يا نفس:
ومما أعظك به من كلام أمير المؤمنين، وسيد الوصيين: أن الفكر يهدي، والهوى يردي، والشهوات آفات، واللذات مفسدات، والرزق مقسوم، والحريص محروم، والدنيا تضر، والأمل يغر (1)، والأمن اغترار، واليقظة استبصار، والغفلة ضلالة، والغرة (2) جهالة.
يا نفس:
مكاسب الدنيا بالإنفاق، والآخرة بالاستحقاق، والهوى عدو العقل، واللهو من ثمار الجهل، والأعمال من ثمار النيات، والصدقة أفضل الحسنات، والطمع فقر ظاهر، واليأس غنى حاضر.
يا نفس:
السلامة في التفرد، والراحة في التزهد، والساعات تكمن الآفات، والعمر تفنيه (3) اللحظات، والدنيا سوق الخسران، والجنة دار الأمان، والحساب قبل العقاب، والثواب بعد الحساب، والدنيا دار الأشقياء، والجنة دار الأتقياء.
____________
(1) في ب: والأمل يغر والدنيا تضر.
(2) في أ: والعزة.
(3) في أ: بقية.
يا نفس:
الدنيا محل الآفات، والمال مادة الشهوات، والدنيا مطلقة الأكياس، ومنية الأرجاس، والتقوى خير زاد، والطاعة أحرز عتاد، والزهد متجر راجح، والورع عمل راجح، والحريص عبد (1) المطامع، والمستريح من الناس القانع.
يا نفس:
المواصل للدنيا مقطوع، والمغتر بالآمال مخدوع، والتقوى رأس الحسنات، والورع جنة من السيئات، والتوبة تستنزل الرحمة، والاصرار يجلب النقمة، والطاعة تستدر المثوبة، والمعصية تجلب العقوبة.
يا نفس:
الدنيا دار المحنة، والهوى مطية الفتنة، والتعزز بالتكبر ذل، والتكثر بالدنيا قل، واليقين رأس الدين، والانفراد راحة المتعبدين، والزهد سجية المخلصين، والخوف جلباب (2) العارفين، والبكاء شعار المشفقين، والفكر نزهة المتقين، والسهر روضة المشتاقين، والاخلاص عبادة المقربين (3)، والذكر لذة المحيين.
____________
(1) في أ: عند.
(2) الجلباب: الملحفة. الصحاح 1: 101 جلب.
(3) في ب: المتقربين.
يا نفس:
الدنيا مصرع العقول، والشهوات تسترق الجهول، والفكر مرآة صافية، والموعظة نصيحة شافية، والنية أساس العمل، والأجل حصاد الأمل، والمقادير لا تدفع بالقوة والمغالبة، والأرزاق لا تنال بالحرص والمطالبة.
يا نفس:
الدنيا كيوم مضى، وشهر انقضى، فالرغبة فيها توجب المقت، والاشتغال بالفائت (1) يضيع الوقت، والمال يفسد المآل (2)، ويوسع الآمال، وهو داعية التعب، ومطية النصب (3)، والغني من استغنى بالقناعة، والعزيز من اعتز بالطاعة.
يا نفس:
أسباب الدنيا منقطعة، وعواريها مرتجعة، والمصيبة بالدين أعظم المصاب، والغضب يفسد الألباب، ويبعد من الصواب، وهو عدو فلا تملكيه نفسك، ولا تجعليه لبسك، والندم على الخطيئة استغفار، والمعاودة للذنب إصرار.
____________
(1) في أ: بالغائب.
(2) قال ابن منظور في اللسان 11: 22 أول: الأول: الرجوع، آل الشئ يؤول أولا ومآلا: رجع.
(3) في أ: المنصب.
يا نفس:
الوله (1) بالدنيا أعظم فتنة، واطراح الكلف أشرف قنية، فمن أخلص فيها توبته، أسقط حوبته، والعمل فيها بطاعة الله أربح، والرجاء لرحمته أنجح، والاشتغال بتهذيب النفس أصلح، والاتكال على القضاء أروح.
شعر:
عجبت لشئ لا يساوي جميعه | جناح بعوض عند من أنت عبده |
شغلت بجزء منه عنه فما الذي | يكون إذا حاسبك عذرك (2) عنده |
يا نفس:
الحازم من ترك الدنيا للآخرة، والرابح من باع العاجلة بالآجلة يوم الساهرة، والزاهد أن لا يطلب المفقود، حتى يعدم الموجود، واجتناب السيئات، أولى من اكتساب الحسنات، واشتغالك بمعايبك (3) يكفيك العار، واشتغالك بإصلاح معادك ينجيك من عذاب النار، والطاعة لله أقوى سبب، والمودة في الله أقرب نسب.
____________
(1) قال الطريحي في المجمع 6: 367 وله: والوله بالتحريك: ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد.
(2) في ب: عدوك.
(3) في أ: بمعانيك.
يا نفس:
الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تفي لصاحب، فهي ملية بالمصائب، طارقة بالفجائع والنوائب، والعاقل من هجر شهوته، وأسخط دنياه وأرضى آخرته، والعارف من عرف نفسه فأعتقها (1)، ونزهها عن كل ما يبعدها ويوبقها.
يا نفس:
الدنيا إذا تحلت (2)، أنحلت، وإذا حلت أو حلت، فالحازم من جاد بما في يده، ولم يؤخر عمل يومه إلى غده، والكيس (3) من كان يومه خيرا من أمسه، وعقل الذم عن نفسه، والشقي من اغتر بحاله، وانخدع لغرور آماله، والجاهل لا يرتدع، وبالموعظة لا ينتفع.
يا نفس:
الدنيا شرك النفوس، وقرارة كل ضر (4) وبؤس، وهي عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، فأخوك في الله من هداك إلى رشاد، ونهاك عن فساد، وأعانك على إصلاح المعاد، والحازم من لم يشغله غرور دنياه، عن العمل لأخراه،
____________
(1) في ب: وأعتقها.
(2) في أ: أحلت.
(3) في أ: أي العاقل.
(4) في أ: خبر.
يا نفس:
أوقات الدنيا وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت يسيرة، والخوف من الله في الدنيا، يؤمن الخوف منه في العقبى، والمتقي من اتقى من الذنوب، والمتنزه من تنزه عن العيوب، وانتباه العيون لا ينفع مع غفلة القلوب، والعاقل من زهد في الدنيا الدنية، ورغب في جنة سنية.
يا نفس:
اعزفي (1) عن دنياك تصلحي مثواك، واركني إلا الحق وإن خالف هواك، واجعلي جهدك وهمك لآخرتك، واحفظي بطنك وفرجك فهما (2) فتنتك، واعفي عن خادمك إذا عصاك، واضربيه إذا (3) عصى مولاك.
يا نفس:
انظري إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق، ولا تنظري إليها نظر العاشق
____________
(1) في أ: عزف عن الشئ: زهد فيه وانصرف عنه، قاله الجوهري. الصحاح 4: 1403 عزف، باختلاف.
وفي ب: اغرفي.
(2) في أ: ففيهما.
(3) في أ: أنا.
يا نفس:
اذكري عند المعاصي ذهاب اللذات وبقاء التبعات، واهجري الشهوات فإنها تقود إلى ركوب السيئات، واعملي والعمل ينفع، والدعاء يسمع، والتوبة ترفع، والمحتكر البخيل جامع لمن لا يشكره، وقادم على من لا يعذره.
يا نفس:
اتقي غرور الدنيا فإنها تسترجع (2) أبدا ما خدعت به من المحاسن، وتزعج المطمئن (3) إليها القاطن، فكم من جامع مال يبخل على نفسه بأقله، ويسمح لوارثه بكله، ولعله من باطل جمعه، ومن حق منعه، أصابه حراما، واحتمل به آثاما، ورب مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليل قامت بواكيه في آخره.
____________
(1) في أ: الوامق.
وقال الجوهري في الصحاح 4: 1568 ومق: المقة المحبة ... وقد ومقه يمقه بالكسر فيهما أي:
أحبه، فهو وامق.
(2) في أ: لتسترجع.
(3) في ب: المطمئنين.
شعر:
هو الموت لا أعوانه تقبل الرشا | ولا تشترى ساعاته بالدراهم |
يا نفس:
استعدي ليوم تشخص فيه الأبصار، وتفدم (1) فيه الأبصار (2)، واذكري هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وداعي الشتات، ومفرق الجماعات، ومبعد (3) الأمنيات، ومدني المنيات، والمؤذن بالبين والشتات، واحذري الأمر (4) المغلوب، والفاني المجبوب، والنعيم المسلوب.
شعر:
أما والله لو علم الأنام | لما خلقوا لما هجعوا وناموا |
لقد خلقوا لما لو أبصرته | عيون قلوبهم تاهوا وهاموا |
حياة ثم موت ثم بعث | وتوبيخ وأهوال عظام |
يا نفس:
احذري أن يخدعك الغرور بالحائل اليسير، أو يستزلك السرور بالزائل الحقير، وإياك وفعل القبيح فإنه يقبح ذكرك ويكبر (5) وزرك، ويحبط أجرك،
____________
(1) الفدم من الناس: العيي عن الحجة والكلام. اللسان 12: 450 فدم.
(2) الأبصار الأولى بمعنى: حاسة البصر، والثانية بمعنى: البينة.
(3) في أ: ومباعد.
(4) في ب: الأمل.
(5) في ب: ويكثر.
يا نفس:
إياك وطول الأمل، فكم من مغرور افتتنه أمله، فأفسد عمله وقطع أجله، فلا أمله أدرك، ولا ما فاته استدرك، وإياك والوقوع في الشبهات، والولوع (2) بالشهوات، فإنهما يقتادانك إلى الوقوع في الحرام، وركوب كثير من الآثام.
يا نفس:
أين اللذين كانت لهم الأمم، وبلغوا من الدنيا أقاصي الهمم؟! أين اللذين حازوا (3) من الدنيا أقاصيها، واستذلوا الأعداء وملكوا نواصيها؟! أين من سعى واجتهد، وأعد (4) واحتشد، وبنى وشيد، وزخرف ونجد (5)، وفرش ومهد، وجمع وعدد؟! أين كسرى وقيصر، وتبع وحمير؟! وأعظم العظات، الاعتبار بمصارع الأموات.
____________
(1) المداهنة: المساهلة. مجمع البحرين 6: 250 دهن.
(2) الولوع: العلاقة، وأولع به ولوعا وإيلاعا: إذا لج. اللسان 8: 410 ولع.
(3) في أ: أحازوا.
(4) في ب: وعد.
(5) قال الجوهري في الصحاح 2: 542 نجد: والنجد: ما ينجد به البيت من المتاع، أي يزين.
يا نفس:
أسعد الناس من ترك لذة فانية، للذة باقية، وأشقاهم من باع جنة المأوى، بمعصية من معاصي الدنيا، وأفضل الناس من عصى ورفض دنياه، وقطع منها أمله ومناه، وكان همه لأخراه، وأبعد الناس من النجاح المشتهر باللهو والمزاح، وأبعدهم (1) من الصلاح الكذوب ذو الوجه الوقاح.
يا نفس:
إياك والهوى فإن أوله فتنة، وآخره محنة، وإياك وحب الدنيا فإنها أصل كل خطيئة، ومعدن كل بلية، فالحازم من لا يغتر بالخدع، والعاقل من لا يغتر بالطمع، ومن باع نفسه بغير الجنة، فقد عظمت عليه المحنة.
يا نفس:
إن مالك لحامدك في حياتك، ولذامك بعد وفاتك، والتقوى عصمة لك في حياتك، وزلفى لك بعد مماتك، والمرء على ما قدم قادم، وعلى ما خلف نادم، وإن النفس التي تطلب الرغائب الفانية لتهلك في طلبها، وتشقى في منقلبها، والتي تجهد في اقتناء الرغائب الباقية لتدرك طلبها، وتسعد في منقلبها.
____________
(1) في ب: وأبعد..
يا نفس:
إن الدنيا لمفسدة الدين، ومسلبة اليقين (1) وإنها رأس (2) الفتن، وأصل المحن، وإن خير المال ما اكتسب ثناء وشكرا، وأوجب ثوابا وأجرا، وإن أخيب الناس سعيا رجل أخلق (3) بدنه في طلب أمانيه (4)، ولم تسعده المقادير على ما أراده واجتهد فيه، فخرج من الدنيا بحسراته، وقدم على الآخرة بتبعاته، والكيس من كان لشهوته مانعا، ولنزوته (5) عند الحفيظة قامعا.
يا نفس:
إن تقوى الله عمارة الدين، وعماد اليقين، وإنها لمفتاح الفلاح (6)، ومصباح النجاح، وهي في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة، مسلكها واضح، وسالكها رابح، وإن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا والآخرة، شاركوا أهل الدنيا في الدنيا ولم يشاركهم (7) أهل الدنيا في الآخرة (8)، بالتقوى
____________
(1) في أ: إن الدنيا المفسدة الدين مسلبة اليقين.
(2) في أ: لرأس.
(3) أي: أبلى. اللسان 10: 89 خلق.
(4) في أ: الفانية.
(5) النزو: الوثبان. اللسان 15: 319 نزا.
(6) في أ: الصلاح.
(7) في أ: ولم يشاركونهم.
(8) في أ: بالآخرة.
يا نفس:
إن من هوان الدنيا على الله: أن لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بترك ما لديها، فعيشها عناء، وبقاؤها فناء، لذاتها تنقيص، ومواهبها تغصيص، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب، وتصل مواصلة الملول، وتفارق مفارقة العجول، تصل العطية بالرزية، والأمنية بالمنية، خيرها زهيد (2)، وشرها عتيد (3)، وملكها يسلب، وعامرها (4) يخرب.
يا نفس:
إن الدنيا لهي الكنود (5) العنود (6)، والصدود (7)، الجحود (8)، والحيود الميود (9)، عزها ذل، وجدها هزل، وكثرها قل، وعلوها سفل، غرور حائل، وظل زائل،
____________
(1) في ب: وتباذل.
(2) الزهيد: القليل. الصحاح 2: 481 زهد.
(3) العتيد: الحاضر المهيأ. مجمع البحرين 3: 98 عتد.
(4) في ب: وعاملها.
(5) في أ: الكند: النعمة كفرها، وأرض كنود: لا تنبت.
(6) العنود بالضم: الجور والميل، والعنيد والعنود والمعاند واحد وهو: المعارض لك بالخلاف عليك. مجمع البحرين 3: 109 عند.
(7) الصد: الإعراض. اللسان 3: 245 صدد.
(8) الجحد والجحود: نقيض الإقرار كالاقرار والمعرفة. اللسان 3: 106 جحد.
(9) ماد الشئ يميد ميدا: تحرك ومال. اللسان 3: 411.
يا نفس:
إن الدنيا دار شخوص، ومحلة تنغيص، ساكنها ظاعن (1)، وقاطنها (2) بائن (3)، وبرقها خالب (4)، ونطقها كاذب، وأموالها مخروبة (5)، وأعلاقها (6) مسلوبة، ولذاتها (7) قليلة، وحسرتها طويلة، غرارة غرور ما فيها، فانية فإن من عليها، تشوب نعيمها ببؤس، وتقرن سعودها بنحوس، وتصل نفعها بضر، وتمزج حلوها بمر.
يا نفس:
إن الدنيا دار محن، ومحل فتن، غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، تدني الآجال، وتباعد الآمال، وتبيد الرجال، وتغير الأحوال، لا يدوم
____________
(1) أي: مرتحل. مجمع البحرين 6: 278 ظعن.
(2) القطون: الإقامة. اللسان 13: 342 قطن.
(3) أي: منفصل: اللسان 13: 64 بين.
(4) أي خديعة. مجمع البحرين 2: 52 خلب.
(5) في أ: قوله: مخروبة أي: مأخوذة، وخرب الرجل فهو خريب ومخروب: إذا أخذ ماله كله، وقولهم يصبر الرجل على الثكل ولا يصبر على الخرب، أي: يصبر على موت ولله ولا يصبر على أخذ ماله.
(6) في أ: وأعلاقها أي: نفائسها، والعلق بالكسر: الشئ النفيس.
(7) في أ: ولذتها.
يا نفس:
إن الدنيا دار بالبلاء معروفة، وبالغدر موصوفة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، العيش فيها مذموم، والأمان فيها معدوم، ألا وهي المتصدية للعيون، والجامعة للحزون، والمائنة (2) الخؤون، تعطي وترتجع، وتنقاد وتمتنع، وتوحش وتؤنس، وتطمع وتؤيس، يعرض عنها السعداء، ويرغب فيها الأشقياء.
يا نفس:
إن الدنيا ظل الغمام، وحلم المنام، والفرح الموصول بالغم، والعسل المشوب بالسم، سلابة النعم، أكالة الأمم، جلابة النقم، نعيمها ينتقل، وأحوالها تبتدل، لا تفي لصاحب، ولا تصفو لشارب، ولا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة، تصلح جانبا بفساد جانب، وتسر صاحبا بمساءة صاحب.
____________
(1) في أ: أتته.
(2) أي: الكاذبة. اللسان 13: 426 مين.
يا نفس:
إن الدنيا يونق (1) منظرها، ويوبق (2) مخبرها، ولا تدوم حبرتها (3)، ولا تؤمن فجعتها، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة، غرارة ضرارة، فالكون فيها خطر، والثقة بها غرر (4)، والاخلاد إليها محال، والاعتماد عليها ظلال، لم يصفها الله لأوليائه، ولم يضن (5) بها على أعدائه، وهي والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتوالاها، أبغض الآخرة وعاداها.
يا نفس:
إن جزعت على ما تفلت من يديك، فاجزعي على ما لم يصل إليك، وإن كنت في البقاء راغبة فازهدي في عالم الفناء، وإن كنت للنعيم طالبة فاعتقي نفسك من دار الشقاء، وأراك إن دعيت إلى حرث الآخرة كسلت، وإن دعيت إلى حرث الدنيا عملت، وإن سقمت ندمت، وإن عوفيت نسيت، تواقعين الحوبة (6)، وتتكلين على التوبة، فأحسني الاستعداد والاكثار من الزاد ليوم تقدمين على ما قدمت، وتندمين على ما خلفت، وتجازين على ما أسلفت.
____________
(1) قال الخليل في العين 5: 221 أنق: الأنق: الاعجاب بالشئ ....
(2) أي: يهلك. اللسان 10: 370 وبق.
(3) أي: جمالها وحسنها. مجمع البحرين 3: 256 حبر.
(4) في أ: فالكون فيها خطير والثقة فيها غرور.
(5) أي: ولم يبخل. المفردات 299 ضنن.
(6) أي: الإثم. مجمع البحرين 2: 47 حوب.
يا نفس:
إنك إن سالمت الله سلمت وفزت، وإن حاربت الله خربت وهلكت، وإن أقبلت على الدنيا أدبرت، وإن أدبرت أقبلت، وإنك إن أطعت الله نجاك وأصلح مثواك، وإن أطعت هواك أصمك وأعماك وأفسد منقلبك وأرداك، وإن ملكت هواك قيادك أفسد معادك وأرداك (1)، بلاء لا ينتهي، وشقاء لا ينقضي.
يا نفس:
إنك إن اغتنمت صالح الأعمال نلت من الآخرة نهاية الآمال، وإنك إلى مكارم الأخلاق والأفعال أحوج منك إلى جمع الأموال، وإنك إلى إعراب الأعمال أحوج منك إلى إعراب الأقوال، وإنك إلى اكتساب الأدب، أحوج منك إلى اكتساب الفضة والذهب، وإنك إن رغبت في الدنيا أفنيت عمرك، وأبقيت وزرك، وإن زهدت خلصت من الشقاء، وفزت بدار البقا، فاصبري على البلا، واشكري في الرخاء، وأرضي بالقضا، يكون لك من الله الرضى.
يا نفس:
من كلام سيد الوصيين أمير المؤمنين صلوات الله عليه لرجل سأله الموعظة، ومن رقدة الغفلة أن يوقظه: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل،
____________
(1) في أ: أفسدت معادك وأوردك.
فقال عليه السلام: دنياك مثل الشمس تدني إليك الضوء لكن وعرة المسلك، إذا أبصرت إلى نورها تعش وإن تبصر به تدرك.
يا نفس:
إنما الكرم التنزه عن المساوي، والورع التطهر عن المعاصي.
واعلمي: أن آفة العقل الهوى، وآفة النفس الوله بالدنيا، وآفة الطاعة العصيان، وآفة النعم الكفران، وآفة الأعمال عجز العمال، وآفة الآمال حضور الآجال، والبصير من سمع ففكر، ونظر وأبصر، وانتفع بالعبر، والسعيد من خاف العقاب فآمن، ورجا الثواب فأحسن.
يا نفس:
إذا كان البقاء لا يوجد فالنعيم زائل، وإذا كان القدر لا يرد فالاحتراس باطل.
واعلمي: أنه بالعفاف تزكو (1) الأعمال، وبالصدقة تفسخ الآجال، وبالطاعة يكون الإقبال، وأن الله إذا أحب عبدا بغض (2) إليه المال، وقصر منه الآمال، وإذا أراد بعبد شرا حبب إليه المآل، وبسط منه الآمال.
يا نفس:
إنك ستؤاخذين بقولك فلا تقولي إلا خيرا، وتجازين بفعلك فلا تفعلي إلا برا، وأنه بقدر اللذة يكون التغصيص، وبقدر السرور يكون التنغيص، وبالطاعة تحصل المثوبة لا بالكسل، وبالعمل تحصل الجنة لا بالأمل، وبالأعمال الصالحات ترفع الدرجات، وبالتوبة تمحص السيئات، وبادري العمل عمرا ناكسا، ومرضا حابسا وموتا خالسا.
____________
(1) في أ: تركن.
(2) في ب: أبغض.
يا نفس:
حب الرئاسة رأس المحن، وحب المال سبب الفتن، وحب الدنيا يوهن الدين، ويفسد اليقين، وحق يضر خير من باطل يسر، وخير الأعمال ما قضى اللوازم واكتسب شكرا وخير الأموال ما أعان على المكاره واسترق حرا (1)، وخير الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا ظلم غفر، وإذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر.
يا نفس:
حاصل المعاصي التلف، وحاصل الأماني الأسف، وحاصل التواضع الشرف، ودرك الخيرات، ونيل السعادات، بلزوم الطاعات، والأعمال الزاكيات.
واعلمي: أن دوام الفكر والحذر يؤمن من الزلل والعثر، وأن دوام الاعتبار يؤدي إلى الاستبصار، ويثمر الازدجار، وأن ذهاب البصر خير من عمى البصيرة، وذهاب النظر خير من النظر إلى ما يوجب الجريرة.
يا نفس:
رحم الله امرءا قصر الأمل، وبادر الأجل، واغتنم المهل، وأحسن العمل.
ورحم الله امرءا ألجم نفسه عن معاصي الله بلجامها، وقادها إلى طاعة
____________
(1) في أ: جدا.
فردي من طول أملك في قصر أجلك، ولا تغرنك صحة نفسك، وسلامة أمسك، وأن مدة العمر قليلة، وسلامة الجسم مستحيلة.
شعر:
كل حياة إلى ممات | وكل ذي جدة تحول |
كيف بقاء الفروع يوما | وقد ذوت دونها الأصول |
يا نفس:
زهدك في الدنيا ينجيك، ورغبتك فيها ترديك، وسبب الشقاء حب الدنيا، وسبب فساد العقل الهوى، وسبب صلاح النفس الورع، وسبب فسادها الطمع.
واعلمي: أن شر الناس: الطويل الأمل، السيئ العمل، الذي ينصر الظلوم، ويعين على المظلوم، وشر الناس من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره.
يا نفس:
شتان بين عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وبين عمل تذهب مؤنته وتبقى مثوبته.
واعلمي: أن شيمة العقلاء قلة الشهوة والغفلة (1)، وسجية الأتقياء اغتنام المهلة والتزود للرحلة، فشقي أمواج الفتن بسفن النجاة، وشوقي نفسك إلى نعيم الجنات، تحبين الموت وتمقتين الحياة.
____________
(1) أي: وقلة الغفلة، وفي ب: والعفة.
يا نفس:
طوبى لمن راقب ربه، وخاف ذنبه، وشغل بالفكر قلبه، وطوبى لمن أطاعت نفسه ناصحا يهديه، وتجنبت غاويا يرديه (1)، قصر همته على ما يعنيه، وجعل كل جده لما ينجيه، وطوبى لمن بادر أجله، وأخلص عمله، وقصر أمله، واغتنم مهله، وطوبى لمن كذب مناه وأخرب دنياه لعمارة أخراه، وملك هواه ولم يملكه، وعصى أمر نفسه فلم تهلكه، وطوبى لمن تحلى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجنب الإسراف، وندم على زلته، واستدرك فارط عثرته، وطوبى لمن بادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه، والعمل الصالح قبل أن تنقطع أسبابه.
يا نفس:
طلب الجمع بين الدنيا والآخرة من خداع النفس، وطالب الخير بعمل الشر فاسد العقل والحس، وطالب الدنيا بالدين معاقب مذموم وضلالة (2)، وطالب المراتب والدرجات بغير عمل جهالة، وطلب الجنة بلا عمل حمق، وطلب الثناء بغير استحقاق خرق (3) وطالب الآخرة يدرك منها أمله، ويأتيه من الدنيا ما قدر له، وطالب الدنيا تفوته الآخرة، ولا يدرك من الدنيا إلا الصفقة الخاسرة.
____________
(1) في أ: وطوبى لمن أطاع ناصحا يهديه وتجنب غاويا يرديه.
(2) في أ: ذو ضلالة.
(3) في أ: الخرق بالضم: خلاف الرفق، ورجل خرق أي أحمق، قاله المطرزي.
يا نفس:
طاعة دواعي الشرور، تفسد عواقب الأمور، ولقد ظفر بجنة المأوى، من غلب الهوى وأعرض عن شهوات الدنيا.
وعليه: بلزوم اليقين، وتجنب الشك في الدين، فليس للمرء شئ أهلك لدينه، من غلبة الشك على يقينه.
وعليك: بالوفاء فإنه أوقى جنة (1)، وبالعمل الصالح فإنه الزاد إلى الجنة.
وعليك: بالصبر والورع فإنهما عون الدين، والحصن الحصين، وشيمة المخلصين، وعادة الموقنين.
يا نفس:
عليك: بلزوم العفة والأمانة، وترك فساد النية والجناية (2)، فإن ذلك أشرف ما أسررت، وأحسن ما أعلنت، وأفضل ما ادخرت.
وعليك: بصنائع الإحسان، وحسن البر بذوي الرحم والجيران، فإنهما يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار.
وعليك: بلزوم الصبر، ودوام الشكر، فإنهما يزيدان في النعمة، ويزيلان النقمة.
____________
(1) بالضم والتشديد: السترة. مجمع البحرين 6: 229 جنن.