الصفحة 9

مقدّمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الامين وآله الطيبين الطاهرين الذين جعل الله محبتهم محبة له وجعلها عنواناً لصحيفة المؤمن وجوازاً على الصراط المستقيم.

إنّ التشيّع لاقى على مرّ العصور أشدّ المعاناة والمحن من قبل الخصوم ومن قبل السلطات الجائرة التي كانت مهيمنة على زمام الحكم، حيث يمكننا أن نعتبر هذه الظاهرة من أبرز الظواهر التي تبدو لكل متصفّح في صفحات التاريخ الاسلامي.

ذلك لانّ التشيع أصبح بفكره النيّر وحججه المتينة يشكّل خطراً يهدّد عروش الظالمين ويدحض حجج كافة المذاهب المنحرفة التي أسس بنيانها على شفا جرف هار، فكانت نتيجة هذا المذهب أن يتلقى الضربات القاسية على مر تاريخه من الحكومات الجائرة والمذاهب المنحرفة.

ولكنه رغم هذا الكم الهائل من التيار العنيف والمواجهة الحادة،

الصفحة 10
تمكن أن يستقيم بقوة مبادئه وأفكاره وببركة مرجعيته الدينية الرشيدة التي قادت مسيرته في خضم الاجواء المتأزمة والخانقة وأمواج الفتن المتلاطمة لتجتاز هذه العقبات بسلام.

نعم كانت المرجعية الدينية ـ ولا زالت ـ هي الرائدة لصيانة التشيّع والحفاظ عليه إزاء هجمات الخصوم، وهي التي مثّلت القيادة المستحكمة التي كان لها التقدّم دوماً لازالة ما يعتري المذهب من عقبات ومزالق.

هذا ونجد مرجعية سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني «مدّ ظلّه» ببرامجها ومشاريعها هي النموذج الامثل في هذا المضمار للدفاع عن مذهب التشيع ونشر معارف أهل البيت (عليهم السلام) في شتى أنحاء العالم.

«ومركز الابحاث العقائدية» هو واحد من هذه المشاريع المباركة، حيث أُسس في الحادي عشر من شهر ذي القعدة ذكرى مولد الامام الرضا (عليه السلام)عام 1419 هـ، ليتصدى للذبّ عن حمى العقيدة وتنمية المفاهيم الرصينة ونصرة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بشتى نشاطاته المتنوعة، التي منها:

الاهتمام بالمستبصرين

والعمل في هذا القسم يتم على عدة مراحل:

(أ) التعرّف على المستبصرين والمستبصرات في شتى أنحاء العالم بشتى الطرق المتاحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ليتمكن

الصفحة 11
المركز من جمع معلومات وافية ـ قدر وسعه ـ عنهم، من جهة هويتهم الشخصية ومستواهم الدراسي والالمام بنشاطهم ومكانتهم الاجتماعية، ومعرفة دوافع استبصارهم وقصة رحلتهم إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تعرّف المركز لحد الان على ما يقارب 5000 مستبصر من 84 دولة، وقد تم لكل منهم إعداد ملف خاص به.

(ب) محاولة انتقاء النخبة من المستبصرين لتوفير أفضل بيئة لهم لازدهار قابلياتهم واستعداداتهم الكامنة لتظهر بشكل القاء محاضرات أو تأليف الكتب أو نشاطات أخرى لدعم مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، كما يطلب المركز من أصحاب القدرة الذين يسعهم التأليف والكتابة أن يدوّنوا أبحاثاً في مجال المواضيع التي كانت سبباً لاستبصارهم، أو المواضيع التي لها صلة بأهل البيت (عليهم السلام)، سواء في ذلك كتاب علمي أو ردّ شبهة أو شعر أو رواية أو مسرحية أو...، ويقوم المركز تشجيعاً لهذا المشروع بطبعها ونشرها في سلسلة تحت عنوان «سلسلة الرحلة إلى الثقلين».

وتم لحد الان طباعة خمسة كتب من هذه السلسلة وهي:

1 ـ النبي ومستقبل الدعوة / مروان خليفات / الاردن.

2 ـ واستقر بي النوى / محمد العمدي / اليمن.

3 ـ الصحابة في حجمهم الحقيقي / الهاشمي بن علي / تونس.

4 ـ بلون الغار بلون الغدير / معروف عبد المجيد / مصر.

5 ـ لا تخونوا الله والرسول / صباح البياتي / العراق.

الصفحة 12
كما أن الكتب التالية تمر مرحلة تحت الطبع لتصدر ضمن هذه السلسلة:

1 ـ الصحوة (في مجلدين) / صباح علي البياتي / العراق.

2 ـ حوار مع صديقي الشيعي / الهاشمي بن علي / تونس.

3 ـ وانقضت أوهام العمر (رواية عقائدية في مجلدين) / جمال محمد صالح اليوزبكي / العراق.

4 ـ تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة / الدكتور نور الدين الهاشمي / المغرب.

5 ـ هي الحقيقة / قاسم عبد السلام كتيمبوا / أوغندا.

6 ـ الزيديّة والاماميّة جنباً إلى جنب / محمّد العمدي / اليمن وكتب أخرى كثيرة تمرّ في مرحلة التدوين.

(ج) تنظيم وتدوين موسوعة تحت عنوان «التعريف بمعتنقي مذهب أهل البيت» وهو كتاب يتم فيه تعريف المستبصرين القدامى منهم والمعاصرين حسب ترتيب القرون، أيضاً مع سرد قصة استبصارهم ومراحل اعتناقهم لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وذكر الادلة والبراهين التي اعتمدوا عليها في هذه الرحلة.

وستصدر هذه الموسوعة في عدّة مجلدات.

(د) إعداد أشرطة صوتية ومرئية لما يتحدّث به المستبصرون حول كيفية استبصارهم، وتم التسجيل لحد الان لـ (150) مستبصراً.

الصفحة 13
وقد أعدّ المركز أخيراً برنامجاً باسم «المستبصرون يتحدثون معكم» على شكل أشرطة مرئية، انتقى فيه المركز جملة من تلك الحكايات التي تحدث بها المستبصرون عن أنفسهم حول استبصارهم وكيفية اعتناقهم لمذهب أهل البيت (عليهم السلام).

(هـ) دعوة كبار الشخصيات العلمية البارزة من المستبصرين الى المركز من كافة أنحاء العالم ليلتقوا مع مراجع التقليد والعلماء والمفكرين، وتتمّ لهم زيارات للمؤسسات والمراكز العلمية، ويكون بذلك فيما بينهم تبادل آراء وعقد صلات وإنشاء تعاون في العمل العلمي والثقافي.

(و) استدعاء ذوي القدرات الخطابية من معتنقي مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لالقاء المحاضرات في المساجد والمراكز الدينية، كما قد أرسل المركز هيئات علمية متشكلة من الاخوة المستبصرين الى مناطق متعددة للارشاد وذكر قصة رحلتهم وتبيين الادلة التي اعتمدوا عليها في استبصارهم.

وتم لحد الان عقد (40) محاضرة بإرسال جملة من الوفود الى مختلف الاماكن، حيث ألقى فيها المستبصرون خطاباتهم أمام الجماهير التي انهالت من كل حدب وصوب لتستمع إلى كلماتهم العذبة الممزوجة بالاحاسيس الطيبة والعواطف الجيّاشة التي تتدفق من أعماق قلوبهم.

(ز) الاهتمام بطلبة الجامعات الاجانب المقيمين في إيران ومدّهم بالكتب العقائدية وتبنّي دعوتهم إلى المركز ليتعرفوا على مذهب أهل

الصفحة 14
البيت (عليهم السلام).

وأخيراً تُبلور كافة هذه النشاطات المرتبطة بالمستبصرين بصورة منظمة لتثبت عبر الانترنيت، وتم تهيئة أشرطة cd منها للنشر والتوزيع والاهداء الى المؤسسات والمراكز الدينية والشخصيات العلمية في كافة أنحاء العالم.

وهذا المؤلّف «الهجرة إلى الثقلين» الذي يصدر ضمن هذه السلسلة مصداق حيّ وأثر علمي بارز يؤكّد صحّة هذا المدّعى.

مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون   
29 شوال 1421 هـ


الصفحة 15

مقدمة المؤلف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المخلصين.

قال الله تبارك وتعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الاْسْلاَمِ وَاللهُ لاَْ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُوْرَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )(1) .

إن المجادلة بين الحق والباطل شرعت عندما جعل الله في الارض خليفة، وظلت مستمرة إلى أن بعث الله خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي أراد الله أن يتم برسالته المرحلة النهائية من هدفه وأن يظهر دينه على جميع الاديان، ومضى ذلك النبي العظيم والهدف لم يصل بعد إلى مرحلته العليا، إلاّ أن الدين الذي

____________

1 ـ سورة الصف: 7 ـ 9.

الصفحة 16
جاء به لم يزل باقياً ومجادلاً مع الباطل.

ولا يخفى أن المجادلة مع فرقة باطلة متلثمة بنقاب الحق تكون صعبة وشاقة، و أما إذا ادّعت الزُمرة الضالة أن هدفها هو عين الهدف الذي يدعيه أهل الحق فستكون المجادلة في غاية الشدة والمقاومة في نهاية القسوة.

وقد مُنِيَ أهل الحق بعد رحلة خاتم النبيين بهذا البلاء، فإن العترة التي أمر الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاقتداء بها قد عانت ـ مع شيعتها ـ ما لا يحصى من المحن والعذاب، ولاقت ما لا يعد من الضغوط والاضطهاد، كل ذلك من الذين يدعون أنهم على دينهم.

وكان الجرم غير المغتفر هو الانتساب إلى هذه الطائفة المظلومة، وكان المرء يفضّل أن ينسب إلى اليهودية والمجوسية بدل أن ينسب إلى هذه الطائفة. ولا يخفى أن العصبية المذهبية قد ساعدت السياط الظالمة والسيوف الغاشمة

في تغطية وجه الحق وأهله إلى حدّ كبير، مما كان سبباً لخفاء الحق عن طالبيه.

واستمرت هذه الحالة إلى أن مَنّ الله عز وجل على بعض عباده وأوقفهم على هذه الطائفة وأطلعهم على ديانتها الخالدة.

ومن بين هؤلاء العباد هذا العبد الفقير، فبعد أن منحني الله هذه النعمة العظيمة أوجب عليَّ شكرها والثناء عليها، فليكن الحديث حول هذه الهداية وطريقة الوصول إليها نوعاً من الثناء والشكر على هذه المنة الكبيرة.

فأقول:

إن هذه رسالة ذكرتُ فيها بعض المسائل المهمة من المسائل التي يحتاج

الصفحة 17
إليها المتطلع إلى الحقيقة، وبيّنتُ فيها بعض الموارد التي وقعَت سداً أمام الحق، ومانعاً من الوصول إليه، وألّفتُها ضمن مرحلتين:

ففي المرحلة الاولى قمت ببيان بعض المسائل التي كنّا نحسبها من الحقائق القطعية، وبعضِ القضايا التي كنا نعدّها من المسلّمات التاريخية، وبعد الفحص والتحقيق وجدتُ أن الحق خلاف ذلك.

وفي المرحلة الثانية قمتُ ببيان ما كان حقاً في الحقيقة ولكنه كان مستوراً عن مريديه، لاسباب تاريخية أليمة، ونقلت ما ورد حوله من الادلة القاطعة و البراهين الساطعة من الكتاب الكريم والسنة الشريفة.

وكان أسلوبي في تأليف هذا الكتاب الاكتفاء بذكر الادلة المتنوعة من دون التعرض لتعليقات طويلة مزعجة وتأويلات مملّة متعبة، كي يكون القارئ حراً في تفكيره تجاه النصوص الشرعية، ولا يكون ذهنه مشغولاً بنظرياتي الشخصية.

فالقارئ إذا كان مشغولاً بالادلة الربانية في مسير التحقيق أولى منه من أن يكون مشغولا بالاراء البشرية.

ولنفس العلّة سعيت أن يكون الكتاب كتاباً علمياً، بدل أن يكون كتاب قصة.

ولاجل أن تكون الخدمة أتمّ والسيرُ في ساحة التحقيق أسهلَ على القارئ الكريم عزمت على أن لا أكتفي بطريق واحد وخبر آحاد في مسألة وردت فيها الاثار بطرق متعددة، بل قد سعيت أن أوصل الدليل إلى حد التواتر إن كان في تلك المرتبة، و إلاّ صرفت قصارى جهدي في أن لا يكون

الصفحة 18
قاصراً عن درجة الاستفاضة.

فعندما رأيت ورود أخبار كثيرة حول مسألة عن جماعة من الصحابة ذكرت لفظاً أو عدة ألفاظ، وأشرت إلى الباقية منها، مع ذكر أسماء الرواة من الصحابة وأئمة الحديث من أمثال أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، وأتيت بذكر المصادر في هامش الكتاب.

وما توفيقي إلا بالله العليم الحكيم، وأرجو منه تبارك وتعالى أن يوفقني لمزيد ما يحب ويرضى، إنه نعم المولى ونعم النصير.

محمد الحسن الامدي


الصفحة 19

المرحلة الاُولى: مرحلة الشك والحيرة

تمهيد

ففي هذه المرحلة حصل لي الشك والشبهة في صحة القول بأحقية مذهب الجمهور و القول ببطلان مذهب الشيعة، ثم حصل لي اليقين أن مذهب أهل السنة والجماعة كان مبنيا على أُسُس غير متينة ومؤسساً على أركان متداعية.

وإليك شيئاً من الكلام في ذلك:

كنت من العاملين في حقل التبليغ الاسلامي لاجل إيقاظ المسلمين أمام مكائد الاستكبار العالمي وإبلاغ رسالة الاسلام إليهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى كنت مستمراً في مطالعة الاثار الاسلامية ومقتبساً من آراء المفكرين الثوريين من علماء العصر، و قد كنت متأثراً بأفكار سيد قطب بشكل جدي.

الصفحة 20
وفي تلك الاثناء حصلت على كتاب للامام الخميني (قدس سره) باسم (الجهاد الاكبر)، فلما قرأت الكتاب لم أشبع منه، وقرأته مرة ثانية، وكنت أقول في نفسي: سبحان الله ! ما هذا إلاّ رجل كريم، شبيه بالملائكة، فهل يمكن لاحد له ارتباط بالله مثل هذا الارتباط القوي أن يكون على الباطل والضلالة ؟!

وكنت عندما أقرأ الايات والاحاديث الواردة في حق قوم سلمان ; مثل

الصفحة 21
الاحاديث المفسرة لقوله تعالى: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ )(1) .

قال السيوطي: أخرج سعيد بن منصور والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي و ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أبي هريرة، قال: كنا جلوساً عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ: ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فوضع يده على رأس سلمان الفارسي قال: «والذي نفسي بيده لو كان الايمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء»(2) .

والاحاديث المفسرة لقوله تعالى: ( وَإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )(3) .

قال السيوطي: أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة، قال: لما نزلت ( وَإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُمْ ) قيل من هؤلاء ؟ ـ وسلمان الى جنب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فقال: «هم الفرس، وهذا وقومه».

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم

____________

1 ـ سورة الجمعة: 3.

2 ـ الدر المنثور: 8 / 152.

3 ـ سورة القتال: 38.

الصفحة 22
و الطبراني في الاوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة، قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الاية ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) ; فقالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدِلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منكب سلمان ثم قال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس». وأخرج ابن مردويه عن جابر، وذكر قريباً منه(1) .

أخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن عدي والحاكم والطبراني والهيثم بن كليب وغيرهم عن عبد الله بن مسعود أنه قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل فئة من بني هاشم فيها الحسن والحسين، فلما رآهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اغرورقت عيناه وتغير لونه، قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ! فقال: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الاخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً، حتّى يأتي قوم من قبل المشرق، معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يُعطَونه، فيقاتِلون فيُنصَرون، فيُعطَونَ ما سأَلوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً كما ملؤوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حَبْواً على الثلج». وفي لفظ الحاكم: «فمن أدركه منكم أو من أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبوا على الثلج، فإنها رايات هدى، يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، فيملك الارض فيملاها قسطاً وعدلاً كما مُلِئت جوراً وظلما(2) .

____________

1 ـ الدر المنثور: 7 / 506.

2 ـ سنن ابن ماجه باب خروج المهدي (34): 2 / 1366 ح: 4082، المستدرك على الصحيحين: 4 / 464،المعجم الاوسط: 6 / 327 ح: 5695، ذخائر العقبى / 48 عن ابي حاتم بن حبان وابن سري، كنز العمال: 14 / 267 ح: 38677، ميزان الاعتدال: 2 / 416 م: 4295 و4 / 423 و 424 م: 9695، الصواعق المحرقة / 164، وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم: 2 / 619 ح: 1499، وكذا في المعجم الكبير: 10 / 85 ح: 10031 و/ 88 ح: 10043، وفردوس الاخبار: 1 / 87 باختصار، جواهر العقدين / 397، مسند أبي يعلى: 9 / 17 ـ 18 ح: 5084، ينابيع المودة/135 و 193 و 433، الكامل لابن عدي: 5 / 378 ـ 379 م: 1046، الفصول المهمة / 294 ـ 295، المسند للشاشي: 1 / 347، 362 ح: 329، 351، المصنف لابن أبي شيبة: 7 / 527 ح: 37716، المسند له أيضاً: 1 / 209 ح: 308، العلل للدارقطني: 5 / 184 س: 808.

الصفحة 23
وأخرج أحمد وابو نعيم والبيهقي عن ثوبان: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا رأيتم الرايات السود قد خرجت من خراسان فأتُوها ولو حبوا على الثلج، فان فيها خليفة الله المهدي».

وأخرج عنه الديلمي أيضا، بلفظ: «ستطلع عليكم رايات سود من قبل خراسان فأتوها ولو حبواً على الثلج، فإنه خليفة الله تعالى المهدي»(1) .

عندما تفكرت في هذه النصوص قلت: إن قوم سلمان وأهل خراسان هم من الشيعة، وكيف يمكن أن يمنّ الله عليهم ويوصلهم إلى الدين والايمان ولو كان منوطاً بالثريا وهم على ضلال ؟!

____________

1 ـ الصواعق المحرقة / 164، كنز العمال: 14 / 268 ح: 38679، ينابيع المودة / 182، دلائل النبوة للبيهقي: 6 / 516، الفصول المهمة / 295.

الصفحة 24
فقلت في نفسي: يمكن أن تكون الشيعة أيضاً على الحق مثل المذاهب الاربعة، و لكن القوى الحاكمة حملت الناس على بغضهم وأذاعت في حقهم الاكاذب مما كان سبباً لغضب أتباع المذاهب الاخرى عليهم والنقمة منهم.


الصفحة 25

سبب بعد المسلمين عن الاسلام

في ذلك الحين الذي كنت قد حملت هموم المسلمين على عاتقي، كنت أفكّر في سبب سقوطهم تحت نير العبودية وخضوعهم للقوى الامبريالية واستعمار بلادهم من قبل الصهيونية، وأفكّر في علة بُعْدهم عن الاسلام، بل ونفرتهم من الانتساب إليه، و تسلسل بي التفكير في الاسباب إلى صدر الاسلام.

ونتيجة لاسئلة وأجوبة ذهنية ظهر لي أن سبب ذلك كان قد شرع من القرن الاول.

وإليك شيئاً مما جال في خاطري من الاسئلة والاجوبة:

عند ما كنت أقرأ قوله تعالى: ( رُسُلاًَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ )(1) أتفكر في نفسي: كيف كان رب العزة في تفكير الاوائل و يرسل لهم الرسل كي يتضح دينه لهم ولا يبقي حجة لهم، ولم يكن في تفكير الاواخر ! فيكتفي بارسال خاتم النبيين، ثم يتركهم هملاً بمئات من السنين ويكلهم إلى أنفسهم، حتى لا يبين لهم قائدهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ! ولم يكن هناك فرق إلاّ أن الكتاب المنزل على هذا النبي يبقى محفوظا إلى يوم القيامة، بخلاف كتب الاوائل.

____________

1 ـ سورة النساء: 165.

الصفحة 26
وبعد أن وجدت هذا الفرق، قلت في نفسي: إذا لم يكن الاسلام الحقيقي واضحاً وكانت كل فرقة من فرق المسلمين ترى نفسها على الحق وترى غيرها على الباطل فكيف يمكن أن يكتفي رب العزة بذلك الفرق لحل المشكلة ؟ فهل يمكن أن يرسل الله من يبيّن الحق ؟ أو هل يمكن أن يكون الله قد بيّن طريقاً لحل المشكلة ولم يصل إلينا ؟


الصفحة 27

متابعة آراء غير المعصوم في الدين

كنت شافعي المذهب في الفروع وأشعرياً في العقيدة، وكان تَهاجُمُ الاسئلة الذهنية يهز فؤادي ; لماذا أنا أشعري في العقيدة ؟ من أمرني باتباعه ؟ آلله أمرني به أم رسوله ؟ وهو بشر مثلي ولم يكن مبعوثاً من قِبَل الله، بل هو نفسه غير مستقر في العقيدة ; لانه كان في أول الامر معتزلياً، وبعد أن انفصل عن أستاذه المعتزلي إعتنق مذهب أهل الحديث، وألف كتابه [الابانة عن أصول الديانة]، وسرد فيه عقيدته على نهج أهل الحديث ومدح أحمد بن حنبل وأيَّد عقائده وآراءه.

ولم يقف الامام الاشعري عند هذا الحد، بل لم يمض يسير من الزمان حتى بَدَّل عقيدته هذه بعقيدة ثالثة، فعمد إلى تأليف كتابه: [اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع] فشكل عقيدة مركبة من أفكار المعتزلة وآراء الحنابلة.

كنت أسأل نفسي: هل كان هناك سند على أن الاشعري لو بقي مدة أخرى وأنه لا يبدل عقيدته هذه بعقيدة رابعة ؟! فكيف يسنح لعاقل مخلص في دينه أن يعتمد في عقيدته على من كان حاله هكذا ؟!

الصفحة 28

لا ينجو من هذه الاُمّة إلاّ طائفة واحدة

كنت عندما أفكر في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، منهم:

1 ـ أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

2 ـ وعوف بن مالك.

3 ـ وأنس بن مالك.

4 ـ وسعد بن أبي وقاص.

5 ـ وعبد الله بن مسعود.

6 ـ وعبد الله بن عمرو.

7 ـ وعمرو بن عوف.

8 ـ وأبو الدرداء.

9 ـ وأبو أمامة.

10 ـ وواثلة بن الاسقع.

11 ـ وأبو هريرة.

12 ـ ومعاوية بن أبي سفيان.

وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منهم واحدة، والباقون هلكى»، أو: «كلّهم في النار إلاّ واحدة»(1) .

____________

1 ـ مجمع الزوائد: 7 / 258 ـ 260 عن الطبراني في الكبير والاوسط والبزار و أبي يعلى، المستدرك على الصحيحين وتلخيصه: 1 / 128 ـ 129، سنن ابن ماجه كتاب الفتن، باب افتراق الامم: 2/ 1321 ـ 1322، سنن أبي داود باب شرح السنة: 4 / 197 ـ 198 ح: 4596 ـ 4597، كنز العمال: عن أحمد بن حنبل وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن جرير وأبي داود والترمذي وابن ماجة والطبراني وأبي نعيم وابن عدي والحاكم وابن عساكر والعدني وابن أبي عاصم وابن النجار: 1 / 209 و210 و211 و376 و377 و378 و381380 ح: 1052 و1053 و1054 و1055 و1056 و1057 و1058 و10601059 و1061 و1637 و 1638 و1641 و1643 و1652 و1659 و11 / 114 و115 و304 ح: 30834 و30835 و 30836 و30837 و30838 و31583، سنن الترمذي كتاب الايمان باب ما جاء في افتراق هذه الامة: 4 / 291 ح: 2649 و 2650، الملل والنحل للشهرستاني: 1 / 21،تاريخ بغداد: 13 / 307 ـ 310 م: 7285، بذل المساعي / 47 ح: 28، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 1 / 32 ـ 36 ح: 63 ـ 71، الدر المنثور: 2 / 286، الجامع لاحكام القرآن: 4 / 159 ـ 160، مشكاة المصابيح: 1 / 96 ح: 171 و 172، جامع بيان العلم وفضله: 2 / 891 و 1038 ـ 1039 ح: 1673 و 1996 و 1997، شرف أصحاب الحديث / 24 ح: 40 ـ 42، البحر الزخار: 4 / 37 ـ 38 ح: 1199، مسند أبي يعلى: 7 / 36 ح: 3942.

ومن كتب الشيعة راجع بحار الانوار: 28 / 3 ـ 6 ح: 1 ـ 8.

الصفحة 29
كنت أقول في نفسي: إن الفرقة الناجية في الحديث واحدة، وإن الذين كنا نعدهم من أهل النجاة وهم أهل السنة والجماعة كانوا أربعة مذاهب بل أكثر، و لم يكونوا فرقة واحدة، ولا نستطيع أن نقول إن الاختلاف في الفروع غير مخل بالوحدة، بعد أن تسرب هذا الاختلاف إلى العقائد أيضاً:

فترى الشافعية معتنقين لعقيدة الاشعري الاخيرة، والحنفية متمسكين بعقائد الماتردي، والحنابلة مستندين إلى عقائدهم وآرائهم الخاصة...

الصفحة 30
وهكذا .

فإن تكلّفنا وحسبناهم بجميع فرقهم فرقة واحدة عظيمة فسيحصل خلاف المطلوب ; لانها حينئذ ستكون الفرقة المذمومة بلسان النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذيل الحديث المذكور كما أخرجه الحاكم: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة قوم يقيسون الامور برأيهم، فيحرمون الحلال ويحللون الحرام».

وقال الحاكم: هذاحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(1) .

____________

1 ـ المستدرك: 4 / 430 كتاب الفتن والملاحم.

الصفحة 31

مَن هم أهل السنة ؟

عندما كنت أقرأ الحديث المشهور بين أهل السنة والجماعة: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي»(1) .

كنت أُفكّر في نفسي وأقول: ما هو الدليل على أننا من أهل السنة ؟ مع أن رؤساءنا أمثال الخليفة الاول والثاني والثالث هم الذين أمروا بترك السنة و محوها ومنعوا عن روايتها وانتشارها تحت ذريعة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، بل جمعوا أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأحرقوها وسجنوا الصحابة الذين رووها.

مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر باتباع سنته كما أمر باتباع كتاب ربه، ونهى عن مخالفتها وتركها.

فقد جاء في حديث مروي بطرق متعددة عن جمع من الصحابة، منهم 1 ـ المقداد.

2 ـ وأبوهريرة.

3 ـ والمقدام بن معد يكرب.

4 ـ وأبو رافع.

5 ـ والعرباض.

____________

1 ـ المستدرك: 1 / 93.

الصفحة 32
وحكى الساعاتي عن الشوكاني في «النيل» القولَ بصحته، وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديثي، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه من حلال أحللناه ومن حرام حرمناه». وفي رواية عن جابر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال حللناه وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه حديث فكذبه فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه»(1) .

فقد روي عن أبي مليكة أن الصدِّيق جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً ; فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله ; فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه(2) .

____________

1 ـ مسند أحمد بن حنبل: 4 / 131 و 132 و6 / 8، سنن ابن ماجه باب تعظيم حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): 1 / 6 ـ 7 ح 12 و 13، سنن الترمذي كتاب العلم باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): 4/302 ح: 2672 و 2573، مسند الحميدي: 1 / 252 ح: 551، سنن أبي داود، كتاب السنة: 4 / 200 ح: 4605، السنن الكبرى: 9 / 331 ـ 332، دلائل النبوة: 6 / 549، المسند الجامع: 16 / 235 ح: 12427، الفتح الرباني: 1 / 191 ح: 10 ـ 13، بلوغ الاماني: 1 / 191 عن أبي داود وابن ماجه والدارمي والترمذي والبزار والحاكم والبيهقي، كنز العمال: 1 / 173 ـ 175 ح: 877 ـ 882 عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه الحاكم، و1 / 195 ح: 985 و 986، جامع بيان العلم وفضله: 2/1183 ـ 1187 ح: 2340 ـ 2343، سنن الدارقطني: 4 / 190 ـ 191 ح: 4722 ـ 4723، مسند ابن أبي شيبة: 2 / 403 ـ 404 ح: 927.

2 ـ أضواء على السنة المحمدية / 46 و53، تذكرة الحفاظ للذهبي: 1 / 2، 3، وعن حجية السنة / 394.

الصفحة 33
وأخرج البخاري عن ابن عباس، قال: لما اشتد بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»، قال عمر: إن النبيغلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ; فاختلفوا وأكثروا اللغط، قال: (قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع»، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابه(1) .

وأخرج الحاكم في المستدرك عن سعد بن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولابي الدرداء ولابي ذر: ما هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟! وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب.

وروى الحديث باسناده عن شعبة ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وإنكار عمر أمير المؤمنين على الصحابة كثرة الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه سنة ولم يخرجاه.

وأخرجه الحافظ أبو زرعة الدمشقي في تاريخه(2) .

وروى الخطيب في شرف أصحاب الحديث: أن عمر بن الخطاب بعث إلى عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الانصاري، فقال: ما هذا

____________

1 ـ صحيح البخاري كتاب العلم باب كتابة العلم: 1 / 57 ح: 114، وسيأتي الكلام على هذه القصة عن قريب مفصلاً.

2 ـ المستدرك مع تلخيص الذهبي: 1 / 110، تذكرة الحفاظ: 1 / 7 ترجمة عمر، الاعتصام بحبل الله المتين: 1 / 30، تاريخ أبي زرعة / 270 ح: 1479.

الصفحة 34
الحديث الذي تكثرون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟! فحبسهم بالمدينة حتى اُسْتُشْهِدَ(1) .

قال أبو ريَّة: أورد الذهبي في تذكرة الحفاظ عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه : أن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الانصاري، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان قد حبسهم في المدينة، ثم أطلقهم عثمان.

وقال في الهامش: قال أبوبكر بن العربي: فقد روي أن عمر بن الخطاب سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى اُستُشْهِدَ فأطلقهم عثمان، كان سجنهم لان القوم أكثروا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) .

أقول: كان على الخليفة أن يكافئهم ويجازيهم بالخير بدل السجن، لان علياً (عليه السلام) قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «اللهم ارحم خلفائي» ـ ثلاث مرات ـ قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك ؟ قال: «الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلّمونها الناس». [الطبراني في الاوسط والرامهرمزي في المحدث الفاصل وأبو الاسعد هبة الله القشيري وأبو الفتح الصابوني معاً في الاربعين والخطيب في شرف أصحاب الحديث والديلمي وابن النجار ونظام الملك في أماليه ونصر في الحجة وأبو علي ابن جيش

____________

1 ـ شرف أصحاب الحديث / 87 ح: 190.

2 ـ أضواء على السنة المحمدية / 54 عن تذكرة الحفاظ والعواصم من القواصم / 75 و 76.

الصفحة 35
الدينوري في حديثه](1) .

وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف، قال: والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجمعهم من الافاق: عبد الله بن حذافة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الاحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الافاق ؟! قالوا: أتنهانا ؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم نأخذ ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات(2) .

وأخرج الشافعي والحاكم والدارمي وابن عبد البر وابن ماجه والخطيب عن قرظة بن كعب، قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار، فتوضأ ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم ؟ قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مشيت معنا، قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دَوِيٌّ بالقرآن كدوي النحل، فلا تبدونهم بالاحاديث فيشغلونكم، جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وامضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة، قالوا: حدِّثنا، قال: نهانا ابن الخطاب.

ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد له طرق تجمع ويذاكر بها، وأقرّه الذهبي، وصححه الزهيري أيضاً.

____________

1 ـ كنز العمال: 10 / 294 ـ 295 ح: 29488، المعجم الاوسط: 6 / 395 ح: 5842، شرف أصحاب الحديث / 30 ـ 31 ح: 58.

2 ـ كنز العمال: 10 / 292 ح: 29479، أضواء على السنة المحمدية / 53، 54.

الصفحة 36
وذكر أبورية بعد ذكر الحديث المذكور رواية أخرى بلفظ: وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ فيما يعمل به.

وروى ابن قانع عن قرظة في ذلك روايتين ; جاء في إحديهما خرجنا إلى الكوفة فشيعنا عمر فقال: أقلوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا شريككم في ذلك، قال قرظة: فو الله ما رويت عنه حديثاً بعدُ، ولا أروي عنه شيئاً حتى أموت(1) .

ولا يخفى أن جمود هؤلاء العراقيين على كتاب الله وتجريده عن السنة كان سبباً لنشأة ذهنية الخوارج في العراق.

وأخرج أبوزرعة وابن عساكر عن سائب بن يزيد، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لابي هريرة: لتتركَنَّ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لالحقنك بأرض دوس، وقال لكعب: لتتركن الحديث أو لالحقنك بأرض القردة(2) .

عن أبي سلمة، قلت له ـ يعني أبا هريرة ـ: أكنت تحدث في زمان عمر

____________

1 ـ المستدرك مع تلخيص الذهبي: 1 / 102، أضواء على السنة المحمدية / 55، تذكرة الحفاظ: 1 / 7، الاعتصام بحبل الله المتين: 1 / 30، جامع بيان العلم و فضله: 2 / 998 ـ 999 ح: 1904 ـ 1906 وفي طبع / 397 ـ 398، سنن ابن ماجه: 1 / 3 ح: 28، شرف أصحاب الحديث / 88 ح: 192، معجم الصحابة لابن قانع: 2 / 366 م 913، سنن الدارمي: 1 / 85.

2 ـ كنز العمال: 10 / 291 ح: 29472، أضواء على السنة / 54، تاريخ أبي زرعة / 270 ح: 1475.

الصفحة 37
هكذا ؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته(1) .

وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن عثمان بن عفان قال: لا يحل لاحد أن يروي حديثا لم يُسْمَع به على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر(2) .

وأخرج أبوزرعة والخطيب وابن عساكر عن معاوية بن أبي سفيان: أنه خطب، فقال: يا ناس، أقلوا الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر، كان يخيف الناس في الله(3) .

قال المتقي الهندي: قال الحافظ عماد الدين بن كثير: قال الحاكم: حدثنا... عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان خمسمائة حديث، فبات ليله يتقلب كثيراً، قالت: فغمني ذلك، فقلت: تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك ؟ فلما أصبح قال: أى بنية هلم الاحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني، فأكون قد

____________

1 ـ تذكرة الحفاظ: 1 / 7، الاعتصام بحبل الله المتين: 1 / 30، جامع بيان العلم وفضله / 399 .

2 ـ منتخب الكنز بهامش مسند أحمد: 4 / 64.

3 ـ كنز العمال: 10 / 291 ح: 29473، تذكرة الحفاظ: 1 / 7 قريباً منه، شرف أصحاب الحديث / 91 ح: 198، تاريخ أبي زرعة / 270 ح: 1478.

الصفحة 38
تقلدت ذلك. وقد رواه القاضي أبو أمية الاحوص بن المفضل بن غسان الغلابي(1) .

وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم (ابن محمد بن أبي بكر) يملي علي أحاديث، فقال: إن الاحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب حديثاً(2) .

وأخرج أبو خيثمة وابن عبد البر عن يحيى بن جعدة، قال: أراد عمر أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الامصار: من كان عنده شيء من ذلك فليمحه(3) .

فهكذا كان حال السنة في عصر الصحابة.

ولما وَصَلَتِ النوبة إلى عصر التدوين رأينا أئمة الحديث أمثال البخاري ومسلم والترمذي يطرحون أو يقطعون أكثر ما انفلت من أيدى هؤلاء من الاحاديث بسبب مخالفتها لشروطهم ; لانهم اشترطوا لصحة الحديث ـ إضافة إلى الاتصال والوثاقة في الاسناد ـ أن لا يكون مضمون الحديث مخالفاً

____________

1 ـ تذكرة الحفاظ للذهبي: 1 / 5، كنز العمال: 10 / 285 ح: 29460، و الاعتصام بحبل الله المتين: 1 / 30.

2 ـ الطبقات الكبرى، بحث الطبقة الثانية من أهل المدينة من التابعين: 3 / 400 رقم: 734، أضواء على السنة / 47.

3 ـ كنز العمال: 10 / 292 ح: 29476، جامع بيان العلم وفضله:1 / 275 ح: 345.

الصفحة 39
لمذهب أهل السنة والجماعة، وأن لا تكون فيه علة خفية، وكانت طريقة معرفة تلك العلة تشخيص هؤلاء المحدثين ; فإذا كان الحديث مخالفا لمذهبهم يحكمون بشذوذه وضعفه ولو كان جميع رجال السند من الثقات.

وقد اعترف البخاري فيما حكي عنه قائلاً: لم أخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً، وما تركت من الصحيح كان أكثر(1) .

فبدل أن يجعلوا السنة معيارا لصحة الرأي والمذهب تراهم يجعلون المذهب ميزاناً لصحة الحديث، حتى وصل الامر إلى توصيف من لم يذكر في تأليفه ما يخالف المذهب بالاضبطية والادقية، واتهام من أورد شيئاً مخالفاً لمذهبهم في كتبه بكونه من أهل الخلاف وتوصيفه بالسذاجة والجهالة.

كنت أتساءل في نفسي: إذا كان الامر كذلك فكيف يمكن لمن يريد الوقوف على الحقيقة أن يصل إلى هدفه ؟ وكيف يمكنه أن يميز الحق من الباطل إذا كان ميزان التمييز وطريقة التحقيق هو نفس المذهب ؟!

____________

1 ـ صحيح البخاري (المقدمة) / 8 ـ 9.