مقدمة الطبعة الاَُولى

الاَنبياء والرسُل في القرآن الكريم

إنّ النظرة الفاحِصَة إلى الكون والحياة والاِنسان تشهد بأنّ الخلق لم يكن عبثاً وسدى، وأنّ الاِنسان لم يُخلَق بلا غاية ولا هدف، إنّما خلقه الله سبحانه، وأتى به إلى فسيح هذا الوجود لغاية روحيّة عليا، وللوصول إلى كمالٍ معنوىّ ممكنٍ.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق بمختلف التعابير قال سبحانه: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالاََرضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ) .(1) وقال سبحانه أيضاً: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرجَعُون) .(2)

غير أنّ بلوغ تلك الغاية المنشودة يتوقف على أمرين:

1. موَهلاتٍ تكوينية ذاتيةٍ كامنةٍ في وجود الاِنسان، تبعثه بدافع من ذاته للسير باتجاه الكمال.

2. قادة أقوياءٍ متعلّمين بتعليمٍ من الله ومرسلين من جانبه لقيادة الاِنسان

____________

1. ص: 27.

2. الموَمنون: 115.


الصفحة 3
وهدايته إلى ما خُلِق له، فإذا تجاوبَ العاملان الداخلىُّ والخارجىُّ تم سوقه إلى الهدف المنشود.

وهذا ممّا يشهد به العقل السليم، والذكر الحكيم.

غير أنّ قيادة الاِنسان التي بُعِثَ من أجلها الاَنبياء ليست أمراً سهلاً يمكن القيام به لكلّ من هبّ ودبّ، بل القائم به لمّا كان يُفترضُ أن يكون أُسوة للناس في العلم والعمل، وجب أن يكون موصوفاً بأمثل الصفات وأكملها وأقواها، وأن يكون منزّهاً عن كلّ مَينٍ وشينٍ وعن كلّ نقصٍ وعيبٍ، وفي مقدمة كلّ ذلك يجب أن يكون عاملاً بما يقول، قائماً بما يدعو إليه، موَتمراً بما يأمر به، منتهياً عمّا ينهى عنه، وإلاّ لزلّ كلامه عن القلوب، كما يزل المطر عن الحَجر الصلد، ولما تحقّق هدفُ البعث والاِرسال فانّ الناس يميلون بطبعهم إلى رجالٍ يُوصَفونَ بالمُثُل العُليا، ويرغبون في من يقرن منهم العلمَ بالعمل، فيما ينفرون بطبعهم عن ما يقابل هذا الطراز من الرجال وإن كانوا قمّةً في قوة الفكر، وحلاوة الكلام.

وهذا هو الذي دعا المسلمين إلى القول بوجوب عصمة الاَنبياء والرسل عن الخطأ و الزلل وعن الاِثم والعصيان.

وقد استشهدوا على ذلك بالذكر الحكيم، وحكم العقل السليم الذي لا يفارق الكتابَ الكريم.

فلاَجل ذلك أخذت مسألة العصمة في كتب الكلام والتفسير مكانةً خاصةً، وأسهب المحقّقون فيه الكلام، وإن كان بين المسلمين من شذّ ولم يصف الاَنبياء بالعصمة.


الصفحة 4

البحث عن العصمة من صميم الحياة

إنّ البحث عن العصمة ليس بحثاً عن مسائل جانبيةٍ لا تمتُّ إلى الحياة الاِنسانية، خصوصاً الجانب المعنوي فيها، فانّها من الاَُمور التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والحياة الاِسلامية الحاضرة.

فإنّ البحث في العصمة بحثٌ عمّا يضمن سلامة هذه الثقافة، واستقامتها، وبالتالي بحثٌ عمّا يضمن مطابقة حياتنا الحاضرة مع ما أنزله الله من تشريع، وما تركه نبيّه الكريم من سنّة.

من هنا يكون من المحبَّذ الموَكَّد بل من اللازم الاِمعان في حياة الاَنبياء وسيرتهم، والاِمعان في الآيات التي وردت في حقّهم، فهو بالاضافة إلى أنّه يعين على فهم حقيقة "العصمة"، ويوَكّد ارتباطها بسلامة الثقافة الاِسلامية، امتثالاً لقوله سبحانه: (أَفَلا يَتَدبَّرُونَ القُرآن) .(1) وقوله سبحانه: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب) .(2) فالنظرة الفاحصة إلى الآيات الورادة في شأن الاَنبياء، وكذا القصص المذكورة حولهم على الوجه العام، والآيات التي ترجع إلى عصمتهم من الخطأ والزلل، والاِثم والعصيان بصورة خاصة يعتبر عبادة عمليةً يُثاب عليها المفكّر المتدبر فيها.

غير أنّه للاَسف اتّخذ بعض الكتاب المتسرّعين موقفاً سلبياً في مقابل العلماء الذين بحثوا عن "العصمة" ضمن تفاسيرهم أو كتبهم الاعتقادية فقال

____________

1. النساء: 82.

2. ص: 29.


الصفحة 5
مستنكراً، ومتهجّماً عليهم:

"ما سمعنا عن أحد من الصحابة أنّه ناقش النبي في كيف أكل آدم من الشجرة؟ وكيف عصى ربّه؟ ولا ناقشوا الرسولَ في غير آدم من الاَنبياء على هذا المنحى الذي نحاه المتأخرون، ولا والله ما كان أُولئك الصحابة أقلَّ معرفةً لمكانة الاَنبياء من أُولئك المتأخّرين، ولا أقلَّ احتراماً وإجلالاً لشأنهم من أُولئك المتكلّفين مالا يعنيهم، والداخلين فيما ليس من شوَونهم.

وأمّا القلوب السقيمة فهي قلوب المتأخرين الذين فتح عليهم الشيطان باباً واسعاً من فنون الجدل، وكثرة القيل والقال، والمماحَكات اللفظية وأقوال أهل الكتاب من اليهود أشدّ الناس كراهيةً للاَنبياء، وتحقيراً لهم، ومشاقّة لهم، وكفراً بهم وتقتيلاً.(1)

نحن لا نعلّق على هذا الكلام، لاَنّه كلام ساقط جداً، فانّ كاتباً يدّعي الاِسلام وفي الوقت نفسه يصف علماء الاِسلام ـ الذين أوكل الله إليهم قيادة الاَُمّة الاِسلامية ـ بأنّهم ممّن تأثروا بفتنة الشيطان، وجعل التدبّر في آيات الكتاب العزيز من وحي الشيطان، انسان متناقض لا يستحق كلامه الردّ والنقد.

والعجب أنّ هذا الكاتب (المجهول) استثنى من الفرق الاِسلامية فرقةً واحدةً وُقُوا من كيد الشيطان ووساوسه وفتنته "وهم أهل الحديث المقتفون للاَثر، الذين جعلوا عقولهم وآراءهم تحت حكم ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استمساكاً بالعروة الوثقى والحبل المتين"(2) عزب عنه أنّ أحداً من المسلمين لا

____________

1. من مقدمة "عصمة الاَنبياء" للرازي، بقلم كاتب مجهول الهوية، نشر دار المطبوعات الحديثة ـ جدّة.

2. من المقدمة أيضاً.


الصفحة 6
يعدل عن السنّة إلى غيرها بعد القرآن الكريم وأنّ إنكار السنّة إنكار لنبوة النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه أبد الآبدين.

غير أنّ الكلام هو في تشخيص (الصحيح) عن غيره، و(الموضوع) عمّا عداه، فانّ تاريخ الحديث يكشف عن أنّ الحديث وقع في مشاكل كثيرة، فهذه هي المجسمة والمشبّهة لله تعالى بخلقه، يستندون إلى هذه الاَحاديث المدوَّنة في الصحاح والسنن، والمسانيد.

لا ذاكرة لكذوب !!

والذي أظن أنّ هذه المقدمة كتبت لغاية خاصة وهي الحطُّ من مكانة أهل البيت النبويّ وأئمتهم الذين فرض الله تعالى على الناس محبّتهم ومودّتهم، وجعلها أجر الرسالة إذ قال: (قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي القُربى) .(1) فانّ هذا الكاتب (المجهول) تارة يعرف اليهود بأنّهم أشدّ الناس كراهيةً للاَنبياء وتحقيراً لهم إلى آخر ما قال... ولازم ذلك التحقير أن لا يكون الاَنبياء عندهم معصومين بل متهتكين لحرم الله.

وتارة يُشبّه المقتفين لآثار أهل البيت، باليهود، لاَنّهم أثبتوا العصمة لاَئمتهم كما أثبت اليهود العصمة للاَنبياء تكريماً لهم، وتعظيماً لشأنهم.

فما هذا التناقضُ الصريح بين الكلامين ياترى؟! فلو كان اليهود ـ كما وصفهم في العبارة الاَُولى ـ من أشدّ الناس عداوةً للاَنبياء وتحقيراً لهم، لما أثبتوا للاَنبياء العصمة التي هي من أعظم المواهب الاِلهية المفاضة للاِنسان. ولو كانت الشيعة كاليهود في القول بالعصمة فما معنى كون اليهود أشدّ الناس عداوة للاَنبياء؟! أضف إلى ذلك أنّه بأىّ دليل ينسب إلى اليهود القول بالعصمة بل هم

____________

1. الشورى: 23.


الصفحة 7
حسب نصوص التوراة زاعمين خلافها ؟

فلاَجل توقير الاَنبياء وتكريمهم، وامتثال قوله سبحانه: (ليدبروا...) عمدنا إلى جمع الآيات المتعلّقة بعصمة الاَنبياء والرسل، ما يدل منها على عصمتهم وما يتوهّم منه خلاف ذلك، ونحن نحاول بذلك سدّ فراغ ملموسٍ في المكتبة الاِسلامية بهذه الصورة الملموسة.

على أنّه وإن كان ثلةٌ من علماء الاِسلام القدامى نظير الشريف المرتضى (355 ـ 436 هـ) والخطيب الفخر الرازي (543 ـ 606 هـ) وغيرهما قد أشبعوا هذه المسألة بحثاً ودراسة، غير أنّ لكلِّ تأليفٍ مزيّتُه، كما أنّ كلّ موَلّف يناسب عصره، وثقافة بيئته.

نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لما يحب ويرضى.

جعفر السبحاني     
قم ـ الحوزة العلمية  
شهر ذي القعدة 1408 هـ


الصفحة 5

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، والصلاة والسلام على أنبيائه ورسله الذين أخذ على الوحي ميثاقَهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتَهم، وأرسلَهم إلى عبادِه ليستأدُوهُم ميثاقَ فطرته ويذكّروهم منسىَّ نعمتِه، ويحتجُّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العقول. لا سيّما خاتمَ رسله، وأفضلَ خليقته محمد، وعلى آله الذين هم عيبةُ علمِه، وموئِلُ حِكَمِه، وكهوفُ كتبه، وجبالُ دينه.

أما بعد: فإنّه سبحانه لم يخلق الناس عبثاً ولا سدى، وإنّما خلقهم لاِيصالهم إلى الكمال، وعزّز ذلك ببعثِ الرسل لهداية الناس إلى الغاية المنشودة، وقرنهم بفضائلَ، وطهّرهم عن الاَرجاس والاَدناس، حتى يتيسَّـر لهم تعليمُ الناس وهدايتهم.

وقد شهدت الآيات القرآنية على كمالهم ونضوج عقلهم، واستقامة طريقتهم، وابتعادهم عن الذنوب، وعلى ذلك استقرت العقيدة الاِسلامية عبر الاَجيال والقرون.

وقد أُثيرت منذ عصور غابرة شبهات حول طهارتهم ونزاهتهم، وتم دحضها إلاّ أنّها أُعيدت في العصور الاَخيرة باسلوب جديد من قِبَلِ بعض الباحثين وقد تشبَّثوا ببعض الآيات دعماً لموقفهم، ولهذا قمنا بتحليل هذه الآيات وتفسيرها على منهج موافق لقواعد التفسير كي يتّضح أنّ هذه الآيات لا


الصفحة 6
تمس كرامة العصمة بل تعزّزها.

وثمة بحوث جانبية حول واقع العصمة وحقيقتها وأسبابها قدّمناها على تفسير الآيات لتكون كالمقدمة، والله سبحانه من وراء القصد.

جعفر السبحاني
قم ـ موَسسة الاِمام الصادق (عليه السلام)
تحريراً في الرابع عشر من
شهر رمضان المبارك من شهور عام 1420 هـ


الصفحة (7

مبدأ ظهور نظرية العصمة

قد استعملت لفظة "العصمة" في القرآن الكريم بصورها المختلفة ثلاث عشرة مرة، وليس لها إلاّ معنى واحد وهو الاِمساك والمنع، ولو استعملت في موارد مختلفة فإنّما هو بملاحظة هذا المعنى.

قال ابن فارس: "عصم" أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كله معنى واحد، من ذلك: "العصمة" أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه، "واعتصم العبد بالله تعالى": اذا امتنع، و "استعصم": التجـأ، وتــقول العرب: "أعصمت فلاناً" أي هيّأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده. أي يلتجىَ ويتمسك به.(1)

إنّ الله سبحانه يأمر الموَمنين بالاعتصام بحبل الله بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) .(2) والمراد التمسك والاَخذ به بشدة وقوة وينقل سبحانه عن امرأة العزيز قولها: (وَلَقَدْ رَاودتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) .(3) وقد استعملت تلك اللفظة في الآية الاَُولى في الاِمساك والتحفّظ، وفي الآية الثانية في المنع والامتناع، والكل يرجع إلى معنى واحد.

____________

1. المقاييس: 4/331.

2. آل عمران: 103.

3. يوسف: 32.


الصفحة 8
ولاَجل ذلك نرى العرب يسمّون الحبل الذي تشد به الرحال: "العصام"، لاَنّه يمنعها من السقوط والتفرّق.

قال المفيد: إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الاِنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره، ومنه قولهم: اعتصم به الاِنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره. ومنه قولهم: "اعتصم فلان بالجبل" إذا امتنع به، ومنه سميت العصم وهي وعول الجبال لامتناعها بها.

والعصمة من الله هي التوفيق الذي يسلم به الاِنسان في ما يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به، سمّي ذلك الشيء عصمة له، لما تشبّث به فسلم به من الغرق، ولو لم يعتصم به لم يسم عصمة.(1) وعلى كل تقدير فالمراد من العصمة صيانة الاِنسان من الخطأ والعصيان، بل الصيانة في الفكر والعزم، فالمعصوم المطلق من لا يخطأ في حياته، ولا يعصي الله في عمره ولا يريد العصيان ولا يفكر فيه.

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الاَُمّة الاِسلامية

إنّ الكتب الكلامية ـ قديمها وحديثها ـ مليئة بالبحث عن العصمة، وإنّما الكلام في مبدأ ظهور تلك الفكرة بين المسلمين، وانّه من أين نشأ هذا البحث وكيف التفت علماء الكلام إلى هذا الاَصل؟

لا شك انّ علماء اليهود ليسوا بالمبدعين لهذه الفكرة، لاَنّهم ينسبون إلى

____________

1. أوائل المقالات: 11.


الصفحة 9
أنبيائهم معاصي كثيرة، والعهد القديم يذكر ذنوب الاَنبياء التي يصل بعضها إلى حد الكبائر، وربّما يخجل القلم عن ذكر بعضها استحياء، فالاَنبياء عندهم عصاة خاطئون، وعند ذلك لا تكون أحبار اليهود مبدعين لهذه المسألة.

نعم انّ علماء النصارى، وإن كانوا ينزهون المسيح من كل عيب وشين، ولكن تنزيههم ليس بملاك انّ المسيح بشر أرسل لتعليم الاِنسان وإنقاذه، بل هو عندهم "الاِله المتجسد" أو هو ثالث ثلاثة.

وعند ذلك لا يمكن أن يكون علماوَهم مبدعين لهذه المسألة في الاَبحاث الكلامية، لاَنّ موضوع العصمة هو "الاِنسان".

ويذكر "المستشرق رونالدسن" في كتابه "عقيدة الشيعة" انّ فكرة عصمة الاَنبياء في الاِسلام مدينة في أصلها وأهميتها التي بلغتها بعدئذ، إلى تطور "علم الكلام" عند الشيعة وأنّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمتهم، ويحتمل أن تكون هذه الفكرة قد ظهرت في عصر الصادق، بينما لم يرد ذكر العصمة عند أهل السنة إلاّ في القرن الثالث للهجرة بعد أن كان الكليني قد صنّف كتابه "الكافي في أُصول الدين"(1) وأسهب في موضوع العصمة.

ويعلّل "رونالدسن" بأنّ الشيعة لكي يثبتوا دعوى الاَئمّة تجاه الخلفاء السنيّين أظهروا عقيدة عصمة الرسل بوصفهم أئمّة أو هداة.(2)

____________

1. لقد توفـى محمد بن يعقوب الكليني في العقد الثالث من القرن الرابع أي عام 328 هـ، فلو استفحلت مسألة العصمة في القرن الثالث عند أهل السنّة حسب اعتراف الرجل، فكيف يكون كتاب الكافي منشئاً لهذه الحركة الفكرية، أفهل يمكن تأثير المتأخر في المتقدم، وهل يكون العائش في القرن الرابع موَثراً في فكر من يعيش في القرن الثالث، أضف إليه أنّ كتاب الكافي لم يوَلف في الا َُصول وحدها، بل هو كتاب مشتمل على أحاديث تربو على ستة عشر ألف حديث حول أُصول الدين وفروعه.

2. عقيدة الشيعة: 328.


الصفحة 10
إنّ هذا التحليل لا يبتنى على أساس رصين وإنّما هو من الاَوهام والاَساطير التي اخترعتها نفسية الرجل وعداوَه للاِسلام والمسلمين أوّلاً، والشيعة وأئمّتهم ثانياً، وسيوافيك بيان منشأ ظهور تلك الفكرة.

القرآن يطرح مسألة العصمة

إنّ العصمة بمعنى المصونية عن الخطأ والعصيان مع قطع النظر عمن يتصف بها، قد ورد في القرآن الكريم، فقد جاء وصف الملائكة الموكلين على الجحيم بهذا الوصف إذ يقول: (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُوَْمَرُونَ) .(1) ولا يجد الاِنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يوَمرون) في تحديد حقيقة العصمة، وواقعها، والفات الاِنسان المتدبر في القرآن إلى هذه الفكرة، وذاك الاَصل.

إنّ الله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله: (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) . (2) كما يصفه أيضاً بقوله: (إِنَّ هذَا الْقُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُوَْمِنينَ) .(3) فهذه الاَوصاف تنص على مصونية القرآن من كل خطاءوضلال.

وعلى ذلك فالعصمة بمفهومها الوسيع، مع قطع النظر عن موصوفها، قد طرحها القرآن وألفت نظر المسلمين إليها، من دون أن يحتاج علماوَهم إلى أخذ

____________

1. التحريم: 6.

2. فصلت: 42.

3. الاِسراء: 9.


الصفحة 11
هذه الفكرة من الاَحبار والرهبان.

نعم انّ الموصوف في هذه الآيات وان كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الاَنبياء والاَئمّة، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضر بكون القرآن مبدعاً لهذه الفكرة، لاَنّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة، ثم تطورها عند المتكلّمين، ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حق الملائكة والقرآن.

عصمة النبي في القرآن الكريم

إنّ العصمة ذات مراحل أربع، وقد تكفل القرآن ببيان تلك المراحل في مورد الاَنبياء عامة، ومورد النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، وسيوافيك بيان تلك المراحل ودلائلها القرآنية.

فإذا كان القرآن هو أوّل من طرح هذه المسألة بمراحلها ودلائلها، فكيف يصح أن ينسب إلى الشيعة ويتصور أنّهم الاَصل في طرح هذه المسألة؟!

وإن كنت في ريب مما ذكرناه ـ هنا ـ فلاحظ قوله سبحانه في حق النبي الاَكرم حيث يصف منطقه الشريف بقوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) .(1) فترى الآيتين تشيران ـ بوضوح ـ إلى أنّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وانّ ما ينطق به، وحي أُلقي في روعه وأُوحى إلى قلبه، ومن لا يتكلم عن الميول النفسانية، ويعتمد في منطقه على الوحى يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين: مرحلة الاَخذ والتلقّي ومرحلة التبليغ والتبيين.

على أنّ الآيات القرآنية تصف فوَاده وعينه بأنّهما لا يكذبان ولا يزيغان

____________

1. النجم: 3 ـ 4.


الصفحة 12
ولا يطغيان، إذ قال سبحانه: (ما كَذَبَ الْفُوَادُ ما رَأَى *... ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) .(1) أفيصح بعد هذه الآيات القرآنية تصديق ما ذكره هذا المستشرق اليهودي أو ذاك المستشرق النصراني فيما زعما في كون الشيعة مبدأ لطرح العصمة على بساط البحث، وانّه وليد تكامل علم الكلام عند الشيعة في عصر الاِمام الصادق(عليه السلام) مع أنّا نرى أنّ للمسألة جذوراً قرآنية ولا عتب على الشيعة أن يقتفوا أثر كتاب الله سبحانه، ويصفوا أنبياءه ورسله بما وصفهم به صاحب العزة في كتابه.

نظرية أحمد أمين حول كلام الشيعة

إنّ بعض المصريين كأحمد أمين ومن حذا حذوه يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في العدل والعصمة وغيرهما من الاَفكار، من المعتزلة حيث قالوا: إنّ الشيعة يقولون في كثير من مسائل أُصول الدين بقول المعتزلة، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأنّ صفات الله عين ذاته، وبأنّ القرآن مخلوق وبإنكار الكلام النفسي، وإنكار روَية الله بالبصر في الدنيا والآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين، وبقدرة العبد واختياره وانّه تعالى لا يصدر عنه قبيح وانّ أفعاله معللة بالاَغراض.

وقد قرأت كتاب الياقوت لاَبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلمي الشيعة الاِمامية(2) فكنت كأني أقرأ كتاباً من كتب أُصول المعت كالفصل الاَخير في الاِمامة وإمامة على وإمامة الاَحد عشر بعده، ولكن أيّهما أخذ من الآخر ؟!

____________

1. النجم: 11 ـ 17.

2. قال أحمد أمين تعليقاً على هذه الجملة: وهو مخطوط نادر تفضل صديقي الا َُستاذ أبو عبد الله الزنجاني فأهدانيه. أقول: إنّ هذا الكتاب طبع أخيراً في إيران مع شرح العلامة الحلّـى.


الصفحة 13
أمّا بعض الشيعة فيزعم انّ المعتزلة أخذوا عنهم وانّ واصل بن عطاء تتلمذ لجعفر الصادق، وأنّا أرجح أن الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم... ونشوء مذهب الاعتزال يدل على ذلك، وزيد بن على زعيم الفرقة الشيعية الزيدية تتلمذ لواصل، وكان جعفر "الصادق" يتصل بعمه زيد ويقول أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن على بالركاب، ويسوي ثيابه على السرج(1) فإذا صح ما ذكره الشهرستاني وغيره من تتلمذه لواصل، فلا يعقل كثيراً أن يتتلمذ واصل لجعفر، وكثير من المعتزلة كان يتشيع، فالظاهر انّه عن طريق هوَلاء تسربت أُصول المعتزلة إلى الشيعة.(2)

مناقشة نظرية أحمد أمين

ما ذكره الكاتب المصري اجتهاد في مقابل تنصيص أئمّة المعتزلة أنفسهم بأنّهم أخذوا أُصولهم من محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم وهما أخذا عن على بن أبي طالب والدهما العظيم، وإليك بعض نصوصهم:

قال الكعبي: والمعتزلة يقال أن لها ولمذهبها اسناداً يتصل بالنبي ليس لاَحد من فرق الا َُمّة مثله، وليس يمكن خصومهم دفعهم عنه، وهو انّ خصومهم يقرّون بأنّ مذهبهم يسند إلى واصل بن عطاء، وان واصلاً يسند إلى محمد بن علي بن أبي طالب، وابنه أبي هاشم "عبد الله بن محمد بن علي" وانّ محمداً أخذ عن أبيه علي وانّ علياً أخذ عن رسول الله .(3) وقال أيضاً: وكان واصل بن عطاء من أهل المدينة ربّاه محمد بن علي بن

____________

1. مقاتل الطالبيين: 93.

2. ضحى الاِسلام: 267 ـ 268.

3. رسائل الجاحظ: 228، تحقيق عمر أبو النصر.


الصفحة 14
أبي طالب وعلّمه.(1) وكان مع ابنه أبي هاشم في الكتّاب ثم صحبه بعد موت أبيه مدة طويلة وحكي عن بعض السلف انّه قيل له: كيف كان علم محمد بن علي فقال: إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره "واصل".

وهكذا ذكروا في عمرو بن عبيد انّه أخذ عن أبى هاشم أيضاً، وقال القاضي "عبد الجبار": فأمّا أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي فلو لم يظهر علمه وفضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى، وكان يأخذ العلم عن أبيه وكان واصل بمنزلة كتاب صنعه أبو هاشم، وكذلك أخوه غيلان بن عطاء يقال انّه أخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أخي أبي هاشم.(2) وقال الجاحظ: ومن مثل محمد الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرأ علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غلبنا الناس كلّهم بأبي هاشم الاَوّل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ أشرف العلوم هو العلم الاِلهي، لاَنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف، ومن كلامه (علي)(عليه السلام) اقتبس، وعنه نقل، ومنه ابتدىَ وإليه انتهى، فإنّ المعتزلة ـ الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته، وأصحابه، لاَنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه.

وأمّا الاَشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الاَشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة

____________

1. فضل الاعتزال: 234.

2. فضل الاعتزال: 226.


الصفحة 15
فالاَشعرية ينتهون بالآخرة إلى استاذ المعتزلة ومعلمهم، وهو علي بن أبي طالب.(1) وقال المرتضى في أماليه: اعلم أنّ أُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير الموَمنين ـ صلوات الله عليه ـ وخطبه، فإنّها تتضمن من ذلك ما لا زيادة عليه، ولا غاية وراءه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه، علم أنّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعده في تصنيفه وجمعه إنّما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الا َُصول، وروي عن الاَئمّة من أبنائه (عليه السلام)في ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة، ومن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه، أصاب منه الكثير، الغزير، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة، ونتاج للعقول العقيمة.(2) وقال العلاّمة السيد مهدي الروحاني في تعليقه على نظرية أحمد أمين: إنّ أحمد أمين قد لفق ذلك التوجيه والرد ليقطع انتساب الاعتزال والمعتزلة إلى أمير الموَمنين ولم نر أحداً من الشيعة قال بتتلمذ واصل للاِمام الصادق (عليه السلام)حتى يرد عليه أنّ الصادق كان يمسك الركاب لتلميذ واصل، وهو زيد. فتتلمذه للصادق بعيد، بل وجه اتصال المعتزلة بأمير الموَمنين هو ما ذكروه أنفسهم (حسب ما عرفت)، ومجرد إمساك الاِمام الصادق بالركاب لعمه زيد (رحمه الله) لا يدل على أنّ الصادق تتلمذ لعمه زيد، وانّما فعل أحمد أمين ذلك بدافع من هواه المعروف عنه، والظاهر في كتبه، وهو أن يسلب عن على ما ينسب إليه من الفضائل مهما أمكن ولكن بصورة التحقيق العلمي علّ ذلك ينطلي على الناس... وذلك بعد ما ظهر من الغربيين تقريظات ومقالات فيها تعظيم للمعتزلة وتعريف لهم بأنّـهم أصحاب الفكر الحر، لم تسمح نفس أحمد أمين بأن تكون جماعة كهوَلاء ينتسبون في أُصول مذهبهم وأفكارهم إلى على، فلفق ذلك التوجيه والرد والاِغفال.

____________

1. الشرح الحديدي: 1/17.

2. غرر الفوائد ودرر القلائد أو أمالى المرتضى: 1/148.


الصفحة 16
كما أنّه قد أنكر بلا دليل انتساب علم النحو إليه مع أنّ ابن النديم قال في الفهرست: زعم أكثر العلماء انّ النحو أخذه أبو الاَسود عن أمير الموَمنين(عليه السلام).(1)

عود على بدء

فلنرجع إلى دراسة وجود جذور عصمة النبي في كلام على (عليه السلام) حيث إنّه يصف النبي في الخطبة القاصعة بقوله:

ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.(2) ودلالة هذه القمة العالية من هذه الخطبة على عصمة النبي في القول والعمل عن الخطأ والزلل واضحة، فإنّ من رباه أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه من لدن أن كان فطيماً، إلى أُخريات حياته الشريفة، لا تنفك عن المصونية من الانحراف والخطأ، كيف وهذا الملك يسلك به طريق المكارم، ويربيه على محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، وليست المعصية إلاّ سلوك طريق المآثم ومساوىَ الاَخلاق، ومن يسلك الطريق الاَوّل يكون متجنباً عن سلوك الطريق الثاني.

إنّ الاِمام أمير الموَمنين لا يصف خصوص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعصمة في هذه الخطبة، بل يصف آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبرهم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، هم دعائم الاِسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن

____________

1. بحوث مع أهل السنّة والسلفية: 108، وقد نقلنا بعض النصوص السابقة في حق المعتزلة عن ذلك الكتاب.

2. نهج البلاغة الخطبة: 187، طبعة عبده.


الصفحة 17
منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ودعاية".(1) لاحظ هذا الكلام وأمعن النظر فيه هل ترى كلمة أوضح في الدلالة على مصونيتهم من الذنوب وعصمتهم عن الآثام من قوله: "لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه" أي لا يعدلون عن الحق، ولا يختلفون فيه، قولاً وفعلاً كما يختلف غيرهم من الفرق، وأرباب المذاهب، فمنهم من له في المسألة قولان، أو أكثر، ومنهم من يقول قولاً ثم يرجع عنه، ومنهم من يرى في أُصول الدين رأياً ثم ينفيه ويتركه.

إنّ الاِمام يصف آل النبي بقوله: "عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية" أي عرفوا الدين، وعلموه، معرفة من فهم الشيء وأتقنه، ووعوا الدين وحفظوه، وحاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع ودعاية".

وعلى الجملة انّ قوله (عليه السلام): "لا يخالفون الحق"، دليل على العصمة عن المعصية وقوله:"عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية" دليل على مصونيتهم عن الخطأ، وسلامتهم في فهم الدين ووعيه.

والاِمام لا يكتفي ببيان عصمة آل رسول الله بهذين الكلامين، بل يصف أحب عباد الله إليه بعبارات وجمل تساوق العصمة، وتعادلها، إذ يقول:

"أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى ليومه النازل به، فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشديد، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلّى من الهموم

____________

1. نهج البلاغة الخطبة 234، طبعة عبده.


الصفحة 18
إلاّ هماً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الاَُمور من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلصه فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية، إلاّ أمّها، ولا مظنة إلاّ قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله.(1) ولا أرى أحداً نظر في هذه الخطبة، وأمعن النظر في عباراته وجمله، إلاّ وأيقن أنّ الموصوف بهذه الصفات في القمة الاَعلى من العصمة. فهل ترى من نفسك انّ من لا يكون له إلاّ هم واحد وهو الوقوف عند حدود الشريعة ومن ألزم على نفسه العدل ونفي الهوى عن نفسه، أن لا يكون مصوناً من المعصية، ومعتصماً من الزلل، كيف وقد أمكن القرآن من زمامه، فهو قائده وإمامه يحل حيث حل، وينزل حيث نزل.

قال ابن أبي الحديد: إنّ هذا الكلام منه أخذ أصحابه علم الطريقة والحقيقة وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله، والعرفان درجة حال رفيعة شريفة جداً مناسبة للنبوة ويختص الله تعالى بها من يقربه إليه من خلقه.

وقال أيضاً: إنّ هذه الصفات والشروط والنعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنّما يعني بها نفسه، وهو من الكلام الذي له ظاهر وباطن، فظاهره

____________

1. نهج البلاغة الخطبة 83، طبعة عبده.


الصفحة 19
أن يشرح حال العارف المطلق، وباطنه أن يشرح حال العارف المعين وهو نفسه(عليه السلام).

ثم إنّ الشارح الحديدي أخذ في تفسير هذه الصفات والشروط واحداً بعد آخر، إلى أن بلغ إلى الشرط السادس عشر(1) ومن أراد الوقوف على أهداف الخطبة فليرجع إليه وإلى غيره من الشروح.

هذه جذور المسألة في الكتاب والسنّة، نعم انّ المتكلمين هم الذين عنونوا مسألة العصمة وطرحوها في الاَوساط الاِسلامية، فذهبت العدلية من الشيعة والمعتزلة إلى جانب النفي والسلب على أقوال وتفاصيل بين طوائفهم، وقد أقام كل فريق دليلاً على مدعاه.

ولا يمكن أن ينكر أنّ المناظرات التي دارت بين الاِمام على بن موسى الرضا وأهل المقالات من الفرق الاِسلامية قد أعطت للمسألة مكانة خاصة، فقد أبطل الاِمام الرضا (عليه السلام) كثيراً من حجج المخالفين في مجال نفى العصمة عن الاَنبياء عامة والنبي الاَعظم خاصة، ولولا خوف الاِطالة لاَتينا ببعض هذه المناظرات التي دارت بين الاِمام (عليه السلام) وأهل المقالات من الفرق الاِسلامية، وإن شئت الوقوف عليها فراجع بحار الاَنوار.(2) وسوف نرجع في نهاية المطاف إلى تفسير بعض الآيات التي تمسّك بها المخالف في مجال نفى العصمة عن الاَنبياء.

ما هي حقيقة العصمة؟

عرف المتكلمون العصمة على الاِطلاق بأنّها قوة تمنع الاِنسان عن

____________

1. الشرح الحديدي: 6/367 ـ 370.

2. بحار الاَنوار: 11/72 ـ 85.


الصفحة 20
اقتراف المعصية والوقوع في الخطأ.(1) وعرّفها الفاضل المقداد بقوله: العصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والاِقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب، والعصمة من العقاب، مع خوف الموَاخذة على ترك الا ََولى، وفعل المنسي.(2) أقول: إذا كانت حقيقة العصمة عبارة عن القوة المانعة عن اقتراف المعصية والوقوع في الخطاء، كما عرّفه المتكلمون فيقع الكلام في موردين:

الاَوّل: العصمة عن المعصية.

الثاني: العصمة عن الخطأ.

ولتوضيح حال المقامين من حيث الاستدلال والبرهنة يجب أن يبحث قبل كل شيء عن حقيقة العصمة.

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة على وجه منع الخلو، وان كانت غير مانعة عن الجمع:

____________

1. الميزان: 2/142، طبعة طهران.

2. إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 301 ـ 302، ومن العجب تفسير الاَشاعرة للعصمة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الاَشياء كلّها إلى الخالق المختار ابتداءً: بـأن لا يخلق الله فيهم ذنباً (*).

أفبعد هذا هل يصح أن تعد العصمة كرامة وترك الذنب فضيلة؟ وليس معنى التوحيد في الخالقية سلب التأثير عن سائر العلل، وقد أوضحنا الحال في الجزء الاَوّل من هذه السلسلة عند البحث عن هذا القسم من التوحيد، فلاحظ.

ــــــــــــــــــــ

(*) إبطال نهج الباطل لفضل بن روزبهان على ما نقله عنه صاحب دلائل الصدق: 1/370 ـ 371.


الصفحة 21

1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى بل هي درجة عليا منها، فما توصف به التقوى وتعرف به تعرف وتوصف به العصمة.

لا شك أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الاِنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الاِنسان عن اقتراف جميع قبائح الاَعمال، وذميم الفعال على وجه الاِطلاق، بل تعصم الاِنسان حتى عن التفكير في المعصية، فالمعصوم ليس خصوص من لا يرتكب المعاصي ويقترفها بل هو من لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفة والسخاء، فإذا كان الاِنسان شجاعاً وجسوراً، سخياً وباذلاً، وعفيفاً ونزيهاً، يطلب في حياته معالى الاَُمور، ويتجنب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار، كالخوف والجبن والبخل والاِمساك، والقبح والسوء، ولا يرى في حياته أثراً منها.

ومثله العصمة، فإذا بلغ الاِنسان درجة قصوى من التقوى، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه يصل الاِنسان إلى حد لا يرى في حياته أثر من العصيان والطغيان، والتمرّد والتجرّي، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الاِنسان كيف يصل إلى هذا المقام؟ وما هو العامل الذي يمكنه من هذه الحالة؟ فهو بحث آخر سنرجع إليه في مستقبل الاَبحاث.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختص بطبقة خاصة من الناس لكن


الصفحة 22
العصمة النسبية تعم كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم، لاَنّ الاِنسان الشريف الذي لا يقل وجوده في أوساطنا، وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث يتجنب عن التفكير بها فضلاً عن الاِتيان بها.

مثلاً الاِنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل، كما أنّ كثيراً من اللصوص لا يقومون بالسرقة في منتصف الليل متسلحين لانتهاب شىء رخيص، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الاَبرياء ولا بقتل أنفسهم وان عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الاَفاعيل المنكرة غير موجودة في نفوسهم، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها، ولاَجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الاَفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرفت عليها تقرب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الاِنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح، يصير معصوماً مطلقاً، كما أنّ الاِنسان في القسم الاَوّل صار معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة: إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة محكومة عند الاِنسان، منفورة لديه لاَجل الحالة الراسخة، يصير الاِنسان معصوماً تاماً منزهاً عن كل عيب وشين.

2. العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرفت على النظريّة الاَُولى في حقيقة العصمة وانّها عبارة عن:


الصفحة 23
الدرجة العليا من التقوى، غير انّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها، لا تنافي النظرية الاَُولى، بل ربّما تعد من علل تحقق الدرجة العليا من التقوى التي عرفنا العصمة بها وموجب تكونها في النفس، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن " وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام" علماً قطعياً لا يغلب ولا يدخله شك، ولا يعتريه ريب، وهو أن يبلغ علم الاِنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الاَعمال وآثارها في النشأة الا َُخرى وتبعاتها فيها، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة ودركات أهل النار، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الاِنسان وتوابع الاَعمال، ويصير الاِنسان مصداقاً لقوله سبحانه: (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم)(1) وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الاِمام علي (عليه السلام )بقوله: "فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون".(2) فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الاِنسان عن اجتراء المعاصي واقتراف المآثم بل لا يجول حولها فكره.

ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الاِنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال:

إنّ الاِنسان إذا وقف على أنّ في الاَسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الاِنسان إذا مسها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المس والموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مس تلك الاَسلاك والاقتراب منها دون عائق.

هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الاَمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجر عليه

____________

1. التكاثر: 5 ـ 6.

2. نهج البلاغة:2: الخطبة 188، ص 187، طبعة عبده.


الصفحة 24
الشرب والاغتسال بذلك الماء الموبوء، فإذا وقف الاِنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الاَعمال وعواقب الفعال ورأي بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، امتنع عن حبس الاَموال والاِحجام عن إنفاقها في سبيل الله.

قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لاََنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) .(1) إنّ ظاهر قوله سبحانه: (هذا ما كنزتم لاَنفسكم) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، ليست إلاّ نفس الذهب والفضة، لكن بوجودهما الاَُخرويّين، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الاَجسام الفلزية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة، وفي النشأة الاَُخروية في صورة النيران المحماة.

فالاِنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها، إلاّ أنّ ذلك لاَجل أنّه يفقد حين المس، الحس المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات، وهو نيرانها وحرارتها، يجتنبها، كاجتنابه النيران الدنيوية، ولا يقدم على كنزها، وتكديسها.

وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الاِنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد الله الاَسدي السيوري الحلي في كتابه

____________

1. التوبة: 34 ـ 35.


الصفحة 25
القيم "اللوامع الاِلهية": "ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا: العصمة ملكة نفسانية يمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، لاَنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، والطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة".(1) يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ القوة المسمّاة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والاِدراك، لتسرب إليها التخلّف، ولتخبط الاِنسان على أثره أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والاِدراكات المتعارفة، التي تقبل الاكتساب والتعلم، وقد أشار الله في خطابه الذي خص به نبيه بقوله: (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)(2) وهو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه، إذ لا تذوق لنا في هذا المجال.(3) وهو قدّس سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبه وتفانيه في معرفته وعشقه له، يصده عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

____________

1. اللوامع الاِلهية: 170.

2. النساء: 113.

3. الميزان: 5/81.


الصفحة 26
وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الاَُولى التي فسرناها من أنّ العصمة هي الدرجة العليا من التقوى، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق، والعشق لجماله وكماله، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الاِلهية البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الاِنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، وتعرف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرف عليه الاِنسان العارف، يوَجج في نفسه نيران الشوق والمحبة، ويدفعه إلى أن لا يبتغى سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشد القبح. وعندئذ يصبح الاِنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يوَثر على رضاه شيئاً، وإلى ذلك يشير الاِمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)بقوله: "ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة".(1) هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الاِنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الاِنسان الكامل وهويته الخارجية.

نعم هذه التحاليل الثلاثة لحقيقة العصمة، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرد كما هو واضح لمن أعطى التأمل لها، وأمّا العصمة في مقام تلقى الوحى والتحفظ عليه وإبلاغه إلى الناس، أو العصمة عن

____________

1. حديث معروف.


الصفحة 27
الخطأ في الحياة والاَُمور الفردية أو الاجتماعية فلا بد أن توجه بوجوه غير هذه الثلاثة كما سيوافيك بيانها عند البحث عن المقام الثاني، أعنى: العصمة عن الخطأ والاشتباه، والمهم هو البحث عن المقام الاَوّل، ولذلك قدّمنا الكلام فيه.

نعم هناك عدة روايات تصرح بأنّ، هناك "روحاً" تعصم الاَنبياء والرسل عن الوقوع في المهالك والخطايا، وإليك بيانها:

الروح التي تسدد الاَولياء

روى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلاَ الاِِيمانُ)(1) قال: "خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدده وهو مع الاَئمّة من بعده".(2) وهذه الرواية مع أنّ ظاهرها لا ينطبق على الآية، لاَنّ الوحي يتعلّق بالمفاهيم والاَلفاظ لا بالجواهر والاَجسام، فالملك الذي هو أعظم من جبرئيل وميكائيل لا يمكن أن يتعلّق به الوحي، ويكون هو الموحى به، وإنّما يتعلق به الاِرسال والبعث ونحو ذلك، لا صلة لها بباب المعاصي بل هي راجعة إلى التسديد في تلقى الوحى وإبلاغه إلى الناس، وحفظهم عن الخطأ على وجه الاِطلاق.

على أنّ هناك روايات تشعر بأنّ هذه الروح التي توَيد الاَنبياء غير خارجة عن ذواتهم، وهذا جابر الجعفي يروي عن الاِمام الصادق في تفسير قوله سبحانه: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصحابُ الْمَيْمَنَةِ *

____________

1. الشورى: 52.

2. الكافي:1/273، باب "الروح التي يسدّد بها الاَئمّة" الحديث 1 و2.


الصفحة 28
وَأَصحابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(1)

"فالسابقون هم رسل الله، وخاصة الله من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الاَشياء، وأيّدهم بروح الاِيمان فبه خافوا الله عزّ وجلّ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله، وأيّدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّ وجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون".(2) ولا يخفى أنّ الاَرواح الاَربعة غير خارجة عن ذواتهم، ولا يبعد أن تكون الخامسة وهي روح القدس غير خارجة عن ذواتهم ويكون المراد كمال نفوسهم إلى حد يعرفون الاَشياء على ما هي عليها.

قال الشيخ صالح المازندراني في تفسير هذه الاَرواح الخمسة: جعل الله تعالى بالحكمة البالغة والمصلحة الكاملة في الرسل والخاصة، خمسة أرواح لحفظهم من الخطاء وتكميلهم بالعلم والعمل ليكون قولهم صدقاً، وبرهاناً، والاقتداء بهم رشداً وإيقاناً كيلا يكون لمن سواهم على الله حجة يوم القيامة، ولعل المراد بالاَرواح هنا النفوس.(3) وعلى أي تقدير فهذه الروايات التي تشهد بتسديد الاَنبياء بها إمّا راجعة إلى تسديدهم في مقام تلقى الوحى، أو راجعة إلى تسديدهم عن الخطاء في الاَحكام والموضوعات والكل خارج عن إطار البحث، وإنّما الكلام في صيانتهم عن المعاصي.

____________

1. الواقعة: 6 ـ 11.

2. الكافي: 1/261 باب فيه "ذكر الاَرواح التي في الاَئمّة" الحديث 1 و 2 و 3.

3. هامش أُصول الكافي: 136، الطبعة القديمة.


الصفحة 29

هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟

قد وقفت على حقيقة "العصمة" والعوامل التي توجب صيانة الاِنسان عن الوقوع في حبال المعصية، ومهالك التمرد والطغيان، غير انّ هاهنا سوَالاً هاماً يجب الاِجابة عنه وهو: انّ العصمة سواء أفسّرت بكونها هي الدرجة العليا من التقوى، أو بكونها العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أم فسّرت بالاستشعار بعظمة الرب وجماله وجلاله، وعلى أي تقدير فهو كمال نفساني له أثره الخاص، وعندئذ يسأل عن أنّ هذا الكمال هل هو موهوب من الله لعباده المخلصين، أو أمر حاصل للشخص بالاكتساب؟ فالظاهر من كلمات المتكلمين أنّها موهبة من مواهب الله سبحانه يتفضّّل بها على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصحّحة لاِفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: العصمة تفضل من الله على من علم انّه يتمسك بعصمته.(1)

وهذه العبارة تشعر بأنّ إفاضة العصمة من الله سبحانه أمر خارج عن إطار الاختيار، غير أنّ اعمالها والاستفادة منها يرجع إلى العبد وداخل في إطار إرادته، فله أن يتمسك بها فيبقى معصوماً من المعصية، كما له أن لا يتمسك بتلك العصمة.

وقال أيضاً: والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الاِنسان مما يكره إذا أتى بالطاعة.(2) وقال المرتضى في أماليه: العصمة: لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل قبيح.

____________

1. شرح عقائد الصدوق: 61.

2. أوائل المقالات: 11.