الصفحة 30
ونقل العلاّمة الحلّي عن بعض المتكلمين بأنّه فسر العصمة بالاَمر الذي يفعله الله بالعبد من الاَلطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك إلى الاِلجاء.

ونقل عن بعضهم: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية.

ثم فسر أسباب هذا اللطف بأُمور أربعة.(1) وقال جمال الدين مقداد بن عبد الله الشهير بالفاضل السيوري الحلي (المتوفّـى عام 826 هـ) في كتابه القيم "اللوامع الاِلهية في المباحث الكلامية":

قال أصحابنا ومن وافقهم من العدلية: هي (العصمة) لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية لانتفاء داعيه، ووجود صارفه مع قدرته عليها" ثم نقل عن الاَشاعرة بأنّها هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية.(2) كما نقل عن بعض الحكماء أنّ المعصوم خلقه الله جبلة صافية، وطينة نقية، ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة، فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات، والالتفات إلى ملكوت السماوات، والاِعراض عن عالم الجهات، فتصير النفس الاَمارة مأسورة مقهورة في حيز النفس العاقلة.(3) وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: (إِنّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

____________

1. كشف المراد: 228، طبعة صيدا.

2. سيوافيك انّ العصمة لا تنافي القدرة، والهدف من نقل قول الاَشاعرة هو إثبات اتفاق القائلين بالعصمة، على أنّها موهبة إلهية.

3. اللوامع الالهية: 169.


الصفحة 31
عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) إنّ الله تستمر إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السىّء عنكم أهل البيت وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة.(2) إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بكون العصمة من مواهبه سبحانه إلى عباده المخلصين، وفي الآيات القرآنية تلويحات وإشارات إلى ذلك مثل قوله سبحانه: (وَ اذْكُرْ عَبْدَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الاََيْدِي وَالاََبْصارِ* إِنّاأَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ* وَإِنَّهُمْ عَنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاََخْيارِ* وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الاََخْيارِ)(3) وقوله سبحانه في حق بنى إسرائيل والمراد أنبياوَهم ورسلهم: (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ* وَآتَيْناهُمْ مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) .(4) فإنّ قوله: (إنّهم عندنا لمن المصطفين الاَخيار) وقوله: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) يدل على أنّ النبوة والعصمة، وإعطاء الآيات لاَصحابها من مواهب الله سبحانه إلى الاَنبياء، ومن يقوم مقامهم من الاَوصياء.

فإذا كانت العصمة أمراً إلهياً وموهبة من مواهبه سبحانه، فعندئذ ينطرح هاهنا سوَالان تجب الاِجابة عنهما، والسوَالان عبارة عن:

1. لو كانت العصمة موهبة من الله مفاضة منه سبحانه إلى رسله وأوصيائهم لم تعد كمالاً ومفخرة للمعصوم حتى يستحق بها التحسين والتحميد والتمجيد، فإنّ الكمال الخارج عن الاختيار كصفاء اللوَلوَ، لا يستحق التحسين والتمجيد، فإنّ الحمد والثناء إنّما يصحان في مقابل الفعل الاختياري، وما هو

____________

1. الاَحزاب: 33.

2. الميزان: 16/313.

3. ص: 45 ـ 48.

4. الدخان: 32 ـ 33.


الصفحة 32
خارج عن إطار الاختيار لا يصح أن يحمد صاحبه عليه، إذ هو وغيره في هذا المجال سواء، ولو أفيض ذاك الكمال على فرد آخر لكان مثله؟

2. إذا كانت العصمة تعصم الاِنسان عن الوقوع في المعصية، فالاِنسان المعصوم عاجز عن ارتكاب المعاصي واقتراف المآثم، وعندئذ لا يستحق لترك العصيان مدحاً ولا ثواباً إذ لا اختيار له؟

والفرق بين السوَالين واضح، إذ السوَال الاَوّل يرجع إلى عد نفس إفاضة العصمة مفخرة من مفاخر المعصوم، لاَنّه إذا كانت موهبة إلهية لما صح عدها كمالاً للمعصوم، بخلاف السوَال الثاني فإنّه يتوجه إلى أنّ العصمة تسلب القدرة عن المعصوم على ارتكاب المعاصي، فلا يعد الترك كمالاً ولا عاملاً لاستحقاق الثواب.

وهذان السوَالان من أهم الاَسئلة في باب العصمة، وإليك الاِجابة عن كليهما.

العصمة المفاضة كمال لصاحبها

إنّ العصمة الاِلهية لا تفاض للاَفراد إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم تقتضي إفاضة تلك الموهبة إلى صاحبها، وأمّا ما هي تلك الاَرضيات والقابليات التي تقتضى إفاضتها فخارج عن موضوع البحث، غير إنّا نقول على وجه الاجمال: إنّ تلك القابليات على قسمين: قسم خارج عن اختيار الاِنسان، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.

أمّا القسم الاَوّل، فهي القابليات التي تنتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة، فإنّ الاَولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يشبه الاَب أو العم، أو الاَُم أو الخال، وقد جاء

الصفحة 33
في المثل:الولد الحلال يشبه العم أو الخال.

وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الاَولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الاَوصاف الجسمانية والروحانية.

إنّ الاَنبياء كما يحدّثنا التاريخ كانوا يتولّدون في البيوتات الصالحة العريقة بالفضائل والكمالات، وما زالت تنتقل تلك الكمالات والفضائل الروحية من نسل إلى نسل وتتكامل إلى أن تتجسد في نفس النبي ويتولد هو بروح طيبة وقابلية كبيرة لاِفاضة المواهب الاِلهية عليه.

نعم ليست الوراثة العامل الوحيد لتكوّن تلك القابليات بل هناك عامل آخر لتكوّنها في نفوس الاَنبياء وهو عامل التربية، فإنّ الكمالات والفضائل الموجودة في بيئتهم تنتقل من طريق التربية إلى الاَولاد.

ففي ظل ذينك العاملين: "الوراثة والتربية" نرى كثيراً من أهل تلك البيوتات ذوي إيمان وأمانة، وذكاء ودراية، وما ذلك إلاّ لاَنّ العائشين في تلك البيئات والمتولدين فيها يكتسبون جل هذه الكمالات من ذينك الطريقين، وعلى ذلك فهذه الكمالات الروحية أرضيات صالحة لاِفاضة المواهب الاِلهية إلى أصحابها ومنها العصمة والنبوة.

نعم هناك عوامل أُخر لاكتساب الاَرضيات الصالحة داخلة في إطار الاختيار وحرية الاِنسان وإليك بعضها:

1. انّ حياة الاَنبياء من لدن ولادتهم إلى زمان بعثتهم مشحونة بالمجاهدات الفردية والاجتماعية، فقد كانوا يجاهدون النفس الاَمّارة أشد الجهاد، ويمارسون تهذيب أنفسهم بل ومجتمعهم، فهذا هو يوسف الصدّيق(عليه السلام) جاهد نفسه الاَمّارة وألجمها بأشد الوجوه عندما راودته من هو في بيتها

الصفحة 34
(وَغَلَّقَتِ الاََبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَك) فأجاب بالرد والنفي بقوله: (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْواىَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ) .(1) وهذا موسى كليم الله وجد في مدين امرأتين تذودان واقفتين على بعد من البئر، فقدم اليهما قائلاً: ما خطبكما فقالتا: انا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، وعند ذلك لم يتفكر في شىء إلاّ في رفع حاجتهما، ولاَجل ذلك سقى لهما ثم تولّى إلى الظل قائلاً: (رَبّ إِنّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(2) .(3) وكم هناك من شواهد تاريخية على جهاد الاَنبياء وقيامهم بواجبهم أبّان شبابهم إلى زمان بعثتهم التي تصدت لذكرها الكتب السماوية وقصص الاَنبياء وتواريخ البشر.

فهذه العوامل، الداخل بعضها في إطار الاختيار والخارج بعضها عن إطاره أوجدت قابليات وأرضيات صالحة لاِفاضة وصف العصمة عليهم وانتخابهم لذلك الفيض العظيم، فعندئذ تكون العصمة مفخرة للنبي صالحة للتحسين والتبجيل والتكريم.

وإن شئت قلت: إنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ومستقبل أمرهم، ومصير حالهم وعلم أنّهم ذوات مقدسة، لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار، وهذا العلم كاف لتصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.

____________

1. يوسف: 23.

2. القصص: 23 ـ 24.

3. لاحظ قصة موسى في دفعه القبطي المعتدي على إسرائيلى في سورة القصص الآيات: 15 ـ 20 وفي ذلك يقول: (رب بما أنعمت علىّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين)(القصص: 17).


الصفحة 35
يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ الله سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة، واعتدال الخلقة، فنشأوا من بادىَ الاَمر بأذهان وقّادة، وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة، وقلوب سليمة، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الاِخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات، والظاهر أنّ هوَلاء هم المخلصون (بالفتح) لله في مصطلح القرآن، وهم الاَنبياء والاَئمّة، وقد نص القرآن بأنّ الله اجتباهم، أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى: (وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1) وقال: (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ)(2) .(3) وهذه العبارة من العلاّمة الطباطبائي تشير إلى القسم الثاني وهو القابليات الخارجة عن اختيار الاَنبياء غير انّ هناك أُموراً واقعة في اختيارهم كما عرفت، فالكل يعطي الصلاحية لاِفاضة الموهبة الاِلهية على تلك النفوس المقدّسة.

كلام السيد المرتضى

إنّ للسيد المرتضى كلاماً في الاِجابة عن هذا السوَال نأتى بنصه:

فإن قيل: إذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم فألاَّ عَصَمَ اللهُ تعالى جميع المكلّفين وفعل بهم ما يختارون عنده الامتناع من القبائح؟

قلنا: كل من علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختار عنده الامتناع من القبائح فإنّه لا بد أن يفعل به وإن لم يكن نبياً ولا إماماً، لاَنّ التكليف يقتضي فعل اللطف على

____________

1. الاَنعام: 87.

2. الحج: 78.

3. الميزان: 11/177.


الصفحة 36
ما دل عليه في مواضع كثيرة غير انّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فعل، اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف، وتكليف من لا لطف له يحسن ولا يقبح وانّما القبيح منع اللطف في من له لطف مع ثبوت التكليف.(1) وحاصل ما أفاده هو: انّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الاَفراد في المستقبل فكل من علم سبحانه أنّه لو أُفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة، وان لم يكن نبياً ولا إماماً، وأمّا من علم انّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع من القبيح لما أُفيضت عليه العصمة لاَنّه لا يستحق الاِفاضة.

وعلى ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض لمن يعلم من حاله انّه ينتفع منها في ترك القبائح عن حرية واختيار.

ولاَجل ذلك يعد مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ولا يلزم أن يكون المعصوم نبياً أو إماماً، بل كل من ينتفع منها في طريق كسب رضاه سبحانه تفاض عليه.

إلى هنا تمت الاِجابة على السوَال الاَوّل، وبقيت الاِجابة على السوَال الثاني، وإليك ذلك:

هل العصمة تسلب الاختيار؟

ربما يتخيل أنّ المعصوم لا يقدر على ارتكاب المعصية واقتراف المآثم، فالعصمة تسلب القدرة والاختيار عن صاحبها، وعند ذاك لا يعد ترك العصيان مكرمة.

____________

1. أمالى المرتضى: 2/347 ـ 348، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.


الصفحة 37
وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى:

ما حقيقة العصمة التي يُعتقد وجوبها للاَنبياء والاَئمّة:؟ وهل هي معنىً يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، أو معنى يضام الاختيار ؟ فإن كان معنى يضطر إلى الطاعة ويمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها؟ وان كان معنىً يضامّ الاختيار فاذكروه، ودُلّوا على صحة مطابقته له.(1) والجواب: انّ العصمة لا تسلب الاختيار عن الاِنسان بأي معنى فسرت، سواء أقلنا بأنّها الدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب المآثم والمعاصي، أو أنّها أثر الاستشعار بعظمة الرب والمحبة لله سبحانه، وعلى كل تقدير فالاِنسان المعصوم مختار في فعله، قادر على كلا طرفي القضية من الفعل والترك، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي:

إنّ الاِنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الاَسلاك المنزوعة من جلدها، لا يمسّها كذلك، كما انّ الطبيب لا يأكل سوَر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيأ نفسه للمخاطرة بها، لفعل ما يتجنبه، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبان حياتهما وسلامتهما.

فإن شئت قلت: إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً، وكم فرق بين المحالين، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتى.

____________

1. أمالى المرتضى: 2/347.


الصفحة 38
وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه فإنّ صدوره منه أمر ممكن بالذات، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم والعاصي في نعيم الجنة، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الاِنسان مع التحفظ على الاَغراض والغايات، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.

فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية، غير أنّه لاَجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي واستشعاره بعظمة الخالق، يتجنب عن اقترافها واكتسابها ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.

ومثلهم في ذلك المورد كمثل الوالد العطوف الذي لا يقدم على قتل ولده، ولو أُعطيت له الكنوز المكنوزة والمناصب المرموقة ومع ذلك فهو قادر على قتله، بحمل السكين والهجوم عليه وقطع أوردته، وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائي:

إنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الاِنسانية المختارة في أفعالها الاِرادية، ولا يخرجها إلى ساحة الاِجبار والاضطرار كيف؟ والعلم من مبادىَ الاختيار، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الاِرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما، سماً قاتلاً من حينه فإنّه يمنع باختياره من شربه قطعاً، وإنّما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج المجبر أحد طرفي الفعل والترك من الاِمكان إلى الامتناع.

ويشهد على ذلك قوله: (وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَو أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

الصفحة 39
يَعْمَلُونَ)(1) تفيد الآية انّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء أو الهدى الاِلهي مانعاً من ذلك، وقوله: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(2) ، إلى غير ذلك من الآيات.

فالاِنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

ولا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرح به الاَخبار من أنّ ذلك من الاَنبياء والاَئمّة بتسديد من روح القدس، فإنّ النسبة إلى روح القدس، كنسبة تسديد الموَمن إلى روح الاِيمان، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله، فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله مستنداً إلى اختياره وإرادته فافهم ذلك.

نعم هناك قوم زعموا أنّ الله سبحانه إنّما يصرف الاِنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته بل من طريق منازعة الاَسباب ومغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الاِنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الاِنسان أن يقصده كما يمنع الاِنسان القوى، الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

وبعض هوَلاء وإن كانوا من المجبرة لكن الاَصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه: انّهم يرون انّ حاجة الاَشياء إلى البارىَ الحق سبحانه إنّما هي في حدوثها، وأمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الاَسباب، إلاّ أنّه لما كان أقدر وأقوى من كل شىء كان له أن

____________

1. الاَنعام: 87 ـ 88.

2. المائدة: 67.


الصفحة 40
يتصرف في الاَشياء حال البقاء أي تصرف شاء، من منع أو إطلاق وإحياء أو إماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقصير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شر مثلاً، أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى إرادته مثلاً من الشر إلى الخير، أو أراد أن يضل عبداً لاستحقاقه ذلك، سلّط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الاِجبار والاضطرار.

وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان انّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتبة عليه قائمين بها، فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الاَسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي مضافاً إلى أنّ المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله.(1)

____________

1. الميزان: 11/ 179 ـ 180.


الصفحة 41

مراحل العصمة ودلالتها

قد وقفت على حقيقة العصمة وما يرجع إليها من المباحث الاستطرادية، فيجب الآن الوقوف على مراحلها التالية:

1. الصيانة في تلقى الوحى والحفاظ عليه وإبلاغه إلى الناس.

2. الصيانة من المعصية وارتكاب الذنب المصطلح.

3. الصيانة من الخطأ في الاَُمور الفردية والاجتماعية.

هذه هي مراحل العصمة، ويمكن تبيين تلك المراحل بصورة أُخرى، وهي أنّ متعلّق العصمة والصيانة لا تخلو عن أحد أُمور وهي:

إمّا كفر بالله أو عصيانه ومخالفته.

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون معصية كبيرة، أو صغيرة؛ والصغيرة على قسمين: إمّا أن تكون حاكية عن خسة الفاعل ودناءة طبعه كسرقة اللقمة الواحدة، أو لا؛ وعلى كل حال فصدور المعصية إمّا عمدي أو سهوي، وإمّا صادر قبل البعثة أو بعدها.

وقد فصّل القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة في عصره مذهب المعتزلة في العصمة، فحكم بأنّه يجب أن يكون النبي منزّهاً عمّا يقتضى خروجه من ولاية الله تعالى إلى عداوته قبل النبوة وبعدها كما يجب أن يكون منزهاً من كذب أو كتمان أو سهو أو غلط إلى غير ذلك، ومن حقه أن لا يقع منه ما ينفر منه

الصفحة 42
عن القبول منه أو يصرف من السكون إليه أو عن النظر في علمه، نحو الكذب على كل حال، والتورية والتعمية في ما يوَديه، والصغائر المستخفة.(1) وقال التفتازاني في شرح العقائد النسفية: إنّهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالاِجماع، وكذا من تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، وأمّا سهواً، فجوّزه الاَكثرون؛ وأمّا الصغائر، فيجوز عمداً عند الجمهور، خلافاً للجبّائي وأتباعه، ويجوز سهواً بالاتفاق إلاّ ما يدل على الخسّة.(2) قال الفاضل القوشجي: إنّ المعاصي إمّا أن تكون منافيةً لما تقتضيه المعجزة، كالكذب في ما يتعلّق بالتبليغ أو لا، والثاني إمّا أن يكون كفراً أو معصية؛ وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنا، أو صغيره منفرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة، أو غير منفرة ككذبة وشتمة؛ وكل ذلك إمّا عمداً أو سهواً، أو بعد البعثة أو قبلها.(3)

فنقول: أمّا الاَوّل، أعني: صدور الكفر من المعصومين، فلم يجوّزه أحد، وما ربّما ينسب إلى بعض الفرق كالاَزارقة من تجويز الكفر على الاَنبياء، فالمراد من الكفر هو المعصية في مصطلح المسلمين، وانّما أطلقوا عليه لفظ الكفر، لاَجل اعتقادهم بأنّ كل معصية كفر، قال الفاضل المقداد: أجمعوا على امتناع الكفر عليهم إلاّ الفضيلية من الخوارج فإنّهم جوّزوا صدور الذنب عنهم، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم جواز الكفر عليهم، وجوّز قوم عليهم الكفر تقية وخوفاً، ومنعه ظاهر، فانّ أولى الاَوقات بالتقية زمان بدء الدعوة لكثرة المنكرين له حينئذ، لكن ذلك يوَدي إلى خفاء الدين بالكلية.(4)

____________

1. المغنى: 15/279.

2. العقائد النسفية: 171، ونسب فيه للشيعة جواز إظهار الكفر للتقية، وهم براء منه.

3. شرح التجريد: 464.

4. اللوامع الاِلهية: 170.


الصفحة 43
وقال الفاضل القوشجي: قد جوّز الاَزارقة من الخوارج الكفر بناء على تجويزهم الذنب مع قولهم بأنّ كل ذنب كفر.(1) وربما يتوهم تجويز الكفر على النبي لاَجل التقية، وهو باطل، لاَنّ للتقية شرائط خاصة تجوز إذا حصلت ولا تقية في هذا المورد، وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار الهمداني الاَسدآبادي: فإن قال: أفتجوزون على الرسول التقية في ما يوَدّيه؟ قيل له: لا يجوز ذلك عليه في ما يلزمه أن يوَدّيه، ولو كانت مجوزة لم تعظم مرتبة النبي، لاَنّها إنّما تعظم، لاَنّه يتكفّل بأداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونه ـ إلى أن قال: ـ فلو هُدّد بالقتل إذا أدّى شريعته فما الحكم فيه؟ قيل له: يلزمه أن يوَدّيه ويعلم انه تعالى يصرف ذلك عنه.(2) وأمّا غير الكفر فتفصيل المذاهب هو انّ الشيعة اتفقت على عصمة الاَنبياء عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، سهواً كانت أو عمداً قبل البعثة أو بعدها. نعم يظهر من الشيخ المفيد تجويز بعض المعاصي الصغيرة على غير عمد على الاَنبياء قبل العصمة حيث قال: إنّ جميع أنبياء الله (صلى الله عليهم) معصومون من الكبائر قبل النبوة وبعدها وبما يستخف فاعله من الصغائر كلها، وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوة، وعلى غير عمد، وممتنع منهم بعدها على كل حال (ثم قال:) وهذا مذهب جمهور الاِمامية.(3) ويظهر ذلك من المحقق الاَردبيلي في تعاليقه على شرح التجريد للفاضل القوشجي حيث إنّ المحقق الطوسي استدل على العصمة بأنّه لولاها لما حصل الوثوق بقول الاَنبياء، وأورد عليه الشارح بأنّ صدور الذنوب لا سيما الصغيرة

____________

1. شرح التجريد: 464.

2. المغني: 15/284.

3. أوائل المقالات: 29 و 30.


الصفحة 44
سهواً لا يخل بالوثوق، وعلّق عليه الاَردبيلي بقوله: "خصوصاً قبل البعثة".(1) وأمّا غير الشيعة فقد عرفت نظرية الاعتزال غير انّ الفاضل القوشجي يفصل بقوله: الجمهور على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة، وقد جوّزه القاضي سهواً، زعماً منه انّه لا يخل بالتصديق المقصود بالمعجزة وكذا عن تعمد الكبائر، بعد البعثة، وجوّزه الحشوية، وكذا عن الصغائر المنفرة لاِخلالها بالدعوة إلى الاتباع ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً والمذهب عند محققي الاَشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً، وذهب إمام الحرمين من الاَشاعرة وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً.(2) هذه هي الاَقوال المعروفة بين المتكلمين وستعرف شذوذ الكل عن الكتاب والسنّة وحكم العقل غير القول الاَوّل، فنقول يقع الكلام في مراحل:

المرحلة الاَُولى: عصمة الاَنبياء في تبليغ الرسالة

ذهب الاَكثرون من الجمهور والشيعة أجمع إلى عصمتهم في تلك المرحلة ونسب إلى الباقلاني تجويز الخطاء في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً لا عمداً وقصداً، وقال أبو الحسن عبد الجبار المعروف بالقاضي رئيس الاعتزال في وقته (المتوفّـى سنة 415): لا يجوز الكذب في ما يوَدّيه (أي النبي) عن الله تعالى، لاَنّه تعالى، مع حكمته، ومع أنّ غرضه بالبعثة تعريف المصالح، لو علم أنّه يختار الكذب في ما يوَديه لم يكن ليبعثه، لاَنّ ذلك ينافي الحكمة، ولمثل هذه العلة لا يجوز أن لا يوَدّيه ما حمله من الرسالة، ولا أن يكتمه أو يكتم بعضه.

____________

1. تعاليق المحقّق الاَردبيلي على شرح التجريد: 464.

2. شرح التجريد للفاضل القوشجي: 664.


الصفحة 45
إلى أن قال: إنّا لا نجوز عليه السهو والغلط في ما يوَدّيه عن الله تعالى لمثل العلة التي تقدم ذكرها، لاَنّه لا فرق، في خروجه من أن يكون موَدّياً بين أن يسهو أو يغلط أو يكتم أو يكذب، فحال الكل يتفق في ذلك ولا يختلف.

وإنّما نجوز أن يسهو في فعل قد بينه من قبل وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغادر منه شيئاً، فإذا فعله لمصالحه لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط، ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك.(1) وفي ما ذكره من تجويز السهو على النبي في الفعل الذي بين حكمه سيأتي الكلام فيه.

وقد استدل المحققون من المتكلمين على عصمتهم في تلك المرحلة بوجوه أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريده بقوله: ليحصل الوثوق بأفعاله وأقواله، ويحصل الغرض من البعثة وهو متابعة المبعوث إليهم له في أوامره ونواهيه(2) .

وما ذكره من الدليلين وإن كان لا يختص بهذه المرحلة بل يعم المراحل الاَُخر، ولكنه برهان تام يعتمد عليه العقل والوجدان في مسألة عصمة الاَنبياء في مجال تبليغ الرسالة.

توضيحه:

انّ الهدف الاَسمى والغاية القصوى من بعث الاَنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الاِلهية والشرائع المقدسة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بإيمانهم بصدق

____________

1. المغنى: 15/281.

2. شرح التجريد للفاضل القوشجي: 463، وكشف المراد: 217 طبع صيدا.


الصفحة 46
المبعوثين، وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه، وإنّ كلامهم وأقوالهم كلامه وقوله سبحانه، وهذا الاِيمان والاِذعان لا يحصل إلاّ بإذعان آخر وهو الاِذعان بمصونيتهم عن الخطاء في المراحل الثلاث في مجال تبليغ الرسالة، وهي المصونية في مقام أخذ الوحى، والمصونية في مقام التحفّظ عليه، والمصونية في مقام الاِبلاغ والتبيين، ومثل هذا لا يحصل إلاّ بمصونية النبي عن الزلل والخطاء عمده وسهوه. قال القاضي أبو الحسن عبد الجبار: إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ـ ممّن يخالف فعله قوله ـ سكونها إلى من كان منزهاً عن ذلك، فيجب أن لا يجوز في الاَنبياء: إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّـا يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

يبين ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخفيف فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لاَنّ المتعالم أنّ المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه للنهي والزجر، وانّ هذه الاَحوال منه لا توَثر ... ولو إنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها لاستخف به وبوعظه.(1) وقال في موضع آخر: إنّ الواعظ والمذكّر وان غلب على ظننا من حاله انّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب والفجور من قبل، لم يوَثر وعظه عندنا كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله.(2) وما ذكره أخيراً دليل وجوب العصمة حتى قبل البعثة.

وهذا البرهان لو قرر على الوجه الكامل لكفي برهاناً في جميع مراحل

____________

1. المغني: 15/303.

2. المصدر نفسه: 305.


الصفحة 47
العصمة التي سنبيّنها في الاَبحاث الآتية.

هذا منطق العقل، وأمّا منطق الوحي فهو يوَكد على مصونية النبي في تبليغ الرسالة في المجالات الثلاثة الماضية، وإليك بيان ذلك:

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقى الوحى و...

هناك آيات تدل على العصمة في ذلك المجال نذكرها واحدة بعد الاَُخرى:

الآية الاَُولى

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) .(1) (إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) .(2)

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً) . (3)

إنّ دلالة الآيات هذه على مصونية الرسل والاَنبياء في مجال تلقى الوحى وما يليه من التحفظ والتبليغ تتوقف على توضيح بعض مفرداته:

1. قوله: (فلا يظهر) من باب الافعال بمعنى الاعلام كما في قوله سبحانه: (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عرّف بَعْضَهُ وَأَعْرضَ عَن بَعْضٍ) .(4) 2. لفظة (من) في قوله: (من رسول) بيانية تبين المرضى عند الله،

____________

1. الجن: 26.

2. الجن: 27.

3. الجن: 28.

4. التحريم: 3.


الصفحة 48
فالرسول هو المرتضى الذي اختاره الله تعالى لتعريفه على الغيب.

3. والضمير في (انّه) في قوله: (انّه يسلك) يرجع إلى الله، كما أنّ ضمير الفاعل في قوله: (يسلك) أيضاً يرجع إليه، وهو بمعنى: يجعل.

4. والضمير في (يديه ومن خلفه) يرجع إلى الرسول.

5. و (رصداً) هو الحارس الحافظ يطلق على الجمع والمفرد.

6. والمراد من: (بين يديه) أي ما بين يدى الرسول: ما بينه وبين الناس، المرسل إليهم.

كما أنّ المراد من (من خلفه) ما بين الرسول وبين مصدر الوحي الذي هو سبحانه.

وعلى ذلك فالنبي مصون ومحفوظ في مجال تلقى الوحى من كلا الجانبين.

وقد اعتبر في هذا التعبير ما يوهمه معنى الرسالة من أنّه فيض متصل من المرسل (بالكسر) وينتهي إلى المرسل إليه (بالفتح) والآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسل وانّ الرسول محاط بالرصد والحارس من أمامه "ما بين يديه" و "خلفه" وورائه، فلا يصيبه شيء يباين الوحي.

ومعنى الآية: انّ الله يجعل (يسلك) ما بين الرسول ومن أرسل إليه، وما بين الرسول ومصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة، وليس جعل الرصد امام الرسول وخلفه إلاّ للتحفظ على الوحي من كل تخليط وتشويش بالزيادة والنقص التي يقع فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

ثم إنّه سبحانه علّل جعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه بقوله: (ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم) .


الصفحة 49
والمراد من العلم هو العلم الفعلي بمعنى التحقق الخارجي على حد قوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) .(1) أي ليتحـقّق إبلاغ رسالات ربهـم على ما هي عليه من غير تغـيير وتبدّل.

7. قوله: (وأحاط بما لديهم) بمنزلة الجملة المتممة للحراسة المستفادة من قوله: (رصداً) .

وعلى الجملة فهذه العبارات الثلاث الواردة في الآية تفيد مدى عناية الباري للحراسة والحفاظ على الوحي إلى أن يصل إلى المرسل إليهم بلا تغيير وتبديل، وهذه الجمل عبارة عن:

أ. (من بين يديه) .

ب. (ومن خلفه) .

ج. (وأحاط بما لديهم) .

فالجملة الاَُولى تشير إلى وجود رصد بين الرسول والناس.

كما أنّ الجملة الثانية تشير إلى وجود رصد محافظين بينه وبين مصدر الوحي.

والجملة الثالثة تشير إلى وجود الحفظة في داخل كيانهم.

فتصير النتيجة أنّ الوحي في أمن وأمان من تطرق التحريف منذ أن يفاض من مصدر الوحي ويقع في نفس الرسول إلى أن يصل إلى الناس والمرسل إليهم.

8. قوله: (وأحصى كل شيء عدداً) مسوق لاِفادة عموم علمه بكل شيء سواء في ذلك الوحى الملقى إلى الرسول وغيره.

____________

1. العنكبوت: 3.


الصفحة 50
يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ قوله سبحانه: (فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه) إلى آخر الآيتين يدل على أنّ الوحي الاِلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله إليه.

أمّا مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله: (من خلفه) وأمّا مصونيته حين أخذ الرسول إياه وتلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه ولا يغلط في أخذه، ومصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أُوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله.

ومصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) حيث يدل على أنّ الغرض الاِلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقّق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، ولازمه بلوغه إيّاهم ولولا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعاً لم يتم الغرض الاِلهي وهو ظاهر.

وحيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقاً غير سلوك الرصد دل ذلك على أنّ الوحي محروس بالملائكة وهو عند الرسول، كما أنّه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهى إليه، ويوَكده قوله بعده: (وأحاط بما لديهم) .

وأمّا مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهى إلى الناس فيكفى فيه قوله: (ومن بين يديه) على ما تقدم معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) بما تقدم من تقريب دلالته.

ويتفرع على هذا البيان: انّ الرسول موَيد بالعصمة في أخذ الوحى من ربّه وفي حفظه وفي تبليغه إلى الناس، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً

الصفحة 51
لما مرّ من دلالة على أنّ ما نزّله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهى إلى الناس ومن مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي وحفظه له وتبليغه إلى الناس.

والتبليغ يعم القول والفعل فإنّ في الفعل تبليغاً كما في القول، فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية، لاَنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحى وحفظه وتبليغه قولاً.

وقد تقدمت الاِشارة إلى أنّ النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحى، فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، ويتحصل بذلك انّ أصحاب الوحى سواء كانوا رسلاً أو أنبياء معصومون في أخذ الوحى وفي حفظ ما أُوحى إليهم وفي تبليغه إلى الناس قولاً وفعلاً.(1)

الآية الثانية

قوله سبحانه: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعثَ اللهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) .(2) إنّ الآية تصرح بأنّ الهدف من بعث الاَنبياء هو القضاء بين الناس في ما اختلفوا فيه، وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير وتحريف.

____________

1. الميزان: 20/133.

2. البقرة: 213.


الصفحة 52
ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه كما هو صريح قوله: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) .

والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي، وبواسطته، وتحقق الهداية منه فرع كونه واقفاً على الحق، بلا تحريف.

وكل ذلك يسلتزم عصمة النبي في تلقى الوحى والحفاظ عليه، وإبلاغه إلى الناس.

وبالجملة فالآية تدل على أنّ النبي يقضى بالحق بين الناس ويهدي الموَمنين إليه، وكل ذلك (أي القضاء بالحق أوّلاً، وهداية الموَمنين إليه ثانياً) يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه وليس المراد من الحق إلاّ ما يوحى إليه.

الآية الثالثة

قوله سبحانه: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى) .(1) فالآية تصرح بأنّ النبي لا ينطق عن الهوى، أي لا يتكلم بداعى الهوى. فالمراد إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجال الحياة كما هو مقتضى إطلاقه أو خصوص ما يحكيه من الله سبحانه، فعلى كل تقدير فهو يدل على صيانته وعصمته في المراحل الثلاث المتقدم ذكرها في مجال إبلاغ الرسالة.

وبما أنّ عصمة الاَنبياء في تلك المرحلة تكون من المسلمات عند المحققين من أصحاب المذاهب والملل، فلنعطف عنان البحث إلى ما تضاربت فيه آراء المتكلمين، وإن كان للشيعة فيه قول واحد، وهو عصمتهم عن العصيان والمخالفة لاَوامره ونواهيه.

____________

1. النجم: 3 ـ 4.


الصفحة 53

المرحلة الثانية:عصمة الاَنبياء عن المعصية

لقد وقفت على دلائل عصمة الاَنبياء في تلقى الوحى وحان الحين للبحث عن عصمتهم عن المعصية. ونبحث في ذلك عن وجهتين: العقلية والقرآنية:

العقل وعصمة الاَنبياء

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الاَنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم: (رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1) وقال سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُوَْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ) .(2) والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل، وهذا هو ما يسمى في علم الاَخلاق بـ "التريبة".

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت: إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي، ولو كان هناك انفكاك بينهما

____________

1. البقرة: 129.

2. آل عمران: 164.


الصفحة 54
لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سوَال وجواب

نعم يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول: الاِجابة عن هذا السوَال سهلة، لاَنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الاِشكالات.

أمّا أوّلاً: فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للاِنسان، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الاِنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي، فإنّ العوامل التي تسوق الاِنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً: فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته (الداعى لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي) في حق الداعي ومدعي النبوة، إذ كيف يمكن الاِنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الاِصلاح بنفس هذا التفكيك، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة: انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الاِلهية التي يقوم بأعبائها الاَنبياء والرسل، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ

الصفحة 55
بعد اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الاِجابة عن سوَال لا يقصر في الضآلة عن السوَال الماضي. وهو ما ربما يقال: إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات، وهذا القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السوَال واضح تمام الوضوح، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به، إذ ما الذي يمنعه ـ عندئذ ـ من أن يكذب ويتستر على كذبه، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالاَنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلاَ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله: إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك، وهذا هو معنى

الصفحة 56
قولنا: إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر ومالا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلك مما يستخرج بالاَدلة والمقاييس، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل: أليس قد جوّز كثير من الناس على الاَنبياء: الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع، وهذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا: هذا سوَال من لم يفهم ما أوردناه، لاَنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الاَمر جملة، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول، كما أنّا مع الاَمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟


الصفحة 57
قلنا: الطريقة في الاَمرين واحدة، لاَنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الاَحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاَحوال ولا على وجه من الوجوه، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً وموَثراً، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير (ولاَجل ذلك) وجب أن لا يكون فيه شىء من التنفير، لاَنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الاَحيان والاَوقات المتباعدة منفر أيضاً، وان فارق الاَوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الاَوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

فإن قيل: فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الاَنبياء: في حال النبوة وقبلها؟

قلنا: الطريقة في نفى الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفى الكبائر في الحالتين عند التأمّل، لاَنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الاَنبياء: أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو

الصفحة 58
قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها.(1)

إجابة عن سوَال آخر

ربما يقال: إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة، وفي نهاية الكمال، ولاَجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الاَنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

هذا هو السوَال، وأمّا الجواب: فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة، لاَجل وجهين:

إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الاَمرين لا يناسب ساحته سبحانه، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين، وتحقيق أهدافه على الوجه الاَكمل.

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لاَحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الاَهداف، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير، وهذا لا يليق بساحته تعالى.(2) ًّ

____________

1. تنزيه الاَنبياء: 4 ـ 6.

2. الميزان: 2/141.


الصفحة 59
ولاَجل هذه الوجوه العقلية نرى القرآن يصرح بعصمة الاَنبياء تارة، ويشير إليها أحياناً حيث يصفهم بأنّهم مهديون لا يضلون أبداً، وإليك هذه الآيات التي تعد من أجلى الشواهد القرآنية على عصمة الاَنبياء.

القرآن وعصمة الاَنبياء من المعصية

إنّه سبحانه يطرح في كتابه العزيز عصمة الاَنبياء ويصفهم بهذا الوصف، ويشهد بذلك لفيف من الآيات:

الآية الاَُولى

قال سبحانه: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرّيَّـتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلّ مِنَ الصّالِحينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاً فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) .(1) ثم إنّه يصف هذه الصفوة من عباده بقوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرى لِلْعالَمينَ) .(2) والآية الاَخيرة تصف الاَنبياء بأنّهم مهديون بهداية الله سبحانه على وجه يجعلهم القدوة والاسوة.

هذا من جانب ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه يصرح بأنّ من شملته الهداية الاِلهية لا مضل له ويقول: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ* وَمَنْ يَهْدِ

____________

1. الاَنعام: 84 ـ 87.

2. الاَنعام: 90.