28 ـ عقيدتنا في الاَئمّة
لا نعتقد في أئمتنا [عليهم أفضل الصلاة والسلام] ما يعتقده الغلاة(1)
____________
(1) الغلاة: هم الذين يعتقدون في الاَئمة عليهم السلام غير الحق، ويقولون بأنّهم آلهة وأنّهم ليسوا بمخلوقين وغيرها من الاعتقادات الفاسدة. وهؤلاء الغلاة فرق متعدّدة:
منهم الخطّابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الاَجدع الاَسدي الذي ادّعى بأنّه نبي مرسل، وأنّه من الملائكة، وغير ذلك من الخرافات.
ومنهم الغرابية: الذين قالوا بأنّ الله جل وعلا أرسل جبرئيل إلى علي بالرسالة فاخطأ جبرئيل وأعطاها إلى محمد صلّى الله عليه وآله بسبب الشبه الذي بينهما.
ومنهم العليائية: أتباع العلياء بن دراع الدوسي أو الاَسدي، وهم يعتقدون بربوبية علي بن أبي طالب عليه السلام، وقالوا إنّ محمداً صلّى الله عليه وآله عبد لعلي ـ العياذ بالله ـ.
ومنهم المخمسية: وهم يقولون بأنّ الرب هو علي بن أبي طالب عليه السلام وأنّ سلمان الفارسي، وأبا ذر الغفاري، والمقداد بن الاسود، وعمار بن ياسر، وعمر بن أمية الضمري هم النبيون والموكّلون بمصالح العالم من قبل الرب الذي هو علي بن أبي طالب عليه السلام.
ومنهم البزيعية: أتباع بزيع بن موسى الحائك، ويقولون بأنّه نبي مرسل وأنّ الامام الصادق عليه السلام هو الذي أرسله بذلك، وقد سمع به الامام الصادق ولعنه بصراحة.
ومنهم السبائية: أتباع عبدالله بن سبأ ـ الذي اختلف المؤرخون في حقيقة وجوده وهل هو شخصية حقيقية واقعية أم مختلقة اختلقها أعداء الشيعة ـ وهؤلاء يعتقدون بإلوهية علي عليه السلام.
ومنهم المغيرية: أتباع المغيرة بن سعيد العجلي الذي ادّعى النبوّة، واستحلّ كثيراً من المحارم، ودسّ من خرافاته الكثير في كتب الشيعة، حتى ورد لعنه عن الامام الصادق عليه السلام.
ومنهم المنصورية: أتباع أبي منصور العجلي، الذي تبرّأ منه الامام الباقر عليه السلام، وادّعى لنفسه الامامة. وقال إنّ علياً عليه السلام هو الكسف الساقط من السماء، وأنّ الرسل لا تنقطع ابداً.
=
بل عقيدتنا الخاصّة: أنَّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته؛ إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم، والتقوى، والشجاعة، والكرم، والعفّة، وجميع الاَخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به.
وبهذا استحقّوا أن يكونوا أئمة وهداة، ومرجعاً بعد النبي في كلّ ما يعود للناس من أحكام وحكم، وما يرجع للدين من بيان وتشريع، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل.
قال إمامنا الصادق عليه السلام: «ما جاءكم عنّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردّوه إلينا»(3).
____________
=
وغيرهم من الفرق الضالّة المنحرفة الذين تبرّأ منهم الاَئمة عليهم السلام في أحاديث كثيرة وحذّروا منهم شيعتهم. فقد ورد ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ عن الامام الصادق عليه السلام حيث سأله سدير وقال له: إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة، يتلون بذلك علينا قرآناً (وَهُوَ الَّذي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الاََرْضِ إِلهٌ) فقال: «يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء، وبرىء الله منهم، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم» الكافي: 1|269.
راجع: الملل والنحل: 1|154، الفرق بين الفرق: 238، فرق الشيعة: 42، مروج الذهب: 3|220، مقباس الهداية: 2|361، أصل الشيعة وأصولها: 172، وورد العديد من الاحاديث التي تحذّر من الغلاة، ومنها ما في بحار الاَنوار: 25|265، وغيرها.
(1) الحلوليون: وهم الذين يقولون بحلول روح الاله في جسم الامام، وهؤلاء مرجعهم إلى الغلاة، والحديث عنهم كالحديث عن الغلاة.
(2) الكهف 18: 5.
(3) انظر: مختصر بصائر الدرجات: 92.
29 ـ عقيدتنا في أنّ الاِمامة بالنص
نعتقد: أنّ الاِمامة كالنبوّة؛ لا تكون إلاّ بالنص من الله تعالى على لسان رسوله، أو لسان الامام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الامام من بعده.
وحكمها في ذلك حكم النبوّة بلا فرق، فليس للناس أن يتحكَّموا فيمن يعيّنه الله هادياً ومرشداً لعامّة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه، أو ترشيحه، أو انتخابه؛ لاَنّ الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمّل أعباء الامامة العامّة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يُعرف إلاّ بتعريف الله ولا يُعيَّن إلاّ بتعيينه(1).
ونعتقد: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نصّ على خليفته والامام في البرية من بعده، فعيَّن ابن عمه علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وأميناً للوحي، وإماماً للخلق في عدّة مواطن، ونصّبه، وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم الغدير فقال: «ألا مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيفما دار»(2).
____________
(1) وقد مرّ أنّ الامام كالنبي إلاّ أنّ النبي يوحى إليه والامام لا يوحى إليه.
(2) انظر: المصنّف لابن أبي شيبة: 12|67 ح12140 و68 ح12141، سنن ابن ماجه: 1|43 ح116، سنن الترمذي: 5|633 ح3713، السنة لابن أبي عاصم: 591 ح1361، مسند أحمد: 1|118 ـ 119 و4|281 و368 و370 و372، خصائص النسائي: 102|88، أنساب الاَشراف للبلاذري: 2|156 ح169، كشف الاَستار للبزار 3|190 ـ 191، المعجم الكبير للطبراني: 3|21 ح3052
=
وكرِّر قوله له في عدّة مرّات: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(2).
____________
=
و4|173 ح4053، والمعجم الصغير: 1|65، مستدرك الحاكم: 3|109، أخبار اصفهان: 1|107 و2|228، تأريخ بغداد: 7|377 و14| 236، المناقب لابن المغازلي: 16 ـ 27 ح23 و26 و27 و29 و33 و37 و38، شواهد التنزيل للحسكاني: 1|157 ح211، تاريخ دمشق لابن عساكر ـ ترجمة الامام علي عليه السلام: 2: 38 ـ 84، تذكرة الخواص: 36، اسد الغابة: 1|367 و4|28، ذخائر العقبى: 67، الاِصابة: 1|304، وللمزيد من الاطلاع على المصادر، راجع كتاب الغدير للشيخ الاميني، وكتاب احقاق الحق، وكتاب عبقات الاَنوار، وكتاب دلائل الصدق، وغيرها كثير.
(1) انظر: أمالي الصدوق: 523، إعلام الورى: 167، إحقاق الحق: 4|297، مسند أحمد: 1|111 و159، خصائص النسائي: 83|66، تاريخ الطبري: 2|319، تفسير الطبري: 19|74. وراجع أيضاً: شواهد التنزيل: 1|420، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3|267، ينابيع المودة: 1|104، الكامل: 2|62، مجمع الزوائد: 8|302، وغيرها ممّا لا يتيسّر حصره.
(2) انظر: المصنّف لابن أبي شيبة: 12|60 ح12125 و61 ح12126، التاريخ الكبير للبخاري: 1|115 ح333 و7|301 ح1284، صحيح مسلم: 4|1870 ح2404، سنن الترمذي: 5|640 ح3730، السنة لابن أبي عاصم: ذكره باسانيد مختلفة من حديث رقم 1333 ـ 1348، مسند أحمد: 1|179 و3|32 و6|438، خصائص النسائي 68 ـ 79 ح 45 و48 و50 و51و 62و 63 و64، حلية الاَولياء: 4|345 و7|195 و196، تاريخ اصفهان: 2|281 و328، المعجم الكبير للطبراني: 1|146 ح328 و148 ح333 و334 و2|247 ح2035 و4|17 ح3515 و11|74 ح11087 و24|146 ح384 ـ 389، والمعجم الصغير: 2|53 ـ 54، تأريخ بغداد: 1|325 و3|406 و8|53 و9|365 و10|43 و12|323، الاستيعاب: 3|34، المناقب
=
ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كلّ ما ورد في إمامته من الآيات والروايات، ولا بيان وجه دلالتها(3).
ثمّ إنّه عليه السلام نص على إمامة الحسن والحسين(4)، والحسين نص على إمامة ولده علي زين العابدين، وهكذا إماماً بعد إمام، ينصّ المتقدِّم منهم على المتأخِّر إلى آخرهم وهو أخيرهم على ما سيأتي.
____________
=
لابن المغازلي: 27 ـ 36 ح40 ـ 56، تاريخ دمشق ـ ترجمة الامام علي عليه السلام: 1|306 ـ 390، مجمع الزوائد: 9|109، وغيرها كثير.
(1) المائدة 5: 55.
(2) انظر: تفسير فرات الكوفي: 40: 41، أمالي الصدوق: 107|4، تفسير التبيان للطوسي: 3|559، الاحتجاج للطبرسي: 2|489، تفسير الطبري: 6|186، أسباب النزول للواحدي: 113، المناقب لابن المغازلي: 312 ح356 و313 ح357، المناقب للخوارزمي: 264، تذكرة الخواص: 24، تفسير الرازي: 12|26، كفاية الطالب: 250، ذخائر العقبى: 88، الفصول المهمة: 124، جامع الاصول: 8|664.
(3) راجع كتاب السقيفة للمؤلف [النص على علي بن أبي طالب عليه السلام: 59 ـ 73] فيه بعض الشروح لهذه الشواهد القرآنية وغيرها.
(4) بالاضافة إلى ما ورد عن الرسول صلّى الله عليه وآله فيهما، حيث تواتر عنه أنّه قال: «ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا».
انظر: النكت: 48، علل الشرائع: 1|211، الارشاد: 220، كفاية الاَثر: 117، التحف لمجد الدين: 22، ينابيع النصيحة: 237 حيث قال فيه: (لا شبهة في كون هذا الخبر ممّا تلقّته الاُمّة بالقبول وبلغ حدّ التواتر، فصح الاحتجاج به)، وقال فيه ابن شهر آشوب في مناقبه: 22: (أجمع عليه أهل القبلة).
30 ـ عقيدتنا في عدد الاَئمّة
ونعتقد: أنّ الاَئمّة الذين لهم صفة الامامة الحقّة، هم مرجعنا في الاَحكام الشرعية، المنصوص عليهم بالامامة اثنا عشر إماماً، نصّ عليهم النبي صلّى الله عليه وآله جميعاً بأسمائهم(1) ثمّ نصّ المتقدّم منهم على من بعده، على النحو الآتي:
____________
(1) انظر إكمال الدين: 250 ـ 256 ح1 ـ 4، عيون اخبار الرضا (عليه السلام): 1|41 ـ 51 ح2 ـ 16، امالي الطوسي: 1|291 ح566| 13، فرائد السمطين: 2|132 ح431 و136 ح435 و313 ح564.
وقد ورد في روايات كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وآله نقلها المحدثون من أبناء العامة قال فيها النبي بأنّ الخلفاء من بعده اثنا عشر خليفة، وأنّهم كلهم من قريش. فمنها ما نقله جابر بن سمرة حيث قال: «كنت مع أبي عند النبي صلّى الله عليه وآله فسمعته يقول: بعدي اثنا عشر خليفة، ثم أخفى صوته، فقلت لاَبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال: كلّهم من بني هاشم». وغير هذه الرواية الكثير الكثير.
انظر: مسند أحمد: 5|89 و90 و92، مستدرك الحاكم: 4|501، مجمع الزوائد: 5|190، كنز العمال: 6|201 و206، صحيح البخاري: 9|101، صحيح مسلم: 2|192، تاريخ الخلفاء: 10، سنن الترمذي: 2|35، ينابيع المودة: 444. وغيرها كثير.
ت | الكنية | الاسم | اللقب | سنة الولادة | سنة الوفاة |
1 | أبوالحسن | علي بن أبي طالب | المرتضى | 23 ق. هـ | 40 هـ |
2 | أبو محمد | الحسن بن علي | الزكي | 2 هـ | 50 هـ |
3 | أبو عبدالله | الحسين بن علي | سيد الشهداء | 3 هـ | 61 هـ |
4 | أبو محمد | علي بن الحسين | زين العابدين | 38 هـ | 95 هـ |
5 | أبو جعفر | محمد بن علي | الباقر | 57 هـ | 114 هـ |
6 | أبو عبدالله | جعفر بن محمد | الصادق | 83 هـ | 148 هـ |
7 | أبو ابراهيم | موسى بن جعفر | الكاظم | 128 هـ | 183 هـ |
8 | أبو الحسن | علي بن موسى | الرضا | 148 هـ | 203 هـ |
9 | أبو جعفر | محمد بن علي | الجواد | 195 هـ | 220 هـ |
10 | أبو الحسن | علي بن محمد | الهادي | 212 هـ | 254هـ |
11 | أبو محمد | الحسن بن علي | العسكري | 232 هـ | 260 هـ |
12 | أبو القاسم | محمد بن الحسن | المهدي | 256 هـ | .... |
31 ـ عقيدتنا في المهديّ
إنّ البشارة بظهور المهديّ من ولد فاطمة في آخر الزمان ـ ليملأ الاَرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً ـ ثابتة عن النبي صلّى الله عليه وآله بالتواتر، وسجَّلها المسلمون جميعاً فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم(1). وليست هي بالفكرة المستحدَثة عند الشيعة دفع إليها انتشار الظلم والجور، فحلموا بظهور من يطهِّر الاَرض من رجس الظلم، كما يريد أن يصوّرها بعض المغالطين غير المنصفين(2).
ولولا ثبوت فكرة المهدي عن النبي على وجه عرفها جميع المسلمين، وتشبَّعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكّن مدّعو المهدية في القرون الاَولى ـ كالكيسانية(3)والعباسيين، وجملة من العلويين وغيرهم ـ من خدعة الناس، واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً للملك والسلطان، فجعلوا
____________
(1) انظر الغيبة للطوسي: 187|148، العمدة لابن البطريق: 433 ح909 و436 ح920. إثبات الهداة: 3|504 ح303 ـ 304، سنن أبي داود: 4|107 ح4284، سنن ابن ماجه: 2|1368 ح4086، وكافة أحاديث الباب 34 من كتاب الفتن، مستدرك الحاكم: 4|557، المعجم الكبير للطبراني: 23|267 ح566، كفاية الطالب: 486، كنز العمال: 14|264 ح38662، سنن الترمذي: 4|505، البيان في اخبار صاحب الزمان: 479، الحاوي للفتاوي: 2|58، البرهان في علامات المهدي عليه السلام: 94.
(2) ولعل من هؤلاء المغالطين الدكتور رونلدسون الذي يقول: (إنّ من المحتمل جدّاً أنّ الفشل الظاهر الذي أصاب المملكة الاسلامية في توطيد أركان العدل والتساوي على زمن دولة الاَمويين ـ 41 إلى 132 هـ ـ كان من الاسباب لظهور فكرة المهدي آخر الزمان). راجع: عقيدة الشيعة: 231.
(3) الكيسانية: فرقة أجتمعت على القول بإمامة محمد بن الحنفية. وقال بعضهم: إنّ محمد بن
=
ونحن مع ايماننا بصحة الدين الاسلامي، وأنه خاتمة الأديان الإلهية، ولا نترقب ديناُ آخر لإصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم،
____________
=
الحنفية هو الامام بعد أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام؛ لاَنّ الامام علياً عليه السلام دفع إليه الراية يوم الجمل وقال له:
وقال آخرون منهم: إنّ الامام بعد علي عليه السلام كان الحسن ثم الحسين عليهما السلام ثم صار هو الامام بعد ذهاب الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة قبل واقعة كربلاء.
وزعم قوم منهم بأنّ محمد بن الحنفية حي لم يمت وهو المهدي المنتظر وهذا هو ما أشار إليه المصنّف هنا.
وذهب آخرون إلى الاقرار بموته وأنّ الامام بعده علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.
ومنهم من قال برجوع الامامة بعده إلى أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية، واختلف هؤلاء بالامامة بعده، فمنهم من نقلها إلى محمد بن علي بن عبدالله، ومنهم من زعم أنّ الامامة بعده صارت إلى بيان بن سمعان، وزعموا أنّ روح الله كانت في أبي هاشم ثمّ انتقلت إلى بيان هذا.
وقيل: إنّما سمّوا بالكيسانية لاَنّ المختار بن أبي عبيد الثقفي كان رئيسهم، وكان يلقب بـ «كيسان»؛ لاَنّ صاحب شرطته (أبو عمرة) كان اسمه كيسان وكان أفرط في الفعل والقول والقتل من المختار.
هذا على أنّ اعتقاد الامامية ـ وهو الرأي الراجح عندهم ـ أنّ المختار كان ذو عقيدة صحيحة، وكان يدعو إلى امامة الامام السجّاد علي بن الحسين عليه السلام، وقد ورد مدحه على لسان الامام السجاد عليه السلام، وكذا ابنه الامام الباقر عليه السلام، وكذا ولده الامام الصادق عليه السلام. كما وتواتر الثناء عليه والذب عنه عند علماء الشيعة ولم يغمزه إلاّ شذاذ منهم. وما نُبز به المختار من القذائف فهو مفتعل عليه وضعه أعداؤه تشويهاً لسمعته؛ لاَنّه هو الذي قام بأخذ الثأر للاِمام الحسين عليه السلام وقتل الذين قاموا بقتله هو وأهل بيته في واقعة كربلاء المفجعة، وقد قام علماء الامامية وغيرهم بتأليف كتب مخصوصة في حياة المختار وسيرته وأعماله. راجع: الملل والنحل: 1|131، الفرق بين الفرق: 38، فرق الشيعة: 23.
ثمّ لا يمكن أن يعود الدين الاسلامي إلى قوَّته وسيطرته على البشر عامة(1)، وهو على ما هو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي افكارهم عنه، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادّعاءاتهم.
نعم، لا يمكن أن يعود الدين إلى قوّته إلاّ إذا ظهر على رأسه مصلح عظيم، يجمع الكلمة، ويرد عن الدين تحريف المبطلين، ويُبطل ما أُلصق به من البدع والضلالات بعناية ربّانية وبلطف إلهي؛ ليجعل منه شخصاً هادياً مهدياً، له هذه المنزلة العظمى، والرئاسةالعامّة، والقدرة الخارقة؛ ليملأ الاَرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
والخلاصة؛ أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم ـ مع الايمان بصحّة هذا الدين، وأنّه الخاتمة للاَديان ـ يقتضي انتظار هذا المصلح المهدي لانقاذ العالم ممّا هو فيه.
ولاَجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة، بل الاَُمم من غير المسلمين، غير أنّ الفرق بين الاِمامية وغيرها هو أنّ الامامية تعتقد أنّ
____________
(1) لكي يتحقق قوله تعالى ـ وقوله الحق ـ: (هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِره عَلَى الْدِّين كُلِّهِ) التوبة 9: 33 والفتح 48: 28 والصف 61: 9.
ولا يجوز أن تنقطع الاِمامة وتحول في عصر من العصور(2)وإن كان الامام مخفياً؛ ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى، الذي هو من الاَسرار الاِلهية التي لا يعلم بها إلا هو تعالى.
ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدّة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماماً للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الاَعلى(3)، ولا هي باعظم من معجزة
____________
(1) حيث تواترت الروايات والاَخبار عن النبي صلّى الله عليه وآله وعن الاَئمة عليهم السلام بظهور المهدي من ولد فاطمة، وانه سيملأ الاَرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً كما مر سابقاً.
وقد ذكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر ما نصه: (إنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الاَفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الاَعظم عموماً، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً، وأكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك، ولقد اُحصي أربعمائة حديث عن النبي صلّى الله عليه وآله من طرق إخواننا أهل السنة، كما اُحصي مجموع الاَخبار الواردة في الامام المهدي من طرق الشيعة والسنة فكان أكثر من ستة آلاف رواية. هذا رقم احصائي كبير لا يتوفّر نظيره في كثير من قضايا الاسلام البديهية التي لا شك فيها لمسلم عادة). بحث حول المهدي: 63.
(2) لما مرّ سابقاً من أنّ الاَرض لا تخلو عن حجة.
(3) فقد ورد في الروايات الكثيرة أنّ الامام العسكري عليه السلام توفّي في عام 260، وكان عمر الامام المهدي عندها خمس سنين وقام بأعباء الامامة.
ويدلّ على ذلك ما ورد من رواية أبي الاَديان، الذي كان يخدم الامام العسكري عليه السلام فأرسله الامام عند مرضه عليه السلام لينقل بعض الكتب إلى المدائن، وقال له: إنّك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل في اليوم الخامس عشر إلى سر من رأى فتسمع
=
وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي ـ أو الذي يتخيّل أنّه العمر الطبيعي ـ لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها، غير أنّ الطب بعد لم يتوصّل إلى ما يمكّنه من تعمير حياة الانسان، وإذا عجز عنه الطب فانّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، وقد وقع فعلاً تعمير نوح(2)، وبقاء عيسى(3)عليهما
____________
=
الواعية. فسأله أبو الاَديان حينها عن الامام بعده فقال عليه السلام له إنّه الذي يطالبك بجواباتي ويصلي عليَّ ويخبرك بما في الهميان الذي معك. ثمّ تحقّق كل الذي قاله الامام عليه السلام، ورجع أبو الاَديان فكان الذي طالبه بالجوابات هو الامام المهدي، وهو الذي صلّى على أبيه عليه السلام ـ بعد أن أبعد عمّه ـ ثم أخبر أبا الاديان بما في الهميان الذي معه، كما اخبر جماعة آخرين بما عندهم من أُمور لم يطّلع عليها أحد غيرهم. وكان عمره إذ ذاك خمس سنين.
راجع: إكمال الدين وإتمام النعمة: 2/ 476، بحار الأنوار: 50/ 332 ح 4. وراجع أيضاً: تاريخ الغيبة الصغرى: 282 وما بعدها.
(1) اشارة إلى قوله تعالى في عيسى بن مريم عليه السلام وهو يحكي قصته، حيث قال بنو اسرائيل لمريم حين أتت به تحمله: (يَأُخْتَ هرونَ مَا كَانَ أَبوُكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغيِّاً* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في المْهدِ صَبِيّاً* قَالَ إِنَّي عَبْدُاللهِ ءاتانِي الكِتبَ وَجَعَلَنِي نَبيّاَ) مريم 19: 28 ـ 30.
(2) حيث قال تعالى في نوح عليه السلام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الْطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـلِموُنَ) العنكبوت 29: 14. ومن الثابت أنّ هذه الفترة ـ الف سنة إلاّ خمسين عاماً ـ هي فقط فترة بقائه في قومه يعظهم، أما عمره فقد قيل: إنّه على أقل التقديرات ألف وستمائة سنة، وقيل أكثر.. إلى ثلاث آلاف سنة.
راجع: تفسير الكشاف: 3|200، تفسير ابن كثير: 3|418، زاد المسير لابن الجوزي: 6|261.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبوُهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الّذِينَ اخْتَلَفوُا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِنْهُ مَا لَهُمْ بهِ مِنْ عِلْم إِلاّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَمَا قَتلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاَ حَكِيماً) النساء 4: 157 ـ 158. وهذا من الامور المسلّمة القطعية عند كافّة المسلمين؛ حيث أنّه لو تسرّب الشك إلى هذا الامر
=
ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إِمكان ذلك وهو يدّعي الايمان بالكتاب العزيز!!
وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد، ونذكِّر أنفسنا به أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ المهدي أن يقف المسلمون مكتوفي الاَيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والاَخذ بأحكامه، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل المسلم أبداً مكلَّف بالعمل بما أُنزل من الاَحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكَّن من ذلك وبلغت إليه قدرته «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته»(1).
فلا يجوز له التأخّر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي، والمبشّر الهادي؛ فإنّ هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجِّل عملاً، ولا يجعل الناسَ هملاً كالسوائم.
____________
=
القرآني القطعي هذا يعني الشك بالقرآن بأجمعه (أَفَتُؤمِنُونَ بِبَعْضِ الكتَـبِ وَتَكْفُرون ببعَضٍ) البقرة 2: 85. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: (ولو شك الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الاسلام السلام). وعلى هذا الاساس فإنّ المسلم بعد أن آمن بكل هذا وسلّم به فلا موجب للعجب من إمكان بقاء الاِمام كل هذه المدة الزمنية وهذا العمر الطويل ـ الذي لا يخلو من كونه معجزة بأمر الله تعالى ـ الذي منحه الله تعالى للامام ليدخره إلى اليوم الموعود.
(1) انظر: جامع الاَحاديث للقمي: 21، جامع الاَخبار: 327 ح919، صحيح البخاري: 2|6 و3|196، مسند احمد: 2|5، سنن البيهقي: 6|287، عوالي اللآلي: 1|129 ح3 و364 ح51.
32 ـ عقيدتنا في الرجعة
إنّ الذي تذهب إليه الامامية ـ أخذاً بما جاء عن آل البيت عليهم السلام ـ أنّ الله تعالى يعيد قوماً من الاَموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقاً ويذلّ فريقاً آخر، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام(1).
ولا يرجع إلاّ من علت درجته في الايمان، أو مَن بلغ الغاية من الفساد، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنّي هؤلاء المرتَجَعينَ ـ الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله ـ أن يخرجوا ثالثاً لعلّهم يصلحون: (قَالوا رَبَّنا أَمتَّنا اثَنَتينِ وَأحيَيتَنَا اثنَتَيِن فَاعتَرَفنَا بِذُنُوبِنَا فَهَل إلى خُرُوجٍ مِن سَبيلٍ)(2).
نعم، قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتظافرت بها الاَخبار عن بيت العصمة، والاِمامية بأجمعها عليه إلاّ قليلون منهم تأوَّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الامام المنتظر، من دون رجوع أعيان الاَشخاص وإحياء الموتى(3).
____________
(1) اُنظر: بحار الاَنوار: 53|39 ـ 143 باب الرجعة.
(2) الغافر40: 11.
(3) وللمزيد من الاطّلاع والتوضيح راجع كتاب حق اليقين في معرفة اصول الدين| الجزء الثاني. فقد ذكر فيه الآيات والروايات الدالّة على الرجعة، والآراء فيها، وهل تتم الرجعة لجميع الناس أم لمن محض الايمان محضاً ومن محض الكفر محضاً. وغيره من المصادر والكتب.
ولا شكّ في أنّ هذا من نوع التهويلات التي تتّخذها الطوائف الاسلامية ـ فيما غبر ـ ذريعة لطعن بعضها في بعض، والدعاية ضده. ولا نرى في الواقع ما يبرّر هذا التهويل؛ لاَنّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد، ولا في عقيدة النبوّة، بل يؤكد صحّةالعقيدتين؛ إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشر، وهي من الاَُمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبينا محمد وآل بيته صلى الله عليه وعليهم، وهي عيناً معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح عليه السلام، بل أبلغ هنا؛ لاَنها بعد أن يصبح الاَموات رميماً (قَالَ مَنْ يُحيي العِظمَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُل يُحييهَا الَّذِي أَنشأَهَا أَوَّلَ مَرةٍ وَهُو بِكُلِّ خَلقٍ عَليِمٌ)(1).
وأمّا من طعن في الرجعة باعتبار أنّها من التناسخ الباطل، فلاَنّه لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني؛ فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الاَول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني؛ فإنّ معناه رجوع نفس البدن الاَول بمشخّصاته النفسية، فكذلك الرجعة.
وإذا كانت الرجعة تناسخاً فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى عليه
____________
(1) يس 36: 78 ـ 79.
إِذن، لم يبق إلاّ أن يُناقش في الرجعة من جهتين:
الاَولى: أنّه مستحيلة الوقوع.
الثانية: كذب الاَحاديث الواردة فيها.
وعلى تقدير صحة المناقشتين، فانّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوَّلها خصوم الشيعة.
وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الاَمور المستحيلة، أو التي لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنّها لم توجب تكفيراً وخروجاً عن الاسلام، ولذلك أمثلة كثيرة، منها: الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه(1)، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن(2)، ومنها: القول بالوعيد(3)، ومنها: الاعتقاد بأنّ النبي لم ينص على خليفة من بعده.
على أنّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحّة؛ أمّا أنّ الرجعة مستحيلة فقد قلنا إنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني، غير أنّها بعث موقوت في الدنيا، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها، ولا سبب لاستغرابها إِلا أنّها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف
____________
(1) راجع صحيح البخاري: 2|68، صحيح مسلم: 1|399 ح85 و86 و87 و89، سنن الترمذي: 2|235 ح391 ـ 395، سنن أبي داود: 1|264 ح1008 ـ 1023.
(2) راجع: شرح المقاصد: 4|143 ـ 146، وفيه إشارة إلى قول الحنابلة والحشوية بقدم القرآن، بل قول بعضهم بأنّ الجلدة والغلاف أزليّان، وكذا الاشارة إلى مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف التي دامت ستة أشهر وأنتهت بالاتفاق بينهم على القول بأنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.
(3) راجع: شرح المقاصد: 5|125، مذاهب الاسلاميين: 62.
نعم، في مثل ذلك ممّا لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته، أو نتخيّل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الاِلهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الاَموات، كمعجزة عيسى عليه السلام في إحياء الموتى (وَأُبرئ الاََكمَهَ وَالاَبَرصَ وأُحيى المَوتَى بإذنِ اللهِ)(2).
وكقوله تعالى (أَنَّى يُحيِي هَذِهِ اللهُ بَعدَ مَوتِها فأَمَاتَهُ اللهُ مائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعثَهُ)(3).
والآية المتقدِّمة (قالُوا رَبَّنا أمتَّنا اثنتَينِ...)(4)؛ فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وإِن تكلَّف بعض المفسِّرين في تأويلها بما لا يروي الغليل، ولا يحقّق معنى الآية(5).
وأمّا المناقشة الثانية ـ وهي دعوى أنّ الحديث فيها موضوع ـ فإنّه لا وجه لها؛ لاَنّ الرجعة من الامور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الاَخبار المتواترة.
____________
(1) يس 36: 78 ـ 79.
(2) آل عمران 3: 49.
(3) البقرة 2: 259.
(4) غافر 40: 11.
(5) راجع: مجمع البيان: 4|516. فقد نقل قسماً من هذه التفسيرات التي أوردها بعض المفسرين لهذه الآية.
ونزيده فنقول: والحقيقة أنّه لا بدَّ أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والاَحكام الاسلامية؛ لاَنّ النبي الاَكرم جاء مصدِّقاً لما بين يديه من الشرائع السماوية(2)، وإن نسخ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الاسلامية ليس عيباً في الاسلام، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.
وعلى كلّ حال، فالرجعة ليست من الاَصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنّما اعتقادنا بها كان تبعاً للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت عليهم السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الاَمور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها.
____________
(1) فجر الاِسلام: ص 33. على أنّ أحمد أمين لم يقتصر في كتابه هذا على مقولته هذه، بل زاد فيها الكثير من الكلام الذي لا أساس له ولا مستند. ولمزيد من الاطّلاع راجع كتاب أصل الشيعة واصولها: ص 140 وفيه ذكر هذه المقالات وبعض من الرد المختصر عليها.
(2) إشارة إلى قوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً صلّى الله عليه وآله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْريةَ والاَنْجِيلَ) آل عمران 3: 3. وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة الدالة على أنّ النبي الاَكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن جاءا مصدقان لمن سبق من الاَنبياء وشرائعهم الحقّة، سوى ما ورد من الاحكام الناسخة التي كان يتدين بها أتباعهم قبل نزول الشريعة السمحة السهلة.
33 ـ عقيدتنا في التقيّة
روي عن صادق آل البيت عليه السلام في الاَثر الصحيح:
«التقيّة ديني ودين آبائي»(1)، و«من لا تقيّة له لا دين له»(2).
وكذلك هي، لقد كانت شعاراً لآل البيت عليهم السلام؛ دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم(3).
وما زالت سمة تُعرف بها الاِمامية دون غيرها من الطوائف والاُمم، وكلّ انسان إذا أحسَّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أوالتظاهر به لا بدَّ أن يتكتَّم ويتّقي في مواضع الخطر، وهذا أمر تقضيه فطرة العقول.
____________
(1) الكافي: 2|174 ح12، مختصر بصائر الدرجات: 101، المحاسن: 1|397 ح890.
(2) الكافي: 2|172 ح2، الفقه المنسوب للامام الرضا (عليه السلام): 338.
(3) التقية: هي كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا. وهي من الامور التي يشنّع بعض الناس ويزدري على الشيعة بقولهم بها؛ جهلاً منهم بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها، ولو تثبتوا في الاَمر وتريّثوا وصبروا وتبصّروا لعرفوا أنّ التقية لا تختص بالشيعة ولم ينفردوا بها، بل هي من ضروري العقل، وعليه جبلّة الطباع وغرائز البشر رائدها العلم، وقائدها العقل ولا تنفك عنهما قيد شعرة؛ إذ أنّ كل انسان مجبول على الدفاع عن نفسه والمحافظة على حياته.
راجع: تصحيح الاعتقاد من مصنفات الشيخ المفيد: 5|137، أصل الشيعة وأصولها: 315، ولمزيد من الاطلاع راجع: واقع التقية عند المذاهب والفرق الاسلامية من غير الشيعة الامامية ـ للسيد ثامر العميدي، وفيه إيضاح على أنّ التقية والقول بها لا يختص فقط بالشيعة الامامية.
وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في ابوابها في كتب العلماء الفقهية.
وليست هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الاَحوال، كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للاسلام، وجهاد في سبيله؛ فإنّه عند ذلك يستهان بالاَموال، ولا تعزّ النفوس.
وقد تحرم التقيّة في الاَعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة(2)، أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم، أو إفشاء الظلم والجور فيهم.
وعلى كلّ حال، ليس معنى التقيّة عند الامامية أنّها تجعل منهم جمعية
____________
(1) ولزيادة التوضيح والتعرف على ما أصاب الشيعة على مرّ العصور راجع كتاب: الشيعة والحاكمون. للشيخ محمد جواد مغنية، ففيه من الايضاح ما يمكن أن يصوّر الوضع المأساوي الذي عاشته الشيعة في فترات تأريخهم العصيبة.
(2) حيث ورد عن الامام الباقر عليه السلام الحديث التالي:
عن محمد بن مسلم، عنه عليه السلام: «إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية».
وسائل الشيعة: 11|483 ح1.
كما أنّه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سرّاً من الاَسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الامامية ومؤلَّفاتهم فيما يخص الفقه والاَحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملاَت الخافقين، وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أيّة أُمَّة تدين بدينها؟!
بلى، إنّ عقيدتنا في التقيّة قد استغلّها من أراد التشنيع على الامامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنّهم كان لا يشفى غليلهم إلاّ أن تقدَّم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الاَمويين والعباسيين، بله العثمانيين.
وإذا كان طعن من اراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية، فإنّا نقول له:
أولاً: إنّنا متبعون لاَئمتنا عليهم السلام ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها، وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين، وقد
____________
(1) راجع الكوثري في تعليقه على كتاب الاسفراييني «التبصير في الدين»، فانه يذكر بأن الذين اتّخذوا التشيع ستاراً لتحقيق أغراضهم في تشويه معالم الاسلام: (اتّخذوا التلفّع بالتشيّع وسيلة لحشد حشود وتأليف جمعيات سرية وجعلوا التشيّع ستاراً لما يريدون أن يبثّوه بين الامة من الرذيلة!!).
الاسفراييني: التبصير في الدين: 185 ـ تعليق الكوثري.
وراجع أيضاً: نشأة الاَشعرية وتطورّها: 87 ـ 88.
وثانياً: قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم، ذلك قوله تعالى: (إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئِنٌ بالاِيمـن)(2)وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الاسلام(3).
وقوله تعالى: (إلاَّ أَنْ تَتَّقوُا مِنْهُم تُقةً)(4).
وقوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مؤُمِنٌ مِن ءَالِ فِرعَونَ يَكتُمُ إيمـنَهُ)(5).
____________
(1) تقدم في صفحة 117، فراجع.
(2) النحل 16: 106.
(3) راجع: التبيان في تفسير القرآن: 6|428، مجمع البيان في تفسير القرآن: 3|387، جامع البيان: 14|122، التفسير الكبير: 19|120، الكامل في التاريخ: 2|60.
(4) آل عمران 3: 28.