قال: ومعجزاته عليه السلام قبل النبوة تعطي الإرهاص.
أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة على سبيل الارهاص إلا جماعة منهم وجوزه الباقون، واستدل المصنف رحمه الله على تجويزه بوقوع معجزات الرسول صلى الله عليه وآله قبل النبوة كما نقل من انشقاق إيوان كسرى، وغور ماء بحيرة ساوا (1)، وانطفاء نار فارس وقصة أصحاب الفيل والغمام الذي كان يظله عن الشمس وتسليم الأحجار عليه، وغير ذلك مما ثبت له عليه السلام قبل النبوة.
قال: وقصة مسيلمة وفرعون إبراهيم تعطي جواز إظهار المعجزة على العكس.
أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة على يد الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم، واستدل المصنف رحمه الله بالوقوع على الجواز كما نقل عن مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا لأعور فرد الله عينه الذاهبة، فدعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة. وكما نقل أن إبراهيم عليه السلام لما جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما قال نمرود عند ذلك (2): إنما صارت كذلك هيبة مني فجاءته نار في تلك الحال فأحرقت لحيته.
لا يقال: يكفي في التكذيب ترك المعجز عقيب دعواهم فيبقى إظهار المعجز على العكس خرقا للعادة من غير فائدة فيكون عبثا، لأنا نقول: قد يتضمن
____________
(1) البحيرة تصغير البحر يعني بها درياچه ساوة، وهي معروفة في زماننا ببحيرة قم.
(2) كما في النسخ كلها إلا (ق) ففيها: قال عمه عند ذلك. ولكن كلام الخواجة حيث قال:
وفرعون إبراهيم، يعطي الأول. نعم جاءت العبارة في (ق ت) بالواو بعد فرعون، أي:
وفرعون وإبراهيم. فعلى هذا الوجه يمكن أن يقال: وقصة عم إبراهيم، فكان فرعون هو فرعون موسى كما يقال في قصة فرعون موسى إنه قال انفلق البحر هيبة مني فأدركه الغرق.
ولكن الصواب هو الإضافة أي: فرعون إبراهيم، كما في (م ص د ش ز) على أن الشارح لم يشر إلى فرعون موسى أصلا.
المسألة السادسة
في وجوب البعثة في كل وقت
قال: ودليل الوجوب يعطي العمومية.
أقول: اختلف الناس هنا، فقال جماعة من المعتزلة: إن البعثة لا تجب في كل وقت بل في حال دون حال وهو ما إذا كانت المصلحة في البعثة. وقال علماء الإمامية: إنه تجب البعثة في كل وقت بحيث لا يجوز خلو زمان من شرع نبي.
وقالت الأشاعرة: لا تجب البعثة في كل وقت لأنهم ينكرون الحسن والقبح العقليين، وقد مضى البحث معهم. واستدل المصنف رحمه الله على وجوب البعثة في كل وقت بأن دليل الوجوب يعطي العمومية، أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في كل وقت لأن في بعثته زجرا عن القبائح وحثا على الطاعة فتكون لطفا، ولأن فيه تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج، وكل ذلك من المصالح الواجبة التي لا تتم إلا بالبعثة فتكون واجبة في كل وقت.
قال: ولا تجب الشريعة.
أقول: اختلف الشيخان هنا، فقال أبو علي: تجوز بعثة نبي لتأكيد ما في العقول ولا يجب أن تكون له شريعة. وقال أبو هاشم وأصحابه: لا يجوز أن يبعث إلا بشريعة لأن العقل كاف في العلم بالعقليات فالبعثة تكون عبثا. والجواب يجوز أن تكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة بأن يكون العلم بنبوته ودعائه إياهم إلى ما في العقول مصلحة لهم فلا تكون البعثة عبثا ويجب عليهم النظر في
المسألة السابعة
في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله
قال: وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله يدل على نبوته، والتحدي (2) مع الامتناع وتوفر الدواعي يدل على الإعجاز، والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده.
أقول: لما فرغ من البحث في النبوة مطلقا شرع في إثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام، والدليل عليه أنه ظهرت المعجزة على يده وادعى النبوة فيكون صادقا، أما ظهور المعجزة على يده فلوجهين: الأول: أن القرآن معجز (3) وقد ظهر
____________
(1) كما في (ص). والباقية: النظر في معجزتهم.
(2) قال الجوهري في الصحاح: تحديت فلانا إذا ماريته في فعل ونازعته الغلبة.
(3) لا يخفى عليك أن معجزات السفراء الإلهية على قسمين: قولي وفعلي، والقولي أقوى الحجتين على حجيتهم، وقد استوفينا البحث عن ذلك في رسالتنا نهج الولاية (ص 195 - 202 ط 1 من 11 رسالة فارسي)، فإن شئت فراجعه.
ثم إن من معجزاته الفعلية الباقية إلى الآن قبلة المدينة الطيبة زادها الله تعالى شرفا بيان ذلك يطلب في الدرس السادس والخمسين من كتابنا دروس معرفة الوقت والقبلة (ص 365 - 384 ط 1).
ثم إن معجزته الفعلية الأخرى هي بناء جدار مسجده كان يعلم المسلمون من ظله وقت زوال كل يوم في غاية الاستواء والتعديل على أساس رصين علمي بني بنور الله صار دليلا لمهرة الفنون الرياضية على استنباط الشكلين الظلي والمغني منه، كما أن نفس بناء الجدار على ذلك الوجه صار دليلا للمراصد الكبار لاستعلام الظهر الحقيقي معتقدين بأنه أوثق الطرق وأحسنها وأتقنها لذلك والبحث على الاستقصاء عن ذلك يطلب أيضا من الدرس الثاني والسبعين من كتابنا المذكور. وقد حررناه بالفارسية في رسالتنا (قرآن وإنسان) وفي النكتة المائة من ألف نكتة ونكتة.
الثاني: أنه نقل عنه معجزات كثيرة كنبوع الماء (3) من بين أصابعه صلى الله عليه وآله حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزاة تبوك.
وكعود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية وتنشف البئر فدفع سهمه إلى البراء بن عازب فأمره بالنزول وغرزه في البئر فغرزه فكثر الماء في الحال حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق.
ونقل عنه عليه السلام في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف فتفل فيها حتى انفجر الماء الزلال منها فبلغ أهل اليمامة ذلك فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك فتفل فيها فذهب الماء أجمع.
ولما نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين قال لعلي عليه السلام: شق فخذ شاة وجئني بعس من لبن وادع لي من بني أبيك بني هاشم، ففعل علي عليه السلام ذلك ودعاهم وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتى شبعوا ما يري فيه إلا أثر أصابعهم وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله، فلما أراد أن يدعوهم إلى الاسلام قال أبو لهب: كاد أن يسحركم محمد، فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى، فقال
____________
(1) كأنه تحدى أولا بمثل القرآن، ثم خفف فتحدى بعشر سور، ثم خفف فتحدى بسورة من مثله ولو كانت مثل الكوثر.
(2) بالإضافة باتفاق النسخ كلها، أي مع سلامته صلى الله عليه وسلم من القتل.
(3) وفي (م): كنبع الماء. والنبوع والنبع بمعنى. وما في المطبوعة من قوله: (كينبوع الماء) فهو محرف كنبوع الماء.
وذبح له جابر بن عبد الله عناقا يوم الخندق وخبز له صاع شعير ثم دعاه عليه السلام فقال أنا وأصحابي، فقال: نعم، ثم جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك فقالت له: أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال: لا بل هو لما قال أنا وأصحابي قلت نعم، فقالت: هو أعرف بما قال، فلما جاء عليه السلام قال: ما عندكم، قال جابر: ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه فقال له عليه السلام: أقعد أصحابي عشرة عشرة، ففعل فأكلوا كلهم.
وسبح الحصى في يده عليه السلام وشهد الذئب له بالرسالة: فإن أهبان بن أوس (2) كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه فقال له الذئب: أتعجب من أخذي شاة، هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه، فجاء إلى النبي وأسلم وكان يدعي مكلم الذئب.
وتفل في عين علي عليه السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا، ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد، فكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا. وانشق له القمر. ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخد الأرض من غير جاذب ولا دافع ثم رجعت إلى مكانها. وكان يخطب عند الجذع فاتخذ له منبرا فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن.
وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة كما أخبر بقتل الحسين عليه السلام وموضع الفتك به فقتل في ذلك الموضع. وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس فقتل بعده عليه السلام.
وأخبر أصحابه بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما. وأخبرهم
____________
(1) باتفاق النسخ كلها.
(2) أهبان بضم الأول كعثمان صحابي. في الخصائص الكبرى للسيوطي: أهبان بن أوس (ج 2 مصر ص 268 و ط حيدرآباد الدكن ج 2 ص 61) وفي أسد الغابة: ج 1 ص 161 ط مصر.
وأخبر عليا عليه السلام بخبر ذي الثدية وسيأتي. ودعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا عليه السلام والنجم فقال عتبة: كفرت برب النجم، بتسليط كلب الله عليه فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد فارتعدت فرائصه فقال له أصحابه: من أي شئ ترتعد، فقال: إن محمدا دعا علي فوالله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمد فأحاط القوم بأنفسهم (2) ومتاعهم عليه فجاء الأسد فلحس (3) رؤوسهم واحدا واحدا حتى إنتهى إليه فضغمه ضغمة ففزع منه ومات. وأخبر بموت النجاشي (4) وقتل زيد ابن حارثة بموته فأخبر عليه السلام بقتله في المدينة، وأن جعفرا أخذ الراية ثم قال: قتل جعفر، ثم توقف وقفة ثم قال: وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم قال: وقتل عبد الله ابن رواحة، وقام عليه السلام إلى بيت جعفر واستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله ثم ظهر الأمر كما أخبر عليه السلام. وقال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية ولاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه واحتال على العوام، فقال: قتله من جاء به، فعارضه ابن عباس وقال: لم يقتل الكفار إذن حمزة وإنما قتله رسول الله لأنه هو الذي جاء به إليهم حتى قتلوه. وقال لعلي عليه السلام:
ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين، فالناكثون طلحة وزبير لأنهما بايعاه ونكثا، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية وأصحابه لأنهم ظلمة بغاة،
____________
(1) بالعين المهملة والنون الساكنة، الأسود العنسي في الخصائص الكبرى ج 2 ص 116 ط مصر. والعنسي من الأنساب للسمعاني.
(2) في الخصائص الكبرى للسيوطي فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم (ج 1 ط مصر ص 369). والكلب هو الحيوان المفترس فيشمل الأسد والذئب ونحوها.
(3) كما في (م) والنسخ الأخرى: يهمش مكان فلحس.
(4) ثم جمع المسلمين في البقيع فصلى على جنازة النجاشي عن بعد، وقد كان النجاشي قد آوى المسلمين في الحبشة وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
قال: وإعجاز القرآن قيل لفصاحته، وقيل لأسلوبه وفصاحته، وقيل للصرفة (1). والكل محتمل.
____________
(1) قال في نقد المحصل: إعجاز القرآن على قول قدماء المتكلمين وبعض المحدثين في فصاحته. وعلى قول بعض المتأخرين في صرف عقول الفصحاء القادرين على المعارضة عن إيراد المعارضة. قالوا: كل أهل صناعة اختلفوا في تجويد تلك الصناعة فلا محالة يكون فيهم واحد لا يبلغ غيره شأوه، وعجز الباقون عن معارضته ولا يكون ذلك معجزا له لأن ذلك لا يكون خرقا للعادة لكن صرف عقول أقرانه القادرين على معارضته عن معارضته يكون خرقا للعادة فذلك هو المعجز. والاستدلال بالأخلاق والأفعال أيضا قوي وهو معنى قوله تعالى: ويتلوه شاهد منه فإن ذلك يشهد على صدقه في دعواه وهو صادر منه، إنتهى كلامه.
وقال ياقوت في معجم الأدباء: قرأت بخط عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي في كتاب له ألفه في الصرفة زعم فيه أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وأن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله إلا أنهم صرفوا عن ذلك لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة، وهو مذهب لجماعة من المتكلمين والرافضة منهم بشر المريسي والمرتضى أبو القاسم قال في تضاعيفه: وقد حمل جماعة من الأدباء قول أصحاب هذا الرأي على أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدي على أن ينظموا على أسلوب القرآن وأظهر ذلك قوم وأخفاه آخرون، إنتهى.
فزعم أصحاب الصرفة أن الله تعالى صرف القوى البشرية عن المعارضة ولذلك عجزوا ولولا صرفه تعالى لهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله.
والحق أن القرآن معجز في بلاغته وأسلوبه وكماله اللفظي والمعنوي في جميع جهاته وليس إعجازه منحصرا في البلاغة والأديب ينظر إليه من حيث صناعته، فيقول من هذه الجهة معجز، وكل ذي فن في الفنون يخبر عنه بحسب فنه ويظهر العجز عن الاتيان بمثله كذلك.
وعلى القول بالصرفة أيضا إعجازه تام بل يمكن التفوه بالأولوية وذلك لأنهم عاجزون عن إتيان ما هو كان مقدورا لهم فبصرفه سبحانه إياهم عجزوا عن ذلك فكل من اهتم عن الإتيان بمثله يصرفه الله تعالى عن ذلك.
ثم لما كان الشريف المرتضى من أعاظم الإمامية قائلا بالصرفة أسندوا القول بالصرفة إليهم وإلا لم يذهب الإمامية - أنار الله برهانهم - على الإطلاق إلى الصرفة.
ثم لما كان الشريف المرتضى من أعاظم الإمامية قائلا بالصرفة أسندوا القول بالصرفة إليهم وإلا لم يذهب الإمامية - أنار الله برهانهم - على الإطلاق إلى الصرفة.
وقال الجويني: هو الفصاحة والأسلوب معا (1)، وعنى بالأسلوب الفن والضرب.
وقال النظام والمرتضى: هو الصرفة، بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة. واحتج الأولون بأن المنقول عن العرب أنهم كانوا يستعظمون فصاحته، ولهذا أراد النابغة الاسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته فرده أبو جهل وقال له: يحرم عليك الأطيبين (2)، وأخبر الله تعالى عنهما بذلك بقوله: (انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر) إلى آخر الآية، ولأن الصرفة لو كانت (3) سببا في إعجازه لوجب أن يكون في غاية الركاكة، لأن الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز، والتالي باطل بالضرورة. واحتج السيد المرتضى بأن العرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب، وإنما منعوا عن الإتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه، وكل هذه الأقسام محتملة.
قال: والنسخ تابع للمصالح.
أقول: هذا إشارة إلى الرد على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسى عليه السلام، قالوا: لأن النسخ باطل، إذ المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهي عنه وإن كان مفسدة قبح الأمر به، وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسى عليه السلام. وتقرير الجواب أن نقول: الأحكام منوطة بالمصالح والمصالح تتغير بتغير الأوقات وتختلف باختلاف المكلفين فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به،
____________
(1) هكذا نقلت العبارة بإطباق جميع النسخ التي عندنا. وما في المطبوعة: وقال أهل الحق هو الفصاحة والأسلوب معا، يعد من تحريفات الكتاب.
(2) كما في (م ص) والنسخ الأخرى: فصده. وفي صحاح الجوهري: الأطيبان الأكل والجماع.
(3) هكذا كانت العبارة في جميع النسخ وسياق العبارة يقتضي أن يقال: وبأن الصرفة لو كانت بالباء الجارة لا اللام، أي واحتج الأولون بأن المنقول عن العرب.. وبأن الصرفة لو كانت..
قال: وقد وقع حيث حرم على نوح بعض ما أحل لمن تقدمه وأوجب الختان بعد تأخيره وحرم الجمع بين الأختين وغير ذلك من الأحكام (1).
أقول: هذا تأكيد لأبطال قول اليهود المانعين من النسخ فإنه بين أولا جواز وقوعه، وهاهنا بين وقوعه في شرعهم وذلك في مواضع منها: أنه جاء في التوراة أن الله تعالى قال لآدم وحواء عليهما السلام: قد أبحت لكما كل ما دب على وجه الأرض فكانت له نفس حية، وورد فيها أنه قال لنوح عليه السلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا فحرم على نوح عليه السلام بعض ما أباحه لآدم عليه السلام. ومنها:
أنه أباح نوحا عليه السلام تأخير الختان (2) إلى وقت الكبر وحرمه على غيره من الأنبياء، وأباح إبراهيم عليه السلام تأخير ختان ولده إسماعيل عليه السلام إلى حال كبره وحرم على موسى عليه السلام تأخير الختان عن سبعة أيام. ومنها: أنه أباح آدم عليه السلام الجمع بين الأختين وحرمه على موسى عليه السلام.
قال: وخبرهم عن موسى عليه السلام بالتأبيد مختلق (3) ومع تسليمه لا يدل على المراد قطعا.
أقول: إن جماعة اليهود جوزوا وقوع النسخ عقلا ومنعوا من نسخ شريعة موسى عليه السلام وتمسكوا بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: تمسكوا بالسبت أبدا، والتأبيد يدل على الدوام ودوام الشرع بالسبت ينفي القول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، والجواب من وجوه: الأول: أن هذا الحديث مختلق ونسب إلى ابن الراوندي (4).
____________
(1) هكذا نقلت العبارة باتفاق جميع النسخ.
(2) باتفاق النسخ كلها.
(3) كما في (م، ص، ق، ز) وفي (ت): مختل. وفي (د، ش) مختلف. والشرح يوافق الأول.
(4) في جميع النسخ المعتبرة عندنا ابن الروندي، بلا الف. ولكن الصحيح مع الألف، ولعل رسم الخط كان بدونه نحو إسماعيل وإسحق. وابن الراوندي هو أحمد بن يحيى المروزي معروف مذكور في التراجم والفهارس. ففي تاريخ ابن خلكان: أبو الحسين أحمد بن يحيى ابن إسحاق الراوندي العالم المشهور له مقام في علم الكلام وكان من الفضلاء في عصره وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشر كتابا - إلى قوله: ونسبته إلى راوند بفتح الراء والواو وبينهما ألف وسكون النون وبعدها دال مهملة وهي قرية من قرى قاسان بنواحي أصفهان، وراوند أيضا ناحية ظاهر نيسابور - توفي سنة خمس وأربعين ومائتين (ج 1 ط 1 ص 28).
قال: والسمع دل على عموم نبوته صلى الله عليه وآله.
أقول: ذهب قوم من النصارى إلى أن محمدا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى العرب خاصة، والسمع يكذب قولهم هذا قال الله تعالى: (لأنذركم ومن بلغ) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وسورة الجن (1) تدل على بعثه عليه السلام إليهم، وقال عليه السلام:
(بعثت إلى الأسود والأحمر). لا يقال: كيف يصح إرساله إلى من لا يفهم خطابه وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)؟ لأنا نقول: لا استبعاد
____________
(1) بل وسور أخرى أيضا والبحث عن ذلك يطلب في المجلد الثالث من كتابنا تكملة منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (ص 286 - 295). والجن من ذوي العقول ولهم استنباط عقلي في الأمور كما ترى أنهم قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به. والآية في سورة الجن. والفاء في فآمنا به للنتيجة أي القرآن يهدي إلى الرشد وما يهدي إلى الرشد يجب أن يؤمن به فآمنا به. على أن وصفهم القرآن بالعجب والهداية إلى الرشد فرع التمييز العقلاني، ولكنهم في القوة العاقلة دون الانسان والانسان الكامل الإلهي في كل عصر وزمان إما خائفا مغمورا أو ظاهرا مشهورا، فكما هو إمام الإنس وهو إمام الجن أيضا بل هو قطب عالم الإمكان مطلقا كبقية الله وتتمة النبوة مولانا المنتظر القائم في هذا العصر المحمدي.
وجوز قاضي القضاة في يأجوج ومأجوج احتمالين: أحدهما: أن لا يكونوا مكلفين أصلا وإن كانوا مفسدين في الأرض كالبهائم المفسدة في الأرض.
والثاني: أن يكونوا مكلفين وقد بلغتهم دعوته عليه السلام بأن يقربوا من الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد. وجوز بعض الناس أن يكون في بعض البقاع من لم تبلغه دعوته عليه السلام فلا يكون مكلفا بشريعته.
وعندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقا سواء بلغتهم بعد ذلك الدعوة أم لا فهو باطل قطعا لما بينا من عموم نبوته عليه السلام، وإن كان المراد أنهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة صاروا مكلفين بها فهو حق.
قال: وهو أفضل من الملائكة (1) وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام لوجود المضاد للقوة العقلية وقهره على الانقياد عليها.
أقول: اختلف الناس هنا، فذهب أكثر المسلمين إلى أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذهب آخرون منهم وجماعة الأوائل إلى أن الملائكة أفضل، واستدل الأولون بوجوه ذكر المصنف رحمه الله منها وجها للاكتفاء به وهو أن الأنبياء قد وجد فيهم القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الجسمانية كالخيالية والوهمية وغيرهما وأكثر أحكام هذه القوى تضاد حكم القوة العقلية وتمانعها حتى أن أكثر الناس يلتجئ إلى قوة الشهوة والغضب والوهم ويترك مقتضى القوة العقلية، والأنبياء عليهم السلام يقهرون قوى طبائعهم ويفعلون بحسب مقتضى قواهم العقلية ويعرضون عن القوى الشهوانية وغيرها من القوى الجسمانية فتكون عباداتهم وأفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث خلوا عن هذه القوى، وإذا كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليه السلام: أفضل الأعمال أحمزها. وهاهنا وجوه أخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام.
____________
(1) الفص العيسوي من فصوص الحكم: (فالانسان في الرتبة فوق الملائكة..) وقال القيصري في الشرح: (قال في الفتوحات: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فسألته أن الانسان أفضل أم الملائكة..) (ط 1 ص 336).
الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض.
أقول: في هذا المقصد مسائل:
المسألة الأولى
في أن نصب الإمام واجب على الله تعالى.
اختلف الناس هنا فذهب الأصم من المعتزلة وجماعة من الخوارج إلى نفي وجوب نصب الإمام، وذهب الباقون إلى الوجوب لكن اختلفوا، فالجبائيان وأصحاب الحديث والأشعرية قالوا: إنه واجب سمعا لا عقلا. وقال أبو الحسين البصري والبغداديون والإمامية: إنه واجب عقلا، ثم اختلفوا فقالت الإمامية: إن نصبه واجب على الله تعالى. وقال أبو الحسين والبغداديون: إنه واجب على العقلاء. واستدل المصنف رحمه الله على وجوب نصب الإمام على الله تعالى بأن الإمام لطف واللطف واجب، أما الصغرى فمعلومة للعقلاء إذ العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب والتهاوش (1) ويصدهم عن المعاصي ويعدهم على فعل الطاعات ويبعثهم على التناصف والتعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وهذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل، وأما الكبرى فقد تقدم بيانها.
قال: والمفاسد معلومة الانتفاء وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ووجوده
____________
(1) بالواو كما في (ق، ص، ش، ز) والتهارش بالراء كما في (م، د) والوجه الأول أنسب بل هو المتعين.
لطف وتصرفه آخر وعدمه منا (1).
أقول: هذه اعتراضات على دليل أصحابنا مع الإشارة إلى الجواب عنها:
الأول: قال المخالف: كون الإمامة قد اشتملت على وجه اللطف لا يكفي في وجوبها على الله تعالى بخلاف المعرفة التي كفى وجه الوجوب فيه علينا لانتفاء المفاسد في ظننا، أما في حقه تعالى فلا يكفي وجه الوجوب ما لم يعلم انتفاء المفاسد ولا يكفي الظن بانتفائها، فلم لا يجوز اشتمال الإمامة على مفسدة لا نعلمها فلا تكون واجبة على الله تعالى؟ (والجواب) أن المفاسد معلومة الانتفاء عن الإمامة، لأن المفاسد محصورة معلومة يجب علينا اجتنابها أجمع، وإنما يجب علينا اجتنابها إذا علمناها لأن التكليف بغير المعلوم محال، وتلك الوجوه منتفية عن الإمامة فيبقى وجه اللطف خاليا عن المفسدة فيجب عليه تعالى، ولأن المفسدة لو كانت لازمة للإمامة لم تنفك عنها، والتالي باطل قطعا، ولقوله تعالى:
(إني جاعلك للناس إماما) وإن كانت مفارقة جاز انفكاكها عنها فيجب على تقدير الانفكاك.
الثاني: قالوا: الإمامة أنما تجب لو انحصر اللطف فيها، فلم لا يجوز أن يكون هناك لطف آخر يقوم مقام الإمامة فلا تتعين الإمامة للطفية فلا يجب على التعيين؟
(والجواب) أن انحصار اللطف الذي ذكرناه في الإمامة معلوم للعقلاء ولهذا يلتجئ العقلاء في كل زمان وكل صقع إلى نصب الرؤساء دفعا للمفاسد الناشئة من الاختلاف.
الثالث: قالوا: الإمام إنما يكون لطفا إذا كان متصرفا بالأمر والنهي، وأنتم لا
____________
(1) هكذا جاءت العبارة في جميع النسخ إطباقا. قوله: وتصرفه آخر، أي تصرفه لطف آخر.
وزيادة لطف في العبارة ليست بمنقولة في نسخة من تلك النسخ المصححة المعتبرة عندنا.
وقوله: وعدمه منا، أي وعدم تصرفه منا وذلك بأن يكون غائبا ولكن عدمه هذا منا. ورسائلنا الأربع: الإمامة بالعربية والثلاث الأخرى بالفارسية: نهج الولاية، انسان كامل ازديدگاه نهج البلاغة، انسان وقرآن، لعلها تجديك في المقام.
(والجواب) أن وجود الإمام نفسه لطف لوجوه: أحدها: أنه يحفظ الشرائع ويحرسها عن الزيادة والنقصان. وثانيها: أن اعتقاد المكلفين لوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم إلى الصلاح، وهذا معلوم بالضرورة. وثالثها: أن تصرفه لا شك أنه لطف ولا يتم إلا بوجوده فيكون وجوده نفسه لطفا وتصرفه لطفا آخر.
والتحقيق أن نقول: لطف الإمامة يتم بأمور: (منها) ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله الله تعالى. (ومنها) ما يجب على الإمام وهو تحمله للإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام. (ومنها) ما يجب على الرعية وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله، وهذا لم تفعله الرعية فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام.
المسألة الثانية
في أن الإمام يجب أن يكون معصوما
قال: وامتناع التسلسل يوجب عصمته ولأنه حافظ للشرع ولوجوب الانكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة ويفوت الغرض من نصبه ولانحطاط درجته عن أقل العوام.
أقول: ذهبت الإمامية والإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما وخالف فيه جميع الفرق، والدليل على ذلك وجوه:
الأول: أن الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعية، فلو كان هذا المقتضي ثابتا في حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي.
الثالث: أنه لو وقع منه الخطأ لوجب الانكار عليه وذلك يضاد أمر الطاعة له بقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
الرابع: لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الغرض من إقامته (4) انقياد الأمة له وامتثال أوامره واتباعه فيما يفعله، فلو وقعت المعصية منه لم يجب شئ من ذلك وهو مناف لنصبه.
____________
(1) بل الحق أنه نور وتبيان لكل شئ كما نطق به لسانه الصدق ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ (النحل 90) والصواب فيه ما قاله الوصي عليه السلام في الخطبة 123 من النهج: وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال.
(2) باتفاق النسخ كلها، والضمير راجع إلى الدلالة والأمارة.
(3) كما في (م، ق، ش، د) وفي (ص، ز): إلى أمر الله.
(4) هكذا جاءت العبارة في النسخ الثلاث الأولى أي (م، ص، ق) وهي توافق قوله: ويفوت الغرض من نصبه فإن نصبه هو إقامته. وفي (ش، د، ز): من إمامته.
قال: ولا تنافي العصمة القدرة.
أقول: اختلف القائلون بالعصمة في أن المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية أم لا؟ فذهب قوم منهم إلى عدم تمكنه من ذلك، وذهب آخرون إلى تمكنه منها.
أما الأولون فمنهم من قال: إن المعصوم مختص في بدنه أو نفسه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه على المعصية، ومنهم من قال: إن العصمة هو القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية، وهو قول أبي الحسين البصري. وأما الآخرون الذين لم يسلبوا القدرة فمنهم من فسرها بأنه الأمر الذي يفعله الله تعالى بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك الأمر إلى الالجاء، ومنهم من فسرها بأنها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي. وآخرون قالوا: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون له معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية، وأسباب هذا اللطف أمور أربعة: أحدها: أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصية تقتضي ملكة مانعة من الفجور وهذه الملكة مغايرة للفعل. الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات. الثالث: تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي والإلهام من الله تعالى. الرابع: مؤاخذته على ترك الأولى بحيث يعلم أنه لا يترك مهملا بل يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة.
فإذا اجتمعت هذه الأمور كان الانسان معصوما (1) والمصنف رحمه الله اختار المذهب الثاني وهو أن العصمة لا تنافي القدرة بل المعصوم قادر على فعل
____________
(1) وفي نسخة (م) وحدها كان الإمام معصوما، والنسخ الأخرى كلها كان الانسان معصوما والانسان أنسب بأسلوب الكلام من الإمام.