واعلمي: أنه من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان مقيما قاطنا، ويقطع المسافة وإن كان واقفا ساكنا.
بيت:
إن الليالي للأنام (1) مناهل | تطوى وتنشر دونها الأعمار (2) |
أفبعد المشيب تخدعين بالزبيب، وقد علمت أن الموت قريب، وللنقص في كل يوم منك نصيب.
يا نفس:
لو رأيت قرب ما بقي من أجلك، لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من صالح عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غدا ندمك، لو زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وفارقك الولد القريب، ورفضك الوالد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائدة، ولا في حسناتك زائدة، فاعملي ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة.
يا نفس:
ألا تستحين من التوبيخ والتعنيف، على طول التسويف، والذي يدعوك إلى التسويف اليوم هو معك غدا، وإنما تزدادين بطول المدة ردى، وكلما فعلت
____________
(1) في ج، د: والأيام.
(2) في ب: الأعمال.
يا نفس:
ومثاله: لو عددت مشايخ بلدتك، وشيب قريتك، لكانوا أقل من عشرة رجال، وتجدين الشبان والأطفال (3) أكثر منهم على كل حال، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف من الأطفال والشبان، والغلمان والصبيان، على أن الموت ليس له وقت مخصوص، ولا عليه آن منصوص، بعيد أو قريب، في شباب أو شيب، في شتاء أو صيف، أو ربيع أو خريف، فإذا جهلك بموتك وحب الدنيا، دعياك إلى طول الأمل واتباع الهوى.
يا نفس:
مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالها، ونسيانهم للآخرة وإهمالها، كمثل قوم ركبوا السفينة في البحر للتجارة، فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة، والملاح يناديهم: إياكم وطول المكث، ودوام اللبث، فمن اشتغل منكم بغير الوضوء والصلاة فاتته سفينة النجاة، فالعقلاء منهم لم يمكثوا، وشرعوا في الوضوء
____________
(1) في ب: شئت.
(2) في ج، د: البقرية.
(3) في ب: وتجدين الشبان والغلمان والصبيان.
يا نفس:
ومنهم من وقف ينظر إلى شجرة تلك الجزيرة وأثمارها، ويستمع إلى طيب ترنم أطيارها، فغفلوا لذلك غفلة قليلة، أعقبتهم حسرة طويلة، فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا مفرجا، بل مكانا حرجا، فقعدوا في أضيق المواطن وأظلمها، وأحرج الأماكن وأشأمها.
يا نفس:
ومنهم من لم يقتنع بالنزهة والتفرج، وأطال مدة المكث والتبرج، واشتغلوا بجمع ما في الجزيرة من اللآلي الثمينة، ولم يلتفتوا إلى مناداة الملاح في السفينة، فتحيروا إذ ذهبت السفينة في الرجوع، وغار (1) من الجزيرة الينبوع (2)، ثم جدت من شروشها، وخرت على عروشها، فمنهم من هوى فيها صريعا، أو مات بها جوعا، ومنهم من أهلكته السباع، وأكلته الضباع، فالقوم المتقدمون هم المؤمنون، والقوم المتوسطون هم الذين للطاعة والمعصية يخلطون، والقوم المتأخرون هم المجرمون.
____________
(1) في ب: وعاد.
(2) أي: العين. اللسان 8: 345 نبع.
يا نفس:
ومثل أهل الدنيا كضيف دعي إلى دار فيها فائدة، وطعام تأنق (1) فيه على مائدة، وعادة المضيف أن يزين للأضياف داره، ويدعوا إليها زواره، ويضع بين أيديهم طبقا من الذهب، مملوءا من الرطب، ومجمرة من فضة فيها من العود والبخور، ما يتطيب به أولئك الحضور
يا نفس:
فالعاقل [ ترينه ] قد تطيب وانطلق، ولم يطمع في تناول المجمرة والطبق، والجاهل لعظم الجهالة يتوهم أن المجمرة والطبق قد وهبا له، فأخذ عند خروجه الطبق والمجمرة فأخذا منه قهرا فما أخسره، فضاق صدره وأتعب قلبه، وطلب الإقالة إذ أظهر ذنبه، وجلله عار ذلك وغشاه، ودرعه ورداه، فالدنيا كمثل دار الضيافة، يتزود منها من يريد قطع المسافة، ولا يطمع فيما في الدار من المتاع، لما وصفناه من عاقبة الارتجاع.
يا نفس:
مثل من ترك الدنيا وطلقلها، وأبغضها وفارقها، كمثل قوم نبأ بهم منزل
____________
(1) أي: تجود. اللسان 10: 363 نوق.
يا نفس:
ومثل من اغتر بها، وحواها وصحبها، كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبا بهم منزل جديب، فلا شئ أكره إليهم ولا أفظع (5) لديهم إلى ما كانوا فيه، إلى ما يهجمون (6) عليه ويصيرون إليه.
يا نفس:
لو أعطيت في دنياك دينارا في سهر ليلة، لملت إلى ذلك ميلة وأية ميلة، خصوصا إذا كان في مزاح ولغو، وسماع ولهو، ولو أعطيت على سهرها لأداء نفل أو فرض، قصرا من الذهب يوم النشور والعرض، لكنت عن ذلك نائمة، وله غير رائمة (7)، فيا عجباه منك إذ تبتغي قصرا من قصار بدينار، وتستبدلي
____________
(1) أي: انقاد بهم منزل جديب لم يوافقهم ولم يجدوا به قرارا. اللسان 15: 302 نبأ.
(2) في أ. ج، د: المنزل.
(3) من الخصب وهو نقيض الجدب، وهو كثرة العشب ورفاغة العيش. اللسان 1: 355 خصب.
(4) أي: شدة ومشقة. اللسان 2: 202 وعث.
(5) في أ. د: ولا أقطع.
(6) في د: ما يهجعون.
(7) أي: غير طالبة. مجمع البحرين 6: 76 روم.
يا نفس:
ولو قيل لك خذي هذا الدينار، على عدم إفطار هذا النهار، لجعلت الصوم أمرا واجبا، وفرضا لازما، ولو قيل لك: يفتح لك بصومه أبواب الجنان، وتغلق عنك أبواب النيران، لكنت في ذلك غير راغبة، وله غير طالبة، فيا عجباه منك إذ تبيعي غرفات الجنان الباقية، بشئ يسير من الذهبات الفانية.
يا نفس:
إنما كرهت الموت لأنك عمرت دنياك، وأخربت أخراك، فأنت لا تريدين إلى الخراب الرحلة، وتكرهين من العمران النقلة، إن قلت: كيف ترى حالي، عند الله ومالي؟ قلت: أعرضي نفسك على القرآن الكريم، في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) (1) فإن كنت من الأبرار فالجنة مأواك، وإن كنت من الفجار فالنار مثواك، فإن قلت: أين حجي وزكاتي، وصومي وصلاتي؟ قلت: أعرضيه على الكتاب المبين، في قوله تعالى:
(إنما يتقبل الله من المتقين) (2)، فإن كنت من المتقين صلحت أحوالك وتقبلت أعمالك، وإن كنت من العاصين اقمطر نكالك (3) وعظم وبالك، فإن
____________
(1) الانفطار 82: 13 - 14.
(2) المائدة 5: 27.
(3) أي: انتشر ضعفك. اللسان 5: 117 قمطر، المفردات: 506 نكل.
يا نفس:
لست مستعدة للموت إذ أتاك، ولا أنت مجمعة عن التحول عن هواك، أترين بعد الموت دارا لك فيها كرة (3) وهل تأمنين الموت أن يأتيك على غمرة (4).
واعلمي: أن يومك هذا يوم موجود، وهو ماض ولا يعود، والله تعالى سائلك عنه فيما أفنيته؟ فهل شكرت الله فيه أو حمدته أو قضيت حاجة مؤمن فيه؟ وهل بظهر الغيب في أهله وولده حفظته أو نفست عنه كربة وأعنته؟ (5).
يا نفس:
إن في صحف إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: أن
____________
(1) الأنبياء 21: 28.
(2) الأعراف 7: 56.
(3) أي: رجعة. مجمع البحرين 3: 471 كرر.
(4) قال الخليل في العين 4: 417 غمر: وغمرة الموت: شدته.
(5) في أ، ج: وأغنيته.
يا نفس:
في الحديث: خصلتان تدخلان النعيم، وتقيان الجحيم، وهما: احتمال ما يكره إذا أحبه الله، وترك ما يجب إذا أبغضه الله.
واعلمي: أن أكثر يوم القيامة حسرة من قتل (1) فائدة خيره، ورأي حسناته في ميزان غيره، أدخل الله هذا بماله الجحيم، وأدخل الله وارثه بماله النعيم.
يا نفس:
لا تعمرين الدنيا فلا بد من فراق حملها (2)، وصانعي وجها واحدا يكفيك الوجوه كلها.
واعلمي: الويل كل الويل لمن باع نعيما دائم البقاء بكسرة تفنى، وخرقة تبلى.
____________
(1) في ج، د: قرا.
(2) في ج، د: محلها.
بيت:
كفى حزنا ألا حياة لذيذة | ولا عمل يرضى به الله صالح |
يا نفس:
في الحديث: أن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فاتقي في الخلوات المآثم، فإن الشاهد هو الحاكم.
واعلمي: أن في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الآخرة عز النفوس، فيا عجباه لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى، ويترك العز في طلب ما يبقى.
شعر:
... ... ... (1) | فمر تجع بموت أو زوال |
يا نفس:
ما يضرك إذا رزقت خير الآخرة ما فاتك من الدنيا وأصابك من شدائدها، وما ينفعك إذا حرمت خير الآخرة ما أصابك من الدنيا وفوائدها.
____________
(1) في أ، ب، وردت كلمات لم نستطع قراءتها.
بيت:
ما عذر (1) من يعمر أو طانه | وجسمه مستهدم يخرب |
يبكي على الذاهب من ماله | وإنما يبقى الذي يذهب |
يا نفس:
لا تنظري إلى صغير الخطيئة ولكن انظري إلى من عصيت، ولا ترثي لمن ظلمت ولكن ارثي لسوء ما جنيت.
واعلمي: أن ما قل وكفي، خير مما كثر وألهى، وأن صاحب الدينارين، أطول حسابا من صاحب الدرهمين، وأن النوم على المزابل وأكل خبز الشعير، في طلب الجنة (2) ولذاتها يسير.
بيت:
خبز شعير وماء بئر | وثوب قطن مع السلامة |
أفضل من نعمة جزيلة | تكون عقباها الندامة |
يا نفس:
عجبا لمن عرف الله كيف يقترف السيئات، ولمن أيقن بالموت كيف تهنؤوه اللذات، ولمن تحقق البعث والحساب كيف يترك الطاعات!
____________
(1) في أ: ما عز.
(2) في ج، د: الفردوس.
يا نفس:
الكيس العاقل (1) من يهدم دنياه فيبني بها أخراه، والأحمق الجاهل من يهدم أخراه فيبني بها دنياه.
واعلمي: أنك لا تدركين ما تأملين إلا بالصبر على ما تكرهين، ولا تبلغين ما تريدين إلا بترك ما تشتهين.
وإياك والبطنة فإنها ثقل في الحياة، ونتن في الممات، فمن لزمها كثرت أسقامه، وفسدت أحلامه، لأنه إذا امتلأت المعدة قلت الإفادة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
والعجب أنك تعلمين أن البطنة خزانتها الكنيف (2)، وأن الصدقة خزانتها اللطيف، وأن الصدقة بالدرهم السخيف، يحذي الخطوة بالقصر المنيف، ثم تكوني عند الصدقة راقدة، وفي ثوابها العظيم زاهدة.
يا نفس:
في الحديث: إن صلاة الليل من السنة، ومفتاح الجنة، بها تقبل الأعمال، وتنمو الأموال، وتكون لمصليها مؤنسا في القبر، وسراجا وظلا فوق رأسه في الموقف، وتاجا وسترا بينه وبين النار، وحجة وجوازا على المراط، ومحجة ونورا
____________
(1) في ج، د: الكيس الفطن الحذر.
(2) وهو: الموضع المعد للخلاء. مجمع البحرين 5: 116 كنف.
وفي الحديث عن النبي المختار: ركعتان بالليل أفضل من ألف ركعة بالنهار.
يا نفس:
عليك بالدعاء فإنه مفاتيح الرحمة، ومجاديح (2) النعمة، ومقاليد الفلاح، ومصابيح النجاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي، وفي المناجاة، سبب النجاة، وفي الإخلاص، يكون الخلاص، وإذا اشتد الفزع، فإلى الله المفزع.
بيت:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع | أنت المعد لكل ما يتوقع |
يا من يرجى للشدائد كلها | يا من إليه المشتكى والمفزع |
يا من خزائن ملكه في قول: كن | امنن فإن الخير عندك أجمع |
____________
(1) هود 11: 114.
(2) المجاديح: الأنواء، والأنواء عند الجاهلية: ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها من الصيف والشتاء والربيع والخريف، يسقط منها، في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ... وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا: لا بد من أن يكون عند ذلك مطر أو رياح. اللسان 2: 421 جدح و 1: 176 نوأ.
ما لي سوى فقري إليك وسيلة | بالافتقار إليك فقري أدفع (1) |
ما لي سوى فزعي لبابك حيلة | فلئن رددت فأي باب أقرع |
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه | إن كان فضلك عن فقيرك يمنع |
حاشا لمجدك (2) أن يقنط عاصيا | الفضل أجزل (3) والمواهب أوسع |
يا نفس:
إن تخاذلت عن الاستعانة بمولاك، وتقاعدت عن الاستقامة في طلب هداك، يوشك أن ينتهز بك الملعون الفرصة، فتعلق بك مخاليبه (4) فتكون عليك غصة، ثم لا تقدرين من حبائله (5) على الخلاص، وليس لك من مصائده مناص (6)، ثم بعد ذلك تلحقين، بالأشقياء والمعذبين.
فعليك بكثرة الاستغاثة والصراخ، قبل أن يعلق بك الفخاخ (2). ولازمي قرع الباب، عسى أن يرفع لك الحجاب، وقولي بلسان الخجل والانسكار، في مناجاة الملك الجبار، ما كان يقوله سيد العباد، في بسط الرجاء إلى الملك الجواد:
إلهي وعزتك وجلالك، لو قرنتني بالأصفاد، ومنعتني سيبك (8) من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحلت بيني
____________
(1) في ب: أرفع.
(2) في ج: لجودك.
(3) في أ: أجرك.
(4) أي: أظافيره. العين 4: 270 خلب.
(5) وهي: مصائده. مجمع البحرين 5: 348 حبل.
(6) أي: ملجأ. المفردات: 509 نوص.
(7) الفخاخ جمع فخ وهو: آلة يصاد بها. مجمع البحرين 2: 439 فخخ.
(8) أي معروفك وعطاءك. العين 7: 313 سيب.
ما قطعت رجائي منك، ولا صرفت تأميلي للعفو عنك.
ولئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك، وجمعت في النار بيني وبين أهل بلائك، فبعزتك يا سندي ومولاي أقسم صادقا، لئن تركتني ناطقا، لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، ويا إله العالمين.
أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك، تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن، فيها بمخالفته، وذان طعم عذابها بمعصيته، وحبس بين أطباقها بجرمه وجريرته، وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك ومعرفتك ويتوسل إليك بربوبيتك، وبمحمد وآله صفوتك من بريتك.
فكيف يا مولاي يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ورأفتك؟! أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل عواطف فضلك ورحمتك؟! أم كيف يحرقه لهبها وأنت تسمع صوته وترى شديد نكاله؟! أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت ترى ضعفه وسوء حاله؟!
هيهات ما ذلك الظن بك، ولا المعروف من فضلك وامتنانك، ولا مشبة لما عاملت به الموحدين من برك وإحسانك.
فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلها بردا وسلاما، وما كانت لأحد فيها مقرا ولا مقاما، لكنك تقدست أسماؤك، وجل ثناؤك، أقسمت أن تملأها من الكافرين، من الجنة والناس أجمعين.
يا نفس:
فكوني بهذه المناقشة والمحاسبة راضية، ولهذه النصيحة والموعظة واعية، ولا تنسي ما ذكرت، ولا تأمني ما حذرت (1).
فإن قادك الهوى والصبوة، وغلبتك (2) عن قبول ذلك القسوة، فاستعيني على زوال ذلك بدوام التهجد والقيام، فإن لم يزل فبالمواظبة على الصيام، فإن لم يزل فبصلة الأرحام والتلطف بالأيتام، فإن لم يزل فانظري هل تسمح عينك من الدمع بقطرة؟ أو هل يأخذك على مصيبتك حزن وحسرة؟
فإن سمحت عينك بالبكاء، فقد بقي فيك موضع للرجاء، فاطلبي من الله التوفيق والإعانة، وادمني الاستغفار وطول الاستكانة، لعله أن يرحم ضعفك، ويجبر معصيتك (3)، ويعز ذلك، ويقبل توبتك، فلا ملجأ إلا إليه، ولا متكل إلا عليه، فإنه يفك الأسير، ويقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، لا يخيب من أمله ورجاه، ويجيب المضطر إذا دعاه.
فاطلبي من الذي عنده مفاتح الغيب، أن يغفر لك قبائح العيب.
وليكن مقامك مقام البائس الفقير، وسؤالك سؤال المسكين الحقير، وادعيه (4) دعاء الهالك الغريق، فهو أرأف من كل شفيق، والمسؤول جواد والمطلوب منه كريم، ورحمته واسعة وعفوه عظيم، وهو القائل: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
____________
(1) في ب: ولا تنسي ما ذكرتك ولا تأمني ما حذرتك.
(2) في ج، د: وغيبتك.
(3) في أ: مصيبتك.
(4) في ج، د: وأدعيتك.
وبالجملة فلا تيأسي من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا تأمني مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
بيت:
أخاف وأرجو عفوه وعقابه | وأعلم حقا أنه ملك عدل |
فإن يك عفو فهو منه تفضل | وإن يك تعذيب فإني له أهل |
يا نفس:
لقد بصرت إن أبصرت، وأسمعت إن سمعت، وهديت إن اهتديت، ووعيت إن وعيت، فاحفظي وصيتي، وجانبي معصيتي، وأخذي (2) مثالي، وافقهي أمثالي، فيا لها مواعظ شافية، وأمثالا كافية، لو صادفت قلوبا زاكية، وأسماعا واعية.
ولنختم هذه المحاسبة بهذه المناجاة، لتكون إن شاء الله وسيلة إلى ركوب سفينة النجاة، والفوز بغرفات الجنات، ورضى رب الأرضين والسماوات.
وهي هذه المناجاة:
إلهي لك الحمد الذي لا نهاية | له ويرى كل الأحانين (3) باقيا |
وشكرا يفوت العد والرمل والحصا | ونجم السما والقطر ثم الأواديا |
____________
(1) الزمر 39: 53.
(2) في أ: واحذري.
(3) في هامش المصباح: الأحانين: جمع حين، والأوادي جمع: البحر، وقوله: أباحته، أي هيأت له، قاله الكفس عفى الله عنه.
على أن رزقت العبد منك هداية | أباحته (1) تخليصا من الكفر واقيا |
فأنت الذي أطعمتني وسقيتني | ولولاك كنت الدهر غرثان ظاميا |
وأنت الذي آمنت خوفي بحكمة | أيارجها (2) تلقاه للنصر شافيا |
وأنت الذي أعززتني بعد ذلة | وصيرتني بعد الإذالة عاليا |
وأنت الذي أغنيتني بعد فاقتي | فأصبحت من جدوى جدائك ثاريا |
وأنت الذي في يوم كربي أغثتني | وقد كنت مكثورا (3) وللنصر ساليا |
وأنت الذي لما دعوتك مخلصا | بلا مرية حقا أجبت دعائيا |
وأنت الذي أوليتني منك عصمة | رأيت بها طرف المكاره خاسيا (4) |
وفي أحسن التقويم ربي خلقتني | وسيرت لي في الخافقين (5) مساعيا |
وكم لك يا رب الأنام مواهبا | وكم منن تحكي الرياح السوافيا (6) |
ومن بعد هذا عن صراطك سيدي | تنكبت إذ ألفي لأمرك عاصيا |
فكم زلة أثبتها في صحائفي | وكنت بها أعلى (7) المعاصي راقيا |
وكم مأثم حقا تقمصت (8) قمصه | وكم من يد حسنا جعلت مساويا |
وكم صهوة (9) في منكر امتطيتها | وكنت بميدان الهوى متماديا |
____________
(1) في أ: أتاحته.
(2) في هامش المصباح: الأيارج: دواء كثير المنافع يستعمله الأطباء، وهنا استعارة.
(3) في هامش المصباح: المكثور الذي كثر عليه العدو وفقد البصر.
(4) أي: بعيدا وصاغرا. مجمع البحرين 1: 121 خسا.
(5) كذا في م، وفي أ: وصيرت في الخافقين.
(6) أي: الرياح المسرعة التي تسقي التراب وتذروه. مجمع البحرين 1: 230 سفا.
(7) في المصباح: أوج، وفي الهامش: الأوج ضد الهبوط، وهو من الاصطلاحات، وأهمله الجوهري.
(8) في هامش المصباح: قوله تقمصت، أي: استوليت عليه واستبددته، ومنه قول علي عليه السلام:
ولقد تقمصها فلان وفلان، قاله الكفعمي.
(9) في هامش المصباح: قوله: وكم صهوة: مقعد الفارس، والامتطاء: الركوب.
وكم من عهود حنثتها متعمدا | وصرت بها عن قرب عفوك قاصيا |
وكم لذة من بعدها النار لم أخف | عواقبها بل كنت فيها مواليا |
وكم من هوى تابعته فأضلني | فأصبحت من أثواب سخطك كاسيا |
وكم واجب ضيعته يوم شقوتي | وعزمي أضحى في المعازف (1) ماضيا |
فيا نفس هلا اعتبرت بمن مضى | ودورهم للموت أمست خواليا |
فهم ببطون الأرض أضحوا رهائنا | محاسنهم فيها (2)، يرين بواليا |
كم اخترمت (3)، أيدي المنون من الورى | قرونا فأمسوا في القبور جواثيا |
وكم من مليك قد تمكن ملكه | سقاه الردى كأسا من الموت ظاميا |
فما منعت عنه الصياصي (4) التي بنى | ولا كان بالأموال للنفس فاديا |
ولم يغن عنه جمعه وجنوده | وأصبح منه ناظر العين خاسيا |
فكم فرح مستبشر بوفاته | وكم ترح أضحى لذلك (5) باكيا |
فيا نفس جدي في البكاء واندبي | زمانا به قد كان شرك ساميا |
ويا نفس ماذا تصنعين بحق من | له الحق في يوم يريد التقاضيا (6) |
ويا نفس توبي عن هواك واقصري | وسحي (7) دموعا بل دماء (8) جواريا |
ويا نفس ولى العمر والشيب قد أتى | نذيرا بقرب الموت لا شك ناعيا |
ويا نفس قومي في الظلام بذلة | ورقة قلب يجعل الصخر جاريا |
____________
(1) في هامش المصباح: قوله: في المعازف، المعازف: الملاهي، وعزفت: لهوت.
(2) في أ: منها.
(3) في هامش المصباح: قوله: اخترمت، أي: استأصلت، واخترمت الدهور: استأصلت.
(4) هي الحصون والقلاع التي يمانعون بها. مجمع البحرين 4: 174 صيص.
(5) في أ: أضحى منه كذلك.
(6) كذا في المصباح، وفي أ: التقاصيا.
(7) أي: سيلي. مجمع البحرين 2: 370 سحح.
(8) في أ: بالدماء.
وقولي: إلهي أنت أكرم من عفى | وأجدر من يولي (1) والأياديا |
إلهي إلهي دق عظمي وانمحى (2) | من العالم الأرضي ذكري وشأنيا |
إلهي إلهي أقحمتني مآثمي (3) | تعمدتها تحكي البحور الطواميا (4) |
إلهي أمن أهل الشقاء خلقتني | فأبدي أشجانا تطيل بكائيا |
إلهي أهل في الفائزين جعلتني | فأفرح في دار المقام رجائيا |
إلهي بباب العفو أصبحت سائلا | ذليلا أرجي أن تجيب دعائيا |
إلهي لئن أقعدت عن سبق طائع | فتوحيد ربي قد أقام قواميا |
إلهي لسان في ثنائك (5) مدأب | فكيف يرى في الحشر للنار صاليا |
إلهي لئن أخطأت كل طريقة | فإني أصبت الخوف منك إلهيا |
إلهي إذا لم تعف إلا عن امرئ | أطاع فمن للذي (6) جاء خاطيا |
إلهي لئن عذبتني فبمأثمي | وإن جدت لي فالفضل ألقاه فاشيا |
إلهي إذا ذنبي أباح عقوبتي | أراني ارتجائي حسن صفحك دانيا |
إلهي فاجعلني مطيعا أجرته | وإن لم يكن فارحم لمن جاء عاصيا |
إلهي أمرت الضيف يقري (7) ضيفه | فكن لي بعفو منك يا رب قاريا |
نزلت بباب العفو أرجو إجارة | فعرب الفلا ناوي النزيل الأمانيا |
وحاشاك يا رب البرية كلها | ترد عبيدا مستجيرا مواليا |
____________
(1) وهو: السائل والطالب. مجمع البحرين 1: 82 جدا.
(2) في أ: وانتحى.
(3) في المصباح: مآثم.
(4) قال ابن منظور في اللسان 12: 370 طمم: طم الماء يطم طما وطموما: علا وغمر.
(5) في أ: ثناياك.
(6) في أ: فمن ذا الذي.
(7) أي: يضيف ويحسن إليه. مجمع البحرين 1: 340 قرا.
وحاشاك في يوم القيامة أن أرى | وحظي من نبل المراحم خاليا |
وحاشاك في يوم التغابن أن يرى | بي الغبن أو أضحى من العفو عاريا |
وإن يقيني فيك إنك منقذي | من النار في يوم تشيب النواصيا |
وكيف أذوق النار يا خالق الورى | وذلي قد أمسى بعزك لاجيا |
وكيف أذوق النار يا رافع السما | وطرفي قد أضحى ببابك باكيا (1) |
سليل الجباعي جاء نحوك تائبا | ذليلا يرى في حندس الليل (2) داعيا |
سليل الجباعي يشتكي من جرائم | صغائرها تحكي الجبال الرواسيا (3) |
؟؟؟ يبلى اللكام (4) بحملها | لذل وأضحى بالثبور مناديا |
بعثت الأماني نحو جودك سيدي | فرد الأماني العاطلات حواليا |
وأرسلت آمالي خماصا عواريا | بحقك فارجعها بطانا كواسيا |
أقلني أجرني أجزني يا مؤملي | مكارمك العظمى فقد جئت راجيا |
وصل على خير (5) النبي وآله | وعترته ما أصبح الدهر باقيا |
____________
(1) في أ: باقيا.
(2) أي: في شدة ظلام الليل. مجمع البحرين 4: 61 حندس.
(3) أي: الجبال الثابتة. مجمع البحرين 1: 153 رسا.
(4) في هامش المصباح: جبل اللكام هو: جبل الفرح الذي بين مكة والمدينة يمضي إلى الشام حتى يتصل بلبنان ثم يتصل بجبال أنطاكية ويسمى هناك اللكام، قاله القزويني في عجائبه.
(5) في المصباح: على المولى.