الفصل الثاني
عبدالله بن سبأ
بالرغم من وفرة المصادر عن الشيعة وبالرغم من خطورة موضوع الكتابة عن العقائد، وبالرغم من الواقع المجسد للشيعة من مؤسسات دينية وفعاليات عقائدية ومساجد تردد كلمة التوحيد ليل نهار برغم ذلك كله فإننا ما زلنا نرى من يكتب عن الشيعة يترك هذا الواقع القائم وراء ظهره ويولي وجهه شطر كتابات صدرت من قوم كتبوا ومن خلفهم دوافع غير سليمة لمختلف الأسباب فبدلاً من أن يعودوا إلى مؤلفات الشيعة أنفسهم رأيناهم يرجعون إلى أقوال صاغها الوهم وافترضها الحقد وخلقتها الخصومة وقد يكون الجهل أحد عوامل وجودها. ومما افترضه هؤلاء الكتاب بأنّ عقائد الشيعة الأساسية وضعها يهودي حاقد اندس في صفوف المسلمين اسمه عبدالله بن سبأ.
وهذا العبد المفترض موضوعه طريف جداً، فقد صنعه قوم واخترعوه اختراعاً وأعطوه من الصفات والنعوت ما هو من المعجزات وصنعوا له من القابليات ما لا يمكن نسبته إلا إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن وما تعجز عن تحقيقه اُمة قوية فضلاً عن فرد وإنّ مثل هذا الكلام يجسد فجيعتنا بعقولنا قيل أن يجسد هذه الخرافات في تاريخنا وسنرى من الذي حاك عبدالله بن سبأ، ومن هو وما الذي عمله، ولماذا تربط الشيعة به.
من الذي حاك عبدالله بن سبأ
إنّ الذي يريد التعرف على مصدر ولادة عبدالله بن سبأ سيجد أنّه ولد من روايات الطبري وروايات الطبري تستند في هذا الموضوع على ركيزتين هما:
أ ـ الركيزة الاُولى:
سيف بن عمر وتقول عنه كتب التراجم ما يلي بالحرف الواحد.
يقول ابن حيان كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الأثبات وقالوا إنّه كان يضع الحديث واتهم بالزندقة، كما يقول عنه الحاكم النيسابوري اتهم سيف بالزندقة وهو بالرواية ساقط، ويقول عنه ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها، ويقول عنه ابن معين ضعيف الحديث فليس فيه خير، وقال ابن حاتم متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي وقال عنه أبو داود صاحب السنن ليس بشيء، وقال عنه النسائي صاحب السنن: ضعيف، وقال عنه السيوطي إنّه وضاع وقال محمد بن طاهر بن عليّ الهندي عنه: سيف بن عمر متروك اتهم بالوضع والزندقة وكان وضاعاً(1).
ب ـ الركيزة الثانية:
السري بن يحيى كما يسميه الطبري، وهو ليس بالسري بن يحيى الثقة، لأنّ السري بن يحيى الثقة يكون زمانه أقدم من الطبري فقد توفي 167سنة هـ. في حين ولد الطبري سنة 224، فالفرق بينهما سبعة وخمسون عاماً، ولا يوجد عند الرواة سري بن يحيى غيره، ولذلك يفترض أهل الجرح والتعديل أنّ السري الذي يروي عنه الطبري يجب أن يكون واحداً من اثنين: كل منهما
____________
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر 4/295، والغدير للأميني 8/68.
ومن تلك الروايات رواياته في أحوال عبدالله بن سبأ وسنده عن شعيب وعن سيف بن عمر، وكل من كتب عن عبدالله بن سبأ فهو عيال على الطبري وعنه أخذ وإليه استند(2) ومن ذلك تعرف مقدار ما في موضوع عبدالله بن سبأ من وثاقة وصدق وفي رأيي أنّ من العبث أن نلفت أنظار هؤلاء الذين يصرون على وجوده وما قام به من أعمال لأنّهم يوجدونه حتى لو لم يكن موجوداً وذلك لأمور في نفوسهم.
1 ـ من هو عبدالله بن سبأ:
للتعرف على هوية عبدالله بن سبأ سوف أبدأ بالمنبع الأساس وهو تاريخ الطبري واُعقبه بباقي المصادر عنه، وسأنقل قول الطبري من خلال ما نقله أبو زهرة، قال: كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء اُمه سوداء فأسلم أيام عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم فبدأ ببلاد الحجاز ثم البصرة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فقال لهم فيما يقول: العجب ممن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً
____________
(1) لسان الميزان 3/12، والغدير للأميني 8/143.
(2) انظر الغدير للأميني 9/218.
ثم أنّ محمداً أحق بالرجعة من عيسى، ثم قال ذلك إنّه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وعليّ وصي محمد، ومحمد خاتم النبين وعليّ خاتم الأوصياء(1).
وهنا نقاط ذكرها اُريد أن اُؤكد عليها للمقارنة مع غيرها وهي: أولاً أنّه ابن السوداء وثانياً أنه من أهل صنعاء، وثالثاً أنه يؤكد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم للدنيا ورابعاً أنّه ذكر أنّ علياً وصي النبي، وخامساً أنّه أسلم أيام عثمان، وبعد ذلك نعود لأبي زهرة وفي نفس كتابه المذكور أي تاريخ المذاهب الإِسلامية قال في مورد آخر: عبدالله بن سبأ كان يهودياً من أهل الحيرة، أظهر الإِسلام وأخذ ينشر بين الناس أنّه وجد في التوراة أنّ لكل نبي وصياً وأنّ علياً وصي محمد، وأنّ علياً أراد قتله ولكن نهاه عبدالله بن عباس فنفاه للمدائن بدل قتله(2).
وبين هذين المقتطفتين الفروق التالية الفت النظر إليها وهي:
أنّه في الاُولى من أهل صنعاء، وفي الثانية من أهل الحيرة، وأنّه في الاُولى أسلم أيام عثمان وفي الثانية أظهر الإِسلام ولم يحدد وقت إسلامه، وأنّ الإِمام أراد قتله كما ذكر في الثانية في حين لم يذكر ذلك في الاُولى، وأنّه من المقطتفة الثانية قرأ فكرة الوصاية في التوراة في حين في الاُولى لم يذكر مصدر فكرة الوصاية فلنحفظ هذا لنرى مابين المقتطفات من فروق وخصائص قد تتضارب.
2 ـ محمد فريد وجدي في دائرة المعارف، وقال:
السبائية أتباع عبدالله بن سبأ الذي غلا في الإِنتصار لعليٍّ وزعم أنّه كان نبياً ثم غلا فزعم أنّه الله ودعا إلى ذلك قوماً من أهل الكوفة فاتصل خبرهم بعليٍّ فأمر بإحراق قوم منهم، ثم خاف من إحراق الباقين أن ينتقض عليه قوم فنفى
____________
(1) تاريخ المذاهب الإِسلامية 1/32.
(2) تاريخ المذاهب الإِسلامية 1/43.
3 ـ أحمد عطية الله، قال حفظه الله:
ابن سبأ رأس الفرقة السبائية من الشيعة وهو عبدالله بن سبأ كان من يهود صنعاء وأظهر إسلامه في خلافة عثمان يعرف بابن السوداء انتقل إلى المدينة وبث فيها أقوالاً وآراء منافية لروح الإِسلام ونابعة من يهوديته ومن معتقدات فارسية كان شايعة في اليمن، برز في صورة المنتصر لحق عليٍّ، وادعى أنّ لكل نبيٍّ وصياً، وأنّ عليّاً وصي محمد، كما ادعى أنّ في عليٍّ جزءاً إلهياً، طاف بأنحاء العراق ناشراً دعوته فطرده عبدالله بن عامر من البصرة فنزل الكوفة وأوغر صدور الناس على عثمان، وانتقل إلى دمشق في ولاية معاوية وفيها التقى بأبي ذر الغفاري وحرضه على الثورة مدعياً أنّه ليس من حق الأغنياء أن يقتنوا مالاً، واُخرج من الشام فنزل مصر فالتف حوله الناقمون على عثمان وفيهم محمد بن أبي
____________
(1) داورة معارف القرن العشرين 5/17 فصاعداً.
وفي هذه المقتطفة التي رواها عطية الله اُمور:
منها:
أنّ ابن سبأ جمع إلى عقائده اليهودية معتقدات اُخرى فنقلها للتشيع ومنها الرجعة ولكن الرجعة هنا لعليٍّ وليست لمحمد كما هي عند أبي زهرة، ومنها أنّه أعطى لعليٍّ جزءاً من الاُلوهية لا كلها، حتى يمكن الجمع بين كونه جزء إله وبين كونه وصياً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها الكشف عن هذه الطاقات الهائلة عند ابن سبأ بحيث أنّ كل الثورات على عثمان ومعاوية كانت من فعله.
4 ـ
وبنفس هذا المضمون المتضارب كتب كل من أحمد أمين في فجر الإِسلام، ومحمد بن يحيى في التمهيد والبيان في مقتل عثمان والزركلي في الأعلام(2).
ولا اُريد أن اُطيل عليك فإنّ كل خلف يأخذ عن سلفه بدون تمحيص مما أدى إلى هذا الخلط والإِضطراب في الروايات فهو في هذه الأخبار تارة من أهل الحيرة واُخرى من أهل صنعاء، وهو عند ابن حزم والشهرستاني وغيرهما ابن السوداء، بينما يذهب ابن طاهر البغدادي في الفرق بين الفرق والأسفرايني في كتابه التبصرة في الدين أنّ ابن السوداء شخص آخر ليس عبدالله بن سبأ(3).
وهو في بعض هذه الروايات يدعي الرجعة للنبي، وفي بعضها الآخر يدعي الرجعة لعليٍّ وهو تارة يدعي بأنّ في عليٍّ جزءاً من الاُلوهية واُخرى أنّه إله كامل، وفي هذه الروايات نجد علياً مرة يحرق الغلاة ولا يخاف، وأخرى يخاف أن يحرق ابن السوداء مع أنه يهودي بسيط لا يأبه له أحد، وهكذا نقع في هذا الخليط المضطرب، وأهم هذه الأمور في نظرنا هو أنه مرة يكون داعياً لفضل علي
____________
(1) القاموس الإِسلامي 3/222.
(2) انظر فجر الإِسلام ص276، والتمهيد والبيان ص96، والأعلام للزركلي 4/220.
(3) انظر هامش منهاج السنة لابن تيمية ص220.
الأول:
أنّ عثمان قتل بتحريض من السبائية لا أنّه صنع أشياء نقم فيها عليه المسلمون واشتركوا في قتله وفيهم صحابة النبي مما ذكره التاريخ مفصلاً بل كل ما في الأمر أنّ يهودياً حاقداً حرك المسلمين فانساقوا معه بغباء وبدون تفكير حتى ارتكبوا هذه الجناية وقتلوا الخليفة بدون أن يصدر منه ذنب.
والثاني:
أنّ عقائد الشيعة لا سند لها من الإِسلام وإنما هي من هذا اليهودي العبقري عبدالله بن سبأ فالشيعة إذاً يهود لا صلة لهم بالمسلمين. وعلى كل حال إنّ هذا الإِضطراب في الصورة المرسومة لعبدالله بن سبأ أيقظ الباحثين ودفعهم لإِلقاء الضوء على هذه الشخصية الاُسطورية فأصحروا بآرائهم وكسروا الطوق وأعلنوا الناس زيف هذا الفرية التي لا سبيل للجمع بين أبعادها وأجزائها، وبدأ الواقع يتضح رويداً رويداً والأهداف من وراء اُسطورة ابن سبأ كشفت عن وجهها وسأذكر لك آراء كثير من النقاد بعد أن أذكر ما عندي في هذه المسألة لنصل إلى صورة واضحة في هذا الموضوع.
رأينا في عبدالله بن سبأ
إننا نرى أنّ عبدالله بن سبأ شخصية وهمية مخترعة وندلل على وهميتها بالاُمور التالية:
1 ـ
الإختلاف في أنّه هو ابن السوداء أم لا مع أنّ الذي قام بكل المصائب هو ابن السوداء، وابن طاهر والإِسفرايني يقولان إن ابن السوداء شخص آخر شارك عبدالله بن سبأ بمقالته.
2 ـ
الإِختلاف في وقت ظهوره فالطبري وجماعة يصرحون بأنّه ظهر أيام عثمان بينما يذهب جماعة آخرون إلى أنّه ظهر أيام عليٍّ عليه السلام أو بعد موته ومن هؤلاء
3 ـ
الإضطراب في الروايات في أصل دعوته فبينما رأينا الطبري وجماعة معه يقولون إنّ دعوته اقتصرت على الغلو في عليٍّ والإِنتصار لحقه وكل ما يدور حول عليٍّ فقط نجد جماعة من المتأخرين يذهبون ومعهم أسانيدهم طبعاً إلى أنّه كان في كل بلد له دعوة خاصة، يقول محب الدين الخطيب بأسانيده التي ذكرها:
ومن دهاء ابن سبأ ومكره أنّه كان يبث في جماعة الفسطاط الدعوة لعليٍّ عليه السلام وفي جماعة الكوفة الدعوة لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير(3).
4 ـ
إنّ بض الروايات ذكرت أنّه كان مقتصراً على الإِشادة بفضل عليٍّ عليه السلام فقط في حين ذهب آخرون إلى أنه كان يحرض على عثمان ويدس الدسائس وهو الذي دفع أبا ذر للثورة أما على معاوية أو على عثمان بروايات اُخرى.
5 ـ
لم يعلل لنا واضعوا خرافة ابن سبأ لماذا سكت عنه عثمان وولاته مع أنّهم ضربوا المعارضين بمنتهى الشدة والقسوة وهم من خيرة الصحابة كعمار وابن مسعود وغيرهم.
6 ـ
لماذا تخلوا المصادر الصحيحة من ذكر قصة ابن سبأ كالبلاذري وابن سعد وغيرهما ممن يعتد بتاريخهم.
7 ـ
إنّ رواية عبدالله بن سبأ رواها الوضاعون الكذابون كما أسلفنا فيما مر.
8 ـ
يساعد على أنّ الرواية موضوعة أنّها ليست الوحيدة التي وضعت ضدّ الشيعة وإنّما هي جزء من كل مما سنذكره لك فيها يأتي ونبرهن على كذبه. حتى تعرف أنّ قصة عبدالله بن سبأ خرجت من نفس المقلع ولنفس الهدف. والآن
____________
(1) المقالات والفرق ص15.
(2) انظر هامش منهاج السنة لابن تيمية ص15.
(3) الإِمام الصادق لأسد حيدر 6/237.
رأي طه حسين
استعرض الدكتور طه حسين الصورة التي رسمت لابن سبأ ومزقها بعد تحليل دقيق وانتهى إلى أنّ ابن سبأ شخصية وهمية خلقها خصوم الشيعة ودعم رأيه بالاُمور التالية:
أولاً:
إنّ كل المؤرخين الثقاة لم يشيروا إلى قصة عبدالله بن سبأ لم يذكروا عنها شيئاً.
ثانياً:
إنّ المصدر الوحيد عنه سيف بن عمر وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وضاع.
ثالثاً:
إنّ الاُمور التي اُسندت إلى عبدالله بن سبأ تستلزم معجزات خارقة لفرد عادي كما تستلزم أن يكون المسلمون الذين خدعهم عبدالله بن سبأ وسخرهم لمآربه وهم ينفذون أهدافه بدون اعتراض: في منتهى البلاهة والسخف.
رابعاً:
عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعماله عنه مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر، وعمار وغيرهم.
خامساً:
قصة الإحراق وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للإِحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.
سادساً:
عدم وجود أثر لابن سبأ ولجماعته في واقعة صفين وفي حرب النّهروان، وقد انتهى طه حسين إلى القول: أنّ ابن سبأ شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج(1) ويشترك مع طه حسين كثير من
____________
(1) طه حسين الفتنة الكبرى فصل ابن سبأ.
آراء المستشرقين
1 ـ الدكتور برناد لويس:
قال: ولكن التحقيق قد أظهر أنّ هذا استباق للحوادث وأنّه ـ أيّ ابن سبأ ـ صورة مثل بها في الماضي وتخيلها محدثوا القرن الثاني للهجرة من أحوالهم وأفكارهم السائدة حينئذٍ.
2 ـ فلهوزن:
ذهب إلى أنّ المؤامرة والدعوة والفعاليات المنسوبة لابن سبأ من اختلاق المتأخرين، وقد محص النصوص ودرس الموضوع وقام بتحليل دقيق.
3 ـ فريدليندر:
اشترك مع فلهوزن وانتهى لنفس النتيجة معه.
4 ـ كايتاني:
شك في وجود عبدالله بن سبأ وقال عما ينسب له من أعمال ضخمة ومؤامرة مثل هذه بهذا التفكير وهذا التنظيم لا يمكن أن يتصورها العالم العربي المعروف عام خمسة وثلاثين بنظامه القائم على سلطان الأبوة، إنّها تعكس أحوال العصر العباسي الأول بجلاء(1).
آراء إسلامية اُخرى بابن سبأ
هناك آراء اُخرى في عبدالله بن سبأ تتراوح بين وجوده وعدم صلته بالشيعة، وبين عدم التصديق بما ينسب إليه لأنّه من غير الممكن صدور تلك الأعمال من شخص عادي، وبين نسبة هذه الأعمال لشخص آخر سمي بابن السوداء فلنستمع لهذه الآراء.
أ ـ محمد كرد علي قال في خطط الشام:
أما ما ذهب إليه بعض الكتّاب من أنّ مذهب التشيع من بدعة عبدالله بن
____________
(1) انظر آراء المستشرقين المذكورة في نظرية الإِمامة لأحمد محمود ص37.
ب ـ الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الإِمامة قال:
وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ليحدث فتنة وليزيدها اشتعالاً وليؤلب الناس على عثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، ولكنّ السابق لأوانه ان يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق فيحدث هذا الإِنشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة من المسلمين(2).
ج ـ الدكتوران علي الوردي وكامل الشيبي التقيا في الآتي:
إنّ المقصود بابن السوداء عمار بن ياسر وقد رمزت له قريش بابن السوداء ولم تصرح باسمه لأنّ له ثقلاً ومركزاً بين الصحابة وكان على رأس الثائرين على عثمان، فلم ترد قريش أن تضعه مقابل عثمان وبجانب عليٍّ لأنّه يرجّح كفة عليٍّ ويهبط بكفة عثمان فرمزوا له وسموه بابن السوداء لأنّ اُمه أمة سوداء ولا وجود لابن سوداء غيره.
إنّ رأي الدكتورين يلتقي مع رأي الأسفرايني، وابن طاهر البغدادي الذي أشرنا إليه فيما مضى عند ذكرنا لتعيين هوية ابن سبأ.
وبعد هذا الجولة من الآراء اتضح أنّه لا وجود لابن سبأ لأنّ تسليمنا بوجوده يفضي إلى إلغاء عقولنا، ولأنّ منهح البحث العلمي يأبى وجوده لأنّ مصادره مختلفة، ولأنّ من خلقوا عبدالله بن سبأ خلقوا له أخوة من الإِدعاءات سنوقفك عليها قريباً وإن كانت ستهز مشاعرك وتدمر ثقتك بمن قد تعتبرهم من القمم في دنيا الإِسلام؛ ولأن الخوارق التي تنسب لابن سبأ لا يمكن تصديقها، ولأنّ سكوت عثمان عنه عجيب مع أنّه نفى أبا ذر للربذة مع أنّ أبا ذر من كبار
____________
(1) خطط الشام 6/251.
(2) نظرية الإِمامة ص37، وعاظ السلاطين ص279 والصلة بين التصوف والتشيع ص84.
____________
(1) مروج الذهب للمسعودي 3/30.
(2) نشأة الفكر الفلسفي ص28.
(3) مجلة الكاتب عدد أذار 1965.
الفصل الثالث
لماذا تنسب الشيعة لابن سبأ
في الإِجابة على هذه السؤال يكمن مركز الثقل في قصة عبدالله بن سبأ كلها، فإنّ الفكر الشيعي في الإِمامة وما يلحق بها والمواقف المتساجلة بين فرق المسلمين من الشيعة وغيرهم، إذا شدت إلى جذرها من أدلتها من الكتاب والسنة فقد يختل الميزان لأنّ فكرة الوصية، والعصمة، وغيرهما تبعد عن الحكم ـ في نظر الشيعة ـ من لا تتوفر فيه هذه الشروط وتلك هي الطامة الكبرى، وأي فكر أخطر من هذا الفكر، فلم لا يربط فكر الشيعة بجذر يهودي وتخترع له شخصية تكون كبش الفداء فيلقى اللوم عليها وعلى الذين أخذوا عنها ويشار إليهم بأنّهم مارقون الغموا تاريخ الاُمة ودسوا في عقائدها عقائد غريبة عن الإِسلام وهكذا صنع عبدالله بن سبأ ولو كان صنعه على حساب الحقيقة وعلى رغم أنف العقول والمقاييس.
وبالإِضافة لما ذكرنا هناك سبب آخر دفع إلى خلق عبدالله بن سبأ أشار إليه الدكتور أحمد محمود صبحي وذلك بعد أن استعرض آراء الدكتور طه حسين في وهمية وجود عبدالله بن سبأ. قال الدكتور أحمد صبحي:
ويبدو أنّ مبالغة المؤرخين وكتاب الفرق في حقيقة الدور الذي قام به ابن سبأ يرجع إلى سبب آخر غير ما ذكره الدكتور طه حسين، فلقد حدثت في الإِسلام أحداث سياسية ضخمة كمقتل عثمان ثم حرب الجمل وقد شارك فيها
وبعد هذه الإلمامة بملابسات موضوع عبدالله بن سبأ التي انتهينا منها إلى مسك طرف الخيط فيما نظن ألا وهو ربط عقائد الشيعة بعبدالله بن سبأ وما اسندوه إليه من عقائد الشيعة ولنتبين مصدرها الإِسلامي وبذلك نكتفي عن الإِصرار على وجود ابن سبأ أو عدم وجوده لأنّه قد ثبت أنّ هذه العقائد مصدرها الإِسلام فلا يبقى بعد ذلك قيمة لعدم وجود ابن سبأ أو لوجوده، لنبدأ من ذلك بموضوع الوصية.
1 ـ الإِمام عليّ وصيّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم:
قلنا فيما سبق أنّ من أحكام الإِسلام ضرورة أن يوصي الإِنسان قبل موته بما يريد التصرف به بعد موته فيها يملك من اُمور مادية، وذكرنا أنّ سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه كان لا يخرج من المدينة في سفرة ولو ليوم واحد حتى يستخلف على
____________
(1) نظرية الإِمامة ص39.
ما نزل عليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) الشعراء/214، فجمع أقاربه وعددهم أربعون على فخذ شاة وطلب منهم أن يؤازروه على الدعوة فلم يقم إليه إلا عليّ فأخذ برقبته وقال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا(1). فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لا بنك وتطيع. هذا وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة فصلاً ممتعاً في موضوع وصاية الإِمام عليّ عليه السلام للنبي وأشبع الموضوع وبوسع القارئ الرجوع إليه، وها أنت قد سمعت أن الوصية جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لفظاً ومعنى ومع ذلك ترى هؤلاء يقولون إنّ موضوع الوصية اخترعه عبدالله بن سبأ وستسمع لو قلت لهم إنّ الوصية لها مصادرها من السنة: مَنْ يقول لك هذه أحاديث دسها الشيعة على لسان السنة.
2 ـ العصمة:
موضوع العصمة موضوع مهم في الفكر الشيعي خاصة والإِسلامي عامة
____________
(1) انظر تاريخ الطبري 2/216، وتاريخ ابن الآثير 2/28، وتفسير الدر المنثور للسيوطي 45/97 طبعة أوفست.
فالعصمة لغة هي المنع ومنه قوله تعالى: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) سورة هود/43. أما في الإِصلاح الكلامي فالعصمة: لطف يفعله الله تعالى بالمكلف لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك(1).
وواضح من هذا التعريف أنّ العصمة لا إلجاء فيها وإنما هي مجدد مدد من الله تعالى واستعداد من العبد، فهي أشبه شيءٍ باستاذ يقبل على تلميذه لأنّه وجد عند التلميذ استعداداً أكثر من غيره لتلقي العلم.
وقد أجمعت الاُمة الإِسلامية على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذب فيها يبلغونه عن الله تعالى واختلفوا بعد ذلك في صدور ما ينافي العصمة منهم على سبيل السهو أو النسيان سواء كانت أدلتهم في ذلك سمعية أو عقلية، على صدور أو عدم صدور ما ينافي العصمة ذهب بعض أئمة السنة إلى جواز وقوع كل ذنب منهم صغيراً كان أو كبيراً حتى الكفر وبوسع القارئ الرجوع إلى آراء الباقلاني والرازي والغزالي مفصلاً في نظرية الإِمامة(2) بينما البعض الآخر فصل في ذلك ولم يصل إلى هذا الحد في تجريدهم من العصمة.
أما الشيعة فقد ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مطلقاً قبل البعثة وبعدها(3) وقد ساقوا لذلك أدلة كثيرة. وقد تعرض الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء وكذلك الشيخ المجلسي في البحار مفصلاً لذلك والذي يهمني هنا عصمة الأئمة لأنّها موضع البحث، إنّ عصمة الأئمة أمر مفروغ عند الشيعة وقد أثبتها الشيعة للإِمام بأدلة من العقل والنقل أقتصر على ذكر بعضها وبوسع طالب المزيد ان يرجع إلى الكتب والبحوث المطولة في ذلك.
____________
(1) توفيق التطبيق للكيلاني ص16.
(2) نظرية الإِمامة ص111 و112.
(3) معالم الفلسفة لمغنية ص193.
عصمة الأئمة وأدلتها العقلية
1 ـ الدليل الأول:
يقول العلامة الحلي في كتابه الألفين: الممكنات تحتاج في وجودها وعدمها إلى علة ليست من جنسها إذ لو كانت من جنسها لا حتاجت إلى علة اُخرى واجبة غير ممكنة، كذلك الخطأ من البشر ممكن فإذا أردنا رفع الخطأ الممكن يجب أن نرجع إلى المجرد من الخطأ وهو المعصوم، ولا يمكن افتراض عدم عصمته لأدائه إلى التسلسل أو الدور أما التسلسل فإنّ الإِمام إذا لم يكن معصوماً احتاج إلى إمام آخر لأنّ العلة المحوجة إلى نصبه هي جواز الخطأ على الرعية، فلو جاز عليه الخطأ لا حتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوماً والالزم التسلسل، وأما الدور فلحاجة الإِمامة إذا لم يكن معصوماً للرعية لترده إلى الصواب مع حاجة الرعية للإِقتداء به(1).
2 ـ الدليل الثاني:
يقول الشيعة إنّ مفهوم الإِمام يتضمن معنى العصمة لأنّ الإِمام لغة هو المؤتم به: كالرداء إسم لما يرتدى به، فلو جاز عليه الذنب فحال إقدامه على الذنب إما أن يقتدى به أو لا؛ فإن كان الأول كان الله تعالى قد أمر بالذنب وهذا محال، وإن كان الثاني ـ خرج الإِمام عن كونه إماماً فيستحيل رفع التناقض بين وجوب كونه مؤتماً به وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بتصور أنّ العصمة متضمنة في مفهوم الإِمام ولازمة لوجوده(2).
____________
(1) الألفين للعلامة الحلي ص54.
(2) الأربعين للرازي ص434.
3 ـ الدليل الثالث:
الإِمام حجة الله في تبليغ الشرع للعباد وهو لا يقرب العباد من الطاعة ويبعدهم عن المعصية من حيث كونه إنساناً، ولا من حيث سلطته فإنّ بعض الرؤساء الذين ادعود الإِمامة كانوا فجرة لا يصح الإِقتداء بهم فإذا أمروا بطاعة الله كانوا مصداق قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) 44/البقرة. وفي مثل هذه الحالات لا يثق المكلف بقولهم وله عذره، فثبت أنّ تقريب الناس من طاعة الله لا من حيث كون الإِمام إماماً، وإنّما من حيث كونه معصوماً حيث لا يكون للناس عرذ عصيانه تصديقاً لقوله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) الآية/165 من سورة النساء، والأئمة حجج الله كالرسل سواء بسواء لأنّ الإِمام منصوب من قبل الله تعالى لهداية البشر(1).
هذه ثلاثة أدلة من كثير من الأدلة العقلية التي اعتمدوها في التدليل على العصمة.
الأدلة النقلية على عصمة الإِمام
أ ـ
قال الله تعالى في سورة البقرة: الآية/124 لنبيه إبراهيم: (إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومكن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) دلت هذه الاية على العصمة لانّ المذنب ظالم ولو لنفسه لقوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه) 32/فاطر.
ب ـ
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم) الآية/49 من سورة النساء، والدليل فيها: أنّ اُولي الأمر الواجب طاعتهم يجب أن تكون أوامرهم موافقة لأحكام الله تعالى لتجب لهم هذه الطاعة ولا يتسنى هذا إلا بعصمتهم إذ لو وقع الخطأ منهم لوجب الإِنكار عليهم وذلك ينافي أمر الله بالطاعة لهم(2).
____________
(1) نهاية الإِقدام للشهرستاني ص85.
(2) كشف المراد للعلامة الحلي ص124.
ج ـ
ذهبت الآية الثانية والثلاثين من سورة الأحزاب إلى عصمة أهل البيت الذين نزلت فيهم وهي قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) فبعد إثبات نزولها في أهل البيت الذي نص عليه كل من الإِمام أحمد في مسنده، ومستدرك الصحيحين والدر المنثور، وكنز العمال وسنن الترمذي، وتفسير الطبري، وخصائص النسائي، وتاريخ بغداد، والإستيعاب لابن عبد البر، والرياض النضرة للمحب الطبري، ومسند أبي داوود وأسد الغابة، جميع هؤلاء قالوا إنّها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وعليّ عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام(1).
ويتساءل العلماء عن معنى ذهاب الرجس لينتهوا إلى أنّه نفي كل ذنب وخطأ عنهم والإِرادة هنا تكوينية لا تشريعية لوضوح أنّ التشريعية مرادة لكل الناس. ولا يلزم منه الإِلجاء لما سبق أن ذكرناه من أنّ العصمة مدد من الله تعالى واستعداد من العبد. هذه بعض أدلة الشيعة في العصمة وهي كما ترى منتزعة من الكتاب والسنة والعقل، فما وجه نسبتها إلى عبدالله بن سبأ؟ وأين موضع الصدق من تلك النسبة، إنّ القارئ من حقه أن يسأل هؤلاء الكتّاب هل اطلعوا على مصادر الفكر الشيعي عندما كتبوا عن الشيعة أو لا، فإن كان الأول فما معنى هذا الخبط وهذا النسب الباطلة، وإن كان الثاني فما هو المبرر لهم للخوض في اُمور لم يطلعوا عليها أليس لهم رادع من مقاييس الأدب الإِسلامي الذي رسمه الله تعالى بقوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً) الإسراء/36، وفي الوقت ذاته إنّ المنهج العلمي يأبى عليهم هذه التخرصات ونسبة الأشياء إلى غير مصادرها إذاً ففكرة العصمة حتى ولو كانت أدلتها غير ناهضة، فلا يجوز أن تنحى عن مصدرها وتنسب إلى شخصية وهمية خلقها الحقد وافتعلها الهوى.
____________
(1) انظر فضائل الخمسة من الصحاح الستة 5/219 فصاعداً.
موقف السنة من العصمة
قبل الدخول بالموضوع اُلفت النظر إلى قصة تحكى ولها دلالتها في موضوعنا وهي: أنّ شخصاً مديناً جُلب إلى الحاكم فسأله الحاكم هل أنت مدين لهذا المدعي؟ قال: نعم، أنا مدين ولكنّي منكر للدَّين، إنّ هذه القصة تشبه تماماً موقف من ينكر علينا القول بالعصمة وفي الوقت ذاته يقول بها. على أننا إنما نشترط العصمة في الإِمام لضمان وصول أحكام وعقائد صحيحة، ولضمان اجتناب المفارقات التي قد تنشأ من كون الإِمام غير معصوم، ولا نريد من العصمة أن تكون وساماً نضعه على صدور الأئمة فإنّ لهم من فضائلهم ما يكفيهم كما أننا لا نسبح في بحر من الطوبائية لأننا نعيش دنيا الواقع بكل مفارقاتها، إننا من وراء القول بالعصمة نربأ بالإِمام أن يكون من سنخ من نراهم من الناس، لأنّه لو كان من نفس السنخ والسلوكية فما هي ميزته حتى يحكم الناس وفي الناس من هو أكثر منه استقامة ومؤهلات وقابلية، تلك هي الأمور التي نريدها من وراء العصمة لا أنّ المعصوم من نوع آخر غير نوع الإِنسان كما قد يتصور البعض. فالعصمة في نظرنا ضابط يؤدي إلى حفظ شريعة الله تعالى نظرناً وصيانتها من البعث تطبيقياً، وأساطين السنة يذهبون لمثل ذلك ولكنّهم في الوقت نفسه ينكرون علينا القول بها وإليك نماذج من أقوالهم لتعرف صحة ما نسبناه لهم:
1 ـ الرازي:
يذهب الرازي في معرض رده على عصمة الإِمام عند الشيعة: إلى أن لا حاجة إلى إمام معصوم، وذلك لأنّ الاُمة حال إجماعها تكون معصومة لا ستحالة اجتماع الأمة على خطأ، بمقتضى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لا تجتمع اُمتي على
____________
(1) المستصفى مبحث أركان الإِجماع.
(2) نظرية الإِمامة: 117.
رأي ابن تيمية في العصمة
قال ابن تيمية عند رده على الشيعة عند قولهم: إنّ وجود الإِمام المعصوم لابد منه بعد موت النبي وذلك لأنّ الأحكام تتجدد تبعاً للموضوعات، والأحوال تتغير وللقضاء على الإِختلاف في تفاسير القرآن وفي فهم الأحاديث وغير ذلك. ولو كانت عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وكمال الدين كافيين لما حدث الإِختلاف، فثبت أنّه لابد من إمام معصوم يبين لنا معاني القرآن ويعين لنا مقاصد الشرع كما هو مراده إلى آخر ما ذكروه في المقام: فقال ابن تيمية: لا يسلّم أهل السنة أن يكون الإِمام حافظاً للشرع بعد انقطاع الوحي لأنّ ذلم حاصل للمجموع، والشرع إذا نقله أهل التواتر كان ذلك خيراً من نقل الواحد، فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفقهاء معصومون في الكلام والإِستدلال(1). ويختلف هنا ابن تيمية عن الرازي فإذا كانت العصمة عند الرازي لمجموع الأمة فهي عند ابن تيمية لجماعة من الناس كالقراء والفقهاء والمحدثين، وهنا يشترط ابن تيمية العصمة لضمان حفظ مضمون الشريعة كما هو الحال عند الآخرين من الشعية وغيرهم، فما الذي أجازها لمجموعة ومنعها عن فرد؟ إنّ عدد المعصومين عند الشيعة لا يتجاوز الأربعة عشر وهم مجموعة منتخبة خصها الله تعالى بكثير من الفضائل بإجماع فرق المسلمين فلماذا نستكثر عليهم العصمة ونجيزها لغيرهم مجرد سؤال؟
رأي جمهور السنة في العصمة
يمكن القول أنّ جمهور السنة يصححون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1) ولازم هذا الحديث عصمة الصحابة كما سيرد به التصريح من بعضهم لأنّ صحة الإِقتداء
____________
(1) نظرية الإِمامة 120.
(2) طبقات الفقهاء للشيرازي ص3.
وعلي العموم إنّ لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة، وما سمعنا من ينكر على هؤلاء فلماذا إذا قال الشيعة بعصمة أئمتهم ينتقدون؟
التفتازاني والعصمة
يقول التفتازاني وهو من أجلاء علماء السنة في كتابه شرح المقاصد: احتج أصحابنا على عدم وجوب العصمة: بالإِجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان (رض) مع الإِجماع على أنّهم لم تجب عصمتهم، وإن كانوا معصومين بمعنى أنّهم منذ آمنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها(2) وفي هذا النص اُمور:
1 ـ
إنّ التفتازاني هنا يصرح بعصمة الخلفاء الثلاثة.
2 ـ
يقول: إنّ عصمتهم غير واجبة بمعنى أنّهم لا يقسرون عليها وإلا فلا يتصور تعلق الأحكام بالاُمور التكوينية وإنما مجال الأحكام السلوك الإِختياري والإِستعداد لقبول العصمة أمر مخلوق فيهم.
3 ـ
مفاد كلامه أنّ العصمة ملكة تمنع صاحبها من مقارفة الذنب لا على
____________
(1) الآية 7 من سورة الحشر.
(2) شرح المقاصد بتوسط الغدير للأميني 9/375.
شمس الدين الأصفهاني ونو محمد والعصمة
يذهب الحافظ نور محمد وشمس الدين الأصفهاني الأول في تاريخ مزار شريف، والثاني كما نقله عنه الغدير إلى أنّ الخليفة عثمان معصوم(1) وقد نقله عن كتابه مطالع الأنظار. والرجلان من علماء أهل السنة.
الإِيجي والعصمة
يذهب عبدالرحمن الإِيجي صاحل كتاب المواقف في نفس الكتاب إلى عصمة الخلفاء وعلى النحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه أي أنّها ملكة فيهم لا توجب سلب الإِختيار(2) وهو من علماء السنة وقد كشفت لنا هذه الجولة أنّ الشيعة لا ينفردون بالقول بالعصمة بل علماء السنة يذهبون لذلك، إذاً فما هو وجه نسبتها إلى عبدالله بن سبأ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها؟
أنا لا اُريد أن أحشد للقارئ نقد كتب السنة ومؤلفيهم حول موضوع العصمة فإنّ كتبهم طافحة بذلك، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين وفي عصر الذرة بالذات وهو وأيم الحق من أكثر أهل السنة الذين قرأت لهم اعتدالاً في الكتابة عن الشيعة ولكن مع ذلك كله تبقى الرواسب في النفوس تعمل عملها. إنّي أعتقد أنّ هذا الرجل قد بحث في كتب الشيعة وغيرهم قبل أن يكتب كتابه وذلك لما رأيت له من كثرة المصادر مع افتراض أنّه اطلع على آراء أهل السنة في هذه المواضيع فلماذا الإِنكار على الشيعة دون الآخرين وإذا كان لم يطلع وهو ما أَستبعده، فلماذ يكتب؟
____________
(1) الغدير نفس 9/375.
(2) الغدير لأميني 7/140. المواقف ص399.
الفصل الرابع
مُناقشة كتاب نشأة الآراء والمذاهب
يقول مؤلف الكتاب المذكور يحيى هاشم فرغل مستعرضاً فكرة عصمة الأئمة: إنّ عصمة الأئمة ظهرت عند غلاة الشيعة، ذكر أن زيد بن عليٍّ كان يستنكرها ثم استنتج أنّ السنة إنما بحثوا عصمة الأنبياء لأنّ الشيعة بحثوا عصمة الأئمة، وذكر أدلة الإِمامية على العصمة ومنها حديث الثقلين وقد رواه هكذا:
إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما، ثم ذكر صوراً اُخرى للحديث ثم قال: إنّ هذا الحديث جعل العترة أهل البيت بمنزلة القرآن وعدلاً له، كما جعل لهم جميع ما كان للنبي من المناصب إلا النبوة ليكون كأنه موجود بنفسه ليقوم على رعاية الشريعة، وقد نزّل الحديث العترة منزلة القرآن فلا بد من أن يكون عندهم كل ما فيه من العلوم، فمن ثم يكون الإِمام عالماً بجميع تفاصيل القرآن والسنة لتؤخذ عنه علومهما كاملة. ثم أورد روايات للشيعة حو علم الإِمام ومنها ما ورد عن الإِمام عليٍّ عليه السلام: ما اُنزلت آية من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلا وأقرأنيها وتلاها عليَّ فكتبتها بيدي وعلمني تفسيرها وتأويلها ومحكمها ومتشابهها وناسخهها ومنسوخها وخاصها وعامها ودعا الله تعالى أن يعطيني فهمها وحفظها ووضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وحكمة، ثم أورد روايات هي في الواقع تجسيد لمنطوق هذا الحديث وهذه الرواية: كوجود كتاب الجفر والجامعة ومصحف فاطمة
إتضح من هذا الفصل الذي لخصناه أنّ فرغل يستنكر عدة اُمور ويعتبرها نوعاً من الغلو وهي العصمة، ثم وحدة الأصل والسنخية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأهله عليه السلام ثم استنكر ما ينسب لأهل البيت من علوم واستنكر رابعاً أن تكون منزلة الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وخامساً نسب الشيعة للغلو.
تعقيب
وأنا أوجه للأستاذ فرغل سؤالاً هو: لو أنّ هذه الاُمور التي استنكرها عند الشيعة وجدت عند السنة فهل ينتقد السنة أم لا، وستعجب من هذا السؤال وتقول كيف لا ينتقدهم والموضوع واحد ولا فرق بين أن يقول به السنة أوالشيعة
____________
(1) نشأة الآراء والمذاهب والفرق الكلامية 1/1279 حتى142.
1 ـ فالأمر الأول:
الذي نقد به الشيعة القول بالعصمة ولا أحتاج أن اُكرر ما سبق أن ذكرته ودللت عليه من قول كثير من السنة بالعصمة إن لم يكن كلهم ومع ذلك لم يعرض له يحيى فرغل بالنقد، على أنّ يحيى فرغل أهون من غيره في هذا الباب، ذلك أنّ غيره كان أكثر منه عنفاً وتهجماً خذ مثلاً: الدكتور نبيه حجاب أستاذ الأدب ـ لو كان هناك أدب ـ في دار العلوم بالقاهرة، إنّ هذا الرجل يشتم الشيعة شتماً عجيباً ويعتبر عقيدتهم بالعصمة مظهراً من مظاهر الشعوبية فاسمعه يقول:
إنّ هذه العقيدة تسرّبت للشيعة عن الفرس الذي نشأوا على تقديس الحاكم لهذا أطلق عليها العرب النزعة الكسروية ـ ولا أعرف أحداً من العرب قال ذلك في حدود اطلاعي ـ ولعل غالبية الشيعة كانت ترمي من وراء هذه الفكرة إلى تنزيه عليٍّ عليه السلام عن الخطأ حتى يتضح للملأ عدوان بني اُمية في اغتصاب الخلافة هذا وفي اليهودية كثير من المذاهب التي تسربت إلى الشيعة(1) أسمعت هذه الانشودة التي يتناقلها الخلف عن السلف بصورة بلهاء وقد فندنا لك هذا الزعم فيما مضى من مبحث فارسية التشيع. لكنّ الذي اُريد السؤال عنه ما هو الخطأ في سلوك الإِمام عليٍّ عليه السلام في نظر نبيه حجاب هل هو الحروب التي قام بها من أجل مبادئ مما أدى إلى عدم الإِستقرار في الوقت الذي لم يستقر فيه وضع الامويين إلا على الجماجم وعلى كل حال لا يضر علياً أن يخطئه نبيه حجاب بعد أن قال فيه الرسول عليّ مع الحق والحق مع علي. ومن الطبيعي جداً أن يكون علي في جانب مع من هو من معدنه ونبيه حجاب ومن هم من معدنه في الجانب المقابل.
(1) مظاهر الشعوبية في الأدب العربي ص492.
2 ـ الأمر الثاني:
الذي استنكره فرغل هو كون النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته من نور واحد، ولا أدري ما هو وجه الإِستغراب بعد أن أثبت الشيعة ذلك من مصادره الصحيحة هل لأنّ ذلك لم يصادف هوى في نفوس من لا يوالون أهل ابيت أم ماذا؟ ثم لماذ إذا وجد مثل هذا عند السنة لا يكون داعياً للإِستغراب: هذا الذهبي يروي في ميزان الإعتدال حديثاً عن طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: خلقني الله من نور وخلق أبا بكر من نوري وخلق عمر من نور أبي بكر وخلق عثمان من نور عمر وعمر سراج أهل الجنة(1) ولا أدري لماذا جاء النور إلى حد عثمان ولم يصل إلى عليٍّ مع أنّه على الأقل خليفة رابع، لك الله يا ابن أبي طالب، وما أدري ماذا يقول الأستاذ فرغل هل هذا غلو أم لا أفتونا يرحمكم الله، هذا مع أنّه من الطبيعي وحدة السنخية بين الإِنسان وأهله، وآل محمد عدل الكتاب وعيبة علم النبي فلماذا يستكثر عليهم الاستاذ فرغل ما لا يستكثره على غيرهم.
3 ـ الأمر الثالث:
الذي استنكره الأستاذ فرغل هو علم أهل البيت بالشريعة والعلوم القرآنية وعلوم السنة الشريفة وأن يكونوا محدّثين، وهنا يقول إنّ علم أهل البيت أما أن يكون بالطرق العادية كالتلقي والمدارسة، أو يكون من قبيل الإِلهام وأنّهم محدَّثون، أما الطريق الأول فهو محقق لأهل البيت لأنّهم نشأوا في بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وتربوا في حجره وخذوا العلم من هذه البيئة وهذا الأمر لا غبار عليه، أما العلم بالطريقة الثانية وهو الإِلهام والتحديث كما تذهب إليه الروايات فالمسلمون كلهم يقرون بذلك وسأذكر جملة من نصوصهم في إمكان مثل هذا العلم:
يقول الآلوسي في تفسيره روح المعاني عند تفسيره الآية 65 من سورة النحل: وهي قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا
____________
(1) ميزان الإعتدال 1/166.
وماقاله الآلوسي هو عين ما ورد عن أئمة أهل البيت: يقول الإِمام الرضا ثامن أئمة أهل البيت: «يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم» وهذا المعنى هو عين مفاد الآية: 27 من سورة الجن وهي قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسوله) وفي شرح هذه الآية يقول الرضا لعمر بن هداب وقد سأله عن علم الأئمة قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هو المرتضى عند الله ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على غيبه فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة» (2) وفي هذا المعنى يقول النيسابوري المفسر: إنّ امتناع الكرامة عن الأولياء إما لأنّ الله ليس أهلاً لأن يعطي المؤمن ما يريد، وإما لأنّ المؤمن ليس أهلاً لذلك وكل منهما بعيد فإنّ توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده فإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ـ.
وقد ألقى الإِمام الصادق عليه السلام الضوء على بعض العلوم التي أخذوها من القرآن بالطرق الطبيعية وذلك عندما سأله بعض أصحابه، فقال الصّادق: «إنّي أعلم ما في السموات والأرض وأعلم ما في الجنة والنار وأعلم ما كان وما يكون» فلما رأى أنّ السائل استغرب كلامه قال الإِمام: «إنّي علمت ذلك من كتاب الله عز وجل الذي يقول: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين) الآية 89/ من سورة النحل» وقد روى ذلك عنه وعن
____________
(1) روح المعاني 20/9.
(2) البحار للمجلسي 12/22.