1. (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى)(1)
2. (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(2)
3. (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الاِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)(3)
4. (وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)(4)
5. (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(5)
وقد استدلت المخطّئة بهذه الآيات على مدّعاها، بل على زعم سلب الاِيمان عنه قبل أن يبعث، لكنّها لا تدل على ما يريدون ولاَجل تسليط الضوء على مقاصدها نبحث عنها واحدة بعد واحدة.
____________
1. الضحى: 6 ـ 7.
2. المدثر: 4 ـ 5.
3. الشورى: 52.
4. القصص: 86.
5. يونس: 16.
الآية الاَُولى: الهداية بعد الضلالة؟
إنّ قوله سبحانه: (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) هل يتضمن هدايته بعد الضلالة؟
وقد ذكر المفسرون للآية عدّة احتمالات أنهاها الرازي في تفسيره إلى ثمانية، لكن أكثرها من مخترعات الذهن، لاَجل الاِجابة عن استدلال الخصم على كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ضالاً قبل البعثة، غير موَمن ولا موحد، فهداه الله سبحانه، ولكن الحق في الجواب أن يقال:
إنّ الضال يستعمل في عرف اللغة في موارد:
1. الضال: من الضلالة: ضد الهداية والرشاد.
2. الضال: من ضل البعير: إذا لم يعرف مكانه.
3. الضال: من ضل الشيء: إذا ضوَل وخفى ذكره.
وتفسير الضال بأىّ واحد من هذه المعاني لا يثبت ما تدّعيه المخطّئة سواء أجعلناها معاني مختلفة جوهراً وشكلاً، أم جعلناها معنى واحداً جوهراً ومختلفاً شكلاً وصورة، فإنّ ذلك لا يوَثر فيما نرتئيه، وإليك توضيحه:
أمّا المعنى الاَوّل: فهو المقصود من تلك اللفظة في كثير من الآيات، قال سبحانه: (غَيْـرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)(1) ، لكن الضلالة بمعنى ضد الهداية والرشاد يتصور على قسمين:
قسم: تكون الضلالة فيه وصفاً وجودياً، وحالة واقعية كامنة في النفس،
____________
1. الحمد: 7.
فإنّ لازدياد الاِثم بالجوارح تأثيراً في زيادة الكفر، وقد وصف سبحانه بعض الاَعمال بأنّها زيادة في الكفر قال سبحانه: (إِنَّما النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)(2)
وقسم منه: تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً، بمعنى كون النفس فاقدة للرشاد غير مالكة له، وعندئذ يكون الاِنسان ضالاً بمعنى أنّه غير واجد للهداية من عند نفسه، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيه صفة وجودية مثل ما تكمن في نفس المشرك والعاصي، وهذا كالطفل الذي أشرف على التمييز وكاد أن يعرف الخير من الشر، والصلاح من الفساد، والسعادة من الشقاء، فهو آنذاك ضال، لكن بالمعنى الثاني، أي غير واجد للنور الذي يهتدى به في سبيل الحياة، لا ضال بالمعنى الاَوّل بمعنى كينونة ظلمة الكفر والفسق في روحه.
إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّه لو كان المراد من الضال في الآية، ما يخالف الهداية والرشاد فهي تهدف إلى القسم الثاني منه لا الاَوّل: بشهادة أنّ الآية بصدد توصيف النعم التي أفاضها الله سبحانه على نبيّه يوم افتقد أباه ثم أُمّه فصار يتيماً لا ملجأ له ولا مأوى، فآواه وأكرمه، بجدّه عبد المطلب ثم بعمّه أبي طالب، وكان
____________
1. آل عمران: 178.
2. التوبة: 37.
والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الاِفعالي، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ)(1) ، فكما أنّ وجوده مفاض من الله سبحانه، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة، والاعتقاد بالهداية الذاتية، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الاِفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن.(2)
وقد تضافرت الآيات على هذا الاَصل، وأنّ هداية كل ممكن مكتسبة من الله سبحانه من غير فرق بين الاِنسان وغيره، وفي الاَوّل بين النبي وغيره، قال سبحانه: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(3) ، وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَ الَّذِى قَدَّرَ فَهَدى)(4) ، وقال سبحانه: (وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ)(5) وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)(6) ، وقال تعالى: (إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)(7) لا، وقال تبارك وتعالى: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي)(8) ، إلى غير ذلك من الآيات.
____________
1. فاطر: 15.
2. لاحظ الجزء الاَوّل: 297 ـ 376.
3. طه: 50.
4. الاَعلى: 2 ـ 3.
5. الاَعراف: 43.
6. الشعراء: 78.
7. الزخرف: 27.
8. سبأ: 50.
والحاصل: انّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ، وفي قوله: (الذي خلقنى فهو يهدين) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثم أُفيضت عليه الهداية، هو مقتضى التوحيد الاِفعالي ولازم كون النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ممكناً بالذات، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان؟!
وإن شئت قلت: إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه: (إنّ الاِنسان لفي خسر) والهداية فيها ترادف الاِيمان والعمل الصالح الواردين بعده (إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(2) فالاِنسان بما أنّه يصرف رأس ماله، أعني: عمره الغالي كل يوم، خاسر بالذات، إلاّ إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الاِيمان المقرون بالعمل الصالح، والنبي وغيره في هذه الاَحكام سواسية بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الاِنسان التي يثبتها
____________
1. نهج البلاغة: الخطبة 178، والتي تسمّى بالقاصعة.
2. العصر: 2 ـ 3.
وبذلك يتبيّـن أنّ الضلالة في الآية ـ لو فسرت بضد الهدى والرشاد ـ لا تدل على ما تدّعيه المخطّئة، بل هي بصدد بيان قانون كلى سائد على عالم الاِمكان من غير فرق بين الاِنسان وغيره، وفي الاَوّل بين النبي وغيره.
حول الاحتمالين الآخرين
ولكن هذا المعنى غير متعين في الآية إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من "ضل الشيء: إذا لم يعرف مكانه" و "ضلت الدراهم: إذا ضاعت وافتقدت" و "ضل البعير: إذا ضاع في الصحارى والمفاوز" وفي الحديث: "الحكمة ضالة الموَمن أخذها أين وجدها" أي مفقودته ولا يزال يتطلبها، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب "الجعالة": "من رد ضالّتى فله كذا".
فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السير والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضل في شعاب مكة وهو صغير، فمنَّ الله عليه إذ ردّه إلى جدّه، وقصته معروفة في كتب السير.(1)
ولولا رحمته سبحانه لاَدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً، فشملته العناية الاِلهية فردّه إلى مأواه وملجأه.
وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّـا تقدمه من احتمالين، وهو أن تكون
____________
1. لاحظ السيرة الحلبية: 1/131 ويقول: عن حيدة بن معاوية العامري: سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول:
يا رب رد راكبى محمداًأردده ربى واصطنع عندي يداً
وإلى ذلك يشير الاِمام الرضا (عليه السلام) على ما في خبر ابن الجهم ـ بقوله: "قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): " (أَلم يجدك يتيماً فآوى) يقول: (ألم يجدك) وحيداً (فآوى) إليك الناس (ووجدك ضالاً) يعني عند قومك (فهدى) أي هداهم إلى معرفتك".(3)
هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطّئة وإن كان الاَظهر هو الاَوّل.
ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في "رسالة التوحيد" فقال:
____________
1. السجدة: 10.
2. الانشراح: 1 ـ 4.
3. البحار: 16/142.
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني عمه وصبية قومه، كأحدهم على ما به من يتم، فقد فيه الاَبوين معاً، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول، ولم يقم على تربيته مهذب، ولم يعن بتثقيفه موَدب بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من خلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الاَوهام، وأقرباء من حفدة الاَصنام، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً، حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه بالاَمين، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الاَيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام، فاكتهل (صلى الله عليه وآله وسلم) كاملاً والقوم ناقصون، رفيعاً والقوم منحطون، موحداً وهم وثنيون، سلماً وهم شاغبون، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.
من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه، ولا سيما إن كان من ذوي قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يوَيده، فلو جرى الاَمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده، ولكن الاَمر لم يجر على سنته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: (ووجدك ضالاً فهدى) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد،
الآية الثانية: الاَمر بهجر الرجز
يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الْرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(2)
استدلت المخطّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن، ففي الاَمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعانى الثلاثة التالية:
1. العذاب.
2. القذارة.
3. الصنم.
ولك أن تقول: إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً، وليست بمعان متعددة، ولكن تعيين أحد الاَمرين لا يوَثر فيما نرتئيه، توضيح ذلك:
إنّ "الرجز ": بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد، وإليك مظانها: البقرة/59، الاَعراف/134 وجاءت اللفظة فيها مرتين، والاَعراف/145 و 162، الاَنفال/11، سبأ/5، الجاثية/11، والعنكبوت/29.
____________
1. رسالة التوحيد: 135 ـ 136.
2. المدثر: 1 ـ 7.
أ. "الرجز" العذاب: فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الاَمر بهجر ما يسلتزم العذاب، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب، لاَنّ هذه الخطابات من باب "إياك أعني واسمعي يا جارة"، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة، لاَنّه سبحانه إذا خاطب أعز الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به، ومن هنا يقدر القارىَ الكريم على حل كثير من الآيات التي تخاطب النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحن حاد وشديد، فتقول: (لَئِنْ أَشْـرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(1) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهاه عنه سبحانه، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم، والخطاب موجه إليه والمقصود منها عامة الناس، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الاَكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الاَربعة المتوالية، الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقصود منه هو الاَُمّة ويقول: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للْكَافِرينَ * وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(2)
وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.
ب. الرجز بمعنى القذارة: ثم إنّ القذارة على قسمين: القذارة المادية،
____________
1. الزمر: 65.
2. القصص: 86 ـ 88.
ج. الرجز بمعنى الصنم: نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعم الصنم والخمر والاَزلام، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولاَجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال: (إِنَّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الاَنْصَابُ وَ الاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)(1)
ولكن الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الاَُوليين، والشاهد على ذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن، بل كان مشمّراً لتحطيم الاَصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه، بهجر الاَصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.
الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والاِيمان
قوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الاِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)(2)
____________
1. المائدة: 90.
2. الشورى: 52.
لكن حياته المشرقة ـ بالاِيمان والتوحيد ـ تفند تلك المزعمة، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه، كان موَمناً موحداً، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الاَحبار والرهبان معترفين بأنّه نبىُّ هذه الاَُمّة وخاتم الرسالات الاِلهية، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في "مكة" و "يثرب" و "بصرى" و "الشام" وغيرها، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه، أو يكون مجانباً عن الاِيمان بوجوده سبحانه وتوحيده، والتاريخ المسلّم الصحيح يوَكد على عدم صدق ذلك الاستظهار، وعلى ضوء هذا، لا بد من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول:
بعث النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً ـ بالآيات والبيّنات، وأخص بالذكر منها: كتابه وقرآنه (معجزته الكبرى الخالدة) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله، فتارة قالوا: بأنّه (يُعْلّمُهُ بشر) ، وأُخرى بأنّه (إفْكٌ افتراهُ وأعانَهُ عَلَيهِ قَوْمٌ آخَرَون) ، وثالثة: بأنّه (أساطِيرُ الاَوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وأصِيلا) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها: (قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الّذِينَ آمَنُوا وهُدًى
والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الاَمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه، ولاَجل ذلك بدأ كلامه بلفظة (وكذلك أوحينا إليك) ، أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الاَنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا، وليس هذا كلامك وصنيعك، بل كلام ربك وصنيعه.
هذا مجمل الكلام في الآية، ولاَجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه:
الاَوّل: المراد من الروح في الآية هو القرآن، وسمّى روحاً لاَنّه قوام الحياة الاَُخروية، كما أنّ الروح في الاِنسان قوام الحياة الدنيوية، ويوَيد ذلك أُمور:
أ. انّ محور البحث الاَصلي في سورة الشورى، هو: الوحى والآيات الواردة فيها البالغ عددها 53 آية، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.
ب. الآية التي تقدمت على تلك، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَىّ حَكِيمٌ)(3)
____________
1. النحل: 102 ـ 103.
2. الفرقان: 4 ـ 6.
3. الشورى: 51.
كل ذلك يوَيد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو (روح القدس) ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية، لاَنّ "الروح" بحكم كونه مفعولاً لـ (أوحينا) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون "موحاً" وروح القدس ليس موحاً، بل هو الموحي بالكسر، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً لـ (أوحينا) ؟ ولاَجله يجب تأويل الروايات إن صح اسنادها.
الثاني: انّ هيئة (ما كنت) أو (ما كان) تستعمل في نفى الاِمكان والشأن قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ)(1) ، وقال عزّ اسمه: (وَمَا كَانَ الْمُوَْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة)(2) . وقال تعالى حاكياً عن بلقيس: (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُون)(3)
وعلى ضوء هذا الاَصل يكون مفاد قوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الاِيمان) انّه لولا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الاِيمان، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.
الثالث: انّ ظاهر الآية أن النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للاِيمان، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحى وفضله، فيجب
____________
1. آل عمران: 145.
2. التوبة: 122.
3. النمل: 32.
فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالاً، والاِيمان بوجوده وتوحيده سبحانه؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والاِذعان بها كذلك؟
لا سبيل إلى الاَوّل، لاَنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما مما يتوقف على الوحي، فإنّ الاَحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً، وقد سمع منهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فترات مختلفة ـ أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع، فهل يصح أن يقال: إنّ علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته؟ ومثله الاِيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الاِيمان بالله أمراً مشكلاً متوقفاً على الوحي، وقد كان الاَحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمى، موحدين موَمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.
وبالجملة: العلم الاِجمالي بنزول كتاب إليه والاِيمان بوجوده وتوحيده، لم يكن أمراً متوقفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الاِيمان) . وعندئذ يتعين الاحتمال الثاني، وهو أنّ العلم التفصيلى بمضامين الكتاب وما فيه من الاَُصول والتعاليم والقصص ـ ثم الاِيمان والاِذعان بتلك التفاصيل ـ كانا متوقفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.
وإن شئت قلت: العلم والاِيمان بالاَُمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها ـ كالمعارف والاَحكام والقصص ومحاجة الاَنبياء مع المشركين والكفّار وما
تفسير الآية بآية أُخرى
إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والاِيمان ثانياً:
أمّا الاَوّل: فيقول سبحانه: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(1) فالآية صريحة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن عالماً بتفاصيل الاَنباء، وقد وقف عليها من جانب الوحي، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله: (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) وفي تلك الآية: بقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب) والفرق هو أنّ (الكتاب) أعم من (أنباء الغيب) والاَوّل يشتمل على الاَنباء وغيرها "وأمّا الاَنباء" فإنّها مختصة بالقصص، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحى والعلم بهما بعده.
وأمّا الثاني:
فقوله سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُوَْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(2) فقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه) صريح
____________
1. هود: 49.
2. البقرة: 285.
والحاصل: أنّ هنا شيئاً واحداً، أعني: الاِيمان بما أُنزل من المعارف والاَحكام والاَنباء، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الاَُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.
ومن هنا تتضح أهمية عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية باختها، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.
وقد تفطن المفسرون لما ذكرناه على وجه الاِجمال فقال الزمخشري في الكشاف: الاِيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي.(1)
وقال الطبرسي: (ما كنت تدري ما الكتاب) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الاِيمان.(2)
وقال الرازي: المراد من الاِيمان هو الاِقرار بجميع ما كلّف الله تعالى به، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل أنّه كان عارفاً بالله... ثم قال: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا تمكن معرفته إلاّ بالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته
____________
1. الكشاف: 3/88 ـ 89.
2. مجمع البيان: 5/37.
وقال العلاّمة الطباطبائي في "الميزان": إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يدعو إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك، بالوحي بعد النبوة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي، والمراد من عدم درايته الاِيمان، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والاَعمال الصالحة، وقد سمى العمل إيماناً في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)(2) ، والمراد الصلوات التي أتى بها الموَمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به بما أنت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي، وهذا لا ينافي كونه موَمناً بالله موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً، لا نفى العلم والالتزام الاِجماليين بالاِيمان بالله والخضوع للحق.(3)
الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه
قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرينَ)(4)
____________
1. مفاتيح الغيب: 7/410. ولاحظ روح البيان: 8/347؛ روح المعاني: 15/25.
2. البقرة: 143.
3. الميزان: 18/80.
4. القصص: 86.
أقول: توضيح مفاد الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية، أعني قوله: (إلاّ رحمة من ربّك) حتى يتضح المقصود، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:
1. انّ "إلاّ" استدراكية وليست استثنائية، فهي بمعنى "لكن" لاستدراك ما بقي من المقصود.
وحاصل معنى الآية: ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك، إلاّ أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير، نظير قوله سبحانه: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَحْمَةً مِن رَبِّكَ)(1) يپ، أي ولكن رحمة من ربك خصّك بها، وهذا هو المنقول عن الفراء(2) ، وعلى هذا لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أىُّ رجاء لاِلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الاِلقاء لاَجل رحمة ربّه، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.
2. أن يكون " إلاّ " للاستثناء لا للاستدراك، وهو متصل لا منقطع، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في الكشاف: "وما ألقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك"(3) ، أي لم يكن لاِلقائه عليك وجه إلاّ رحمة من ربك، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجاء
____________
1. القصص: 46.
2. مجمع البيان: 4/269؛ مفاتيح الغيب: 6/408.
3. الكشاف: 2/487 ـ 488.
3. أن يكون "إلاّ" استثناء من الجملة السابقة عليه، أعني قوله: (وما كنت ترجوا) ويكون معناه: ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك الله برحمة فينعم عليك بذلك، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلاّ على هذا(1) فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الاَوّل: فهو رجاوَه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً، وأمّا رجاوَه به عن طريق الرحمة الاِلهية فكان موجوداً، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفي هو الاَوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية، وقد سبق منّا أنّ جملة (ما كنت) وما أشبهه تستعمل في نفى الاِمكان والشأن، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لاَن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلاّ من جهة خاصة، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه، ومخاطباً لكلامه وخطابه، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لاَن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسوَولية وتربية الاَُمّة، كان راجياً به، وعلى ذلك فالنفي والاِثبات غير واردين على موضع واحد.
فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إنساناً موَمناً موحداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرمات، عالماً بالكتاب، وموَمناً به إجمالاً، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لاِنقاذ البشرية
____________
1. مفاتيح الغيب: 6/498.