا الوالدة: فكفى في ذلك ما رواه الحفّاظ عنها عند وفاتها فإنّها (رضى الله عنها) خرجت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم بنو عدي بن النجار، ومعها أُم أيمن "بركة" الحبشية، فأقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر أُموراً حدثت في مقامه ويقول: "إنّ أُمّي نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إلىّ، فنظر إلىّ رجل من اليهود، فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقلت: أحمد، فنظر إلى ظهري وسمعته يقول: هذا نبي هذه الاَُمّة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم، فخافت أُمّي علىّ، فخرجنا من المدينة، فلمّـا كانت بالاَبواء توفيت ودفنت فيها".

روى أبو نعيم في دلائل النبوّة عن أسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة أُمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علتها التي ماتت بها، ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام "يفع(3) "

____________

1. السيرة الحلبية: 1/46 وغيرها.

2. سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية:€1/58.

3. يفع الغلام: ترعرع.


الصفحة 249
له خمس سنين عند رأسها، فنظرت إلى وجهه وخاطبته بقولها:

إنّ صح ما أبصرت في المنامفأنت مبعوث إلى الاَنام

فالله أنهاك عن الاَصنامأن لا تواليها مع الاَقوام

ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة، وذكرى باق وولدت طهراً.

وقال الزرقاني في "شرح المواهب" نقلاً عن جلال الدين السيوطى تعليقاً على قولها: وهذا القول منها صريح في أنّها كانت موحّدة، إذ ذكرت دين إبراهيم (عليه السلام) وبشّـرت ابنها بالاِسلام من عند الله، وهل التوحيد شيء غير هذا؟! فإنّ التوحيد هو الاعتراف بالله وانّه لا شريك له والبراءة من عبادة الاَصنام.(1) هذا بعض ما ذكره الموَرّخون في أحوال والدي النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والكل يدل على إخلاصهما ونزاهتهما عمّـا كان هو السائد في البيئة التي كانا يعيشان فيها.

وأخيراً نوجه نظر القارىَ إلى الرأي العام بين المسلمين حول إيمانهما، قال الشيخ المفيد في "أوائل المقالات":

واتفقت الاِمامية على أنّ آباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب موَمنون بالله عزّ وجلّ موحّدون له، واحتجوا في ذلك بالقرآن والاَخبار، قال الله عزّ وجلّ: (الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ)(2)

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتى أخرجني في عالمكم هذا"، وأجمعوا على أنّ عمّه أبا طالب

____________

1. الاتحاف للشبراوي: 144؛ سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية: 1/57.

2. الشعراء: 218 ـ 219.


الصفحة 250
(رحمه الله) مات موَمناً، وأنّ آمنة بنت وهب كانت على التوحيد، وأنّها تحشر في جملة الموَمنين.(1)

أقول: الاستدلال بالآية يتوقف على كون المراد منها نقل روحه من ساجد إلى ساجد، وهو المروي عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدين )(2) قال: من نبي إلى نبي حتى أُخرجت نبياً.(3)

وقد ذكره المفسرون بصورة أحد الاحتمالات، ولكنّه غير متعين، لاحتمال أن يكون المراد إنّه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة، وتقلّبه في الساجدين عبارة عن تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده إذا كان إماماً لهم.

وأمّا الاستدلال بالحديث، فهو مبني على أنّ من كان كافراً فليس بطاهر، وقد قال سبحانه: (إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ)(4)

لكن الحجة هي الاتفاق والاِجماع، مضافاً إلى ما تضافر من الروايات حول طهارة والدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي جمعها الحافظ أبو الفداء ابن كثير في تاريخه قال: وخطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب... وما افترق الناس فرقتين إلاّ جعلني الله في خيرها، فأُخرجت من بين أبوي، فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأُمي، فأنا خيركم نفساً، وخيركم أباً".(5)

وعن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "قال لي جبرئيل: قلّبت الاَرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلّبت الاَرض مشارقها

____________

1. أوائل المقالات: 12 ـ 13.

2. الشعراء: 219.

3. البداية والنهاية: 2/239، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة ـ 1408 هـ..

4. مفاتيح الغيب: 6/431. والآية من سورة التوبة: 28.

5. البداية والنهاية: 2/238.


الصفحة 251
ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم".

قال الحافظ البيهقي: وهذه الاَحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به، فبعضها يوَكد بعضاً، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الاَسقع، والله أعلم.

قلت: وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ فعبدُ منافٍ سِرُّها وصميمُها
فإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمها
وإن فَخَرتْ يوماً فإنّ محمداً هو المصطفَى من سرّها وكريمها
تداعت قريشُ غثُّها وسمينُها علينا فلم تظفر وطاشت حُلومها
وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً إذا ماثنوا صُعْرَ الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يومِ كريهةٍ ونضربوُ عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العودُ الذواءُ وإنّما بأكنافنا تندى وتنمى أرومها(1)
ويعجبني أن أنقل ما ذكره الشبراوي في المقام: قال: ومبدأ الكلام في ذلك إنّ الله سبحانه قد أخرج هذا النوع الاِنساني لاَجله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّ آدم عليه الصلاة والسلام كان أوّل فرد من أفراد هذا النوع، وكان سائر أفراده مندرجة في صلبه بصور الذرات، فلمّـا نفخ الروح في آدم كان نور نسمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يلمع في جبهته كالشمس المشرقة، ثم انتقل ذلك النور من صلب آدم إلى رحم حواء، ومنها إلى صلب شيث، ثم استمر هذا ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، وهو معنى قوله: (وتقلّبك في الساجدين) ، وأشار إليه العلاّمة البوصيري بقوله:

لم تزل في ضمائر الكون تختا ر لك الا َُمّهـــات والآبـــــاء

____________

1. البداية والنهاية: 2/240.


الصفحة 252
وكان كل جد من أجداده من لدن آدم يأخذ العهد والميثاق أن لا يوضع ذلك النور المحمدي إلاّ في الطاهرات، فأوّل من أخذ العهد آدم، أخذه من شيث، وشيث من أنوش، وهو من "قينن"، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى عبد الله بن عبد المطلب، فلمّـا أُودع ذلك الجزء، في صلبه لمع ذلك النور من جبهته، فظهر له جمال وبهجة، فكانت نساء قريش يرغبن في نكاحه، وقد أسعد الله بتلك السعادة وشرّف بذلك الشرف "آمنة" بنت وهب، فتزوجها عبد الله.

وقد روى الترمذي عن العباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم تخيّـر القبائل فجعلنى في خير قبيلة، ثم تخيّـر البيوت، فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً". أي ذاتاً وأصلاً.

وقد دلّت الآيات والاَحاديث على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما طابت ذاته الشريفة، بما أُوتي من الكمال الاَعلى، كذلك طاب نسبه الشريف، فلم يكن في آبائه ولا أُمهاته من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، إلاّ من هو مصطفى مختار قد طابت أعراقه، وحسنت أخلاقه.

أخرج ابن جرير، عن مجاهد قال: استجاب الله تعالى دعوة إبراهيم في ولده ولم يعبد أحد منهم صنماً بعد دعوته، واستجاب له وجعل هذا البلد آمناً ورزق أهله من الثمرات وجعله إماماً وجعل من ذريته من يقيم الصلاة.

قال السيوطي: وهذه الاَوصاف كانت لاَجداده (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة دون سائر ذريّة إبراهيم، وكل ما ذكر عن ذريّة إبراهيم من المحاسن فإنّ أولى الناس به سلسلة الاَجداد الشريفة، الذين خصّوا بالاصطفاء وانتقل إليهم نور النبوة واحداً بعد واحد، ولم يدخل ولد إسحاق وبقية ذريته لاَنّه دعا لاَهل هذا البلد، ألا تراه قال: (اجْعَلْ هذَا البَلَدَ آمِناً) وعقّبه بقوله: (و اجْنُبْنِي وَبنِيَّ أنْ نَعبُدَ

الصفحة 253
الاََصنامَ)(1) ، فلم تزل ناس من ذرية إبراهيم (عليه السلام) على الفطرة يعبدون الله تبارك وتعالى، ويدلّ عليه قوله: (وَجَعَلَها كَلِمة باقِيةً في عَقِبهِ)(2) فإنّ الكلمة الباقية هي كلمة التوحيد، وعقب إبراهيم (عليه السلام) هم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الكرام، قال بعض الاَفاضل: اللّهم حل بيننا وبين أهل الخسران والخذلان الذين يوَذون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بنسبة ما لا يليق بأبويه الكريمين الشريفين الطاهرين ـ إلى أن قال ـ: فهما ناجيان منعّمان في أعلى درجات الجنان، وما عدا ذلك تهافت وهذيان، لا ينبغى أن تصغي له الا َُذنان ولا أن يعتني بإبطاله أُولو الشأن.(3)

إذا وقفت على ما ذكرنا تعرف قيمة كلمة ابن حزم الاَندلسي في أحكامه(4) ، حيث نسب إلى والدي النبي الاَكرم ما لا يليق بساحتهما، ويكفي في سقوط هذه الكلمة أنّ راويها وكاتبها ابن حزم الذي أجمع فقهاء عصره على تضليله والتشنيع عليه ونهي العوام عن الاقتراب منه وحكموا بإحراق كتبه.(5)

وقال ابن خلّكان في وفياته: وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف فقهاء وقته، فتمالاَوا على بغضه، وردّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنّعوا عليه، وحذّروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامّهم عن الدنو إليه والاَخذ عنه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتّى انتهى إلى بادية "لبلة"، فتوفي بها آخر نهار الاَحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة، وقيل إنّه توفي في "منت ليشم"، وهي قرية ابن حزم المذكور. وفيه قال أبو العباس ابن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج ابن يوسف شقيقين، وإنّما قال ذلك لكثرة وقوعه في الاَئمّة.(6)

____________

1. إبراهيم: 35.

2. الزخرف: 28.

3. الاِتحاف بحب الاَشراف: 113 ـ 118.

4. الاَحكام: 5/171.

5. لسان الميزان: 4/200، وقد عرّفه الآلوسى في تفسيره: 21/76 بالضال المضل.

6. وفيات الاَعيان: 3/327 ـ 328.


الصفحة 254

إيمان النبي الاَكرم قبل البعثة

كان البحث عن إيمان عبد المطلب وسيد البطحاء ووالدي النبي، كمقدمة للبحث عن إيمان النبي الاَكرم قبل البعثة، فإنّ إيمانه برسالته وإن كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس غير محتاج إلى الاِسهاب غير أنّ إكمال البحث يجرّنا إلى أن نأتي ببعض ما ذكره التاريخ من ملامح حياته منذ صباه إلى أن بعث نبياً، حتى يقترن ذلك الاتفاق بأصح الدلائل التاريخية، وإليك الاَقوال:

1. روى صاحب المنتقى في حديث طويل: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تمَّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته (لمرضعته) "حليمة السعدية": "مالي لا أري أخوي بالنهار؟" قالت له: يابني إنّهما يرعيان غنيمات. قال: "فما لي لا أخرج معهما؟" قالت له: أتحب ذلك؟ قال: "نعم"، فلمّـا أصبح محمد دهنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزع يماني، فنزعه ثم قال لاَُمّه: "مهلاً يا أُمّاه، فإنّ معي من يحفظني".(1)

وهذه العبارة من الطفل الذي لم يتجاوز سنّه ثلاث سنين آية على أنّه كان يعيش في رعاية الله، وكان له معلم غيبى "يسلك به طريق المكارم" ويلهمه ما يعجز عن إدراكه كبار الرجال آنذاك، حيث كانت أُمّه تزعم بأنّ في الجزع اليمانى مقدرة الحفظ لمن علقه على جيده، فعلى الرغم من ذلك فقد خالفها الطفل ونزعه وطرحه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنّما يدل على أنّه كان بعيداً عن تلك الرسوم والاَفكار... السائدة في الجزيرة العربية.

____________

1. المنتقى الباب الثاني من القسم الثاني للكازرونى، وقد نقله العلاّمة المجلسي في البحار: 15/392 من الطبعة الحديثة.


الصفحة 255
2. روى ابن سعد في طبقاته: أنّ بحيرا الراهب قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألاّ أخبرتني عمّـا أسألك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما"، قال: بالله إلاّ أخبرتني عمّـا أسألك عنه؟ قال: "سلني عمّـا بدا لك...".(1)

3. روى ابن سعد في طبقاته: عند ذكر خروج النبي إلى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها "ميسرة": إنّ محمداً باع سلعته فوقع بينه ورجل تلاح، فقال له الرجل: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما حلفت بهما قط، وانّي لاَمرُّ فأعرض عنهما" فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: يا ميسرة هذا والله نبي.(2)

وممّا يشهد على توحيده أنّه لم ير قط مائلاً عن الحق، ساجداً لوثن أو متوسّلاً به، بل كان يتحنّث في كل سنة في غار حراء في بعض الشهور، فوافاه جبرئيل (عليه الصلاة والسلام) في بعض تلك المواقف وبشّـره بالرسالة وخلع عليه كساء النبوة.

وهذه الوقائع التاريخية أصدق دليل على إيمانه، ولاَجل اتفاق المسلمين على ذلك نطوي بساط البحث ونركّزه على بيان الشريعة التي كان عليها قبل بعثته، وهذا هو الذي بحث عنه المتكلمون والاَُصوليون بإسهاب.

الشريعة التي كان يعمل بها النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)

اختلف الباحثون في أنّ النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) هل كان متعبّداً بشرع قبل بعثته

____________

1. الطبقات الكبري: 1/154؛ السيرة النبوية: 1/182.

2. الطبقات الكبرى: 1/156.


الصفحة 256
أو لا ؟ على أقوال نلفت نظر القارىَ إليها:

1. لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً. نسب ذلك إلى أبي الحسن البصري.

2. التوقف وعدم الجنوح إلى واحد من الاَقوال. ذهب إليه القاضي عبد الجبار والغزالي، وهو خيرة السيد المرتضى في ذريعته.

3. إنّه كان يتعبّد بشريعة من قبله مردّدة بين كونها شريعة نوح أو إبراهيم أو موسى، أو المسيح بن مريم (عليهما السلام).

4. كان يتعبّد بما ثبت أنّه شرع.

5. كان يعمل في عباداته وطاعته بما يوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم لا.

6. انّه كان يعمل بشرع نفسه.

والاَخير هو الظاهر من الشيخ الطوسي في عدته قال: عندنا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّمه من الاَنبياء لا قبل النبوة ولا بعدها، وانّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له، ويقول أصحابنا: إنّه كان قبل البعثة يوحى إليه بأشياء تخصه، وكان يعمل بالوحى لا اتّباعاً بشريعة.(1)

وما ذكره أخيراً ينطبق على القول السادس، والاَقوال الثلاثة الاَخيرة متقاربة، وإليك دراستها واحداً بعد آخر ببيان مقدمة:

____________

1. راجع للوقوف على الاَقوال: الذريعة: 2/595، وذكر أقوالاً ثلاثة؛ وعدّة الشيخ الطوسى: 2/60، وذكر الاَقوال مسهبة؛ البحار: 18/271، ونقل الاَقوال عن شرح العلاّمة لمختصر الحاجبى؛ والمعارج للمحقّق الحلي: 60؛ المبادىَ للعلاّمة الحلي: 30؛ القوانين للمحقّق القمّى: 1/494.


الصفحة 257

نظرة إجمالية على حياته

إنّ من أطلّ النظر على حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) يقف على أنّه كان يعبد الله سبحانه ويعتكف بـ "حراء" كل سنة شهراً، ولم يكن اعتكافه مجرّد تفكير في جلاله وجماله وآياته وآثاره، بل كان مع ذلك متعبداً لله قانتاً له، وقد نزل الوحي عليه وخلع عليه ثوب الرسالة وهو متحنث(1) بـ "حرّاء"، وذلك مما اتفق عليه أهل السير والتاريخ.

قال ابن هشام: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جواره من شهره ذلك، كان أوّل ما يبدأ به إذا انصرف من جواره، الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها؛ وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورَحِمَ العبادَ بها، جاءه جبريلُ(عليه السلام) بأمر الله تعالى.(2)

ولم تكن عبادته منحصرة بالاعتكاف أو الطواف حول البيت بعد الفراغ منه، بل دلت الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حج عشرين حجة مستسراً.(3)

____________

1. التحنث: هو التحنف، بدّلت الفاء (ثاء)، كما يقال (جدف) مكان جدث، بمعنى القبر، وربّما يقال: بأنّه بمعنى الخروج عن الحنث بمعنى الاثم، كما أنّ التأثم هو الخروج عن الاِثم، والاَوّل هو الاَولى.

2. السيرة النبوية: 1/236.

3. الوسائل: 8/87 باب 45، استحباب تكرار الحج والعمرة؛ البحار: 11/280.


الصفحة 258
روى غياث بن إبراهيم، عن الاِمام الصادق (عليه السلام): "لم يحج النبي بعد قدوم المدينة إلاّ واحدة، وقد حج بمكة مع قومه حجّات".(1)

ولم تكن أعماله الفردية أو الاجتماعية منحصرة في المستقلات العقلية، كالاجتناب عن البغي والظلم وكالتحنن على اليتيم والعطف على المسكين، بل كان في فترة من حياته راعياً للغنم، وفي فترات أُخرى ضارباً في الاَرض للتجارة، ولم يكن في القيام بهذه الاَعمال في غنى عن شرع يطبق أعماله عليه، إذ لم يكن البيع والربا والخل والخمر ولا المذكّى وغيره عنده سواسية، وليست هذه الاَُمور ونظائرها مما يستقل العقل بأحكامها.

فطبيعة الحال تقتضي أن يكون (صلى الله عليه وآله وسلم) عارفاً بأحكام عباداته وطاعاته، واقفاً على حرام أفعاله وحلالها، في زواجه ونكاحه في حلّه وترحاله، ولولاه أشرف على اقتراف ما حرّمه الله سبحانه في عامّة شرائعه، والاقتراف أو الدنو منه يناقض أهداف البعثة، فإنّها لا تتحقّق إلاّ بعمله قبل بعثته بما سوف يدعو إليه بعد بعثته.

وعلى ضوء هذه المقدمة يبطل القول الاَوّل من أنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً، لما عرفت من أنّ العبادة والطاعة لا تصح إلاّ بعد معرفة حدودها وخصوصيّاتها عن طريق الشرع، كما أنّ الاجتناب عن محارم الله في العقود والاِيقاعات وسائر ما يرجع إلى أعماله وأفعاله الفردية والاجتماعية، يتوقف على معرفة الحلال والحرام، حتى يتخذه مقياساً في مقام العمل، وعند ذاك كيف يصح القول بأنّه لم يكن متعبّداً بشرع أصلاً؟ وإلاّ يلزم أن ننكر عباداته وطاعاته

____________

1. الوسائل: 8/88 باب 45، استحباب تكرار الحج والعمرة، الحديث 4.


الصفحة 259
قبل البعثة أو نرميه باقتراف الكبائر في تلك الفترة، وهو يضاد عصمته قبل البعثة كما يضاد أهدافها.

قال العلاّمة المجلسي: قد ورد في أخبار كثيرة أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف وأنّه كان يعبد الله في حراء، وأنّه كان يراعى الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند الاَكل وغيره، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل، على الله تعالى أن يهمل أفضل أنبيائه أربعين سنة بغير عبادة؟! والمكابرة في ذلك سفسطة، فلا يخلو إمّا أن يكون عاملاً بشريعة مختصة به أوحى الله إليه بها، وهو المطلوب، أو عاملاً بشريعة غيره.(1)

نعم روى أحمد في مسنده، عن سعيد بن زيد قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة هو وزيد بن حارثة، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعوه إلى سفرة لهما، فقال يابن أخي إنّي لا آكل مما ذبح على النصب، قال: فما روَي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب، قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ أبي كان كما قد رأيت وبلغك، ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له؟ قال: نعم، فاستغفر له فإنّه يبعث يوم القيامة أُمَّة واحدة.(2) نحن لا نعلق على هذا الحديث شيئاً سوى أنّه يستلزم أن يكون زيد أعرف بأحكام الله تعالى من النبي الاَكرم، الذي كان بمقربة من البعث إلى هداية الاَُمّة، أضف إليه أنّ الحديث مروي عن طريق سعيد بن زيد الذي يَدّعي فيه شرفاً لاَبيه، وفي الوقت نفسه نقصاً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفَواهِهِم)(3) . هذا كلّه حول القول الاَوّل.

____________

1. البحار: 18/280.

2. مسند أحمد: 1/189 ـ 190.

3. الكهف: 5.


الصفحة 260

نظرية التوقف في تعبّده

أمّا الثاني: أعنى التوقف، فقد ذهب إليه المرتضى، واستدل على مختاره بقوله: والذي يدل عليه أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلى، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أنّه لا مصلحة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل نبوته في العبادة بشىء من الشرائع، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ له (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك مصلحة، وإذا كان كل واحد من الاَمرين جائزاً ولا دلالة توجب القطع على أحدهما وجب التوقف.(1)

وما ذكره محتمل في حد نفسه، ولكنّه مدفوع بما في الاَخبار والآثار من عبادته واعتكافه، وقد عرفت أنّه كان يتعبد لله، وكانت له أعمال فردية واجتماعية تحتاج إلى أن تكون وفق شريعة ما.

نظرية عمله بالشرائع السابقة

وهذا هو القول الثالث بشقوقه الاَربعة: فيتصوّر على وجهين:

الاَوّل: أن يعمل على طبق أحد الشرائع الاَربع تابعاً لصاحبها ومقتدياً به بوجه يعد أنّه من أُمّته؛ وهذا الشق مردود من جهات:

أ. انّ هذا يتوقف على ثبوت عموم رسالات أصحاب هذه الشرائع، وهو غير ثابت، وقد أوضحنا حالها في الجزء الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن.(2)

ب. انّ العمل بهذه الشرائع فرع الاطّلاع عليها، وهو إمّا أن يكون حاصلاً

____________

1. الذريعة: 2/596.

2. لاحظ الجزء الثالث: 77 ـ 116.


الصفحة 261
من طريق الوحي، فعندئذ يكون عاملاً بشريعة من تقدم ولا يكون تابعاً لصاحبها ومقتدياً به، وإن كان عاملاً بالشريعة التي نزلت قبله، وهذا نظير أنبياء بنى إسرائيل فقد كانوا مأمورين بالحكم على طبق التوراة مع أنّهم لم يكونوا من أُمّة موسى قال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا)(1) وإلى هذا الشق يشير المرتضى بقوله: إنّه غير ممتنع أن يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت الحجة من بعض الشرائع المتقدّمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتباع.

وإمّا أن يكون حاصلاً من طريق مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم وهذا مما لا تصدّقه حياته إذ لم يكن مخالطاً لهم ولم يتعلم منهم شيئاً ولم يسألهم.

يقول العلاّمة المجلسي: لو كان متعبّداً بشرع لكان طريقه إلى ذلك إمّا الوحي أو النقل، ويلزم من الاَوّل أن يكون شرعاً له لا شرعاً لغيره، ومن الثاني التعويل على اليهود، وهو باطل(2)

ج. انّ العمل بشريعة من قبله ما سوى المسيح بن مريم، يستلزم أن يكون عاملاً بالشرائع المنسوخة فهو أشدّ فساداً، فكيف يجوز العمل بشريعة نسخت؟

قال الشيخ الطوسي: فإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة موسى، فإنَّ ذلك فاسد حيث إنّ شريعته كانت منسوخة بشريعة عيسى، وإن قالوا: كان متعبّداً بشريعة عيسى فهو أيضاً فاسد، لاَنّ شريعته قد انقطعت واندرس نقلها ولم تتصل كاتصال نقل المعجزة، وإذا لم تتصل لم يصح أن يعمل بها.(3)

____________

1. المائدة: 44.

2. البحار: 18/276.

3. عدة الاَُصول: 2/61.


الصفحة 262
أضف إلى ذلك أنّه لم يثبت أنّ عيسى جاء بأحكام كثيرة، بل الظاهر أنّه جاء لتحليل بعض ما حرّم في شريعة موسى (عليه السلام) قال سبحانه: (وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلاَُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِن رَبِّكُم فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)(1) فلو كان النبي عاملاً بشريعة عيسى ففي الحقيقة يكون عاملاً بشريعة موسى المعدّلة بما جاء به عيسى.

د. اتفقت الآثار على كونه أفضل الخلق واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً، قال الشيخ الطوسي: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من جميع الاَنبياء ولا يجوز أن يوَمر الفاضل باتّباع المفضول، ولم يخص أحد تفضيله على سائر الاَنبياء، بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الاَوقات.

وهذه الوجوه وإن كان بعضها غير خال من الاِشكال لكن الجميع يزيّف القول بأنّه كان يعمل بشريعة من قبله.

وأمّا دليل من قال بهذا القول فضعيف جداً حيث قال: كيف يصح أن يقال: انّه لم يكن متعبداً بشريعة من تقدّم مع أنّه كان يطوف بالبيت ويحج ويعتمر ويذكّي ويأكل المذكّى ويركب البهائم؟(2)

وفيه أوّلاً: انّ بعض ما ذكره يعد من المستقلات العقلية، فتكفي فيه هداية العقل ودلالته.

وثانياً: انّ الدليل أعم من المدّعى، لاَنّ عمله كما يمكن أن يكون مستنداً إلى شريعة من قبله، يمكن أن يكون مستنداً إلى الوحي إليه، لا اتّباعاً لشريعة،

____________

1. آل عمران: 50.

2. الذريعة: 2/596؛ العدة: 60 ـ 61.


الصفحة 263
وسوف يوافيك أنّه كان يوحى إليه قبل أن يتشرّف بمقام الرسالة وأنّ نبوّته كانت متقدّمة على رسالته، وأنّ جبريل نزل إليه بالرسالة عندما بلغ الاَربعين، والاستدلال مبني على أنّ نبوّته ورسالته كانتا في زمان واحد، وهو غير صحيح كما سيأتي.

وعلى هذا الوجه الصحيح لا نحتاج إلى الاِجابة عن الاستدلال بما تكلّف به المرتضى في ذريعته، والطوسى في عدّته.

قال الاَوّل: لم يثبت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قبل النبوّة حج أو اعتمر، وبالتظنّي لا يثبت مثل ذلك، ولم يثبت أيضاً أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تولّى التذكية بيده، وقد قيل أيضاً: إنّه لو ثبت أنّه ذكّى بيده، لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت، "أن يستعان بالغير في الذكاة"(1) فذكّى على سبيل المعونة لغيره، وأكل اللحم المذكّى لا شبهة في أنّه غير موقوف على الشرع، لاَنّه بعد الذكاة قد صار مثل كل مباح من المأكل، وركوب البهائم والحمل عليها، يحسن عقلاً إذا وقع التكفّل بما يحتاج إليه من علف وغيره، ولم يثبت أنّه (عليه السلام) فعل من ذلك ما لا يستباح بالعقل فعله.(2)

وقريب منه ما في عدّة الشيخ الطوسى.(3)

ولا يخفى أنّ بعض ما ذكره وإن كان صحيحاً، لكن إنكار حجه واعتماره وعبادته في حرّاء واتجاره الذي يتوقف الصحيح منه على معرفة الحلال والحرام، ممّا لا يمكن إنكاره، فلا محيص عن معرفته بالمقاييس الصحيحة في هذه الموارد، إمّا من عند نفسه، أو من ناحية الاتّباع لشريعة غيره.

____________

1. يريد أنّ من أحكام الشريعة السابقة أن يستعين الرجل في تذكية الحيوان بالغير ـ وعلى ذلك ـ فالنبى ذكّى نيابة عن الغير، ولاَجله ولم يذكّ لنفسه.

2. الذريعة: 2/597 ـ 598.

3. عدة الا َُصول: 2/63.


الصفحة 264

الوجوه الاَخيرة الثلاثة المتقاربة

إذا تبيّـن عدم صحة هذه الاَقوال الثلاثة تثبت الوجوه الاَخيرة التي يقرب بعضها من بعض، ويجمع الكل إنّه كان يعمل حسب ما يلهم ويوحى إليه، سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وانّ هاديه وقائده منذ صباه إلى أن بعث هو نفس هاديه بعد البعثة.

ويدل على ذلك وجوه:

1. ما أُثر عن الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) من أنّه من لدن كان فطيماً كان موَيداً بأعظم ملك يعلّمه مكارم الاَخلاق ومحاسن الآداب، وهذه مرتبة من مراتب النبوّة وإن لم تكن معها رسالة.

قال (عليه السلام): "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره".(1)

إنّا مهما جهلنا بشيء، فلا يصح لنا أن نجهل بأنّ النبوة منصب إلهي لا يتحمّلها إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الناس، ولا يقوم بأعبائها إلاّ من عمّر قلبه بالاِيمان، وزوّد بالخلوص والصفاء، وغمره الطهر والقداسة وأُعطى مقدرة روحية عظيمة، لا يتهيب حينما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلاّ أن يكون في رعاية ملك كريم من ملائكته سبحانه، يرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال، ويصونه من صباه إلى شبابه، وإلى كهولته عن كل سوء وزلة. وهذا هو السرّ في وقوعه تحت كفالة أكبر ملك من ملائكته حتى تستعد نفسه لقبول

____________

1. نهج البلاغة: 2/82، من خطبة تسمّى القاصعة 187، طبعة عبده.


الصفحة 265
الوحي، وتتحمل القول الثقيل الذي سيلقى عليه.

2. ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة أُمّ الموَمنين أنّها قالت: أوّل ما بُدىَ به رسول الله من الوحي، الروَيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى روَيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه، ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن يَنزعَ إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ.(1) 3. روى الكليني بسند صحيح عن الاَحول قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدّث قال: "الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً... وأمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو روَيا إبراهيم (عليه السلام)، ونحو ما كان رأي رسول الله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة".(2)

وهذه المأثورات تثبت بوضوح أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يُبعث، كان تحت كفالة أكبر ملك من ملائكة الله، يرى في المنام ويسمع الصوت، قبل أن يبلغ الاَربعين سنة، فلمّا بلغها بُشّـر بالرسالة، وكلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن، وكان يعبد الله قبل ذلك بصنوف العبادات، إمّا موافقاً لما سيوَمر به بعد تبليغه، أو مطابقاً لشريعة إبراهيم أو غيره، ممن تقدمه من الاَنبياء، لا على وجه كونه تابعاً لهم وعاملاً بشريعتهم، بل بموافقة ما أُوحي إليه مع شريعة من تقدّم عليه.

ثم إنّ العلاّمة المجلسي استدل على هذا القول بوجه آخر، وهو: انّ يحيى وعيسى كانا نبيّين وهما صغيران، وقد ورد في أخبار كثيرة انّ الله لم يعط نبيّاً

____________

1. صحيح البخاري: 1/3، باب بدء الوحي إلى رسول الله 6؛ السيرة النبوية: 1/234 ـ 236.

2. الكافي: 1/176.


الصفحة 266
فضيلة ولا كرامة ولا معجزة إلاّ وقد أعطاها نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف جاز أن يكون عيسى (عليه السلام) في المهد نبياً ولم يكن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أربعين سنة نبياً؟!(1) قال سبحانه حاكياً عن المسيح: (قَالَ إِنّي عَبْدُ اللهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً)(2) ، وقال سبحانه مخاطباً ليحيى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَا الْحُكْمَ صَبِيّاً)(3)

ولازم ذلك أنّ النبي قبل بعثته في صباه أو بعد ما أكمل الله عقله كان نبياً موَيداً بروح القدس يكلّمه الملك، ويسمع الصوت ويرى في المنام.

وإنّما بُعث إلى الناس بعد ما بلغ أربعين سنة، وعند ذاك كلّمه الملك معاينة ونزل عليه القرآن وأُمر بالتبليغ.

ويوَيد ذلك ما رواه الجمهور عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنّه كان نبياً وآدم بين الروح والجسد.(4) هذا كلّه راجع إلى حاله قبل بعثته، وأمّا بعدها فنأتي بمجمل القول فيه:

حاله بعد البعثة

قد عرفت حال النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته، فهلمّ معى ندرس حاله

____________

1. البحار: 18/279.

2. مريم: 30 ـ 31.

3. مريم: 12.

4. نقل العلاّمة الاَميني مصادره عن عدة من الكتب، وذكر انّ للحديث عدّة ألفاظ من طرق شتى. لاحظ الجزء 9/287.


الصفحة 267
بعدها، وقد اختلفوا فيه أيضاً على قولين:

فمن قائل: إنّه كان يتعبّد بشرع من قبله.

ومن قائل آخر ينفيه بتاتاً.

وقد بسط الكلام في هذا المقام السيد المرتضى في "ذريعته" وتلميذه الجليل في "عدّته" فاختارا القول الثاني وأوضحا برهانه.(1)

غير انّـي أرى البحث في ذلك عديم الفائدة، لاَنّ المسلمين اتفقوا على أنّه بعد البعثة، ما كان يقول إلاّ ما يوحى إليه، ولا يصدر عنه شيء إلاّ عن هذا الطريق، فإذا كان الواجب علينا اقتفاء أمره ونهيه، والعمل بالوحي الذي نزل عليه، فأى فائدة في البحث عن أنّه هل كان ما يأمر به وينهى عنه، صدر عن التعبّد بشريعة من قبله، أو صدر عن شريعته؟ إذ الواجب علينا الاَخذ بما أتى به، بأي لون وشكل كان، وفي ذلك يقول المحقّق الحلّـي: إنّ هذا الخلاف عديم الفائدة، لاَنّا لا نشك أنّ جميع ما أتى به لم يكن نقلاً عن الاَنبياء، بل عن الله تعالى بإحدى الطرق الثلاث التي أُشير إليها في قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِبَشَـرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِه مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىّ حَكِيمٌ)(2) . فإذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصدر عنه شيء إلاّ عن طريق الوحي، فلا تترتب على البحث أيّة فائدة، فسواء أكان متعبداً بشرع من قبله أم لم يكن، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يأمر ولا ينهى إلاّ بإذنه سبحانه.(3)

____________

1. الذريعة: 2/598؛ العدة: 2/61.

2. الشورى: 51.

3. لاحظ المعارج: 65، بتوضيح منّا.


الصفحة 268
قال سبحانه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى)(1) ، وقال عزّ من قائل: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2) ، وقال تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(3) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل بوضوح على أنّ كل ما يأمر وينهى، مستند إلى الوحى منه سبحانه إليه، سواء أمره بالاَخذ من الشرع السابق أم أمره بما يماثله أو يخالفه.

أضف إلى ذلك إنّه إذا لم يجز له التعبد بالشرع السابق قبل البعثة بالدلائل السابقة لم يجز له أيضاً بعدها.

نعم هناك بحث آخر وهو حجية شرع من قبلنا للمستنبط إذا لم يجد في الشريعة المحمدية دليلاً على حكم موضوع خاص، فهل يجوز أن يعمل بالحكم الثابت في الشرائع السماوية السالفة ما لم يثبت خلافه في شرعنا أم لا ؟

فهذه مسألة أُصولية طرحها الاَُصوليون في كتبهم قديماً وجديداً، فاستدل القائلون بالجواز بالآيات التالية:

1. (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(4)

2. (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)(5)

3. (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً)(6)

____________

1. النجم: 3 ـ 4.

2. الشورى: 3.

3. الاَحقاف: 9.

4. الاَنعام: 90.

5. النحل: 123.

6. الشورى: 13.


الصفحة 269
4. (إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)(1)

ولكن الكلام في دلالة هذه الآيات على ما يتبنّاه هوَلاء وهي غير واضحة، وقد بسط المحقق الكلام في دلالة الآيات في أُصوله،(2) ونقله العلاّمة المجلسي في " بحاره"(3) ، ونحن نحيل القارىَ الكريم إلى مظانّه.

الآيات التي وقعت ذريعة لبعض المخطّئة

هذا حال النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة، وحال أجداده وآبائه وبعض أعمامه، وقد خرجنا من هذا البحث الضافي بهذه النتائج:

1. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ولد في بيت كان يسوده التوحيد وقد ترعرع وشب واكتهل في أحضان رجال لم يتخلّفوا عن الدين الحنيف قيد شعرة.

2. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ نعومة أظفاره كان تحت رعاية أكبر ملك من ملائكته سبحانه فيلهم ويوحى إليه قبل أن يبلغ الاَربعين، ويخلع عليه ثوب الرسالة.

3. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موَمناً بالله، وموحداً له، يعبده، ولا يعبد غيره، ويتقرّب إليه بالطاعات والقربات، ويتجنب المعاصي والمآثم.

هذه هي الحقيقة الملموسة من حياته يقف عليها من سبر تاريخ حياته بإمعان، وقد مرّ أنّ هناك آيات وقعت ذريعة لبعض المخطّئة لعصمته، فدخلت لاَجلها في أذهانهم شبهات في إيمانه وهدايته قبل البعثة.

____________

1. المائدة: 44.

2. معارج الاَُصول: 157.

3. البحار: 18/276 ـ 277.