الصفحة 75
ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده؟ فما يخالف العصمة هو الاَوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بنى النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض الموَمنين في مرأي من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه: (هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لاََوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) .(1) فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيدة والاَبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالاَنبياء

____________

1. الحشر: 2.


الصفحة 76
طيلة حياتهم وتشتد عليهم الاَزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء، وكان الموَمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضراء، مظنّة لاَن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للموَمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول: (فَنُجِّىَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين) .(1) ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) .(2) فالمراد من الرسول هو غير النبي الاَكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضراء تحدق بالموَمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل الموَمنين حتى أنّـها كانت تحبس الاَنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الاَنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه (متى نصر الله) ؟ فإنّ كلمة (متى نصر الله) مقرونة بالضراعة والالتماس،تقع مظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارىَ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.

____________

1. يوسف: 110.

2. البقرة: 214.


الصفحة 77

الآية الثانية

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .(1) (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ) .(2) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُوَْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) .(3) وهذه الآية أو الآيات من أوثق الاَدلة في نظر القائل بعدم عصمة الاَنبياء، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحى النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحى النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الاَنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.

وربما يوَيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصه وما فيه من الاِشكال.

فالاَولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما

____________

1. الحج: 52.

2. الحج: 53.

3. الحج: 54.


الصفحة 78
فسّره المستدل فنقول: يجب توضيح نقاط في الآيات.

الاَُولى: ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه: (إذا تمنّى) ؟

الثانية: ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه: (ألقى الشيطان في أُمنيّته) ؟

الثالثة: ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان؟

الرابعة: ماذا يريد سبحانه من قوله: (ثم يحكم الله آياته) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة: كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها؟ وكيف يكون سبباً لاِيمان الموَمنين، وإخبات قلوبهم له؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الاِبهام الذي نسجته الاَوهام حول الآية ومفادها فنقول:

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟

أمّا الاَُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شىء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمنن وان أمسيــت في حرم حتى تلاقى ما يمنى لك المانى
والمنا: القدر، وماء الاِنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة: الموت، لاَنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الاِنسان: أمل يقدّره، ومنى مكة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله.(1)

____________

1. المقاييس: 5/276.


الصفحة 79
وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والاَنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والاَنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الاِلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامى، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخططون لهذا الاَمر، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة، ويمهدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الاَكرم: (وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُوَْمِنينَ) .(1) ويقول أيضاً: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) .(2) ويقول أيضاً: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْمِنْ ناصِرينَ) .(3) ويقول سبحانه: (إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) .(4)

ويقول سبحانه: (فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ) .(5) هذا كلّه في حق النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته: (وَإِنّى كُلَّما

____________

1. يوسف: 103.

2. فاطر: 8.

3. النحل: 37.

4. القصص: 56.

5. الغاشية: 21 ـ 22.


الصفحة 80
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْإِسْراراً) .(1) ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات: (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً) .(2) فهذه الآيات ونظائرها تنبىَ بوضوح عن أنّ أُمنية الاَنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السوَال الاَوّل، وهلم معي الآن لنقف على جواب السوَال الثاني، أعنى:

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟

وهذا السوَال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالاِجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

1. أن يوسوس في قلوب الاَنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وانّ هذه الاَُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر

____________

1. نوح: 7 ـ 9.

2. نوح: 21 ـ 24.


الصفحة 81
بسبب ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الاَنبياء بنص القرآن الكريم، لاَنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الاَنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والاِرشاد، والقرآن الكريم ينفى تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الاَنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) .(1) ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان: (فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) .(2) وليس إيجاد الوهن في عزائم الاَنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.

2. أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الاَنبياء: والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الاَنبياء:على المخالفة ويعدهم بالاَماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه: (يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً) .(3)

____________

1. الحجر: 42، الاِسراء: 65.

2. ص: 82 ـ 83.

3. النساء: 120.


الصفحة 82
وقال سبحانه: (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الاََمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) .(1) وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الاَنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والاَماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى (أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدمات) ألقى الشيطان في أُمنيّته) (بحض الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الاَنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة).

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) وما معنى هذا النسخ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والاِنجاح، قال سبحانه: (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا)(2) وقال سبحانه: (كَتَبَ اللهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ)(3) وقال سبحانه: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) .(4)

____________

1. إبراهيم: 22.

2. غافر: 51.

3. المجادلة: 21.

4. الاَنبياء: 18.


الصفحة 83
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) .(1) وقال في حق النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .(2) وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاََرْضَ يَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ) .(3) إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكى عن انتصار الحق الممثل في الرسالات الاِلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

4. ما معنى إحكامه سبحانه آياته؟

إذا تبين معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبين المراد من قوله سبحانه: (ثم يحكم الله آياته) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الاَكرم، وذلك لاَنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الاَكرم، بل الرسل والاَنبياء على وجه الاِطلاق، أضف إليه انّه ليس كل نبي ذا كتاب وآيات،

____________

1. الصافات: 171 ـ 173.

2. التوبة: 33.

3. الاَنبياء: 105.


الصفحة 84
فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: انّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للاَوّل، والاندحار والهزيمة للثاني فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه، بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الاِلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه: (وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) .(1)

5. ما هي النتيجة من هذا الصراع؟

قد عرفت أنّ الآية تعلل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

1. الذين في قلوبهم مرض.

2. ذات القلوب القاسية.

3. الذين أوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الاِخلاص والاِيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الاِلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

____________

1. الاِسراء: 81.


الصفحة 85
وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس الموَمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصمودا.

وهذه النتيجة حاكمة في عامة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لاَجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ)(1) ، وانّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الاِمام أمير الموَمنين على (عليه السلام) في معنى الاختبار بالاَموال والاَولاد الوارد في قوله: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ)(2) : "ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الاَفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب".(3) وقد وقفت بعد ما حررت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي ـ قدس الله سره ـ وهو قريب مما ذكرناه: قال: المراد من الاَُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في

____________

1. الملك: 14.

2. الاَنفال: 28.

3. نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم: 93.


الصفحة 86
هذا المتمنّى الصالح ما يشوشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويوَيد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم.(1) وما ذكره ـ قدّس الله سرّه ـ كلام لا غبار عليه، وقد شيدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسك به بعض القساوسة الطاعنين في الاِسلام، ومن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الاِسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو انّ "ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها" واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس قالا: جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى* ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى)(2) فقرأها (صلى الله عليه وآله وسلم)حتى إذا بلغ: (أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الا َُخْرى)(3) ألقى عليه الشيطان

____________

1. الهدى إلى دين المصطفى: 1/134.

2. النجم: 1 ـ 2.

3. النجم: 19 ـ 20.


الصفحة 87
كلمتين: "تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيل(عليه السلام) فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) إلى قوله:

(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً)(1) فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ) قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة انّ أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان.(2) ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الاِشكالات التي تسقطه عن صحة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله "تمنّى" بمعنى تلا، وانّ لفظة "أُمنيته" بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث ولو صح فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

____________

1. الاِسراء: 73، 75.

2. تفسير الطبري: 17/131، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.


الصفحة 88
نعم استدل بعضهم بقول حسان على ذاك الاستعمال:

تمنى كتاب الله أوّل ليلة وآخره لاقى حمام المقـادر
وقول الآخر:

تمنى كتاب الله آخر ليلة تمنّي داود الزبور على رسل
وهذان البيتان لو صح اسنادهما إلى عربي صميم كحسان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذة.

أضف إلى ذلك انّ البيت غير موجود في ديوان حسان، وانّما نقله عنه المفسرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج6 ص382) واستشهد به صاحب المقاييس (ج5 ص277).

ولو صح الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الاَوّل دون الاَُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ.(1) وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها، لاَنّها تتضمن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقية السورة إلى آخرها

____________

1. الهدى إلى دين المصطفى: 1/130.


الصفحة 89
وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكن الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى* إِنْ هِىَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)(1) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السوَال، وهو انّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندد بآلهتهم بشدة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الاِلوهية إلاّ الاسم والعنوان؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاً لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيه الاَكرم بقوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى)(2) وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيه ما ينافي هذا التوصيف أشد المنافاة وفي وسعه سبحانه صون نبيه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الاَكرم في مقام تلقّى الوحى والتحفظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) .(3)

____________

1. النجم: 22 ـ 23.

2. النجم: 3 ـ 4.

3. الجن: 27.