الصفحة 426

والجواب أن الايجاد لا يستلزم العلم، فإن الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع كالاحراق الصادر عن النار من غير علم فلا يلزم من نفي العلم نفي الايجاد، نعم الايجاد مع القصد يستلزم العلم لكن العلم الاجمالي كاف فيه وهو حاصل في الحركات الجزئية بين المبدأ والمنتهى.

قال: ومع الاجتماع يقع مراده تعالى.

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها أن العبد لو كان قادرا على الفعل لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور، فلو كان العبد قادرا على شئ لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه. وأما بطلان التالي فلأنه لو أراد الله تعالى إيجاده وأراد العبد إعدامه فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح.

والجواب أن نقول: يقع مراد الله تعالى لأن قدرته أقوى من قدرة العبد وهذا هو المرجح، وهذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به المتكلمون على الوحدانية وهناك يتمشى لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين، أما هنا فلا.

قال: والحدوث اعتباري.

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماء الأشاعرة وهي أن الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله وهو الحدوث، ونحن محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث.

(وتقرير الجواب) أن الفاعل لا يؤثر الحدوث لأنه أمر اعتباري ليس بزائد على الذات وإلا لزم التسلسل، وإنما يؤثر في الماهية وهي مغايرة له.

قال: وامتناع الجسم لغيره.


الصفحة 427
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنا لو كنا فاعلين في الإحداث لصح منا إحداث الجسم لوجود العلة المصححة للتعلق وهي الحدوث. والجواب أن الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتى يلزم تعميم الامتناع بل إنما امتنع صدوره عنا لأننا أجسام والجسم لا يؤثر في الجسم على ما مر.

قال: وتعذر المماثلة (1) في بعض الأفعال لتعذر الإحاطة.

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماؤهم وهي أنا لو كنا فاعلين لصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أولا من كل جهة لوجود القدرة والعلم، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان بطلان التالي أنا لا نقدر على أن نكتب في الزمان الثاني مثل ما كتبناه في الزمان الأول من كل وجه بل لا بد من تفاوت بينهما في وضع الحروف ومقاديرها.

(وتقرير الجواب) أن بعض الأفعال تصدر عنا في الزمان الثاني مثل ما صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات والأفعال، وبعضها يتعذر علينا فيه ذلك لا لأنه ممتنع ولكن لعدم الإحاطة الكلية بما فعلناه أولا، فإن مقادير الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها إلا على سبيل الاتفاق.

قال: ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله تعالى.

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان لكان بعض أفعال العبد خيرا من فعله تعالى، لأن الإيمان خير من القردة والخنازير، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله.

والجواب أن نسبة الخيرية هنا منتفية لأنكم إن عنيتم بأن الإيمان خير أنه أنفع فليس كذلك لأن الأيمان أنما هو فعل شاق مضر على البدن ليس فيه خير عاجل، وإن عنيتم به أنه خير لما فيه من استحقاق المدح والثواب به بخلاف القردة والخنازير فحينئذ لا يكون الإيمان خيرا بنفسه وإنما الخير هو ما يؤدي إليه

____________

(1) والحق أن الجواب الحاسم للشبهة هو التحقيق في تجدد الأمثال وعدم تكرار التجلي.


الصفحة 428
الإيمان من فعل الله تعالى بالعبد وهو المدح والثواب، وحينئذ يكون المدح والثواب خيرا وأنفع للعبد من القردة والخنازير لكن ذلك من فعله تعالى. (واعلم) أن هذه الشبهة ركيكة جدا، وإنما أوردها المصنف رحمه الله هنا لأن بعض الثنوية أورد هذه الشبهة على ضرار بن عمرو فأذعن لها والتزم بالجبر لأجلها.

قال: والشكر على مقدمات الإيمان.

أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان لما وجب علينا شكر الله تعالى عليه، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة فإنه لا يحسن منا شكر غيرنا على فعلنا.

والجواب أن الشكر ليس على فعل الإيمان بل على مقدماته من تعريفنا إياه (1) وتمكيننا منه وحضور أسبابه والأقدار على شرائطه.

قال: والسمع متأول ومعارض بمثله والترجيح معنا.

أقول: هذا جواب عن الشبه النقلية بطريق إجمالي، وتقريره أنهم قالوا: قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى: (الله خالق كل شئ) (والله خلقكم وما تعملون) (ختم الله على قلوبهم) (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا.

والجواب أن هذه الآيات متأولة، وقد ذكر العلماء تأويلاتها في كتبهم. وأيضا فهي معارضة بمثلها وقد صنفها (2) أصحابنا على عشرة أوجه:

أحدها: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) (إن يتبعون إلا الظن) (حتى يغيروا ما بأنفسهم) (بل سولت لكم أنفسكم) (فطوعت له نفسه) (ومن يعمل سوءا يجز به) (كل نفس بما كسبت رهينة) (كل امرئ بما كسب رهين) (ما كان لي عليكم من

____________

(1) كما في (ص). وفي (ش ز د): وتعريفنا إياه.

(2) النسخة الثانية: وقد وضعتها، والباقية: وقد صنفها.


الصفحة 429
سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) إلى آخرها.

الثاني: الآيات الدالة على مدح المؤمنين على الإيمان وذم الكفار على الكفر والوعد والوعيد كقوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) (اليوم تجزون بما كنتم تعملون) (وإبراهيم الذي وفى) (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (لتجزى كل نفس بما تسعى) (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (من أعرض عن ذكري) (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا) (إن الذين كفروا بعد إيمانهم).

الثالث: الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف والظلم كقوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الذي أحسن كل شئ خلقه) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم، (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (وما ربك بظلام للعبيد) (وما ظلمناهم) (لا ظلم اليوم) (ولا يظلمون فتيلا).

الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي والتوبيخ على ذلك كقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله) (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر) (ما منعك أن تسجد) (فما لهم عن التذكرة معرضين) (لم تلبسون الحق بالباطل) (لم تصدون عن سبيل الله).

الخامس: الآيات الدالة على التهديد والتخيير كقوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (اعملوا ما شئتم) (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (فمن شاء ذكره) (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم).

السادس: الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها كقوله تعالى:

(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (أجيبوا داعي الله) (استجيبوا لله وللرسول)

الصفحة 430
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) (وأنيبوا إلى ربكم).

السابع: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به وثبوت اللطف منه كقوله تعالى: (وإياك نستعين) (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (استعينوا بالله) (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) (ولو بسط الله الرزق لعباده) (فبما رحمة من الله لنت لهم) (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). الثامن: الآيات الدالة على استغفار الأنبياء (ربنا ظلمنا أنفسنا) (سبحانك إني كنت من الظالمين) (رب إني ظلمت نفسي) (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم).

التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم كقوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم - إلى قوله: - بل كنتم مجرمين) وقوله: (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) (كلما القي فيها فوج). العاشر: الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية وطلب الرجعة كقوله: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا منها) (رب ارجعون) (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم) (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة لما ذكروه (1) على أن الترجيح معنا، لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد والتخويف والانذار، وإنما طول المصنف رحمه الله في هذه المسألة لأنها من المهمات.

المسألة السابعة
في المتولد

قال: وحسن المدح والذم على المتولد يقتضي العلم بإضافته إلينا.

أقول: الأفعال تنقسم إلى المباشر والمتولد والمخترع، فالأول هو الحادث

____________

(1) وفي النسخة الثانية: بما ذكروه.


الصفحة 431
ابتداء بالقدرة في محلها. والثاني هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد ويسمونه المسبب ويسمون الأول سببا سواء كان الثاني حادثا في محل القدرة أو في غير محلها. والثالث ما يفعل لا لمحل فالأول مختص بنا والثالث مختص به تعالى والثاني مشترك.

واعلم أن الناس اختلفوا في المتولد هل يقع بنا (1) أم لا؟ فجمهور المعتزلة على أنه من فعلنا كالمباشر. وقال معمر: إنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما عداها من الحوادث فهي واقعة بطبع المحل، والانسان عنده جزء في القلب توجد فيه الإرادة وما عداها يضيفه إلى طبع المحل. وقال آخرون: لا فعل للعبد إلا الفكر وهم بعض المعتزلة. وقال أبو إسحاق النظام: إن فعل الانسان هي الحركات الحادثة فيه بحسب دواعيه والإنسان عنده هو شئ منساب (2) في الجملة، والإرادة والاعتقادات حركات القلب، وما يوجد منفصلا عن الجملة كالكتابة وغيرها فإنه من فعله تعالى بطبع المحل. وقال ثمامة: إن فعل الانسان هو ما يحدثه في محل قدرته فأما ما تعدى محل القدرة فهو حادث لا محدث له وفعل لا فاعل له. وقالت الأشعرية:

المتولد من فعله تعالى، والجماهير من المعتزلة التجأوا في هذا المقام إلى الضرورة فإنا نعلم استناد المتولدات إلينا كالكتابة والحركات وغيرهما من الصنائع، ويحسن منا مدح الفاعل وذمه كما في المباشر، والمصنف رحمه الله استدل بحسن المدح والذم على العلم بأنا فاعلون للمتولد لا عليه، لأن الضروريات لا يجوز الاستدلال عليها، نعم يجوز الاستدلال على كونها ضرورية إذا لم يكن هذا الحكم ضروريا، وجماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أنه كسبي واستدلوا بحسن المدح والذم عليه فلزمهم الدور لأن حسن المدح والذم مشروط بالعلم بالاستناد إلينا فلو جعلنا الاستناد إلينا مستفادا منه لزوم الدور.

____________

(1) وفي غير واحدة من النسخ: هل يقع منا.

(2) وفي (ص) وحدها: هو شئ سار.


الصفحة 432

قال: والوجوب باختيار السبب لاحق.

أقول: هذا جواب عن إشكال يورد هنا وهو أن يقال: إن المتولد لا يقع بقدرتنا لأن المقدور هو الذي يصح وجوده وعدمه عن القادر، وهذا المعنى منفي في المتولد لأن عند اختيار السبب يجب المسبب فلا يقع بالقدرة المصححة.

والجواب أن الوجوب في المسبب عند اختيار السبب وجوب لاحق كما أن الفعل يجب عند وجود القدرة والداعي وعند فرض وقوعه وجوبا لاحقا لا يؤثر في الإمكان الذاتي والقدرة فكذا هنا.

قال: والذم في إلقاء الصبي عليه لا على الاحراق.

أقول: هذا جواب عن شبهة لهم وهي أن المدح والذم لا يدلان على العلم باستناد المتولد إلينا، فإنا نذم على المتولد وإن علمنا استناده إلى غيرنا، فإنا نذم من ألقى الصبي في النار إذا احترق بها وإن كان المحرق هو الله تعالى.

والجواب أن الذم هنا على الالقاء لا على الاحراق، فإن الاحراق من الله تعالى عند الالقاء حسن لما يشتمل عليه من الأعواض لذلك الصبي ولما فيه من مراعاة العادات وعدم انتقاضها في غير زمان الأنبياء، ووجوب الدية حكم شرعي لا يجب تخصيصه بالفعل فإن الحافر للبئر يلزمه الدية وإن كان الوقوع غير مستند إليه.

المسألة الثامنة
في القضاء والقدر

قال: والقضاء والقدر (1) إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال أو الإلزام صح

____________

(1) القدر هو تفصيل قضائه. قال قدس سره في شرح الفصل الواحد والعشرين من سابع الإشارات:

إن القضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الابداع. والقدر عبارة عن وجودها في موادها الخارجية بعد حصول شرائطها مفصلة واحدا بعد واحد، كما جاء في التنزيل في قوله عز من قائل: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.

وقال الشيخ - رضوان الله عليه -: ويجب أن يكون عالما بكل شئ لأن كل شئ لازم له بوسط أو غير وسط يتأدى إليه بعينه قدره الذي هو تفصيل قضائه الأول تأديا واجبا إذ كان ما لا يجب لا يكون.


الصفحة 433

في الواجب خاصة أو الأعلام صح مطلقا وقد بينه أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأصبغ.

أقول: يطلق القضاء على الخلق والاتمام، قال الله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) أي خلقهن وأتمهن، وعلى الحكم والإيجاب كقوله تعالى:

(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أي أوجب وألزم، وعلى الإعلام والإخبار كقوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) أي أعلمناهم وأخبرناهم، ويطلق القدر على الخلق كقوله تعالى: (وقدر فيها أقواتها) والكتابة كقول الشاعر:


واعلم بأن ذا الجلال قد قدرفي الصحف الأولى التي كان سطر

والبيان كقوله تعالى: (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي بينا وأخبرنا بذلك.

إذا ظهر هذا فنقول للأشعري: ما تعني بقولك: إنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها، إن أردت به الخلق والإيجاد فقد بينا بطلانه وإن الأفعال مستندة إلينا، وإن عني به الإلزام لم يصح إلا في الواجب خاصة، وإن عني به أنه تعالى بينها وكتبها وأعلم أنهم سيفعلونها فهو صحيح، لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته، وهذا المعنى الأخير هو المتعين للاجماع على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا به من حيث إنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب لبطلان الكسب أولا، وثانيا فلأنا نقول: إن كان كون الكفر كسبا بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من حيث هو كسب وهو خلاف قولكم، وإن

الصفحة 434
لم يكن بقضاء وقدر بطل استناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر.

واعلم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (1) صلوات الله عليه وسلامه قد بين معنى القضاء والقدر وشرحهما شرحا وافيا في حديث الأصبغ بن نباتة لما انصرف من صفين فإنه قام إليه شيخ فقال له: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر، فقال له الشيخ: عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا، فقال له: مه أيها الشيخ بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: كيف والقضاء والقدر ساقانا، فقال: ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، أن الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما، فقال: هو الأمر من الله تعالى والحكم وتلا قوله تعالى:

____________

(1) راجع في بيان الحديث الوافي للفيض - قدس الله سره - فإنه قد أتى ببيان من المحقق الخواجة في بيانه وفوائد أخرى مطلوبة جدا (ص 117 ج 1 ط 1). وفيه كان المصراع الأخير هكذا: جزاك ربك بالاحسان إحسانا. وفي نسخة: جزاك ربك عنا منه إحسانا. وللشيخ الكراجكي رضي الله عنه في كنز الفوائد في القضاء والقدر لطائف عذبة (ص 168 ط 1) وإن شئت فراجع الاحتجاج للطبرسي - رضوان الله عليه - (ص 109 ط 1). وفي باب الرضا بالقضاء من الوافي أيضا إشارات لطيفة في ذلك (ص 55 ج 3 ط 1).


الصفحة 435
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول:


أنت الأمام الذي نرجو بطاعتهيوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساجزاك ربك عنا فيه إحسانا

قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي: وجه تشبيهه عليه السلام المجبرة بالمجوس من وجوه: أحدها: أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة البطلان وكذلك المجبرة.

وثانيها: أن مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفى منه وكذلك المجبرة قالوا: إنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منها.

وثالثها: أن المجوس قالوا: إن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره وإرادته، ووافقهم المجبرة حيث قالوا: إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته.

ورابعها: أن المجوس قالوا: إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، والمجبرة قالوا: إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه، فالانسان القادر على الخير لا يقدر على ضده وبالعكس.

المسألة التاسعة
في الهدى والضلالة

قال: والإضلال الإشارة (1) إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والاهلاك والهدى مقابل والأولان منفيان عنه تعالى.

أقول: يطلق الإضلال على الإشارة إلى خلاف الحق وإلباس الحق بالباطل كما تقول: أضلني فلان عن الطريق، إذا أشار إلى غيره وأوهم أنه هو الطريق، ويطلق على فعل الضلالة في الانسان كفعل الجهل فيه حتى يكون معتقدا خلاف

____________

(1) إسناد الإضلال إليه سبحانه بالعرض، وقد قررنا بيانه في النكتة السابعة من ألف نكتة ونكتة.


الصفحة 436
الحق. ويطلق على الاهلاك والبطلان كما قال تعالى: (فلن يضل أعمالهم) يعني يبطلها. والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني فيقال بمعنى نصب الدلالة على الحق كما تقول: هداني إلى الطريق، وبمعنى فعل الهدى في الانسان حتى يعتقد الشئ على ما هو به، وبمعنى الإثابة كقوله تعالى: (سيهديهم) يعني سيثيبهم، والأولان منفيان عنه تعالى يعني الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة، لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح، وأما الهداية فالله تعالى نصب الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية في العقلاء ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه كلفهم به ويثيب على الإيمان، فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف به، وإذا قيل: إنه تعالى يهدي ويضل فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى أنه يثيبهم ويضل العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم، وقول موسى عليه السلام: إن هي إلا فتنتك فالمراد بالفتنة الشدة والتكليف الصعب، يضل بها من يشاء أي يهلك من يشاء وهم الكفار.

المسألة العاشرة
في أنه تعالى لا يعذب الأطفال

قال: وتعذيب غير المكلف قبيح وكلام نوح عليه السلام مجاز والخدمة ليست عقوبة له والتبعية في بعض الأحكام جائزة.

أقول: ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين ويلزم الأشاعرة تجويزه والعدلية كافة على منعه، والدليل عليه أنه قبيح عقلا فلا يصدر منه تعالى.

احتجوا بوجوه: الأول: قول نوح عليه السلام: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) والجواب: أنه مجاز والتقدير أنهم يصيرون كذلك لا حال طفوليتهم. الثاني: قالوا: إنا نستخدمه لأجل كفر أبيه فقد فعلنا فيه ألما وعقوبة فلا يكون

الصفحة 437
قبيحا. والجواب أن الخدمة ليست عقوبة للطفل وليس كل ألم ومشقة عقوبة، فإن الفصد والحجامة ألمان وليسا عقوبة، نعم استخدامه عقوبة لأبيه وامتحان له يعوض عليه كما يعوض على أمراضه.

الثالث: قالوا: إن حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن ومنع التوارث والصلاة عليه ومنع التزويج. والجواب أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه وليس بمنكر أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة ولا ألم له في منعه من الدفن والتوارث وترك الصلاة عليه.

المسألة الحادية عشرة
في حسن التكليف وبيان ماهيته ووجه حسنه وجملة من أحكامه

قال: والتكليف حسن (1) لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه.

أقول: التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة، وحده إرادة من تجب طاعته

____________

(1) التكليف يتعلق في العبادة الصفاتية لا الذاتية، وفي مصباح الأنس في المقام فوائد نفيسة، منها قوله: لا تكليف في العبادة الذاتية وليست من نتائج الأمر إنما متعلقه الصفاتية رأفة من الله واحتياطا من ميله بجاذب إحدى صفاته من الاعتدال الموقوف عليه الاستكمال إذ القلوب وإن كانت مفطورة على معرفته والعبادة له واللجأ إليه فإن الشواغل والغفلات التي هي من خواص هذه النشأة تشغله عن ذكر ما يجب استحضاره فاحتاج إلى التذكير لا جرم أمره بها وإليه الإشارة بقوله عليه وآله السلام: كل مولود يولد على الفطرة، الحديث (ص 149 ط 1).

ثم إن كلامه والتكليف حسن، رد على أصحاب المعارف يشابه قولهم قول البراهمة الآتي رد عقيدتهم في البحث عن حسن البعثة. قال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير قوله سبحانه:

(ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) (البقرة 103) وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه نفى ذلك العلم عنهم.

وفي نسخة مخطوطة مصححة من المجمع عندنا فسر أصحاب المعارف في هامشها هكذا:

الظاهر أن المراد بأصحاب المعارف الذين يقولون لا حاجة بنا إلى بعثة الأنبياء لأن عقولنا مستقلة بما يحتاج إليه في المعاش والمعاد.


الصفحة 438
على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام ويدخل تحت واجب الطاعة الواجب تعالى والنبي عليه السلام والإمام والسيد والوالد والمنعم ويخرج البواقي.

وشرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء أنما تكون تكليفا إذا لم يسبقه غيره إلى إرادة ما أراده، ولهذا لا يسمى الوالد مكلفا بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة الله تعالى لها منه.

والمشقة لا بد من اعتبارها ليتحقق المحدود، إذ التكليف مأخوذ من الكلفة.

وشرطنا الإعلام لأن المكلف إذا لم يعلم إرادة المكلف بالفعل لم يكن مكلفا.

إذا عرفت هذا فنقول: التكليف حسن لأن الله تعالى فعله والله تعالى لا يفعل القبيح، ووجه حسنه اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه وهي التعريض لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف، لأن التكليف إن لم يكن لغرض كان عبثا وهو محال، وإن كان لغرض فإن كان عائدا إليه تعالى لزم المحال، وإن كان إلى غيره فإن كان إلى غير المكلف كان قبيحا، وإن كان إلى المكلف فإن كان حصوله ممكنا بدون التكليف لزم العبث، وإن لم يمكن فإن كان لنفع انتقض بتكليف من علم الله كفره وإن كان للتعريض فهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنقول: الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة لأنه تعريض للثواب، وللثواب منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم والمدح، ولا شك أن التعظيم أنما يحسن للمستحق له، ولهذا يقبح منا تعظيم الأطفال والأرذال كتعظيم العلماء، وإنما يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة وهي الطاعات، ومعنى قولنا: إن التكليف تعريض للثواب، أن المكلف جعل المكلف على الصفات التي تمكنه الوصول إلى الثواب وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه سيوصله إليه إذا فعل ما كلفه.

قال: بخلاف الجرح ثم التداوي، والمعاوضات والشكر باطل.

أقول: هذه إيرادات على ما اختاره المصنف: الأول: أن التكليف للنفع يتنزل

الصفحة 439
منزلة من جرح غيره ثم داراه طلبا للدواء (1) وكما أن ذلك قبيح فكذا التكليف.

الثاني: أن التكليف طلبا للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع والإجارات وغيرها، ولا شك أن المعاوضات تفتقر إلى رضا المتعاوضين حتى أن من عاوض بغير إذن صاحبه فعل قبيحا والتكليف عندكم لا يشترط فيه رضا المكلف.

الثالث: لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا للنعم السابقة؟

والجواب عن الأول بالفرق من وجهين: أحدهما: أن الجرح مضرة والتكليف نفسه ليس بمضرة وإنما المشقة في الأفعال التي يتناولها التكليف. الثاني: أن الجرح والتداوي إنزال مضرة لا غرض فيه إلا التخلص من تلك المضرة بخلاف التكليف.

وعن الثاني أن المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في التعامل جنسا ووصفا، أما إذا لم يكن هناك معاوضة وبلغ النفع حدا يكون غاية ما يطلبه العقلاء لم يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتى أن العقلاء يسفهون الممتنع منه.

وعن الثالث أن الشكر لا يشترط فيه المشقة، والله تعالى قادر على إزالة صفة المشقة عن هذه الأفعال، فلو كان التكليف شكرا لزم العبث في صفة المشقة ولأن طلب الفعل الشاق شكرا يخرج النعمة عن كونها نعمة.

قال: ولأن النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنة النافع استعمالها في الرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية، وتذكر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل مع زيادة الأجر والثواب.

أقول: لما ذكر المصنف رحمه الله حسن التكليف على رأي المتكلمين شرع في طريق الاسلاميين من الفلاسفة فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف، ثم ذكر منافعه الدنيوية والأخروية، وتحقيقه أن نقول: إن الله خلق الانسان مدنيا بالطبع (2) لا

____________

(1) كما في النسخة الثالثة وهي الصحيحة، والباقية كلها داواه بالواو وهي عليلة.

(2) ناظر إلى كلمات الشيخ في الفصل الرابع من النمط التاسع من الإشارات في إثبات النبوة حيث قال: إشارة لما لم يكن الانسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه.. الخ، بل الشيخ ناظر في هذا الفصل إلى كلام الشيخ اليوناني زينون الكبير تلميذ ارسطا طاليس في الفصل الرابع من رسالته في المبدأ والمعاد وقد حررها المعلم الثاني أبو نصر الفارابي أتم تحرير وقد طبعت مع عدة رسائل أخرى للفارابي في حيدرآباد الدكن. قال زينون: النبي يضع السنن والشرائع ويأخذ الأمة بالترغيب والترهيب يعرفهم أن لهم إلها مجازيا لهم على أفعالهم، يثيب الخير ويعاقب على الشر ولا يكلفهم بعلم ما لا يحتملونه فإن هذه الرتبة التي هي رتبة العلم أعلى من أن يصل إليها كل أحد. قال معلمي أرسطا طاليس حكاية عن معلمه أفلاطن:

إن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر وسرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر.


الصفحة 440
كغيره من الحيوانات، لا يمكن أن تبقى أشخاصه ولا تحصل لهم كمالاتهم إلا بالتعاضد والتعاون، لأن الأغذية والملبوسات أمور صناعية يحتاج كل منهم إلى صاحبه في عمل يستعيضه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه واجتماعهم مع تباين شهواتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم مظنة التنازع والفساد ووقوع الفتن، فوجب وضع قانون وسنة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم، ثم تلك السنة لو استند وضعها إليهم لزم المحذور فوجب استنادها إلى شخص متميز عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له، وذلك أنما يكون بمعجزات تدل على أنها من عند الله تعالى، ثم من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير والشر والرذائل والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم، فوجب أن يكون هذا الشارع مؤيدا لا يعجز عن أحكام شريعته في جمهور الناس، بعضهم بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال، ولما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن تبقى السنن المشروعة إلى وقت اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها، ففرضت عليهم العبادات المذكرة لصاحب الشرع وكررت عليهم حتى يستحكم التذكير بالتكرير، فيحصل لهم من تلقي الأوامر والنواهي الإلهية منافع ثلاث: إحداها: رياضة النفس باعتبار الإمساك عن الشهوات ومنعها

الصفحة 441
عن القوة الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية. الثانية: تعويد النفس النظر في الأمور الإلهية والمطالب العالية وأحوال المعاد والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان الموجودات عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية بالبراهين القطعية الخالية عن المغالطة.

والثالثة: تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد، ثم زاد الله تعالى لمستعملي الشرائع الأجر والثواب في الآخرة فهذه مصالح التكليف عند الأوائل.

قال: وواجب لزجره عن القبائح.

أقول: هذا مذهب المعتزلة وأنكرت الأشاعرة ذلك، والدليل على وجوب التكليف أنه لو لم يكلف الله تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان مغريا بالقبيح، والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الله تعالى إذا أكمل عقل الانسان وجعل فيه ميلا إلى القبيح وشهوة له ونفورا عن الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب وقبح القبيح والمؤاخذة على الاخلال بالواجب وفعل القبيح لكان وقوع القبيح من المكلف دائما، وإلى هذا أشار بقوله: لزجره عن القبائح، أي لزجر التكليف عن القبائح.

قال: وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدمه وإمكان متعلقه وثبوت صفة زائدة على حسنه وعلم المكلف بصفات الفعل وقدر المستحق وقدرته عليه وامتناع القبيح عليه وقدرة المكلف على الفعل وعلمه به أو إمكانه وإمكان الآلة.

أقول: لما ذكر أن التكليف حسن شرع في بيان ما يشترط في حسن التكليف، وقد ذكر أمورا لا يحسن التكليف بدونها منها ما يرجع إلى نفس التكليف، ومنها ما يرجع إلى متعلق التكليف أعني الفعل والمكلف والمكلف.

أما ما يرجع إلى التكليف فأمران: أحدهما: انتفاء المفسدة فيه بأن لا يكون مفسدة لنفس المكلف به في فعل آخر داخل في تكليفه أو مفسدة لمكلف آخر.


الصفحة 442
والثاني: أن يكون متقدما على الفعل قدرا يتمكن المكلف فيه من الاستدلال به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه.

وأما ما يرجع إلى الفعل فأمران: أحدهما: إمكان وجوده. والثاني: كون الفعل قد اشتمل على صفة زائدة على حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا، وإن كان التكليف ترك فعل فإما أن يكون الفعل قبيحا أو يكون الإخلال به أولى من فعله.

وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون عالما بصفات الفعل لئلا يكلف إيجاد القبيح وترك الواجب، وأن يكون عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلا يخل ببعضه، وأن يكون القبيح ممتنعا عليه لئلا يخل بالواجب فلا يوصل الثواب إلى مستحقه.

وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون قادرا على الفعل وأن يكون عالما به أو متمكنا من العلم به وإمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة.

قال: ومتعلقه إما علم إما عقلي أو سمعي وإما ظن وإما عمل.

أقول: متعلق التكليف قد يكون علما وقد يكون عملا، أما العلم فقد يكون عقليا محضا نحو العلم بوجود الله تعالى وكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من المسائل التي (1) يتوقف السمع عليها، وقد يكون سمعيا نحو التكاليف السمعية.

وأما الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة وغيرها. وأما العمل فقد يكون عقليا كرد الوديعة وشكر المنعم وبر الوالدين وقبح الظلم والكذب وحسن التفضل والعفو، وقد يكون سمعيا كالصلاة وغيرها، وهذه الأفعال تنقسم إلى الواجب والمندوب والحرام والمكروه.

قال: وهو منقطع للاجماع ولإيصال الثواب.

أقول: يريد أن التكليف منقطع، ويدل عليه الاجماع والمعقول، أما الاجماع فظاهر إذ الاتفاق بين المسلمين وغيرهم واقع على أن التكليف منقطع، وأما

____________

(1) وفي عدة نسخ: إلى غير ذلك من الصفات التي.