الصفحة 37

8 ـ عقيدتنا في العدل

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنّه عادل غير ظالم، فلا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه؛ يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلِّف عباده ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقّون(1).

ونعتقد: أنّه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح؛ لاَنّه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح، مع فرض علمه بحسن الحسن، وقبح القبيح، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرّر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم؛ لا بدّ أن يكون فعله مطابقاً للحكمة، وعلى حسب النظام الاَكمل(2).

____________

(1) العدل هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم قد ضمن الجزاء على الاعمال والعوض على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده، فقال تعالى (لِلّذينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزيادة) يونس 10: 26. فخبّر أنّ للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده، وقال: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِهَا) يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها، (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فِلا يُجزَى إلاّ مِثْلَها وَهُم لا يُظلَمون) الانعام 6: 160. يريد أنّه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران. فقال سبحانه (وإنّ ربّك لَذو مَغفِرةٍ للنَّاسِ على ظلمهم) الرعد 13: 6. وقال سبحانه: (إنّ الله لا يَغْفِر أن يُشركَ بِهِ ويَغفر مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشاءُ) النساء 4: 48... وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور فقال تعالى: (إنَّ الله يأمُر بِالعَدلَ والاِحْسـن) النحل 16: 90.

تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد: 103.

(2) وتعتبر الشيعة الامامية العدل من أصول الدين وليس هو في الحقيقة اصلاً مستقلاً، بل هو

=


الصفحة 38
فلو كان يفعل الظلم والقبح ـ تعالى عن ذلك ـ فانّ الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:

1 ـ أن يكون جاهلاً بالأمر، فلا يدري أنّه قبيح.

2 ـ أن يكون عالماً به، ولكنّه مجبور على فعله، وعاجز عن تركه.

3 ـ أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولكنه محتاج إلى فعله.

4 ـ أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولا يحتاج إليه، فينحصر في أن يكون فعله له تشهّياً وعبثاً ولهواً.

وكل هذه الصور محال على الله تعالى، وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال، فيجب أن نحكم أنه منزَّه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

____________

=

مندرج في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيّته لصفات الجمال والكمال فهو شأن من شؤون التوحيد، ولكن الاَشاعرة لما خالفوا العدلية ـ وهم المعتزلة والامامية ـ فانكروا الحسن والقبح العقليين وقالوا: ليس الحسن إلاّ ما حسّنه الشرع وليس القبح إلاّ ما قبحه الشرع، وأنه تعالى لو خلد المطيع في جهنم والعاصي في الجنة لم يكن قبيحاً؛ لاَنّه يتصرف في ملكه (لا يُسئَلُ عَمَّا يَفْعَل وَهُم يُسْئَلُونَ) الانبياء 21: 23. أمّا العدلية فقالوا: انّ الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلاّ تأكيداً وارشاداً، والعقل يستقل بحسن بعض الاَفعال وقبح البعض الآخر ويحكم بأنّ القبيح محال على الله تعالى؛ لاَنّه حكيم وفعل القبيح مناف للحكمة وتعذيب المطيع ظلم والظلم قبيح وهو لا يقع منه تعالى.

وبهذا أثبتوا لله صفة العدل وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة الى خلاف الاشاعرة.

والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين اثبتوا جملة من القواعد الكلامية: كقاعدة اللطف، ووجوب شكر المنعم، ووجوب النظر في المعجزة، وعليها بنوا أيضا مسألة الجبر والاختبار التي هي من معضلات المسائل.

للتفصيل راجع: أصل الشيعة واصولها للشيخ كاشف الغطاء: 230.

مطارح النظر للشيخ الطريحي: الفصل الرابع 164.


الصفحة 39
غير أن بعض المسلمين جوَّز عليه تعالى فعل القبيح (1)ـ تقدَّست أسماؤه ـ فجوَّز أن يعاقب المطيعين، ويدخل الجنّة العاصين، بل الكافرين، وجوَّز أن يكلِّف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه، ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوَّز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة، بحجّة أنّه (لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسئَلونَ)(2).

فربُّ أمثال هؤلاء الذين صوَّروه على عقيدتهم الفاسدة: ظالم، جائر، سفيه، لاعب، كاذب، مخادع، يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وهذا هو الكفر بعينه، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: (وَمَا اللهُ يُريدُ ظُلْماً للعِبَادِ)(3).

وقال: (وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ)(4).

وقال:(وَمَا خَلَقْنَا الْسَّمواتِ والاَرضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ)(5).

وقال: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والاِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(6).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً.

____________

(1) والى ذلك ذهبت الاَشاعرة بقولهم إنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ورضي بها وأحبّها ـ جل عن ذلك سبحانه وتعالى ـ. ولتفصيل هذه الاَفكار الباطلة يراجع: نهج الحق للعلامة الحلّي: 85، شرح العقائد وحاشيتة للكستلي: 109 و113، الملل والنحل: 1|85، 88، 91، الفصل لابن حزم: 3|66 و69، شرح التجريد للقوشجي: 373.

(2) الانبياء 21: 23.

(3) غافر 40: 31.

(4) البقرة 2: 205.

(5) الدخان 44: 38.

(6) الذاريات 51: 56.


الصفحة 40

9 ـ عقيدتنا في التكليف

نعتقد: أنّه تعالى لا يكلِّف عباده إِلاّ بعد إقامة الحجّة عليهم(1)، ولا

____________

(1) لا بد من معرفة أنّ حقيقة التكليف تعني: إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة. فيكون عندئذ المرجع هو الارادة، بقرينة ما ذكر في التعريف من الكلفة والمشقة. وأردف السيد الشريف المرتضى علم الهدى بعد ذلك بقوله ـ مصحّحاً القول: إنّ التكليف لا يحسن إلاّ بعد اكمال العقل ونصب الادلّة ـ: (وأنه تعالى اكمل العقول وحصل سائر الشروط فلا بد من أن يكلِّف، وهذا يدل على أن التكليف غير التعريف). وقد بحث علماؤنا مباحث التكليف بصورة مستفيضة ذاكرين وجوه المراد بالتكليف وتعلقها بالمكلِّف والمكلَّف وصفات المكلف، والغرض من هذا التكليف، والوجه المجرى به إليه، وما الافعال التي يتناولها، وما المكلِّف الذي كلف هذه الاَفعال، وبأي شيء مختص من الصفات حتى يحسن أو يجب تكليفه. والمعلوم أنّ هذا الموضوع هو من بحوث الارادة الذي استحق من المتكلمين عناية وعنواناً مفرداً على أثر الاختلاف العظيم بين العلماء وزعماء المذاهب في المشيئة الالهية المذكورة في آيات الذكر الحكيم وتعلقها بأمور غير مرضية لديه سبحانه، ثمّ في تأويلها بوجوه لا تخلو عن التكلّف في الاَكثر وأهمّها الآية 148 من سورة الاَنعام (سَيقوُل الّذين أشركُوا لو شاءَ الله ما أشركْنَا ولا آباؤُنَا ولا حَرّمنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كذّبَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأسَنَا قُلْ هَل عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبعونَ إلاّ الظَنَّ وإنْ أَنْتُمْ إلاّ تخرُصُون) والآية 20 من سورة الزخرف: (وَقالُوا لَو شَاءَ الرّحمنُ ما عبدنهُمْ مَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلمٍ إنْ هم إلاّ يَخرُصوُنَ) وآيات كثيرة توهم تعلق إرادة الخالق بما يستقبحهُ المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن هذا يبدو أنّ شيخنا المظفر (قدس سره) أفرد عنواناً مستقلاً للتكليف سطر فيه ما يمكن أن يختصر نظرية الامامية في هذا الباب، ذلك أنّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام لها موقف واضح معروف يؤكّد على تنزيه الرب الكريم سبحانه وتقديسه عن كل ما هو قبيح أو شبه قبيح وشدة استنكارها بتعلّق مشيئة الله أو إرادته بشرك أو ظلم أو فاحشة قط، فضلاً عن فعله أو خلق فعله أو الاَمر به؛ إذ كل ذلك سيقع خلافاً لحكمته وعدله وفضله.

=


الصفحة 41
يكلِّفهم إلاّ ما يسعهم ما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون؛ لاَنّه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصِّر في التعليم.

أمّا الجاهل المقصِّر في معرفة الاَحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى، ومعاقَب على تقصيره؛ إذ يجب على كلّ إنسان أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من الاَحكام الشرعية(1).

____________

=

ومحصلة القول ما ذكره الشيخ المفيد بقوله: إنّ الله تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الاَفعال، ولا يشاء إلاّ الجميل من الاعمال، ولا يريد القبائح، ولا يشاء الفواحش ـ تعالى الله عمّا يقول المبطلون علواً كبيراـ:

قال الله تعالى: (وما الله يريد ظلماً للعباد) غافر 40: 31.

وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسرة ولا يريد بكم العسر) البقرة 2: 185.

وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) النساء 4: 26.

وقال تعالى: (والله يرريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماُ)النساء 4: 27.

وقال تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسن ضعيفا) النساء 4: 28. فخبر سبحانه أنه لا يريد بعباده العسر بل يريد بهم اليسر، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال، ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم. وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب اليه الضالون المفترون على الله الكذب. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كلبيرا.

لاحظ: الذخيرة للسيد المرتضى: 105، تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد: المجلد 5 من مصنفات الشيخ المفيد: 48ـ51.

(1) ويدلّ عليه ما ورد في كتاب الله تعالى من قوله: (فَسْئَلُوا أَهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون) النحل 16: 43 وقوله تعالى: (فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّين ولُينذرِوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعوا إليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرون) التوبة 9: 122.

ويدلّ عليه أيضاً قول الامام الصادق عليه السلام عندما سئل عن قوله تعالى: (قلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ) الانعام 6: 149. فقال عليه السلام: «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فان قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت

=


الصفحة 42
ونعتقد: أنّه تعالى لا بدَّ أن يكلِّف عباده، ويسنَّ لهم الشرائع، وما فيه صلاحهم وخيرهم؛ ليدلّهم على طرق الخير والسعادة الدائمة، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عمّا فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم، وإن علم أنّهم لا يطيعونه؛ لاَنّ ذلك لطف ورحمة بعباده، وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير ممّا يعود عليهم بالضرر والخسران، والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته، وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته، ويستحيل أن ينفك عنه.

ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمرّدين على طاعته، غير مناقدين إلى أوامره ونواهيه.

____________

=

جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصم، فتلك الحجة البالغة». الاَمالي للشيخ الطوسي: 9 ح10|10. ونقله عنه: البحار: 2|29 ح10.

والحديث الوارد عن الامام الصادق عليه السلام: (عليكم بالتفقه في دين الله، ولا تكونوا أعرابا؛ فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزك له عملا.)الكافي:1/24 ح7.

كما ورد في الرسائل العملية للعلماء الأعلام: يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو التي في معرض ابتلائه لئلا يقع ـ لولا التعلم ـ في مخالفة تكليف إلزامي متوجه اليه عند طروهما. لاحظ منهاج الصالحين للسيد السيستاني: العبادات / مسألة 19ص13.

الصفحة 43

10 ـ عقيدتنا في القضاء والقدر

ذهب قوم ـ وهم المجبرة (1) ـ الى انه تعالى هو القاعل لافعال المخلوقين، فيكون قد اجبر الناس على فعل المعاصي، وهو مع ذلك يعذبهم عليها، واجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها؛ لانهم يقلون: ان افعالهم في الحقيقة افعاله، وانما تنسب اليه الطبيعة بين الاشياء، وانه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد انكروا السببية الطبيعية بين الاشياء؛ اذ ظنوا ان ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم اليه، تعالى عن ذلك.

وذهب قوم آخرون ـ وهم المفوضة (2) ـ الى انه تعالى فوض الافعال

____________

(1)ومنهم الاشاعرة الذين ذهبوا الى انكار السببية، وانحصار السبب في الله تعالى،وقالوا: ان النار ـ مثلا ـ لا تحرق شيئا بل عادة الله جرت على احراق الثوب المماس بها مثلا من دون مدخلية للنار في الاحراق. وبذلك فقد ذهبوا الى ان افعال العباد مخلوقة له تعالى من دون دخل للعباد فيها، أي أن العبد لا أثر له في ايجاد الفعل. راجع: بداية المعارف الالهية: 1/159 وما بعدها.

ولا يخفى على من تتبع كتب الامامية انهم يبطلون الجبر خلافا للاشاعرة، كما يبطلون التفويض خلافا للمعتزلة، فقد روي عن الامام ابي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام انه سئل عن افعال العباد فقيل له: هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام: (لو كان خالقا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه (إن الله بريء من المشركين ورسوله)[ التوبة 9: 3] ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وانما تبرأ من شركهم وقبائحهم).

لاحظ: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5/43، بحار الانوار: 5/20.

(2) وهم الذين نفوا حقيقة الجبر، وأكثرهم المعتزلة ممن قالوا أن الفعل مفوض الينا، ولا مدخلية

=


الصفحة 44
إلى المخلوقين، ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أنّ نسبة الأفعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه، وأنّ للموجودات أسبابها الخاصة، وإن انتهت كلُّها إلى مسبِّب الأسباب والسبب الأول، وهو الله تعالى.

ومن يقول بهذه المقالة فقد أخرج الله تعالى من سلطانه(1)، وأشرك

____________

=

فيه لا رادته وإذنه تعالى، والذي أوجب هذا الزعم الفاسد هو الاحتراز عن نسبة المعاصي والفكر والقبائح إليه تعالى. والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والاباحة لهم مع ما شاؤوا من الاعمال وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات.

راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5/ 47، بداية المعارف الإلهية: 1/ 166.

(1) ومن المستحسن أن نذكر في هذا الصدد ما رواه الاَصبغ بن نباته في حديث طويل: «إنّ شيخاً قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام في منصرفه عن صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، ما وطأنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً إلاّ بقضاء الله وقدره، فقال الشيخ: عند الله تعالى احتسب عنائي؛ ما أرى لي من الأجر شيئاً. فقال له عليه السلام: مه! أيّها الشيخ! لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وانتم سائرون. وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ: فكيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال عليه السلام: ويحك لعلك ظننت قضاءاً لازماً وقدراً حتماً؟ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والامر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن. تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب. وهم قدرية هذه الامة ومجوسها؛ إنّ الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً، وكلّف يسيراً. لم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الرسل عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً (ذَلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفروُا فَوَيلٌ للّذينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ) [سورة ص 38: 27]. فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟ فقال عليه السلام: هو الأمر من الله تعالى والحكم، وتلى قوله تعالى: (وَقَضَى ربُّكَ الاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيّاهُ) [الاسراء 17: 23] فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:

أنت الامام الذي نرجوا بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا

=


الصفحة 45
غيره معه في الخلق.

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام من الأَمر بين الأمرين، والطريق الوسط بين القولين، الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام، ففرَّط منهم قوم وأفرط آخرون، ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلاّ بعد عدة قرون(1).

وليس من الغريب ممَّن لم يطّلع على حكمة الأَئمّة عليهم السلام وأقوالهم أن يحسب أنّ هذا القول ـ وهو الأمر بين الاَمرين ـ من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

فقد قال إمامنا الصادق عليه السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: «لا جبر ولا تفويض،ولكن أمر بين أمرين»(2).

____________

=

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً * جزاك ربّك عنّا منه إحساناً

شرح نهج البلاغة: 18|227.

وأسند ابن عساكر هذا الحديث عن ابن عباس في تاريخ دمشق: 3|231، وذكره الشيخ الصدوق في التوحيد: 380، تجريد الاعتقاد بتحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي: 200، عقائد الاسلام من القرآن الكريم: 455.

(1) قال الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: 47(والواسطة بين هذين القولين ـ أي الجبر والتفويض ـ أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم بحسنها، ونهاهم عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) مصنّفات الشيخ المفيد المجلد الخامس.

(2) الكافي: 1|160 ح13، الاحتجاج: 2|490، التوحيد: 362، الاعتقادات للشيخ

=


الصفحة 46
ما أجلَّ هذا المغزى، وما أدقّ معناه، وخلاصته: إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن اسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه؛ لاَنّه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على افعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي؛ لاَنّ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوِّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر، وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد(1).

وعلى كل حال، فعقيدتنا: أنّ القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا إفراط ولا تفريط فذاك، وإلاّ فلا يجب عليه أن يتكلّف فهمه والتدقيق فيه؛ لئلاّ يضل وتفسد عليه عقيدته؛ لاَنّه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس، ولذا زلّت به أقدام كثير من المتكلّمين(2).

____________

=

الصدوق: 10، تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5|46.

(1) سأل أبو حنيفة الامام أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن أفعال العباد، ممن هي؟ فقال له عليه السلام: «إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل؛ إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة، أو من الله ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصّة. فلو كانت من الله تعالى خاصة لكان أولى بالحمد على حسنها والذم على قبحها ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها. ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معاً فيها والذم عليهما جميعاً فيها، وإذا بطل هذان الوجهان ثبت انها من الخلق، فان عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة».

تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5|44.

(2) لخّص الشيخ المظفر في محاضراته الفلسفية هذه الفكرة الدقيقة بقوله: (كلّ من المجبّرة والمفوّضة نظروا إلى جهة وغفلوا عن الجهة الاخرى، ولكن الانسان يجب أن يكون ذا عينين

=


الصفحة 47
فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي، ويكفي أن يعتقد به الانسان على الاجمال اتّباعاً لقول الأئمة الأطهار عليهم السلام من أنّه أمر بين الأمرين؛ ليس فيه جبر ولا تفويض.

وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق.

____________

=

لا ذا عين واحدة، فمن نظر بعين واحدة كان أعور، ينظر إلى إفاضة الوجود من جهة واحده فيتصور أنّ الناس مجبورون، وينظر من الجهة الاخرى وهو أنّ الناس يعملون اعمالهم باختيارهم فيتخيل أنّهم مفوضون، ولكن لو انقطع فيض الله تعالى عني لحظة واحدة لانعدمت وانعدمت أفعالي وأنا أسبح في سلطانه وعظمته.

معنى الجبر: أنّ فاعل ما منه الوجود هو فاعل ما به الوجود، وهو الله تعالى، ومعنى التفويض: أنّ العبد هو فاعل ما به الوجود وما منه الوجود، ولكن القوم لم يلتفتوا إلى هذه النكتة، وهي أنّ العبد فاعل ما به الوجود، والله تعالى فاعل ما منه الوجود، فمن ناحية فاعل ما به الوجود لا جبر، ومن ناحية فاعل ما منه الوجود لا تفويض، فيصحّ في العقل ما جاء في الاثر عن أهل البيت عليهم السلام: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»).

الفلسفة الاسلامية: 84.


الصفحة 48

11 ـ عقيدتنا في البداء

البداء في الانسان: أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقاً، بأن يتبدَّل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه؛ إذ يحدث عنده ما يغيِّر رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح، وندامة على ما سبق منه.

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى. لاَنّه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الامامية.

قال الصادق عليه السلام: «مَن زعم أنّ الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم»(1).

وقال أيضاً: «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه»(2).

غير أنّه وردت عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدِّم، كما ورد عن الصادق عليه السلام: «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني»(3)ولذلك نَسبَ بعض المؤلّفين

____________

(1) إكمال الدين: 69.

(2) المصدر السابق: 70.

(3) التوحيد: 336 ح10، إكمال الدين: 69، تصحيح الاعتقاد من مصنّفات الشيخ المفيد: 5|66. وقد أوضح الشيخ المفيد معنى الحديث بقوله: (أراد به عليه السلام ما ظهر من الله تعالى فيه من دفاع القتل عنه، وقد كان مخوفاً عليه من ذلك مظنوناً به، فلطف له في دفعه عنه.

وقد جاء الخبر بذلك عن الصادق عليه السلام، فروي عنه أنّه قال: «كان القتل قد كتب على اسماعيل مرّتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه»، وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغيّر

=


الصفحة 49
في الفرق الاسلامية إلى الطائفة الامامية القول بالبداء طعناً في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: (يَمْحوُا اللهُ ما يَشَآءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ)(1).

ومعنى ذلك: أنّه تعالى قد يُظهر شيئاً على لسان نبيِّه أو وليِّه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاِظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولاً، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى ابوه إبراهيم أنّه يذبحه(2).

فيكون معنى قول الامام عليه السلام: أنّه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده؛ إذ اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بإمام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الاِمام بعده؛ لاَنّه أكبر ولده(3).

____________

الحال فيه).

(1) الرعد 13: 39.

(2) قال تعالى: (فَلمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قالَ يبنَيَّ إنّي أرَى في المَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرُ مَاذا تَرىَ قال يا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤمَرُ سَتَجدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرينَ * فَلَمّا أَسْلَما وَتَلّهُ لِلجبيِن* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إبراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤيا إِنّا كذلِكَ نَجْزِي المُحسِنينَ * إنّ هَذا لَهُوَ البلـوءُ المُبيِنُ * وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ) الصافات 37: 102 ـ 107.

(3) ونجد أنّ مجموعة من الشيعة ـ وعلى الرغم ممّا فعله الامام الصادق عليه السلام، وما قاله في وفاة وتجهيز وتكفين ولده اسماعيل ـ قالوا بإمامة اسماعيل بعد أبيه الامام الصادق عليه السلام، وهؤلاء هم الذين يدعون بـ «الاسماعيلية»، وهم يفترقون عن الشيعة الامامية بقولهم: إنّ الامامة بعد الامام الصادق عليه السلام انتقلت الى ولده الاكبر اسماععيل ويزعمون ان الامام الصادق عليه السلام نص عليه في حياته. وقد اختلفوا في اسماعيل، فمنهم من قال بموته في حياة أبيه ـ وهو الثابت والمتواتر تأريخياً كما يشير إليه المصنّف هنا ـ وهؤلاء قالوا بأنّ الامامة تبقى في ذريته، وأولهم محمد بن اسماعيل وقسم منهم يقول بأنّه

=


الصفحة 50
وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبيِّنا صلّى الله عليه وآله، بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلّى الله عليه وآله(1).

____________

=

ـ أي اسماعيل ـ لم يمت وإنّما أظهر أبوه عليه السلام موته تقيّةً من العباسيين، وأشهد على موته وتجهيزه عامل المنصور بالمدينة محمد بن سليمان، وهؤلاء بين من وقف على محمد بن إسماعيل ولم يتجاوزه إلى غيره ـ وهم المسمّون بالواقفة ـ، وبين من تعدّى عن محمد بن إسماعيل وجعل الامامة في سبعة سبعة؛ بين ظاهر ومستور كأيّام الاسبوع وعدد السموات والاَرضين والاَفلاك، وانّ أول سبعة ظاهرين يبدأون من الامام علي عليه السلام وينتهون باسماعيل، وأوّل سبعة مستورين يبدأون بمحمد بن اسماعيل، ثمّ ولده جعفر المصدّق، ثمّ ولده محمد الحبيب، ثم عبدالله المهدي الذي ظهر في شمال افريقيه ومن ولده تكونت الدولة الفاطمية.

راجع، فرق الشيعة: 67، الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 308، الشيعة بين الاَشاعرة والمعتزلة: 78، تاريخ المذاهب الاسلامية: 54، الملل والنحل للشهرستاني: 1|149، الفرق بين الفرق: 62.

(1) يذكر الامام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في هذا الصدد قوله: (البداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع، فكما أنّ لنسخ الحكم وتبديله بحكم آخر مصالح وأسراراً بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الاخفاء والابداء في عالم التكوين، على أنّ قسماً من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على الشيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه. مثلاً اطّلع عيسى عليه السلام أنّ العروس يموت ليلة زفافه، ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله، فاتفق أنّ أمه تصدّقت عنه، وكان عيسى عليه السلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت وسئل عن ذلك فقال: «لعلّكم تصدّقتم عنه والصدقة قد تدفع البلاء المبرم» وهكذا نظائرها... ولولا البداء لم يكن وجه للصدقة، ولا للدعاء، ولا للشفاعة، ولا لبكاء الأنبياء والأولياء وشدّة خوفهم وحذرهم من الله مع أنّهم لم يخالفوه طرفة عين، إنّما خوفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطّلع عليه أحد).

أصل الشيعة وأصولها: 314.


الصفحة 51

12 ـ عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد: أنّه تعالى جعل أحكامه ـ من الواجبات والمحرَّمات وغيرهما ـ طبقاً لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجباً، وما فيه المفسدة البالغة نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه...

وهكذا في باقي الأحكام، وهذا من عدله ولطفه بعباده.

ولا بدّ أن يكون له في كل واقعة حكم(1)، ولا يخلو شيء من الأشياء من حكم واقعي لله فيه، وإن انسدَّ علينا طريق علمه.

ونقول أيضاً: إنّه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة، أو ينهى عمّا فيه المصلحة.

غير أنّ بعض الفِرق من المسلمين يقولون: إنّ القبيح ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الاَفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبح ذاتيان(2)، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية.

كما أنّهم جوَّزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة. وقد تقدَّم أنّ هذا القول فيه مجازفة عظيمة، وذلك

____________

(1) قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ) الانعام 6: 38. وورد في الحديث: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله» الكافي: 1|78 ح6. وورد أيضاً. «ما من حادثة إلاّ ولله فيها حكم» البحار: 93|91.

(2) قالت الاَشاعرة: إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، فما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح.

لاحظ: نهج الحق: 83، الملل والنحل: 1|89، شرح التجريد للقوشجي: 375.


الصفحة 52
لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز إليه سبحانه، تعالى علواً كبيراً.

والخلاصة: أنّ الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنّه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرَّمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف، ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها؛ فإنّه تعالى لا يأمر عبثاً ولا ينهى جزافاً، وهو الغني عن عباده.