ب ـ ابن خلدون يقول:
كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعليٍّ ويرون استحقاقه على غيره ولما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك وأسفوا له إلا أنّ القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الإِلفة لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف(1).
ج ـ ابن حجر في الإِستيعاب:
يقول في ترجمة أبي الطفيل: عامر بن واثلة بن كنانة الليثي أبو الطفيل أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ثمان سنين وكان مولده عام اُحد ومات سنة مائة ويقال: إنّه آخر من مات ممن رأى النبي، وقد روى نحو أربعة أحاديث وكان محباً لعليٍّ وكان من أصحابه في مشاهده وكان ثقة مأموناً يعترف بفضل الشيخين إلا أنه يقدم علياً إنتهى باختصار(2).
وبعد هذه المقتطفات أود أن ألف النظر أنّي خلال مراجعاتي كتب التاريخ لم أر في الفترة التي تمتد من بعد وفاة النبي حتى نهاية خلافة الخلفاء من عمد إلى الشتم من أصحاب الإِمام، وإنّما هناك من قيّم الخلفاء وقيّم الإِمام وحتى في أشد جمحات عاطفة الولاء لم نجد من يشتم أحداً ممن تقدم الإِمام بالخلافة يقول أبو الأسود الدؤلي:
____________
(1) تاريخ ابن خلدون 3/364.
(2) الإِستيعاب 2/452.
(3) الكامل للبمرد هامش رغبة الأمل ج7.
____________
(1) وفيات الأعيان 2/269.
الفصل الرابع
الشيعة غير الروافض
من كان ذكرته يتضح أمر آخر وهو أن ما دأب عليه بعض الكتاب من رمي الشيعة بالرفض وتسميتهم بالروافض نشأ مؤخراً وبأسباب خاصة سنذكرها:
إن هذا الزمن الذي نشأ فيه نعت الشيعة بالروافض هو في أيام الأمويين، ولذك جاءت النصوص تنعت الروافض بأنهم قسم من الشيعة لا الشيعة كما يريد البعض ومن تلك النصوص:
1 ـ محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس قال:
والروافض كل جند تركوا قائدهم والرافضة فرقة منهم، والرافضة أيضاً فرقة من الشيعة قال الأصمعي سموا بذلك لأنهم باعيوا زيد بن علي ثم قالوا له تبرأ من الشيخين فأبى وقال لا كانا وزيري جدي فتركوه ورفضوه وارفضوا عنه(1).
2 ـ إسماعيل بن حماد الجوهري قال في الصحاح:
عند مادة رفض مورداً نفس المضمون الذي ذكره الزبيدي فكأنه نسخة طبق الأصل(2).
____________
(1) تاج العروس 5/34.
(2) صحاح الجوهري 3/1078 تسلسل عام الكتاب.
3 ـ القاضي عياض
فرق القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك في أعلام مذهب مالك بين الشيعة والرافضة وذلك حينما قارن مذهب الإِمام مالك بغيره فقال:
فلم نر مذهباً من المذاهب غيره أسلم منه فإنّ فيهم الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة إلا مذهب مالك فإنا ما سمعنا أحداً من نقله مذهبه قال بشيء من هذه البدع(1).
ومن الواضح من هذه الجملة أنّ الرافضة غير الشعية لمكان التغاير الناتج من العطف. ومن هذا ومن غيره مما نقله أصحاب المقالات مما لا يخرج عن نفس المضمون يتضح أنّ اصطلاح الروافض مأخوذ بمعناه اللغوي في انّه لكل جند رفضوا قائدهم، وتطبيقه على أصحاب زيد من باب تطبيق الكلي على أحد مصاديقه وإلى هنا فإنّ المسألة طبيعية. ولكن الذي يلفت النظر أن يكون أصحاب زيد طلبوا منه البراءة من الشيخين فإنّ ذلك محل تأمل طويل للأسباب التالية:
1 ـ إنّ هؤلاء الذين طلبوا البراءة لو كانوا شيعة فلا بد أنّهمم حريصون على نصر زيد وكسب المعركة ضرورة أنّ مصيرهم مرتبط بمصير زيد فإذا هزم فمعنى ذلك القضاء عليهم قضاءً تاماً خصوصاً وأنّ خصومهم الاُمويون الذين يقتلون على الظنة والتهمة كل من يميل إلى آل أبي طالب، فما الذي دفعهم إلى خلق هذه البلبلة التي أدت إلى انفضاض جند زيد عنه وبالتالي إلى خسارته للمعركة فموته شهيداً على أيدي الاُمويين فلا بد أن يكون هؤلاء ليسوا من الشيعة وإنّما هم جماعة مندسة أرادت إحداث البلبلة للقضاء على زيد واحتمال كسبه للمعركة.
2 ـ وعلى فرض التنزل والقول بوجود فرقة خاصة من رأيها رفض الشيخين فما معنى سحب هذا اللقب على كل شيعي يوالي أهل البيت حتى أصبح هذا الأمر من المسلمات فوجدنا الإِمام الشافعي يقول في أبياته الشهيرة:
____________
(1) ترتيب المدارك 1/51.
البيت الأخير من هذه الأبيات ذكره الزبيدي في تاج العورس في مادة رفض(1) وباقيها في ترجمة الشافعي بمختلف الكتب.
إنّ تعبير الإِمام الشافعي: إن كان رفضاً حبّ آل محمد يدل على أنّ هناك إرادة لسحب اللقب هو رافضي على كل شيعي مبالغة في التشهير بهم وشحن المشاعر ضدهم مما سنلمح كثيراً من الأمثلة له، ومما يؤيد على أنّها تتمشى مع تخطيط شامل يستهدف محاصرة التشيع والتشهير به وبكل وسيلة سليمة كان أم لا.
3 ـ قد يقال إنّه لا شك في وجود جماعة شتّامين للصحابة فما هو السبب في كونهم من هذا الصنف في حين تدعون أنّ الشتم لا تقره الشيعة ولا أئمتهم وللجواب على هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى مجموعة من الأسباب تشكل فعلاً عنيفاً استوجب رد الفعل ومن هذه الأسباب ما يلي:
أسباب الشتم
أ ـ المطاردة والتنكيل المروع للشيعة وبالشيعة وما تعرضوا له من قتل وإبادة على الظنة والتهمة وفي أحسن الحالات الملاحقة لهم والمحاربة برزقهم ومنعهم عن عطائهم من بيت المال وفرض الضرائب عليهم وغزلهم اجتماعياً وسياسياً وبوسع القارئ الرجوع إلى التاريخ الاُموي في الكوفة وغيرها من المدن الشيعية ليقف بنفسه على ما وصلت إليه الحالة وما انتهى إليه ولاة الاُمويين من قسوة ومن هبوط
____________
(1) تاج العروس 5/35.
ب ـ إنّ الذي أسس هذه الظاهرة هم الاُمويون أنفسهم لأنّهم شتموا الإِمام علياً عليه السلام على المنابر وشتموا أهل البيت لمدة ثمانين سنة واستمر هذا الوضع حتى أنّ محاولة الرجل الطيب عمر بن عبدالعزيز لم تنجح في منع الشتم وكانت كلمة الاُمويين وبالذات معاوية أنّهم إنما أسسوا شتمه ليدرج عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، فنشأت مقابل ذلك ردة الفعل. ومما عمّق هذه الظاهرة: هو الإِلتواء في معالجة هذه المشكلة من قبل بعض أعلام السنة. وعلى سبيل المثال نجد ابن تيمية يؤلف كتابه الصارم المسلول في كفر من شتم الرسول أو أحد أصحاب الرسول، ويحشد فيه الأدلة على كفر الشاتم ولكنّه مع ذلك ومع علمه بما قام به معاوية والأمويون لا يقول بكفر الامويين الذين قاموا بشتم الإِمام عليه السلام وأهله. إنّ عليّ بن أبي طالب أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ومن ضحى بكل ذرة من كيانه في خدمة الإِسلام والمسلمين فلماذا لا يكفر شاتمه؟ وستسمع الجواب طبعاً بأنّه تاب وغفر الله له وانتهى الأمر.
وإليك مثالاً آخر: لقد تولى يزيد بن معاوية الحكم لمدة ثلاث سنوات قتل في سنة منها الحسين وأهل بيت رسول الله وسبى عيالهم وذبح أطفالهم وعمل فيهم أعمالاً لا تصدر من كسرى وقيصر.
وفي سنة ثانية قتل عشرة آلاف من المسلمين وسبعمائة من الصحابة حملة القرآن، واستباح المدينة ثلاثة أيام وسمح لجند أهل الشام أن يهتكوا أعراض المسلمات وذبح الأطفال حتى كان الجندي الشامي يأخذ الرضيع من ضرع اُمه ويقذف به الجدار حتى ينتشر مخه على الجدار وأجبر الناس على بيعة يزيد على
____________
(1) انظر مورج الذهب للمسعودي 3/12 و50، وانظر تاريخ الطبري 6/344.
وفي سنة ثالثة سلط المنجنيقات على الكعبة وهدمها وأحرقها وزعزع أركانها وجعل القتال داخل المسجد الحرام وسال الدم حتى في قاع الكعبة وقد استعرض ذلك مفصلاً كل من تاريخ الخميس للديار بكري والطبري وابن الأثير والمسعودي في مروج الذهب وغيرهم من المؤرخين في أحداث سنة ستين حتى ثلاث وستين من الهجرة. ومع ذلك كله تجد كثيراً من أعلام السنة يخطئون من يخرج لقتال يزيد وأنّ الخارج عليه يحدث فتنة ووصل الأمر إلى حد تخطئه الحسين عليه السلام سيّد شباب أهل الجنة فكأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عندما قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» ما كان يعلم بأنه يقاتل يزيد وحينما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ الحسين وأصحابه يدخلون الجنة بغير حساب»(1) لم يأخذ في حسابه أنّهم خارجون على يزيد اللهم اهد قومنا، وكأنّ ابن العربي المالكي أعرف بمصائر الأمور من النبي نفسه الذي يرسم للحسين مصيره ويأمره بتنفيذ ذلك، أرأيت معي إلى أي مستوى من المهازل تصل الدنيا؟
وهذا الإِمام الغزالي الذي سنقف قريباً معه وقفة قصيرة يقول وأمام عينيه عشرات من كتب السير والتاريخ التي تؤكد بالطرق الموثوقة بشاعة الأحداث التي تمت بأمر يزيد وبفعله المباشر لبعضها. يقول في باب اللعن من كتابه إحياء العلوم:
فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنّه قاتل الحسين، أو أمر به، قلنا هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنّه قتله أو أمر به مالم يثبت، فضلاً عن لعنه، لأنّه لا يجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق، إلى أن قال: فإن قيل: أن يقال «قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه الله» قلنا: الصواب أن يقال قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله(2).
____________
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر 2/347.
(2) إحياء العلوم 2/276.
يقول صاحب مفتاح السعادة: إنّ أبا بكر النساج ألحد العزالي في قبره وخرج متغير اللون فسألوه عن ذلك فقال: رأيت يداً يمنى خرجت من تجاه القبلة وسمعت منادياً ينادي ضع يد محمد الغزالي في يد سيد المرسلين(2) إنّ أمثال هذه المواقف تثبت بوسائل إثبات من هذا النوع ولكن كتب التاريخ كلها لا تشكل وسلية إثبات في إدانة يزيد!... ويصل الأمر إلى رمي آل البيت بالشذوذ فضلاً عن عدم ترتيب الأثر على شتمهم فيقول ابن خلدون في المقدمة: وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلها اُصول واهية.
يقول ذلك ونصب عينيه أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في أهل بيته كما رواه ابن حجر في بصواعقه (3) «في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى الله تعالى فانظروا من توفدون» ونصب عينه أيضاً ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كما رواه الحاكم في المستدرك:
«ومن أحبّ أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدني بها ربّي
____________
(1) انظر الغدير للأميني 11/161.
(2) المصدر السابق نفس الصفحات.
(3) الصواعق المحرقة لابن حجر ص128.
ومع ذلك كله فأهل البيت شاذون مبتدعون في نظر الشعوبي ابن خلدون إنّي والله يعلم اذ أورد أمثال هذه المقاطع إنما اُريد وضع اليد على الدملة التي أهلكنا التهابها عبر السنين. إنّ أمثال هذه المواقف إنما تعمق جذور الخلاف فيكون التنفيس عنا سلبياً أحياناً إنّ كتّاب المسلمين مسؤولون عن شجب هذه المواقف التي رحل واضعوها وبقيت مصدر بلاء على المسلمين. إنّ مما يبعث على الإِستغراب أن يسكت علماء وكتّاب المسلمين على أقوال ابن خلدون وأمثاله مع قيام الأدلة على أنّ آل محمد هم الإِمتداد المضموني لمحمد صلى الله عليه وآله.
بالإِضافة إلى ذلك كلّه إنّ السنن التي تروى عن طريق أهل البيت عليهم السلام لا يعمل بها بينما يعمل ببدع واستحسانات وردت عن طريق غيرهم خذ مثلاً مسألة الأذان الذي حذف منه فقرة حيّ على خير العمل من ثبوتها وأنّها جزء من الأذان بطرق مختلفة يقول صاحب مبادئ الفقه في هذا الموضوع ما يلي:
كيفية الأذان هي: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله.
هذا هو الأذان الذي اتفق البصريون والكوفيون على كلماته، وتبعهما الشاميون والمصريون ومذهب الحجازيين والزيدية والمالكية إلى أنّ كلمة الله أكبر في أول الأذان مرتان لا أربع وعليه عمل أهل المدينة وأمّا «الصلاة خير من النوم» فليست من الأذان الشرعي: ففي تيسير الوصول عن مالك أنّه بلغه أنّ المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً فقال: الصلاة خير من النوم فأمره عمر أن يجعلها نداء الصبح. ولذلك قال أبو حنيفة: هذه الجملة تزاد بعد إكمال
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/148.
أما «حيَّ على خير العمل» فمذاهب العترة أنّها بين حيّ على الفلاح وبين الله أكبر، «دليلهم في ذلك من كتب السنة ما يلي: روى البيهقي في السنة أنّ عليّ ابن الحسين زين العابدين كان يقول إذا قال حيّ على الفلاح حيّ على خير العمل ويقول هو الأذان الأول.
وأورد في شرح التجريد مثل هذه الرواية عن ابن أبي شيبة ثم قال: وليس يجوز أن يحمل قوله «هو الأذان الأول» لا على أنّه أذان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وزاد رواية اخرى عن ابن عمر: أنّه بما زاد في أذانه حيّ على خير العمل، وأورد البيهقي هذه الرواية عن ابن عمر أيضاً.
ونقل ابن الوزير عن المحبّ الطبري الشافعي في كتابه إحكام الأحكام ما نصه: ذكر الحيعلة بحيّ على خير العمل عن صدقة بن يسار عن ابن أمامة سهل بن حنيف أنّه كان اذا أذن قال: «حيّ على خير العمل» أخرجه سعيد بن منصور، وروى ابن حزم في كتاب الإِجماع عن ابن عمر: أنّه كان يقول «حيّ على خير العمل».
وقال علاء الدين مغلطاي الحنفي في كتاب التلويح شرح الجامع الصحيح: ما لفظه: وأما حيّ على خير العمل فذكر ابن حزم أنّه صح عن عبدالله بن عمر وأبي أمامة سهل بن حنيف أنّهما كانا يقولان في أذانهما «حيّ على خير العمل» وكان عليّ بن الحسين يفعله وذكر سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح العضدي على مختصر الاصول لابن الحاجب أنّ حيّ على خير العمل كان ثابتاً على عهد رسول الله وأنّ عمر هو الذي أصرّ أن يكفّ الناس عن ذلك مخافة أن يثبّط الناس عن الجهاد ويتّكلوا على الصلاة.
وقال ابن حميد في توضيحه: وقد ذكر الروياني أنّ للشافعي قولاً مشهوراً بالقول به: وقد قال كثير من علماء المالكية واغيرهم من الحنفية والشافعية أنّ حيّ على خير العَمل كان من ألفاظ الأذان.
في حين نرى من غيرهم أحكاماً لا تلتقي بحال من الأحوال مع المدارك السليمة ومع ذلك يؤخذ بها وتعتبر مدركاً من المدارك فعلى ماذا تحمل هذه الاُمور إن لم تحمل والعياذ بالله على البعد عن آل محمد وهم عدل الكتاب بنص النبي عليه السلام خذ مثلاً: ما ذهب إليه بعض فقهاء السنة من أن الإِنسان إذا ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها اما اذا تركها نسياناً فيجب عليه قضاؤها (2) واعتقد ان ذلك يخرج على رأي من يقول أن الكافر لا يكلف بالفروع، وحيث ان التارك عمداً يمكن ان يكون تركه لها لعدم الإِيمان بها اساساً فهو كافر ومهما يكن فان هذا من الفروع البعيدة عن روح الأحكام الصحيحة.
____________
(1) نقلت هذا الفصل من كتاب مبادئ الفقه لمحمد سعيد العوفي ص52 طبع دمشق الثالثة 1977
(2) نيل الاوطار للشوكاني ط مصر 1952 2/27
الباب الثاني
وفيه فصول
الفصل الأول
فارِسيّة التشيُّع
هذا الموضوع من المواضيع التي كثر الحديث حولها وهي في واقعها تكوّن جزءاً من محاصرة التشيع كما سبق أن ألمعت لذلك. إنّ خصوم الشيعة ومن تبعهم من المستشرقين وكل يضرب على وتر يستهدفه، جعلوا هذه القضية من الاُمور المسلمة وضلع تلامذتهم في ركابهم وحشدوا كل وسائلهم لترسيخها في الأذهان فما تركوا وسيلة لإِثبات أنّ التشيع فارسي شكلاً ومضموناً إلا وأخذوا بها مع تفاهة هذا المدعى كما سنرى ومع أنّه من قبيل رمتني بدائها وانسلت والغريب أنّ هذه الفرية تعيش للآن مع وضوح الرؤية وانتشار المعارف وانكشاف الحقائق وسأبحث هذا الموضوع مفصلاً نظراً لأهميته.
إنّ التشيع في معناه اللغوي: المناصرة والموالاة، وبالمعنى الإصطلاحي هو الإعتقاد بأفكار معينة يشكل مجموعها مضمون التشيع، فكيف والحالة هذه أن نتصوّر كون التشيع فارسياً؟
وحتى نستوعب النقاط المتصورة في هذا الموضوع لا بد من شرح اُمور ننتهي معها إلى مقدار ما في هذا الإِدعاء من نسبة علمية أو تهريج فلا بد من ذكر اُمور:
أولاً:
إنّ المضمون الفكري للتشيع هو نفس المضمون الإِسلامي، وأي مضمون يشذ عن المضمون الإِسلامي في العقيدة والأحكام فالشيعة منه براء
أ ـ الكتاب الكريم:
وهو ما اُنزل بمضامينه وألفاظه وأسلوبه واعتبر قرآناً وهو هذا المجموع بين الدفتين المتداول بأيدي المسلمين المنزه عن النقص والتحريف والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمتواتر بكلماته وحروفه بالتواتر القطعي من عهد النبوة حتى يومنا هذا وقد جمع على عهد النبي بوضعه الحالي وكان جبرئيل يعرضه على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كل عام(1).
ب ـ السنة الشريفة:
وهي قول المعصوم وفعله وتقريره الواصلة إلينا بالطريق الصحيح عن الثقات العدول، والتي لا يتم لنا الوصول إلى ملابسات الأحكام بدونها والتي جاء دليل حجيتها من القرآن الكريم بقوله تعالى:
(وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فنتهوا) 7/ا الحشر.
ج ـ الإِجماع:
الذي يكشف ضمناً عن قول المعصوم سواء قل المجمعون أم كثروا وسواء كان دليلاً مستقلاً مقابل الكتاب والسنة والعقل أم أنّه طريق وحاك عن رأي المعصوم، وأدلة حجيته مفصلة في الكتاب والسنة والعقل.
د ـ دليل العقل:
ويرجع إليه وإلى قواعده عند فقدان النصوص أو تعارض الأدلة في تفصيل لا داعي لشرحه هنا: وملخصه: هو إدراك العقل بما هو عقل للحسن والقبيح في بعض الأفعال الملازم لإِدراكه تطابق العقلاء عليه وذلك ناتج من تأدب العقل بذلك وبما أن الشارع سيد العقلاء فقد حصل إدراك حكم الشارع قطعاً وليس
____________
(1) الفصول المهمة لشرف الدين ص163، والبيان للخوئي ص197.
ونظراً لأهمية التعرف على تفصيل هذه المصادر فإنّي اُحيل من يريد التوسع في فهمها واستيعاب معانيها إلى مجموعة من المصادر هي التالية (1):
إن هذه المصادر التشريعية هي المكونات العضوية لهيكل الشريعة الاسلامية باتفاق جمهور المسلمين على اختلاف بسيط في بعض تفاصيلها ولما كانت هي مصادر التشريع عند الإِمامية فما معنى وصف التشيع بالفارسية.
إذا كان الباحثون في التشيع يقصدون من الفارسية مضمون التشيع الفكري. وهذا ما أَستبعده فإنّه لا يمكن أن يقول به قائل، إذ لا يتصور أنّ إنساناً يفترض لأحكام شرعية نوعاً من العرقية، وعليه فلا بد من استبعاد هذا الفرض من فارسية التشيع والرجوع إلى فروض اُخرى في هذا الموضوع يفترضها الباحثون.
هناك فرض آخر لتصور فارسية التشيع: هو أن هناك مفاهيم معينة بالحضارة الفارسية انتقلت إلى التشيع بمعناه الإِصطلاحي عن طريق من اعتنق التشيع من الفرس ولم يستوعب التشيع كل أبعادهم فجاء من تصور هذه المعتقدات جزءاً من ماهية التشيع. وبقيت هكذا يتداولها خلف عن سلف. وهذا الفرض قد صرح به أكثر من باحث كما سأذكره لك بعد قليل. وفيما يخص هذه الصورة وهذا الفرض لا بد من الإِشارة لاُمور:
تعقيب
أ ـ إنّ هذا الإِشكال بناءاً على فرض حدوث مضمونه، فإنّه يرد على المضمون الإِسلامي نفسه حيث نص على ذلك معظم من كتب في الحضارة
____________
(1) الأصول العامة للفقه المقارن ص179 حتى ص300 وانظر أصول الفقه للمظفر 3/338 فصاعداً وانظر البيان للسيد الخوئي مبحث صيانة القرآن عن التحريف.
أجل إنّ آراء اليهود انتقلت إلى الفكر الإِسلامي عن طريق كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام وغيرهم وأخذت مكانها في كتب التفسير والحديث والتاريخ وتركت بصماتها على كثير من بنود الشريعة. إنّ بوسع أي باحث الوقوف على ذلك في كتب كثيرة مثل تاريخ الطبري، وتفسيره جامع البيان، وفي كتاب البخاري وغيره من المؤلفات مما سنشير إلى مصادره عند ذكره. وستجد فصلاً ممتعاً في تعليل العداوة بين الإِنسان والحية يذكره الطبري في تفسيره بسنده عن وهب بن منبه وذلك عند تفسيره للآية السادسة والثلاثين من سورة البقرة وهي قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو) الخ، يقول الطبري وأحسب أنّ الحرب التي بيننا ـ أي نحن والحيات ـ كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم في إدخالهنّ ـ يعني الحيات ـ إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، ويستمر في سرد أفكار عجيبة يستحسن أن يقرأها من
ان الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبِّل منه(2).
وينقل في تاريخه قصصاً تلمس عليها الروح اليهودي واضحاً ومن ذلك ما ذكره فقال: تزوج اسحق امرأة فحملت بغلامين في بطن واحد فلما أرادت أن تضعهما اقتتل الغلامان في بطنها فأراد يعقوب أن يخرج قبل عيص فقال عيص والله لئن خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن اُمي ولأقتلنّها فتأخر يعقوب وخرج عيص قبله وأخذ يعقوب بعقبه فمسي عيص عيصاً لأنّه عصى وسمي يعقوب يعقوباً لأنه خرج بعقب عيص، وكبر الغلامان وكان عيص أحب إلى أبيه ويعقوب أحب إلى اُمه وكان عيص صاحب صيد فلما عمي إسحق قال لعيص أطعمني لحم صيد واقترب مني حتى أدعولك، وكان عيص أشعر ـ أي كثير الشعر ـ ويعقوب أجرد فخرج عيص يتصيد وقالت اُمه لإِسحق إذبح كبشاً ثم اشوه والبس جلده وقدمه لأبيك كي يدعو لك فلما مسه قال من أنت؟ قال: عيص، فقال: المس مس عيص والريح ريح يعقوب فقالت اُمه: هو ابنك عيص فادعو له الخ(3) ولست أدري كيف كان يعقوب لا يعرف أصوات أولاده وكيف تطلب الاُم البركة من دعوات إسحق وهي تكذب وكيف يكذب أبناؤها وأي بيت نبي هذا البيت الذي يكون أعضاؤه من هذا النوع، ثم أي اسم مشتق مثل يعقوب أو إسحق أو عيص لا يصلح لأن يشتق منه أمثال هذه الخزعبلات وهذا الهراء والسخف.
وأما الإِمام البخاري فإنّك تلمس الروح الإسرائيلي في كثير من رواياته
____________
(1) تفسير الطبري 1/234.
(2) تاريخ الطبري 1/142. وإذا كان يمكن لكبش أن يعيش هذه المدة الطويلة كما هو في الفكر السني فلماذا يستكثر علينا اذا قلنا أنّ شخصاً عاش منذ ألف ومائة سنة تقريباً للآن ولا يستكثر على من يفرض أنّ كبشاً عاش آلافاً مؤلفة من السنين.
(3) تاريخ الطبري 1/164.
يقول البخاري بسنده عن أبي هريرة: ما من بني آدم مولود يولد الا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها(1) وما أدري إذا كان هذا فضيلة فلم حرم منها نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم وهو سيّد الأنبياء وإذا لم يكن ذلك فضيلة فما قيمة ذكرها، وما ذنب الأنبياء الباقين يمسهم الشيطان.
ويقول البخاري بسنده عن عائشة اُم المؤمنين: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سحر حتى كان يخيل إليه أنّه كان فعل الشيء ولا يفعله(2).
ويروي البخاري قصة موسى حين نزل إليه ملك الموت لقبض روحه فصكه موسى على عينه حتى فقأها إلى أن قال: قال الله تعالى لملك الموت ارجع إليه وقل له ليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة غطتها يده عمر سنة الخ(3).
وفي الواقع إنّ هذه العملية طريفة فإنّ الشَّعر الذي يغطيه الكف ربما يصل إلى خمسة آلاف شعرة، وعمر نبي الله موسى معروف فإما أن نكذب الرواية أو نكذب التاريخ.
وذكر البخاري بسنده عن اُم المؤمنين عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مكث كذا وكذا يخيل إليه أنّه يأتي أهله ولا يأتي إلى أن قال لي: يا عائشة إنّ الله أفتاني في أمر استفيته فيه أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رجلي للآخر ما بال الرجل ؟ قال: مطبوب ـ أي مسحور ـ قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم الخ أن ذهب عنه أثر السحر بعد مدة(4).
ومعنى هذه الرواية أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم اُصيب بفقدان الذاكرة أو بالفصام وما أدري ما هو حال الوحي خلال هذه المدة فإذا جاز أن يصاب النبي بمثل هذا
____________
(1) البخاري 4/164.
(2) البخاري 4/122.
(3) البخاري 4/157.
(4) البخاري 8/18.
بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم خلق الله آدم على صورته ـ الضمير يعود لله تعالى إذ لا معنى لعوده لآدم قبل أن يخلق آدم وتعرف صورته ـ طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال: إذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنّها تحيّتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقصون حتى الآن (1) إلى أمثال ذلك من هذه الروايات العبقرية، ومع هذا اللون من الفكر الغريب عن روح الإِسلام للزومه التجسيم والهرطقة فما وجدنا من ينبر حملة هذا الفكر بالخروج عن الإِسلام أو باليهودية لنقلهم هذا الفكر الإِسرائيلي إلى الإِسلام أما إذا قدر أن شخصاً تشيع وحمل معه شيئاً من أفكاره للتشيع تحول التشيع فوراً إلى يهودية أو نصرانية مع أن تبعة كل فكر تقع على حامله وقد أسلفنا أن كل ما ينافي الإِسلام يأباه التشيع جملة وتفصيلاً.
وعلى تقدير أن هناك مجموعة من الأفكار نقلها الفرس الذين تشيعوا معهم للفكر الشيعي: كالقول بالحق الإِلهي الذي يقول به الفرس بالنسبة لملوكهم ويقول به الشيعة بالنسبة لأئمتهم ـ مع وجود فوارق بين الأمرين ـ وحتى أي مفهوم يحصل به التقاء بين الفكرين كما يصوّره البعض فإنّ ذلك لا يوجد قدحاً في العقيدة ما دامت الاُصول التي يتحقق معها عنوان الإِسلام محفوظة عند الشيعة بحيث إذا وجدت كان الإِنسان مسلماً باعتناقها ونحن نعلم أنّ الأصول التي تحدد إسلام المسلم هي ما حدده النبي نفسه كما في صحيح البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته، كما أخرج البخاري عن
____________
(1) البخاري 8/50.
وقال الإِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: الإِسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة من الناس(2) فصفة الإِسلام ثابتة لمن قال الشهادتين سواء اعتقد أنّ الإِمامة نص من الله تعالى فهي حق إلهي، أو بالشورى فهي حق للجماعة يضعونه حيث تتوفر المؤهلات، حتى لولم يكن لمعتقد الإِمامة بالنص شبهة من دليل بل لو ذهب إلى أبعد من ذلك فابتدع وكان من أهل البدع فإنّ علماء المسلمين لا ينبزونه ولا يكفرونه. فقد عقد ابن حزم فصلاً مطولاً في كتابه الفصل في باب من يكفر أو لا يكفر وقد قال في ذلك الفصل: ذهبت طائفة إلى أنّه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فعل، وأنّ كل من اجتهد في شيءٍ من ذلك فدان بما رأى أنّه الحق فإنّه مأجور على كل حال إن أصاب فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداوود بن عليّ وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة لا نعلم خلافاً في ذلك أصلاً(3).
ويروي أحمد بن زاهر السرخسي وهو من أصحاب الإِمام أبي الحسن الأشعري وقد توفي الأشعري بداره وقال: أمرني الأشعري بجمع أصحابه فجمعتهم له فقال اشهدوا عليَّ أنيّ لا أكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب لأنّي رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإِسلام يشملهم ويعمهم(4).
وبعد ذلك كله فما هو وجه ربط التشيع باليهودية لأنّ فيه أفكاراً فارسية أو
____________
(1) انظر صحيح مسلم ج2 باب فضائل علي، البخاري ج3 باب غزوة خبير.
(2) الفصول المهمة لشرف الدين ص18.
(3) الفصل لابن حزم 3/247.
(4) الفصول المهمة لشرف الدين ص32.
إنّ هذا التهور على المسلمين والتهريج عليهم من خطل الرأي وسنوقفك عن قريب على مصادر ما ذهب إليه الشيعة من الكتاب والسنة وإن حسبه البعض أنه اقتباس من الفرس أما لقلة اطلاع أو لسوء قصد والله من وراء القصد.
ج ـ إنّ هذه الدعوى المقلوبة وهي فارسية التشيع سنوقفك قريباً على إثبات عكسها وأقول على فرض صحتها فما هو البأس في ذلك إذا كان الفارسي مسلماً ونحن نتكلم بلغة الإِسلام طبعاً وشعارنا (يا أيها الناس إنا خلقناكم ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم) 13/ الحجرات.
فلماذا هذا الموقف وكيف ينسجم مع روح الإِسلام ولو كان نتكلم من منطلق قومي فإنّ لغة اُخرى ستكون لنا حينئذٍ ولا يكون لنا أيّ مناقشة مع المتكلم بها هذا مع أنّ العقل والمنطق القومي السليم يحتم احترام القوميات الاُخرى إذا أراد احترام قوميته وما أروع كلمة الإِمام الصادق عليه السلام في هذا المقام إذ يقول:
ليس من العصبية أن تحب قومك ولكن من العصبية أن تجعل شرار قومك خيراً من خيار غيرهم، إنّ لغة الإِسلام لا تفرق بين جنس وجنس فلا يعتبر مسلماً من يتكلم بهذه اللغة، أما إذا كان له دوافع وراء هذه اللغة غير إسلامية فلا تخفى على القارئ الفطن إنّ من يعتبر الناس مغفلين لهو المغفل الأكبر وسنرى عن قريب الدوافع من وراء هذه المزاعم.
هناك فرض آخر في تصور فارسية التشيع وهو أنّ كل أو غالبية الشيعة فرس وقد طغت أفكارهم الفارسية على التشيع حتى غطته وربما أدت إلى الإِصطدام مع الشريعة الإِسلامية لمخالفة تلك العقائد للإِسلام هذا الفرض صرح به بعضهم
أ ـ إنّ عقائد الشيعة تحفل بها مئات الكتب والمراجع وهي ميسورة تحت أيدي الباحثين والكتّاب في كل مكتبات العالم، وإنّ عقائد الشيعة مصدرها الكتاب والسنة وفقه الشيعة مصدره الكتاب والسنة والإِجماع والعقل كما مر علينا وأشرنا إلى الكتب التي تشرح ذلك مفصلاً ونضيف إليها كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد و عقائد الصدوق و الدرر والغرر للسيد المرتضى و أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، ومن كتب الأخبار والأحاديث الكتب الأربعة وهي الاُصول المعتمدة عند الشيعة بالجملة وهي من لا يحضره الفقيه للصدوق، و الكافي اُصولاً وفروعاً لمحمد بن يعقوب الكليني و التهذيب و الإستبصار للشيخ الطوسي، مع ملاحظة أن ليس كل ما فيها معتمداً عندنا ولكل رواية حساب ولذلك قلت إنها معتمدة بالجملة وقد تعرضت كتب التقريرات لنقد كثير من مضامين الكتب المذكورة.
ب ـ إنّ الفرس لا يكوَّنون إلا جزءاً قليلاً من ناحية الكم الشيعي فالتشيع منتشر عند العرب والهنود والترك والأفغان والكرد والصينيين والتبتيين والخ ويشكل الفرس جزءاً من الشيعة ليس كما يصوره البعض عن سوء فهم أو سوء نية.
ج ـ إنّ بذرة التشيع نشأت في مهد العرب في الجزيرة العربية وإنّ الرواد الأوائل للتشيع يشكلون مؤشراً واضحاً في ذلك، وما كان من غير العرب في الرواد الأوائل من الشيعة عدى واحداً هو سلمان المحمدي كما سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وكان فارساً. وقد ذكرنا الطبقة الأولى من الشيعة الذين تتوزع وشائجهم على مختلف البطون والقبائل العربية، وأنت إذا تتبعت الطبقة الثانية والثالثة من الشيعة فسوف تجدهم عرباً في الأعم الأغلب ولا اُريد الإِطالة في هذا المورد
ومع ما أسلفناه من كلام فما هو وجه نسبة التشيع للفارسية والذي أصبح يرسل عند بعضهم إرسال المسلمات كأنّه من الاُمور المفروغ منها. ولأجل أن نستوعب الموضوع سنضطر إلى الخوض في جوانب متنوعة ونستعرض آراء كثيرة وما بررت به هذه الآراء صحة هذه النسبة للتشيع وهي لا تختلف في مستواها من العلم عن أصل صحة هذه النسبة ولا أشك أنّك ستضحك كثيراً عندما تقرأ هذه الأسباب ويأخذك العجب كيف أنّ مثل هؤلاء الباحثين وهم على منزلة من العلم والتحقيق لا يستهان بها: يقتنعون بوجاهة هذه الأسباب فضلاً عن أنّهم يسوقونها لإِقناع غيرهم لولا الهوى والعصبية أعاذنا الله تعالى وإياك منها، ولولا الأسر الذي يقع فيه من نشاء على عقيدة ولا يسمح للضوء أن يسلط على عقيدته ومسبقاته حتى يرى منها ما كان ناتجاً من مجرد تقليد أعمى ويصطدم بالمقاييس الصحيحة فينبذه وما كان على أرض صلبة ويلتئم مع قواعد الشرع فيتمسك به.
الفصل الثاني
أقوال الباحثين في فارسية التشيع
إنّ نسبة التشيع الى الفارسية نشأت في عصور متأخرة ولأسباب وظروف سياسية خاصة أهمها: أنّ الفرس لما كانوا ولأسباب سنشرحها غير مرغوبين من قبل العرب ولما كان الشيعة فئة معارضة للحكم طيلة العهود الثلاثة الصدر الأول والأموي والعباسي، وكوجه من وجوه محاصرة التشيع أرادوا رمي التشيع بما هو مكروه عند العرب وهذه الدعوى هي واحدة من مجموعة دعاوى سترد علينا ولا تتعدى هذا الهدف بل هي جزء من المخطط. أما الأسباب التي أدت إلى النفرة بين القوميتين العربية والفارسية فهي:
1ـ أنّ الفرس ما كانوا يفرقون بين الإِسلام والعروبة وحيث أنّ الإِسلام قضى على دولتهم واجتاحهم فإنّهم بعد إسلامهم كانوا ينزعون لا سترداد مجدهم باُسلوبين أحدهما سليم إيجابي والآخر سلبي حتى إذا جاء دور الأمويين استعان الحكام بهم لتنظيم شؤون الدولة نظراً لخلفيتهم الحضارية وللإِستعانة بهم أحياناً لدعم جناح مقابل جناح، ولا ستيلاء جماعة منهم على مناصب هامة في العهدين مما مكنهم من فرض نفوذهم كل ذلك أدى إلى احتكاك شديد بين العرب والفرس، إذ رأى العرب أنهم حملة الإِسلام والسبب في هداية الاُمم وهم العمد الذي قام الإِسلام عليه فلماذا يزاحمهم غيرهم، ويقدم عليهم ويلمع نجمه ويحتل مناصب كبيرة، ورأى الفرس أنّهم أبناء حضارة عريقة وأنّهم أكثر علماً ودراية بسياسة العرب وإدارة شؤون الحكم فلماذا يقدم عليهم من لا يملك هذه
2ـ أنّ فتح الثغرة التي دخل منها الفرس أدى إلى دخول عناصر غير عربية اُخرى مثل الترك وغيرهم مما كان له بعد ذلك آثاره السلبية الفظيعة وقد عصب كسر النطاق هذا بالفرس لأنّهم أول من فتح هذا الباب وأدى إلى تدمير الخلافة بعد ذلك.
3ـ لعب الإِستعمار دوراً بارزاً فيما خلقه من النفخ بالأبواق التي يحسن صنعها وذلك لتحقيق مصالحه عن طريق فتح أمثال هذه الفجوات واختلاف خصائص للجنسين زعم أنّها تصطدم مع بعضها وآراء لا تتلاقى وتأثر بهذه الآراء فريق من هؤلاء وفريق من هؤلاء ممن عاش على موائد المستشرقين ولم يتفطن إلى أهدافهم وغرّته الصبغة العلمية الظاهرية في أمثال هذه المزاعم فنسج على منوال هؤلاء وكان صدى لهم وسلاحاً بأيدي هؤلاء لضرب أبناء دينه ولهدم عقيدته حتى خلقت من ذلك تركة كبيرة تحتاج إلى جهد كبير لإِزالة هذا التراكم.
إنّ أسباب الكره استغلت لينتزع منها كما ذكرت سبباً من الأسباب التي تبغض التشيع وتنفر النفوس منه. ولذلك لا نرى هذه التهمة عند أوائل السنة وأسلافهم فيما قدّموه من قوائم الأسباب التي ينعت بها التشيع لأنّ أسبابها لم تكن قائمة آنذاك.
ومن الغريب أنّ الألسن السليطة التي تشتم الشيعة هي ألسنة السنة الفرس كما سيرد ذلك قريباً.
إنّ أصحاب الغرض الأصلي في الضرب على هذا الوتر كثيرون ومن أكثرهم حماساً في ذلك المستشرقون وتلاميذهم حيث يستهدف المستشرقون مصالح لا تخفى ويضرب تلاميذهم على نفس الطبول ولمختلف الغايات والأهداف وبالإِضافة إلى من يهتز على هذا الإِيقاع وإليك آراء بعضهم:
1 ـ المستشرق دوزي:
لقد قرر المستشرق دوزي أنّ أصل المذهب الشيعي نزعة فارسية وذلك لأنّ العرب تدين بالحرية والفرس تدين بالملك والوراثة ولا يعرفون معنى الإِنتخاب ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى ولم يترك ولداً فعليّ أولى بالخلافة من بعده(1).
2 ـ المستشرق فان فلوتن:
ذهب هذا المستشرق إلى نفس الرأي في كتابه اسيادة العربية ولكنّه رجح أخذ الشيعة من آراء اليهود أكثر من أخذهم من رأي الفرس ومبادئهم(2).
3 ـ المستشرق براون:
قال إنّه لم تعتنق نظرية الحق الإِلهي بقوة كما اعتنقت في فارس ولمح إلى أخذ الشيعة منهم(3).
4 ـ المستشرق ولهوزن:
إنّ هذا المستشرق أشار إلى فارسية قسم كبير من الشيعة ضمناً حيث ذكر أنّ أكثر من نصف سكان الكوفة من الموالي ولما كان معظمهم شيعة فقسم كبير منهم من الفرس(4).
5 ـ المستشرق بروكلمان:
الذي يقول وحزب الشيعة الذي أصبح فيما بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب واليوم لا يزال ضريح الحسين في كربلا أقدس محجة عند الشيعة وبخاصة الفرس الذين مابرحوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره غاية مايطمعون
____________
(1) تاريخ المذاهب الإِسلامية لأبي زهرة 1/41.
(2) نفس المصدر السابق والصفحة.
(3) فجر الإِسلام ص111.
(4) فجر الإِسلام ص92.
وقد ربطوا بفارسية التشيع أثراً آخر يكون بمثابة النتيجة للسبب وذلك الأثر هو أنه لما كان أكثر الفرس شيعة وكانوا يسمون بالموالي وحيث أنّهم يرون أنّ العرب انتزعوا دولتهم منهم ولما كانت الدولة الأموية يتجسد فيها المظهر العربي فقد زحف عليها الموالي وأسقطوها وأعلنوا بدلها دولة العباسيين التي دعمت الفرس والتي زحف معها بالتالي الفكر الشيعي فتغلغل أيام العباسيين، وأنت واجد هذه الأفكار عند معظم من كتب في العصور الإِسلامية وخصوصاً الكتّاب المصريين ويتلخص من هذه المقتطفة ثلاثة اُمور:
1 ـ تصوير الزحف الذي جاء من خراسان للقضاء على الدولة الاُموية بأنّه زحف دوافعه قومية وليست دوافع اجتماعية أو إنسانية وقد اجتمعت فيه أكثر من قومية واحدة وبذلك يطمس الهدف الإِجتماعي الذي كان من وراء تلك الحملة.
2 ـ أنّ العنصر الرئيسي في الحملة والفاعل هم الفرس وبذلك تكون الحملة إنتقامية تستهدف إعادة مجد الفرس الذي قضى عليه العرب، وبذلك يطمس الدور الرئيسي الذي قام به العرب في الحملة وتولوا فيه القيادة.
3 ـ أنّ الفكر الشيعي زحف بزحف هؤلاء وانتصر في العهد العباسي؛ إنّ كل هذه الاُمور غير مسلم بها ولم تقم على واقع بل هي تغطية في محاولة مكشوفة.
____________
(1) تاريخ الشعوب الإِسلامية ص128.
تعقيب على الأقوال
أما الزعم الأول:
فيبطله أن القادة الذين قادوا الحملة إنّما قادوها لتخليص الناس من جور الاُمويين وبإمكان أي قارئ أن يستبين الحقيقة باستقراء أحوال الحكم الاُموي الذي سايره الجور والظلم من أيامه الاُولى حتى سقط أيام مروان بن محمد آخر حكام الاُمويين ومن الخطأ أن نورد شاهداً أو شاهدين للتدليل على ذلك محاولة إضاح الظلم والجور فإن كل أيامهم كانت مليئة بالظلم والجور وإنّي لاُحيل القارئ إلى تتبع التاريخ من أيام معاوية الأول حتى نهاية الدولة وفي كتب كل المسلمين لا الشيعة وحدهم فربما يقال إنّ الشيعة خصوم الاُمويين وهم يحقدون عليهم وهذه كتب الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وما شئت فخذ لترى إلى أين وصلت الحالة حتى بلغ الأمر حداً يوجزه أحد الشعراء بقوله:
وأما الزعم الثاني:
فيبطله أنّ قادة الحملة ووجوهها هم العرب وقد أفاض في ذلك الجاحظ برسالته المسماة مناقب الأتراك، وقد ذكر من قادة الحملة، قحطبة بن شبيب الطائي، وسليمان بن كثير الخزاعي، ومالك بن الهيثم الخزاعي، وخالد بن إبراهيم الذهلي، ولاهز بن طريف المزني، وموسى بن كعب المزني، والقاسم ابن مجاشع المزني، كما نص المؤرخون على أسماء القبائل العربية التي كانت مقيمة في خراسان والتي كونت الزحف في معظمه وهم خزاعة وتميم، وطي، وربيعة، ومزينة وغيرها من القبائل العربية وللتوسع في معرفة أسماء القادة والقبائل العربية التي جاءت في الحملة للقضاء على الحكم الاُموي يراجع كتاب ابن الفوطي مؤرخ العراق لمحمد رضا الشبيبي فقد توسع في إيراد النصوص التاريخية من
والشق الثاني الوارد في الزعم وهو أن العناصر غير العربية أرادت الإِنتقام لأنّها كانت محرومة من الإِشراك بالمناصب فهو بالجملة غير صحيح لأنّ كثيراً من العناصر الأجنبية والموالي شغلوا مناصب كبيرة في العهد الأموي على امتداد هذا العهد ولم يكن وضعهم أيام العباسيين يختلف كثيراً عن وضعهم أيام الاُمويين وقد أشار لذلك الدكتور أحمد أمين بقوله: فسلطة العنصر الفارسي كانت تنمو في الحكم الاُموي وعلى الأخص في آخر ولو لم يتح لها فرصة الدولة العباسية لاُتيحت فرص اُخرى مختلفة الأشكال (2).
لقد تولى جماعة من غير العرب مناصب هامة ومنهم سرجون بن منصور كان مستشاراً لمعاوية ورئيس ديوان الرسائل ورئيس ديوان الخراج، ومرداس مولى زياد كان رئيس ديوان الرسائل، وزاذا نفروخ كان رئيس خراج العراق، ومحمد بن يزيد مولى الأنصار كان والياً على مصر من قبل عمر بن عبدالعزيز، ويزيد بن مسلم مولى ثقيف كان والياً على مصر، وكان منه القضاة والولاة ورؤساء دواوين الخراج وقد تغلغلوا في أبعاد الدولة وشعبها بصورة واسعة(3).
هذا من ناحية ومن ناحية اُخرى إنّ وضع العرب لم يكن يستأثر باهتمام الاُمويين إلا بمقدار ما يحقق مصالح الاُمويين أنفسهم فإذا اقتضت مصالحهم أن يضربوا العرب بعضهم ببعض فعلوا كما حدث ذلك أكثر من مرة في حكم الاُمويين فراجع(4). وقد تعرض الدكتور أحمد أمين إلى ذلك وشرحه مفصلاً وبينّ كيف كان العرب يضرب بعضهم بعضاً إذا اقتضى الأمر ذلك فراجع(5).
____________
(1) مؤرخ العراق ابن الفوطي 1/36 و37.
(2) ضحى الإِسلام ج ص3.
(3) راجع الإِمام الصادق لأسد حيدر 1/344.
(4) مروج الذهب ج2.
(5) ضحى الإِسلام 1/20.