الصفحة 153

في رسائل الجاحظ حول أحقية الأمير (عليه السلام) بالخلافة وأفضليته


وأختم كتابي هذا برسالتي أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وهو من أعيان علماء المخالفين من العامة مما ذكر فيهما واستدل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون أبي بكر بأدلة قطعية وبراهين بينة وهو لا يتهم في ذلك، بل هو حجة عليه وعلى جميع الفرق القائلين بإمامة أبي بكر، والجاحظ هذا من المتعصبين المنحرفين عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل هو عثماني مرواني، وفي الرسالتين أيضا تفضيل بني هاشم على غيرهم، وهاتان الرسالتان أوردهما الشيخ الفاضل الثقة الورع الشيخ علي بن عيسى تغمده الله تعالى برحمته في أول كتاب كشف الغمة.

قال (رحمه الله): وقع إلى رسالة من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في التفضيل أثبتها مختصرا ألفاظها وترجمتها: رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في الترجيح والفضل، نسخت من مجموع الأمير أبي محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قال: هذا كتاب من اعتزل الشك والظن والدعوى والأهواء وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) وبإجماع الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) مما تضمنه الكتاب والسنة وترك القول بالآراء فإنها تخطئ وتصيب، لأن الأمة أجمعت أن النبي (صلى الله عليه وآله) شاور أصحابه في الأسرى ببدر، واتفق رأيهم على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى: *(ما كان لنبي أن يكون له أسرى)*(1) الآية فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين، وإنما الحجة الطاعة لله ولرسوله وما أجمعت عليه الأمة من كتاب الله وسنة نبيها، ونحن لم ندرك النبي (صلى الله عليه وآله) ولا أحدا من أصحابه الذين اختلفت الأمة في أحقهم فنعلم أيهم أولى ونكون معهم كما قال الله تعالى: *(وكونوا مع الصادقين)*(2) ونعلم أيهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال الله تعالى:

*(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)*(3) حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين وأهله وأهل الصدق والحق، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان: أحدهما قالوا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) مات ولم يستخلف أحدا وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه،

____________

(1) الأنفال: 67.

(2) التوبة: 119.

(3) النحل: 78.


الصفحة 154
فاختاروا أبا بكر، والآخرون قالوا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) استخلف عليا (عليه السلام) فجعله إماما للمسلمين بعده، وادعى كل فريق منهم الحق، فلما رأينا ذلك أوقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحق من المبطل، فسألناهم جميعا: هل للناس بد من وال يقيم أعيادهم ويجبي زكاتهم ويفرقها على مستحقيها ويقضي بينهم ويأخذ لضعيفهم من قويهم ويقيم حدود الله؟ فقالوا: لا بد من ذلك.

فقلنا: هل لأحد أن يختار أحدا فيوليه من غير نظر في كتاب الله وسنة نبيه.

فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر، فسألناهم جميعا عن الإسلام الذي أمر الله به.

فقالوا: إنه الشهادتان والإقرار بما جاء به من عند الله والصلاة والصوم والحج بشرط الاستطاعة لإجماعهم، والعمل بالقرآن يحل حلاله ويحرم حرامه فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم جميعا هل لله خيرة من خلقه اصطفاهم واختارهم.

فقالوا: نعم، فقلنا ما برهانكم؟ قالوا قوله تعالى: *(وربك يخلق ما يشاء ويختار)*(1) فسألناهم عن الخيرة فقالوا: هم المتقون، قلنا: ما برهانكم؟ قالوا: قوله تعالى: *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)*(2) فقلنا هل لله خيرة من المتقين؟ قالوا: نعم، المجاهدون بدليل قوله تعالى: *(فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة)*(3) فقلنا: هل لله خيرة من المجاهدين؟.

قالوا جميعا: نعم، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد بدليل قوله تعالى: *(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)*(4) الآية، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه، وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد، ثم قلنا: هل لله خيرة منهم؟

قالوا: نعم، قلنا: ومن هم؟ قالوا: أكثرهم عناء في الجهاد وطعنا وضربا وقتلا في سبيل الله بدليل قوله تعالى: *(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)*(5) *(وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)*(6) فقبلنا ذلك منهم وعلمناه وعرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد وأبذلهم لنفسه في طاعة الله وأقتلهم لعدوه، فسألناهم عن هذين الرجلين علي بن أبي طالب وأبي بكر أيهما كان أكثر عناء في الحرب وأحسن بلاء في سبيل الله فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه كان أكثر طعنا وضربا وأشد قتالا وأذب في دين الله ورسوله، فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين ودلالة الكتاب والسنة أن عليا (عليه السلام) أفضل، فسألناهم ثانيا عن خيرته تعالى من المتقين.

____________

(1) القصص: 68.

(2) الحجرات: 13.

(3) النساء: 95.

(4) الحديد: 10.

(5) الزلزلة: 7.

(6) البقرة: 110.


الصفحة 155
فقالوا: هم الخاشعون بدليل قوله تعالى: *(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد)*(1) إلى قوله تعالى:

*(من خشي الرحمن بالغيب)*(2). وقال تعالى *(وذكرا للمتقين * الذين يخشون ربهم)*(3) ثم سألناهم جميعا: من هم الخاشعون؟

فقالوا: هم العلماء لقوله: *(إنما يخشى الله من عباده العلماء)*(4)، ثم سألناهم جميعا: من أعلم الناس؟

قالوا: أعلمهم بالعدل(5) وأهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله تعالى: *(يحكم به ذوا عدل منكم)*(6) فجعل الحكومة إلى أهل العدل، فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟ فقالوا: أدلهم عليه، قلنا: فمن أدل الناس عليه؟ قالوا أهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله: *(أفمن يهدي إلى الحق)*(7) الآية، فدل كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) والإجماع أن أفضل الأمة بعد نبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأنه إذا كان أكثرهم جهادا كان أتقاهم، وإذا كان اتقاهم كان أخشاهم، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدل على العدل، وإذا كان أدل على العدل كان أهدى الأمة إلى الحق، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعا وأن يكون حاكما لا تابعا ولا محكوما عليه، واجتمعت الأمة بعد نبيها أنه خلف كتاب الله تعالى ذكره وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر وإلى سنته (صلى الله عليه وآله) فيقتدون بهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه، فإذا قرأ قارئهم *(وربك يخلق ما يشاء ويختار)*(8) فيقال له أثبتها، ثم يقرأ *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)*(9) وفي قراءة ابن مسعود: إن خيركم عند الله أتقاكم، ثم يقرأ: *(وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشي الرحمن بالغيب)*(10) فدلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون، ثم يقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله: *(إنما يخشى الله من عباده العلماء)*(11) فيقال له: إقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى: *(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)*(12) علم أن العلماء أفضل من غيرهم، ثم يقال: إقرأ، فإذا بلغ إلى قوله تعالى: *(يرفع الله

____________

(1) ق: 31.

(2) ق: 33.

(3) الأنبياء: 48 - 49.

(4) فاطر: 28.

(5) في المصدر: بالقول.

(6) المائدة: 95.

(7) يونس: 35.

(8) القصص: 68.

(9) الحجرات: 13.

(10) ق: 31 - 33.

(11) فاطر: 28.

(12) الزمر: 9.


الصفحة 156
الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)*(1) قيل قد دلت هذه الآية على أن الله قد اختار العلماء وفضلهم ورفعهم درجات وقد أجمعت الأمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعبد الله بن العباس (رضي الله عنه) وابن مسعود وزيد بن ثابت رحمهم الله، وقالت طائفة: عمر بن الخطاب، فسألنا الأمة من أولى بالتقديم إذا حضرت الصلاة فقالوا: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " يؤم بالقوم أقرأهم "(2) ثم أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله تعالى من عمر فسقط عمر ثم سألنا الأمة: أي هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله وأفقه لدينه؟ فاختلفوا فوقفناهم حتى نعلم ثم سألناهم: أيهم أولى بالإمامة، فأجمعوا على أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الأئمة من قريش "(3) فسقط ابن مسعود وزيد بن ثابت وبقي علي بن أبي طالب وابن عباس فسألنا: أيهما أولى بالإمامة؟ فقالوا إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين فأكبرهما سنا وأقدمهما هجرة، فسقط عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) وبقي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيكون أحق بالإمامة لما اجتمعت عليه الأمة ولدلالة الكتاب والسنة عليه(4). هذا آخر رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

____________

(1) المجادلة: 11.

(2) المغني 1 / 617، الشرح الكبير 1 / 463.

(3) مسند أحمد 3 / 129.

(4) كشف الغمة 1 / 37 - 41.


الصفحة 157

رسالة أخرى لأبي عثمان عمرو بن بحر


هذا، نقلها علي بن عيسى في كتاب كشف الغمة قال: رسالة وقعت إلي من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أذكرها مختصرا لها.

قال: إعلم حفظك الله أن أصول الخصومات معروفة بينة وأبوابها مشهورة كالخصومة بين الشعوبية والعرب والكوفي والبصري والعدناني والقطحاني، وهذه الأبواب الثلاثة أنقص للعقول السليمة وأفسد للأخلاق الحسنة من المنازعة في القدر والتشبيه وفي الوعد والوعيد والأسماء والأحكام وفي الآثار وتصحيح الأخبار، وأنقص من هذه للعقول تمييز الرجال وترتيب الطبقات وذكر تقديم علي (عليه السلام) وأبي بكر، فأولى الأشياء بك القصد وترك الهوى فإن اليهود نازعت النصارى في المسيح فلج بهما القول حتى قالت اليهود: إنه ابن يوسف النجار وإنه لغير رشده وإنه صاحب تبريج(1) وخدع ومخاريق وناصب شرك وصياد سمك وصاحب شص وشبك، فما يبلغ من عقل صياد وربيب نجار؟ وزعمت النصارى أنه رب العالمين وخالق السماوات والأرضيين وإله الأولين والآخرين، فلو وجدت اليهود أسوأ من ذلك القول لقالته فيه، ولو وجدت النصارى أرفع من ذلك القول لقالته فيه، وعلى هذا قال علي (عليه السلام): " يهلك في رجلان محب مفرط ومبغض مفرط "(2) والرأي كل الرأي أن لا يدعوك حب الصحابة إلى بخس عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) حقوقهم وحظوظهم، فإن عمر لما كتبوا الدواوين وقدموا ذكره أنكر ذلك وقال: ابدأوا بطرا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضعوا آل الخطاب حيث وضعهم الله، قالوا: فأنت أمير المؤمنين فأبى إلا تقديم بني هاشم وتأخير نفسه، فلم ينكر عليه منكر وصوبوا رأيه وعدوا ذلك من مناقبه.

واعلم أن الله لو أراد أن يسوي بين بني هاشم وبين الناس لما أبانهم بسهم ذوي القربى ولما قال:

*(وأنذر عشيرتك الأقربين)*(3) وقال الله تعالى: *(وإنه لذكر لك ولقومك)*(4) وإذا كان لقومه في ذلك ما ليس لغيرهم فكل من كان أقرب كان أرفع، ولو سواهم بالناس لما حرم عليهم الصدقة، وما هذا التحريم إلا لإكرامهم على الله ولذلك قال للعباس حيث طلب ولاية الصدقات: لا أوليك غسالات

____________

(1) في المصدر: نيرنج.

(2) بحار الأنوار 10 / 217 ح 18.

(3) الشعراء: 214.

(4) الزخرف: 44.


الصفحة 158
خطايا الناس وأوزارهم، بل أوليك سقاية الحاج والإنفاق على زوار الله، ولهذا كان رباه أول ربا وضع، ودم ربيعة بن الحارث أول دم أهدر لأنهما القدوة في النفس والمال، لهذا قال علي (عليه السلام) على منبر الجماعة: " نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد "(1) وصدق (عليه السلام)، كيف يقاس بقوم منهم رسول الله وآله، الأطيبان علي وفاطمة والسبطان الحسن والحسين والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر وسيد الوادي عبد المطلب وساقي الحجيج العباس وحليم البطحاء والنجدة والخير فيهم، والأنصار أنصارهم، والمهاجر من هاجر إليهم ومعهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين الحق والباطل فيهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير إلا فيهم ولهم ومنهم ومعهم وقال (صلى الله عليه وآله) فيما أبان به أهل بيته: " إني تارك فيكم الخليفتين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "(2) ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر حين طلب مصاهرة علي: إني سمعت رسول الله (عليه السلام) يقول: " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي "(3).

واعلم أن الرجل قد ينازع في تفضيل ماء دجلة على ماء الفرات فإن لم يتحفظ وجد في قلبه على شارب ماء دجلة رقة لم يكن يجدها، ووجد في قلبه غلظة على شارب ماء الفرات لم يكن يجدها، فالحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أبناء نبينا ورسولنا فنحكم لجميع المرسلين بالتصديق ولجميع السلف بالولاية، ونخص بني هاشم بالمحبة ونعطي كل امرئ قسطه من المنزلة، فأما علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فلو أفردنا لأيامه الشريفة ومقاماته الكريمة ومناقبه السنية كلاما لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال، العرق صحيح والمنشأ كريم والشأن عظيم والعمل جسيم والعلم كثير والبيان عجيب واللسان خطيب والصدر رحيب، فأخلاقه وفق أعراقه وحديثه يشهد بقديمه، وليس التدبير في وصف مثله إلا ذكر جمل قدره واستقصاء جميع حقه، وإذا كان كتابنا لا يحتمل تفسير جميع أمره ففي هذه الجملة بلاغ لمن أراد معرفة فضله.

وأما الحسن والحسين (عليهما السلام) فمثلهما مثل الشمس والقمر فمن أعطى ما في الشمس والقمر من المنافع العامة والنعم الشاملة التامة ولو لم يكونا ابني علي (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام)، ورفعت من وهمك كل رواية وكل سبب توجبه القرابة لكنت لا تقرن بهما أحدا من أجلة أولاد المهاجرين والصحابة إلا أراك فيهما الإنصاف من تصديق قول النبي (صلى الله عليه وآله): " إنهما سيدا شباب أهل الجنة "(4) وجميع من هما

____________

(1) بحار الأنوار 26 / 269 ح 5.

(2) بحار الأنوار 22 / 465 ح 19.

(3) بحار الأنوار 39 / 108 ح 22.

(4) بحار الأنوار 46 / 81 ح 6.


الصفحة 159
سادته سادة، والجنة لا تدخل إلا بالصدق والصبر وإلا بالحلم والعلم وإلا بالطهارة والزهد وإلا بالعبادة والطاعة الكثيرة والأعمال الشريفة والاجتهاد والأثرة والإخلاص في النية، فدل على أن حظهما في الأعمال المرضية والمذاهب الزكية فوق كل خط.

وأما محمد بن الحنفية فقد أقره الصادر والوارد والحاضر والبادي أنه كان واحد دهره ورجل عصره وكان أتم الناس تماما وكمالا.

وأما: علي بن الحسين (عليه السلام) فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لا يتمرى أحد في تدبيره ولا يشك أحد في تقديمه، وكان أهل الحجاز يقولون لم نر ثلاثة في دهر يرجعون إلى أب قريب كلهم يسمى عليا وكلهم يصلح للخلافة لتكامل خصال الخير فيهم، يعنون علي بن الحسين ابن علي (عليهما السلام) وعلي بن عبد الله بن جعفر وعلي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، ولو عزونا لكتابنا هذا ترتبهم لذكرنا رجال أولاد علي لصلبه وولد الحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلا أنا ذكرنا جملة من القول فيهم فاقتصرنا من الكثير على القليل.

وأما: النجدة فقد علم أصحاب الأخبار وحمالوا الآثار أنهم لم يسمعوا بمثل نجدة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحمزة (رضي الله عنه) ولا يصير جعفر الطيار رضوان الله عليه، وليس في الأرض قوم أثبت جنانا ولا أكثر مقتولا تحت ظلال السيوف ولا أجدر أن يقاتلوا، وقد فرت الأخيار وذهبت الصنائع وخام ذو البصيرة وجاد أهل النجدة من رجالات بني هشام وهم كما قيل:


وخام الكمي وطاح اللوىولا تأكل الحرب إلا سمينا

وكذلك قال دغفل(1) حين وصفهم: أنجاد أمجاد ذوو ألسنة حداد.

وكذلك قال علي (عليه السلام) حين سئل عن بني هاشم وبني أمية: نحن أنجد وأمجد وأجود، وهم أنكر وأمكر وأغدر.

وقال أيضا: نحن أطعم للطعام وأضرب للهام، وقد عرفت جفاء المكيين وطيش المدنيين وأعراق بني هشام مكية ومناسبهم مدنية، ثم ليس في الأرض أظهر أخلاقا ولا أطهر بشرا ولا أدوم دماثة ولا ألين عريكة ولا أطيب عشيرة ولا أبعد من كبر منهم، والحدة لا يكاد يعدمها الحجازي والتهامي إلا أن حليمهم لا يشق غباره، وذلك في الخاص والجمهور على خلاف ذلك حتى تصير إلى بني هاشم، فالحلم في جمهورهم وذلك يوجد في الناس كافة، ولكنا نضمن أنهم أتم الناس

____________

(1) هو دغفل بن حنظلة النسابة أحد بني شيبان.


الصفحة 160
فضلا وأقلهم نقصا، وحسن الخلق في البخيل أسرع وفي الذليل أوجد وفيهم مع فرط جودهم وظهور عزهم من البشر الحسن والاحتمال وكرم التفاضل ما لا يوجد مع البخيل الموسر والذليل المكثر اللذين يجعلان البشر وقاية دون المال، وليس في الأرض خصلة تدعو إلى الطغيان والتهاون بالأمور وتفسد العقول وتورث السكر إلا وهي تعتريهم وتعرض لهم دون غيرهم، إذ قد جمعوا مع الشرف العالي والمغرس الكريم والعز والمنعة مع إبقاء البأس عليهم والهيئة لهم وهم في كل أوقاتهم وجميع أعصارهم فوق من هم على مثل ميلادهم في الهيئة الحسنة والمروءة الظاهرة والأخلاق المرضية، وقد عرف الحدث العزيز من فتيانهم وذوي الغرامة من شبانهم أنه إن افترى لم يفتر عليه وإن ضرب لم يضرب، ثم لا تجده إلا قوي القلب بعيد الهمة كثير المعرفة مع خفة ذات اليد وتعذر الأمور، ثم لا تجد عند أفسدهم شيئا من المنكر إلا رأيت في غيره من الناس أكثر منه من مشايخ القبائل وجمهور العشائر، وإذا كان فاضلهم فوق كل فاضل وناقصهم أنقص نقصانا من كل ناقص فأي دليل أدل وأي برهان أوضح مما قلناه؟

وقد علمت أن الرجل فيهم ينعت بالتعظيم والرواية في دخول الجنة بغير حساب ويتأول القرآن له ويزداد في طمعه في كل حيلة وينقص من خوفه ويحتج له بأن النار لا تمسه وأنه ليشفع في مثل ربيعة ومضر وأنت تجد لهم مع ذلك العدد الكثير من الصوام والمصلين والتالين الذين لا يجاريهم أحد ولا يقاربهم، كان أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب يصلي في كل ليلة ألف ركعة وكذا علي ابن الحسين بن علي وعلي بن عبد الله بن جعفر وعلي بن عبد الله بن العباس (عليهم السلام) مع العلم والحلم وكظم الغيظ والصفح الجميل والاجتهاد المبرز، فلو أن خصلة من الخصال أو داعية من هذه الدواعي عرضت لغيرهم لهلك وأهلك، واعلم أنهم لم يمتحنوا بهذه المحن ولم يتحملوا هذه البلوى إلا لما قدموا من العزائم التامة والأدوات الممكنة ولم يكن الله ليزيدهم في المحنة إلا وهم يزدادون على شدة المحن خبرا وعلى التكشف تهذيبا.

وجملة أخرى مما لعلي بن أبي طالب خاصة الأب أبو طالب بن عبد المطلب والجد عبد المطلب بن هاشم والأم فاطمة بنت أسد بن هاشم، والزوجة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد النساء أهل الجنة والولد الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة والأخ جعفر الطيار في الجنة، والعم العباس وحمزة سيد الشهداء في الجنة، والعمة صفية بنت عبد المطلب وابن العم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأول هاشمي من هاشميين، كان في الأرض ولد أبي طالب والأعمال التي يستحق بها الخير أربعة:

التقدم في الإسلام، والذب عن رسول الله وعن الدين، والفقه في الحلال والحرام، والزهد في

الصفحة 161
الدنيا، وهي مجتمعة في علي بن أبي طالب متفرقة في الصحابة، وفي علي يقول أسد بن رقيم يحرض عليه قريشا وإنه قد بلغ منه على حداثة سنه ما لم يبلغه ذوو الأسنان:


في كل مجمع غاية أخزاكمجذع أبر علي المذاكي القرح
لله دركم ألما تنكرواقد ينكر الضيم الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكمذبحا ويمشي آمنا لم يجرح
أين الكهول وأين كل دعامةللمعضلات وأين زين الأبطح
أفناهم ضربا بكل مهندصلت وحد غزاره لم يصفح

وأما الجود: فليس على ظهر الأرض جواد جاهلي ولا إسلامي ولا عربي ولا عجمي إلا وجوده يكاد يصير بخلا إذا ذكر جود علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العباس المذكورون بالجود منهم لكن اقتصرنا، ثم ليس في الأرض قوم أنطق خطيبا ولا أكثر بليغا من غير تكلف ولا تكسب من بني هاشم وقال أبو سفيان بن الحرث:


لقد علمت قريش غير فخربأنا نحن أجودهم حصانا
وأكثرهم دروعا سابغاتوأمضاهم إذا طعنوا سنانا
وأدفعهم عن الضراء فيهموأبينهم إذا نطقوا لسانا(1)

ومما يضم إلى جملة القول في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه أطاع الله قبلهم ومعهم وبعدهم وامتحن بما لم يمتحن به ذو عزم وابتلي بما لم يبتل به ذو صبر، وأما جملة القول في ولد علي فإن الناس لا يعظمون أحدا من الناس إلا بعد أن يصيبوا منهم وينالوا من فضلهم، وإلا بعد أن تظهر قدرتهم، وهم معظمون قبل الاختبار وهم بذلك واثقون وبه أنه لهم موقنون، فلولا أن هناك سرا كريما وخيما عجيبا وفضلا مبينا وعرقا ناميا لاكتفوا بذلك التعظيم ولم يعانوا تلك التكاليف الشداد والمحن الغلاظ، فأما المنطق والخطب فقد علم الناس كيف كان علي بن أبي طالب عند التفكير والتحبير وعند الارتجال والبدئة وعند الإطناب والإيجاز في وقتيها، وكيف كان كلامه قاعدا وقائما وفي الجماعات ومنفردا، مع الخبرة بالأحكام والعلم بالحلال والحرام، وكيف كان عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) الذي كان يقال له: الحبر والبحر، ومثل عمر بن الخطاب يقول له: غص يا غواص، وشنشنة أعرفها من أخزم، قلب عقول ولسان قؤول، ولو لم يكن لجماعتهم إلا لسان زيد بن علي بن الحسين وعبد الله بن معاوية بن جعفر لقرعوا بهما جميع البلغاء وعلوا بها على جميع الخطباء،

____________

(1) في المصدر: وأثبتهم إذا نطقوا جنانا.


الصفحة 162
وكذلك قالوا: أجواد أمجاد وألسنة حداد.

ولقد ألقيت إليك جملة من ذكر آل الرسول يستدل بالقليل منها على الكثير، وبالبعض على الكل، والبغية في ذكرهم أنك متى عرفت منازلهم ومنازل طاعاتهم ومراتب أعمالهم وأقدار أفعالهم وشدة محنتهم أضفت ذلك إلى حق القرابة كان أدنى ما يجب علينا وعليك الاحتجاج لهم، وجعلت بدل التوقف في أمرهم الرد على من أضاف إليهم ما لا يليق بهم، وقد تقدم من قولنا فيهم متفرقا ومجملا ما أغنى عن الاستقصاء في هذا الكتاب. تمت الرسالة وهي بخط عبد الله بن الحسن الطبري(1).

قال: علي بن عيسى عقيب ذكره هاتين الرسالتين: أقول: إن أبا عثمان من رجال الإسلام وأفراد الزمان في الفضل والعلم وصحة الذهن وحسن الفهم والاطلاع على حقائق العلوم والمعرفة بكل جليل ودقيق، ولم يكن شيعيا فيتهم، وكان عثمانيا مروانيا وله في ذلك كتب مصنفة، وقد شهد في هاتين الرسالتين من فضل بني هاشم وتقديمهم وفضل علي (عليه السلام) وتقديمه بما لا شك فيه ولا شبهة وهو أشهر من فلق الصباح، وهذا إن كان مذهبه فذاك وليس بمذهبه وإلا فقد أنطقه الله تعالى بالحق وأجرى لسانه بالصدق، وقال ما يكون حجة عليه في الدنيا والآخرة، ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصمه في محشره، فإن الله عند لسان كل قائل فلينظر قائل ما يقول.

وأصعب الأمور وأشقها أن يذكر الإنسان شيئا يستحق به الجنة ثم يكون ذلك موجبا لدخوله النار ونعوذ بالله:


أحرم منكم بما أقول وقدنال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبتتضئ للناس وهي تحترق

انتهى كلامه علي بن عيسى(2).

وقال الشيخ الإمام السعيد العلامة ابن الرؤساء أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي في كلام أعلام الورى بعد أن ذكر أحاديث كثيرة مسندة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الأئمة بعدي اثنا عشر هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وولده الأحد عشر الذين آخرهم القائم، ولما كانت الروايات والأحاديث بذلك من طريق العامة قال أبو علي الطبرسي عقيب ذكره هذه الأحاديث: هذا بعض ما جاء من الأخبار من طريق المخالفين ورواياتهم في النص على عدد الأئمة

____________

(1) كشف الغمة 1 / 29 - 37، طبعة دار الأضواء / بيروت.

(2) كشف الغمة 1 / 41.


الصفحة 163
الاثني عشر (عليهم السلام) وإذا كانت الفرقة المخالفة قد نقلت ذلك كما نقلته الشيعة الإمامية، ولم تنكر ما تضمنه الخبر فهو أدل دليل على أن الله تعالى هو الذي سخرهم لروايته إقامة لحجته وإعلاء لكلمته، وما هذا الأمر إلا كالخارق للعادة والخارج عن الأمور المعتادة، ولا يقدر عليه إلا الله تعالى الذي يذلل الصعب ويقلب القلب ويسهل العسير وهو على كل شئ قدير(1). انتهى كلام أبي علي الطبرسي، ذكره في الكتاب المشار إليه.

وعلى هذا انقطع الكلام ونشكر الملك العلام قائلين: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا، وكان الفراغ من تصنيف هذا الكتاب الجليل الموسوم بغاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص والعام على يد مصنفه السيد الجليل النبيل السيد هاشم بن السيد سليمان بن السيد إسماعيل بن السيد عبد الجواد البحراني باليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان للسنة الثالثة والمائة والألف وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا، وفرغ من كتابته المحتاج إلى ربه الغني أقل السادات وأقدم الطلاب ابن محمد الرضوي محمد علي الخوانساري في يوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من السنة الواحدة والسبعين والمائتين بعد الألف، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين(2).


*  *  *

____________

(1) أعلام الورى 2 / 165.

(2) قد تم بعونه تعالى ومننه تحقيق هذا الأثر المهم على يد أقل خلق الله شاكرا المولى عز وجل وكل من ساهم في تحقيق وطباعة هذا السفر الجليل، سائلا الباري سبحانه أن يجعله لنا ذخرا يوم القيامة لنفوز بشفاعة آل محمد صلوات المصلين عليهم أجمعين ما طلع نجم وأفل آخر، والحمد لله رب العالمين.