انّه سبحانه يصف الاَنبياء في اللفيف الاَوّل من الآيات بأنّهم القدوة الاسوة والمهديون من الا َُمّة كما يصرح في اللفيف الثاني بأنّ من شملته الهداية الاِلهية لا ضلالة ولا مضل له.
كما هو يصرح في اللفيف الثالث بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارنه وملازمه حيث يقول: (ولقد أضل منكم) وما كانت ضلالتهم إلاّ لاَجل عصيانهم ومخالفتهم لاَوامره ونواهيه.
فإذا كان الاَنبياء مهديين بهداية الله سبحانه، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه الله، ومن جانب ثالث كانت كل معصية ضلالاً يستنتج أنّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.
وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الاَشكال المنطقية فقل:
النبي: من هداه الله.
وكل من هداه الله فما له من مضل.
ينتج: النبي ما له من مضل.
____________
1. الزمر: 36 ـ 37.
2. يس: 60 ـ 62.
الآية الثانية
انّه سبحانه يعد المطيعين لله والرسول بأنّـهم من الذين يحشرون مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين الذين أنعم الله عليهم إذ يقول:
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) .(1) وعلى مفاد هذه الآية فالاَنبياء من الذين أنعم الله عليهم بلا شك ولا ريب، وهو سبحانه يصف تلك الطائفة أعني: (من أنعم عليهم) بقوله: بأنّهم: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّينَ) .(2) فإذا انضمت الآية الاَُولى الواصفة للاَنبياء بالاِنعام عليهم، إلى هذه الآية الواصفة بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يستنتج عصمة الاَنبياء بوضوح، لاَنّ العاصي من يشمله غضب الله سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه ومخالفته.
وعلى الجملة: من كان غير المغضوب عليه ولا الضال فهو لا يخالف ربه ولا يعصي أمره فإنّ العاصي يجلب غضب الرب، ويضل عن الصراط المستقيم قدر عصيانه.
الآية الثالثة
انّه سبحانه يصف جملة من الاَنبياء ويقول في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ
____________
1. النساء: 69.
2. الفاتحة: 7.
1. أنعم الله عليهم.
2. هدينا.
3. واجتبينا.
4. خرّوا سجّداً وبُكيّا.
ثم إنّه سبحانه يصف في الآية التالية ذرية هوَلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية، ويقول: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلْقَونَ غَيّاً) .(2) نرى أنّه سبحانه يصف خلفهم بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم وهي عبارة عن أُمور ثلاثة:
1. أضاعوا الصلاة.
2. واتبعوا الشهوات.
3. يلقون غيّاً.
وبحكم المقابلة بين الصفات يكون الاَنبياء ممن لم يضيّعوا الصلاة ولم يتّبعوا الشهوات، وبالنتيجة لا يلقون غيّاً، وكل من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي، لاَنّ العاصى لا يعصى إلاّ لاتباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيه وضلالته.
____________
1. مريم: 58.
2. مريم: 59.
الآية الرابعة
إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى الاقتفاء بأثر النبي بمختلف التعابير والعبارات يقول سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ) .(1) ويقول أيضاً: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) .(2) ويقول في آية ثالثة: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزونَ) .(3) كما أنّه سبحانه يندد بمن يتصور انّ على النبي أن يقتفى الرأي العام ويقول: (وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطيعُكُمْ في كَثيرٍ مِنَ الاََمْرِ لَعَنِتُّمْ) .(4) وعصارة القول: إنّ هذه الآيات تدعو إلى إطاعة النبي والاقتداء به بلا قيد وشرط، ومن وجبت طاعته على وجه الاِطلاق أي بلا قيد وشرط يجب أن يكون معصوماً من العصيان ومصوناً عن الخطأ والزلل.
توضيحه: انّ دعوة النبي تتحقّق بأحد الاَمرين: اللفظ أو العمل. والدعوة بالكتابة ترجع إلى أحدهما، وعند ذلك فلو كان كل ما يدعو إليه النبي بلسانه
____________
1. آل عمران: 31 ـ 32.
2. النساء: 80.
3. النور: 52.
4. الحجرات: 7.
وأمّا لو كان بعض ما يدعو به باللفظ والعمل والقول والكتابة على خلاف الواقع وعلى خلاف ما يرضى به سبحانه يجب تقييد الدعوة إلى طاعة النبي بقيد يخرج هذه الصورة.
فالحكم باتّباعه على وجه الاِطلاق يكشف عن أنّ دعواته وأوامره قولاً وفعلاً حليفة الواقع، وقرينة الحقيقة لا تتخلف عنه قدر شعرة، من غير فرق بين الدعوة اللفظية أو العملية.
فإنّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها وكل عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذاك المجال.
فلو كان ما يصدر من النبي طيلة الحياة مطابقاً لرضاه وموافقاً لحكمه صح الاَمر بالاقتفاء في القول والفعل، ولو كانت أفعالهم تخالف الواقع في بعض الاَحايين وتتسم بالعصيان والخطأ، لما صح الاَمر بطاعته والاقتداء به على وجه الاِطلاق.
كيف وقد وصف الرسول بأنّه الاَُسوة الحسنة في قوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) .(2)
____________
1. النساء: 80.
2. الاَحزاب: 21.
وإن شئت قلت: لو صدر عن النبي عصيان وخلاف فمن جانب يجب علينا طاعته واقتفاوَه واتباعه، وبما انّ الصادر منه أمر منكر يحرم الاقتداء به واتباعه وتجب المخالفة، فعندئذ يلزم الاَمر بالمتناقضين، والقول بأنّه يجب اتّباعه في خصوص ما ثبت كونه موافقاً للشرع أو لم تعلم مخالفته له، خلاف إطلاق الآيات الآمرة بالاتّباع على وجه الاِطلاق من غير فرق بين فعل دون فعل، ووقت دون وقت.
وهذا المورد من الموارد التي يستكشف بإطلاق الحكم حال الموضوع وسعته وانّه مطابق للشرع، وكم له من مورد في الاَحكام الفقهية.(1)
الآية الخامسة
إنّ الله سبحانه يحكي عن الشيطان الطريد بأنّه قال: (فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) .(2) ويقول أيضاً: (وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) .(3)
____________
1. وقد عنونه الاَُصوليون في أبحاث العام والخاص فيستكشفون عن إطلاق الحكم سعة الموضوع كما في مثل قوله: "لعن الله بنى أُمية قاطبة" فيستدل بإطلاقه على سعته وعدم وجود موَمن فيهم، وإلاّ لما صح الحكم بالاِطلاق.
2. ص: 83 ـ 84.
3. الحجر: 39 ـ 40.
توضيحه: انّ الغي يستعمل تارة في خلاف الرشد وإظلام الاَمر، وأُخرى في فساد الشيء، قال ابن فارس: فالاَوّل الغى وهو خلاف الرشد، والجهل بالاَمر والانهماك في الباطل، يقال: غوي يغوي غياً، قال الشاعر:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمرهومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
وذلك عندنا مشتق من الغياية، وهي الغبرة والظلمة تغشيان، كأنّ ذا الغىّ قد غشيه ما لا يرى معه سبيل حق.
وأمّا الثاني: فمنه قولهم: غوي الفصيل إذا أكثر من شرب اللبن ففسد جوفه، والمصدر: الغوى.(1) وعلى ذلك فسواء فسرت الغواية في الآيتين بالمعنى الاَوّل كما هو الاَقرب أو بالمعنى الثاني، فالعباد المخلصون منزهون عن أن تغشاهم الغبرة والظلمة في حياتهم أو أن يرتكبوا أمراً فاسداً، ونفى كلا الاَمرين يستلزم العصمة، لاَنّ العاصي تغشاه غبرة الجهل وظلمة الباطل، كما أنّه يفسد علمه بالمخالفة.
نعم إثبات الغواية لا يستلزم إثبات المعصية، فإنّ مخالفة الاَوامر الاِرشادية التي لا تتبنى إلاّ النصح والاِرشاد وإن كانت تلازم غشيان الغبرة في الحياة وفساد العمل، لكنها لا تستلزم التمرد والتجري اللّذين هما الملاك في صدق المعصية.
____________
1. مقاييس اللغة: 4/399 ـ 400.
وهناك آيات أُخرى تأتي بأسماء المخلصين وتصفهم وتقول: (وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الاََيْدي وَالاََبْصارِ* إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاََخْيارِ* وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الاََخْيارِ) .(1) فقوله سبحانه: (إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ) خير دليل على أنّ المعدودين والمذكورين في هذه الآيات من إبراهيم وذريته كلهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على تنزههم من غواية الشيطان الملازم لنزاهتهم عن العصيان والخلاف.
نعم هذه الطائفة لا تدل على عصمة جميع الاَنبياء والرسل إلاّ بعدم القول بالفصل حيث إنّ العلماء متفقون إمّا على العصمة أو على خلافها، وليس هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة في حق بعضهم دون بعض.
هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الاَنبياء وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة أيضاً مثل قوله سبحانه: (وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .(2) لاَنّ المراد من الاجتباء هو الاجتباء بالعصمة وان كان يحتمل أن يكون
____________
1. ص: 45 ـ 48.
2. الاَنعام: 87.
ومثله قوله سبحانه: (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) .(1)
____________
1. مريم: 58.
حجة المخالفين للعصمة
قد تعرفت على الآيات الدالة على عصمة الاَنبياء في المجالات التالية: "تلقّي الوحي، والتحفّظ عليه، وإبلاغه إلى الناس، والعمل به" غير انّ هناك آيات ربما توهم في بادىَ النظر خلاف ما دلت عليه صراحة الآيات السابقة، وقد تذرعت بها بعض الفرق الاِسلامية التي جوزت المعصية على الاَنبياء بمختلف صورها.
وهذه الآيات على طوائف:
الاَُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الاَنبياء بصورة كليّة.
الثانية: ما يمس عصمة عدة منهم كآدم ويونس بصورة جزئية.
الثالثة: ما يتراءى منه عدم عصمة النبي الاَكرم.
فعلينا دراسة هذه الاَصناف من الآيات حتى يتجلّى الحق بأجلى مظاهره:
الطائفة الاَُولى: ما يمس ظاهرها عصمة جميع الاَنبياء
الآية الاَُولى
ومن هذه الطائفة قوله سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ) .(1)
____________
1. يوسف: 109.
وإن شئت تفسير الآية فعليك بإظهار مراجع الضمائر بأن تقول: لما أخّرنا العقاب عن الاَُمم السالفة ظن الرسل انّ الرسل قد كذب (بصيغة المجهول) الرسل في ما وعدوا به من النصر للموَمنين والهلاك للكافرين.
وعلى هذا فكل جواب من العدلية القائلين بعصمة الرسل على خلاف هذا الظاهر يكون غير متين، بل يجب أن يكون الجواب منطبقاً على هذا الظاهر.
وإليك الاَجوبة المذكورة في التفاسير:
الاَوّل: انّ الضمائر الثلاثة ترجع إلى الرسل غير انّ الوعد الذي تصور الرسل أنّهم قد كذبوا (أي قيل لهم قولاً كاذباً) هو تظاهر عدة من الموَمنين بالاِيمان وادّعاوَهم الاِخلاص لهم، فتصور الرسل انّ تظاهر هوَلاء بالاِيمان كان كذباً وباطلاً، وكأنّهم تصوروا انّ الذين وعدوهم بالاِيمان من قومهم أخلفوهم أو كذبوا فيما أظهروه من الاِيمان.(2)
____________
1. يوسف: 110.
2. مجمع البيان: 5 ـ 6 / 415، ط دار المعرفة، بيروت.
وإن شئت قلت: ليس في مقدم الآية ولا في نفسها ما يشير إلى أنّه قد آمن بالرسل عدّة قليلة وتظاهروا بالاِيمان غير انّه صدر عنهم ما جعل الاَنبياء يظنون بكذبهم في ما أظهروه من الاِيمان حتى يصح أن يقال انّ متعلق الكذب هو هذا، وانّما المذكور في مقدمها ونفسها هو مخالفة الزمرة الطاغية من أقوام الاَنبياء وعنادهم ولجاجهم مع رسل الله وأنبيائه حيث يقول: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاََرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا أَفَلا تَعْقِلُونَ) .(1) ومجرد قوله: (ولدار الآخرة خير للّذين اتقوا) لا يكفي في جعل إيمانهم متعلّقاً للكذب، إذ عندئذ يجب أن تتعرض الآية إلى إيمان تلك الشرذمة وصدور ما يوجب ظنهم بخلاف ما تظاهروا به حتى يصح أن يقال إنّ الرسل ظنوا انّ المتظاهرين بالاِيمان قد كذبوا في ادّعاء الاِيمان بالرسل.
أضف إلى ذلك: إنّ هذه الاِجابة لا تصحّح العصمة المطلقة للاَنبياء، إذ على هذا الجواب يكون ظن الرسل بعدم إيمان تلك الشرذمة القليلة خطأً، وكان ادّعاوَهم للاِيمان صادقاً، وهذا يمس كرامتهم من جانب آخر، لاَنّهم تخيّلوا غير الواقع واقعاً، والموَمن كافراً.
على أنّ ذلك الجواب لا يناسب ذيل الجملة فانّه سبحانه يقول بعد تلك الجملة: (جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء) مع أنّ المناسب على هذه الاِجابة أن
____________
1. يوسف: 109.
الثاني: انّ معنى الآية: ظن الاَُمم أنّ الرسل كذبوا في ما أخبروا به من نصر الله إيّاهم وإهلاك أعدائهم وهذا الوجه هو المروي عن سعيد بن جبير واختاره العلاّمة الطباطبائي، فالآية تهدف إلى أنّه إذا استيئس الرسل من إيمان أُولئك الناس، هذا من جانب ومن جانب آخر ظنّ الناس ـ لاَجل تأخر العذاب ـ انّ الرسل قد كذبوا، أي أخبروا بنصر الموَمنين وعذاب الكافرين كذباً، جاءهم نصرنا، فنجّي بذلك من نشاء وهم الموَمنون، ولا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.
وقد دلّت الآيات على أنّ الاَُمم السالفة كانوا ينسبون الاَنبياء إلى الكذب، قال سبحانه في قصة نوح حاكياً عن قول قومه: (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبينَ)(1) وكذا في قصة هود وصالح.
وقال سبحانه في قصة موسى: (فَقالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لاََظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً)(2)(3) ولا يخفى ما في هذا الجواب من الاِشكال، فإنّ الظاهر هو انّ مرجع الضمير المتصل في "ظنّوا" هو الرسل المقدم عليه، وإرجاعه إلى الناس على خلاف الظاهر، وعلى خلاف البلاغة وليس في نفس الآية حديث عن هذا اللفظ (الناس) حتى يكون مرجعاً للضمير في "ظنّوا".
أضف إلى ذلك انّ ما استشهد به مما ورد في قصة نوح لا يرتبط بما ادّعاه
____________
1. هود: 27.
2. الاِسراء: 101.
3. الميزان: 11/279.
الثالث: ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر،وقال كانوا بشراً، وتلا قوله: (وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) .(1) وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول: إنّه إن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح.(2) وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشرى وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الاَنبياء الذين تسددهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الاَنبياء.
الرابع (وهو المختار)
إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبى اعترى قلوب
____________
1. البقرة: 214.
2. الكشاف: 2/157.
مع أنّ المراد غير ذلك،بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الاِلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادىَ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.
فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الاَنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الاَوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.
منها قوله سبحانه: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّى كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ)(1) فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يوَمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لاَجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.
فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظناً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الاَنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم،فكيف الاَنبياء؟! بل المراد انّ عمله هذا (أي ذهابه ومفارقة قومه) كان
____________
1. الاَنبياء: 87.