الصفحة 174

واعلمي: أنه من كان مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان مقيما قاطنا، ويقطع المسافة وإن كان واقفا ساكنا.

بيت:

إن الليالي للأنام (1) مناهلتطوى وتنشر دونها الأعمار (2)

أفبعد المشيب تخدعين بالزبيب، وقد علمت أن الموت قريب، وللنقص في كل يوم منك نصيب.

يا نفس:

لو رأيت قرب ما بقي من أجلك، لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من صالح عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غدا ندمك، لو زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وفارقك الولد القريب، ورفضك الوالد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائدة، ولا في حسناتك زائدة، فاعملي ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة.

يا نفس:

ألا تستحين من التوبيخ والتعنيف، على طول التسويف، والذي يدعوك إلى التسويف اليوم هو معك غدا، وإنما تزدادين بطول المدة ردى، وكلما فعلت

____________

(1) في ج، د: والأيام.

(2) في ب: الأعمال.

الصفحة 175
حوبة، وعدت نفسك التوبة، وتقولين: إن شبت (1) تبت، أو عمرت أنبت، ويرى جهلك أن الانسان، يستبعد الموت مع الشبان، وهذا جهل منك أيها النفس القرونة (2)، والأمر بالعكس يا مسكينة، لأن الموت في الشباب أكثر، وفي الشيوخ أنزر

يا نفس:

ومثاله: لو عددت مشايخ بلدتك، وشيب قريتك، لكانوا أقل من عشرة رجال، وتجدين الشبان والأطفال (3) أكثر منهم على كل حال، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف من الأطفال والشبان، والغلمان والصبيان، على أن الموت ليس له وقت مخصوص، ولا عليه آن منصوص، بعيد أو قريب، في شباب أو شيب، في شتاء أو صيف، أو ربيع أو خريف، فإذا جهلك بموتك وحب الدنيا، دعياك إلى طول الأمل واتباع الهوى.

يا نفس:

مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالها، ونسيانهم للآخرة وإهمالها، كمثل قوم ركبوا السفينة في البحر للتجارة، فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة، والملاح يناديهم: إياكم وطول المكث، ودوام اللبث، فمن اشتغل منكم بغير الوضوء والصلاة فاتته سفينة النجاة، فالعقلاء منهم لم يمكثوا، وشرعوا في الوضوء

____________

(1) في ب: شئت.

(2) في ج، د: البقرية.

(3) في ب: وتجدين الشبان والغلمان والصبيان.

الصفحة 176
والصلاة ولم يلبثوا، فوجدوا الأمن والعافية، وأماكن السفينة خالية، فجلسوا في أطهر الأماكن وأوفقها، وأطيب المواضع وأرفقها.

يا نفس:

ومنهم من وقف ينظر إلى شجرة تلك الجزيرة وأثمارها، ويستمع إلى طيب ترنم أطيارها، فغفلوا لذلك غفلة قليلة، أعقبتهم حسرة طويلة، فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا مفرجا، بل مكانا حرجا، فقعدوا في أضيق المواطن وأظلمها، وأحرج الأماكن وأشأمها.

يا نفس:

ومنهم من لم يقتنع بالنزهة والتفرج، وأطال مدة المكث والتبرج، واشتغلوا بجمع ما في الجزيرة من اللآلي الثمينة، ولم يلتفتوا إلى مناداة الملاح في السفينة، فتحيروا إذ ذهبت السفينة في الرجوع، وغار (1) من الجزيرة الينبوع (2)، ثم جدت من شروشها، وخرت على عروشها، فمنهم من هوى فيها صريعا، أو مات بها جوعا، ومنهم من أهلكته السباع، وأكلته الضباع، فالقوم المتقدمون هم المؤمنون، والقوم المتوسطون هم الذين للطاعة والمعصية يخلطون، والقوم المتأخرون هم المجرمون.

____________

(1) في ب: وعاد.

(2) أي: العين. اللسان 8: 345 نبع.

الصفحة 177

يا نفس:

ومثل أهل الدنيا كضيف دعي إلى دار فيها فائدة، وطعام تأنق (1) فيه على مائدة، وعادة المضيف أن يزين للأضياف داره، ويدعوا إليها زواره، ويضع بين أيديهم طبقا من الذهب، مملوءا من الرطب، ومجمرة من فضة فيها من العود والبخور، ما يتطيب به أولئك الحضور

يا نفس:

فالعاقل [ ترينه ] قد تطيب وانطلق، ولم يطمع في تناول المجمرة والطبق، والجاهل لعظم الجهالة يتوهم أن المجمرة والطبق قد وهبا له، فأخذ عند خروجه الطبق والمجمرة فأخذا منه قهرا فما أخسره، فضاق صدره وأتعب قلبه، وطلب الإقالة إذ أظهر ذنبه، وجلله عار ذلك وغشاه، ودرعه ورداه، فالدنيا كمثل دار الضيافة، يتزود منها من يريد قطع المسافة، ولا يطمع فيما في الدار من المتاع، لما وصفناه من عاقبة الارتجاع.

يا نفس:

مثل من ترك الدنيا وطلقلها، وأبغضها وفارقها، كمثل قوم نبأ بهم منزل

____________

(1) أي: تجود. اللسان 10: 363 نوق.

الصفحة 178
جديب (1)، فأموا بمنزل (2) خصيب (3)، فاحتملوا وعثاء (4) الطريق، وفراق الصديق، ليأتوا سعة دارهم، ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما، ولا يرون النفقة فيه مغرما، ولا شئ أحب إليهم مما قربهم إلى منزلهم، وأدناهم إلى محلهم.

يا نفس:

ومثل من اغتر بها، وحواها وصحبها، كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب، فنبا بهم منزل جديب، فلا شئ أكره إليهم ولا أفظع (5) لديهم إلى ما كانوا فيه، إلى ما يهجمون (6) عليه ويصيرون إليه.

يا نفس:

لو أعطيت في دنياك دينارا في سهر ليلة، لملت إلى ذلك ميلة وأية ميلة، خصوصا إذا كان في مزاح ولغو، وسماع ولهو، ولو أعطيت على سهرها لأداء نفل أو فرض، قصرا من الذهب يوم النشور والعرض، لكنت عن ذلك نائمة، وله غير رائمة (7)، فيا عجباه منك إذ تبتغي قصرا من قصار بدينار، وتستبدلي

____________

(1) أي: انقاد بهم منزل جديب لم يوافقهم ولم يجدوا به قرارا. اللسان 15: 302 نبأ.

(2) في أ. ج، د: المنزل.

(3) من الخصب وهو نقيض الجدب، وهو كثرة العشب ورفاغة العيش. اللسان 1: 355 خصب.

(4) أي: شدة ومشقة. اللسان 2: 202 وعث.

(5) في أ. د: ولا أقطع.

(6) في د: ما يهجعون.

(7) أي: غير طالبة. مجمع البحرين 6: 76 روم.

الصفحة 179
الجنة بالنار.

يا نفس:

ولو قيل لك خذي هذا الدينار، على عدم إفطار هذا النهار، لجعلت الصوم أمرا واجبا، وفرضا لازما، ولو قيل لك: يفتح لك بصومه أبواب الجنان، وتغلق عنك أبواب النيران، لكنت في ذلك غير راغبة، وله غير طالبة، فيا عجباه منك إذ تبيعي غرفات الجنان الباقية، بشئ يسير من الذهبات الفانية.

يا نفس:

إنما كرهت الموت لأنك عمرت دنياك، وأخربت أخراك، فأنت لا تريدين إلى الخراب الرحلة، وتكرهين من العمران النقلة، إن قلت: كيف ترى حالي، عند الله ومالي؟ قلت: أعرضي نفسك على القرآن الكريم، في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) (1) فإن كنت من الأبرار فالجنة مأواك، وإن كنت من الفجار فالنار مثواك، فإن قلت: أين حجي وزكاتي، وصومي وصلاتي؟ قلت: أعرضيه على الكتاب المبين، في قوله تعالى:

(إنما يتقبل الله من المتقين) (2)، فإن كنت من المتقين صلحت أحوالك وتقبلت أعمالك، وإن كنت من العاصين اقمطر نكالك (3) وعظم وبالك، فإن

____________

(1) الانفطار 82: 13 - 14.

(2) المائدة 5: 27.

(3) أي: انتشر ضعفك. اللسان 5: 117 قمطر، المفردات: 506 نكل.

الصفحة 180
قلت: فأين شفاعة الرسول، يوم العرض المهول؟ قلت: أعرضيه على الكتاب المكنون، في قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) (1)، فإن كنت لله طائعة ومن خشيته فازعة شفع فيك أهل الشفاعة، وإن كنت مزجاة البضاعة في الطاعة فأنت من أهل الإضاعة، فإن قلت: فأين رحمة الله الواسعة، ومننه المتتابعة؟ قلت أعرضيه على الكتاب المبين، في قوله تعالى: (إن رحمت الله قريب من المحسنين) (2) إن كنت من المحسنين رحمت، وإن كنت من المسيئين نقمت.

يا نفس:

لست مستعدة للموت إذ أتاك، ولا أنت مجمعة عن التحول عن هواك، أترين بعد الموت دارا لك فيها كرة (3) وهل تأمنين الموت أن يأتيك على غمرة (4).

واعلمي: أن يومك هذا يوم موجود، وهو ماض ولا يعود، والله تعالى سائلك عنه فيما أفنيته؟ فهل شكرت الله فيه أو حمدته أو قضيت حاجة مؤمن فيه؟ وهل بظهر الغيب في أهله وولده حفظته أو نفست عنه كربة وأعنته؟ (5).

يا نفس:

إن في صحف إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: أن

____________

(1) الأنبياء 21: 28.

(2) الأعراف 7: 56.

(3) أي: رجعة. مجمع البحرين 3: 471 كرر.

(4) قال الخليل في العين 4: 417 غمر: وغمرة الموت: شدته.

(5) في أ، ج: وأغنيته.

الصفحة 181
للعاقل أربع ساعات: فساعة يخلو فيها للطاعات، وساعة للفكر في المصنوعات، وساعة يحاسب فيها نفسه على الزلات، وساعة يقضي فيها وطره فيما يحل من اللذات، فطوبى لمن صلحت سريرته، وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من مقاله.

يا نفس:

في الحديث: خصلتان تدخلان النعيم، وتقيان الجحيم، وهما: احتمال ما يكره إذا أحبه الله، وترك ما يجب إذا أبغضه الله.

واعلمي: أن أكثر يوم القيامة حسرة من قتل (1) فائدة خيره، ورأي حسناته في ميزان غيره، أدخل الله هذا بماله الجحيم، وأدخل الله وارثه بماله النعيم.

يا نفس:

لا تعمرين الدنيا فلا بد من فراق حملها (2)، وصانعي وجها واحدا يكفيك الوجوه كلها.

واعلمي: الويل كل الويل لمن باع نعيما دائم البقاء بكسرة تفنى، وخرقة تبلى.

____________

(1) في ج، د: قرا.

(2) في ج، د: محلها.

الصفحة 182

بيت:

كفى حزنا ألا حياة لذيذةولا عمل يرضى به الله صالح

يا نفس:

في الحديث: أن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فاتقي في الخلوات المآثم، فإن الشاهد هو الحاكم.

واعلمي: أن في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الآخرة عز النفوس، فيا عجباه لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى، ويترك العز في طلب ما يبقى.

شعر:

... ... ... (1)فمر تجع بموت أو زوال

يا نفس:

ما يضرك إذا رزقت خير الآخرة ما فاتك من الدنيا وأصابك من شدائدها، وما ينفعك إذا حرمت خير الآخرة ما أصابك من الدنيا وفوائدها.

____________

(1) في أ، ب، وردت كلمات لم نستطع قراءتها.

الصفحة 183

بيت:

ما عذر (1) من يعمر أو طانهوجسمه مستهدم يخرب
يبكي على الذاهب من مالهوإنما يبقى الذي يذهب

يا نفس:

لا تنظري إلى صغير الخطيئة ولكن انظري إلى من عصيت، ولا ترثي لمن ظلمت ولكن ارثي لسوء ما جنيت.

واعلمي: أن ما قل وكفي، خير مما كثر وألهى، وأن صاحب الدينارين، أطول حسابا من صاحب الدرهمين، وأن النوم على المزابل وأكل خبز الشعير، في طلب الجنة (2) ولذاتها يسير.

بيت:

خبز شعير وماء بئروثوب قطن مع السلامة
أفضل من نعمة جزيلةتكون عقباها الندامة

يا نفس:

عجبا لمن عرف الله كيف يقترف السيئات، ولمن أيقن بالموت كيف تهنؤوه اللذات، ولمن تحقق البعث والحساب كيف يترك الطاعات!

____________

(1) في أ: ما عز.

(2) في ج، د: الفردوس.

الصفحة 184
واعلمي: أن تقوى الله زاد لا يفنى، والعمل الصالح كفن لا يبلى، فإياك أن يراك الله حيث زجرك، أو يفقدك حيث أمرك.

يا نفس:

الكيس العاقل (1) من يهدم دنياه فيبني بها أخراه، والأحمق الجاهل من يهدم أخراه فيبني بها دنياه.

واعلمي: أنك لا تدركين ما تأملين إلا بالصبر على ما تكرهين، ولا تبلغين ما تريدين إلا بترك ما تشتهين.

وإياك والبطنة فإنها ثقل في الحياة، ونتن في الممات، فمن لزمها كثرت أسقامه، وفسدت أحلامه، لأنه إذا امتلأت المعدة قلت الإفادة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

والعجب أنك تعلمين أن البطنة خزانتها الكنيف (2)، وأن الصدقة خزانتها اللطيف، وأن الصدقة بالدرهم السخيف، يحذي الخطوة بالقصر المنيف، ثم تكوني عند الصدقة راقدة، وفي ثوابها العظيم زاهدة.

يا نفس:

في الحديث: إن صلاة الليل من السنة، ومفتاح الجنة، بها تقبل الأعمال، وتنمو الأموال، وتكون لمصليها مؤنسا في القبر، وسراجا وظلا فوق رأسه في الموقف، وتاجا وسترا بينه وبين النار، وحجة وجوازا على المراط، ومحجة ونورا

____________

(1) في ج، د: الكيس الفطن الحذر.

(2) وهو: الموضع المعد للخلاء. مجمع البحرين 5: 116 كنف.


الصفحة 185
يسعى أمامه، وثقلا في ميزانه يوم القيامة، وهي مطردة للأدواء والبليات، ومرضاة لرب الأرضين والسماوات، وهي المشار إليها بقوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) (1).

وفي الحديث عن النبي المختار: ركعتان بالليل أفضل من ألف ركعة بالنهار.

يا نفس:

عليك بالدعاء فإنه مفاتيح الرحمة، ومجاديح (2) النعمة، ومقاليد الفلاح، ومصابيح النجاح، وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي، وقلب تقي، وفي المناجاة، سبب النجاة، وفي الإخلاص، يكون الخلاص، وإذا اشتد الفزع، فإلى الله المفزع.

بيت:

يا من يرى ما في الضمير ويسمعأنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلهايا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن ملكه في قول: كنامنن فإن الخير عندك أجمع

____________

(1) هود 11: 114.

(2) المجاديح: الأنواء، والأنواء عند الجاهلية: ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها من الصيف والشتاء والربيع والخريف، يسقط منها، في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ... وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا: لا بد من أن يكون عند ذلك مطر أو رياح. اللسان 2: 421 جدح و 1: 176 نوأ.


الصفحة 186

ما لي سوى فقري إليك وسيلةبالافتقار إليك فقري أدفع (1)
ما لي سوى فزعي لبابك حيلةفلئن رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمهإن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك (2) أن يقنط عاصياالفضل أجزل (3) والمواهب أوسع

يا نفس:

إن تخاذلت عن الاستعانة بمولاك، وتقاعدت عن الاستقامة في طلب هداك، يوشك أن ينتهز بك الملعون الفرصة، فتعلق بك مخاليبه (4) فتكون عليك غصة، ثم لا تقدرين من حبائله (5) على الخلاص، وليس لك من مصائده مناص (6)، ثم بعد ذلك تلحقين، بالأشقياء والمعذبين.

فعليك بكثرة الاستغاثة والصراخ، قبل أن يعلق بك الفخاخ (2). ولازمي قرع الباب، عسى أن يرفع لك الحجاب، وقولي بلسان الخجل والانسكار، في مناجاة الملك الجبار، ما كان يقوله سيد العباد، في بسط الرجاء إلى الملك الجواد:

إلهي وعزتك وجلالك، لو قرنتني بالأصفاد، ومنعتني سيبك (8) من بين الأشهاد، ودللت على فضائحي عيون العباد، وأمرت بي إلى النار، وحلت بيني

____________

(1) في ب: أرفع.

(2) في ج: لجودك.

(3) في أ: أجرك.

(4) أي: أظافيره. العين 4: 270 خلب.

(5) وهي: مصائده. مجمع البحرين 5: 348 حبل.

(6) أي: ملجأ. المفردات: 509 نوص.

(7) الفخاخ جمع فخ وهو: آلة يصاد بها. مجمع البحرين 2: 439 فخخ.

(8) أي معروفك وعطاءك. العين 7: 313 سيب.

الصفحة 187
وبين الأبرار.

ما قطعت رجائي منك، ولا صرفت تأميلي للعفو عنك.

ولئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك، وجمعت في النار بيني وبين أهل بلائك، فبعزتك يا سندي ومولاي أقسم صادقا، لئن تركتني ناطقا، لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين، يا حبيب قلوب الصادقين، ويا إله العالمين.

أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك، تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن، فيها بمخالفته، وذان طعم عذابها بمعصيته، وحبس بين أطباقها بجرمه وجريرته، وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك ومعرفتك ويتوسل إليك بربوبيتك، وبمحمد وآله صفوتك من بريتك.

فكيف يا مولاي يبقى في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ورأفتك؟! أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل عواطف فضلك ورحمتك؟! أم كيف يحرقه لهبها وأنت تسمع صوته وترى شديد نكاله؟! أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت ترى ضعفه وسوء حاله؟!

هيهات ما ذلك الظن بك، ولا المعروف من فضلك وامتنانك، ولا مشبة لما عاملت به الموحدين من برك وإحسانك.

فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلها بردا وسلاما، وما كانت لأحد فيها مقرا ولا مقاما، لكنك تقدست أسماؤك، وجل ثناؤك، أقسمت أن تملأها من الكافرين، من الجنة والناس أجمعين.


الصفحة 188

يا نفس:

فكوني بهذه المناقشة والمحاسبة راضية، ولهذه النصيحة والموعظة واعية، ولا تنسي ما ذكرت، ولا تأمني ما حذرت (1).

فإن قادك الهوى والصبوة، وغلبتك (2) عن قبول ذلك القسوة، فاستعيني على زوال ذلك بدوام التهجد والقيام، فإن لم يزل فبالمواظبة على الصيام، فإن لم يزل فبصلة الأرحام والتلطف بالأيتام، فإن لم يزل فانظري هل تسمح عينك من الدمع بقطرة؟ أو هل يأخذك على مصيبتك حزن وحسرة؟

فإن سمحت عينك بالبكاء، فقد بقي فيك موضع للرجاء، فاطلبي من الله التوفيق والإعانة، وادمني الاستغفار وطول الاستكانة، لعله أن يرحم ضعفك، ويجبر معصيتك (3)، ويعز ذلك، ويقبل توبتك، فلا ملجأ إلا إليه، ولا متكل إلا عليه، فإنه يفك الأسير، ويقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، لا يخيب من أمله ورجاه، ويجيب المضطر إذا دعاه.

فاطلبي من الذي عنده مفاتح الغيب، أن يغفر لك قبائح العيب.

وليكن مقامك مقام البائس الفقير، وسؤالك سؤال المسكين الحقير، وادعيه (4) دعاء الهالك الغريق، فهو أرأف من كل شفيق، والمسؤول جواد والمطلوب منه كريم، ورحمته واسعة وعفوه عظيم، وهو القائل: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا

____________

(1) في ب: ولا تنسي ما ذكرتك ولا تأمني ما حذرتك.

(2) في ج، د: وغيبتك.

(3) في أ: مصيبتك.

(4) في ج، د: وأدعيتك.


الصفحة 189
إنه هو الغفور الرحيم) (1).

وبالجملة فلا تيأسي من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا تأمني مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

بيت:

أخاف وأرجو عفوه وعقابهوأعلم حقا أنه ملك عدل
فإن يك عفو فهو منه تفضلوإن يك تعذيب فإني له أهل

يا نفس:

لقد بصرت إن أبصرت، وأسمعت إن سمعت، وهديت إن اهتديت، ووعيت إن وعيت، فاحفظي وصيتي، وجانبي معصيتي، وأخذي (2) مثالي، وافقهي أمثالي، فيا لها مواعظ شافية، وأمثالا كافية، لو صادفت قلوبا زاكية، وأسماعا واعية.

ولنختم هذه المحاسبة بهذه المناجاة، لتكون إن شاء الله وسيلة إلى ركوب سفينة النجاة، والفوز بغرفات الجنات، ورضى رب الأرضين والسماوات.

وهي هذه المناجاة:


إلهي لك الحمد الذي لا نهايةله ويرى كل الأحانين (3) باقيا
وشكرا يفوت العد والرمل والحصاونجم السما والقطر ثم الأواديا

____________

(1) الزمر 39: 53.

(2) في أ: واحذري.

(3) في هامش المصباح: الأحانين: جمع حين، والأوادي جمع: البحر، وقوله: أباحته، أي هيأت له، قاله الكفس عفى الله عنه.

الصفحة 190

على أن رزقت العبد منك هدايةأباحته (1) تخليصا من الكفر واقيا
فأنت الذي أطعمتني وسقيتنيولولاك كنت الدهر غرثان ظاميا
وأنت الذي آمنت خوفي بحكمةأيارجها (2) تلقاه للنصر شافيا
وأنت الذي أعززتني بعد ذلةوصيرتني بعد الإذالة عاليا
وأنت الذي أغنيتني بعد فاقتيفأصبحت من جدوى جدائك ثاريا
وأنت الذي في يوم كربي أغثتنيوقد كنت مكثورا (3) وللنصر ساليا
وأنت الذي لما دعوتك مخلصابلا مرية حقا أجبت دعائيا
وأنت الذي أوليتني منك عصمةرأيت بها طرف المكاره خاسيا (4)
وفي أحسن التقويم ربي خلقتنيوسيرت لي في الخافقين (5) مساعيا
وكم لك يا رب الأنام مواهباوكم منن تحكي الرياح السوافيا (6)
ومن بعد هذا عن صراطك سيديتنكبت إذ ألفي لأمرك عاصيا
فكم زلة أثبتها في صحائفيوكنت بها أعلى (7) المعاصي راقيا
وكم مأثم حقا تقمصت (8) قمصهوكم من يد حسنا جعلت مساويا
وكم صهوة (9) في منكر امتطيتهاوكنت بميدان الهوى متماديا

____________

(1) في أ: أتاحته.

(2) في هامش المصباح: الأيارج: دواء كثير المنافع يستعمله الأطباء، وهنا استعارة.

(3) في هامش المصباح: المكثور الذي كثر عليه العدو وفقد البصر.

(4) أي: بعيدا وصاغرا. مجمع البحرين 1: 121 خسا.

(5) كذا في م، وفي أ: وصيرت في الخافقين.

(6) أي: الرياح المسرعة التي تسقي التراب وتذروه. مجمع البحرين 1: 230 سفا.

(7) في المصباح: أوج، وفي الهامش: الأوج ضد الهبوط، وهو من الاصطلاحات، وأهمله الجوهري.

(8) في هامش المصباح: قوله تقمصت، أي: استوليت عليه واستبددته، ومنه قول علي عليه السلام:

ولقد تقمصها فلان وفلان، قاله الكفعمي.

(9) في هامش المصباح: قوله: وكم صهوة: مقعد الفارس، والامتطاء: الركوب.

الصفحة 191

وكم من عهود حنثتها متعمداوصرت بها عن قرب عفوك قاصيا
وكم لذة من بعدها النار لم أخفعواقبها بل كنت فيها مواليا
وكم من هوى تابعته فأضلنيفأصبحت من أثواب سخطك كاسيا
وكم واجب ضيعته يوم شقوتيوعزمي أضحى في المعازف (1) ماضيا
فيا نفس هلا اعتبرت بمن مضىودورهم للموت أمست خواليا
فهم ببطون الأرض أضحوا رهائنامحاسنهم فيها (2)، يرين بواليا
كم اخترمت (3)، أيدي المنون من الورىقرونا فأمسوا في القبور جواثيا
وكم من مليك قد تمكن ملكهسقاه الردى كأسا من الموت ظاميا
فما منعت عنه الصياصي (4) التي بنىولا كان بالأموال للنفس فاديا
ولم يغن عنه جمعه وجنودهوأصبح منه ناظر العين خاسيا
فكم فرح مستبشر بوفاتهوكم ترح أضحى لذلك (5) باكيا
فيا نفس جدي في البكاء واندبيزمانا به قد كان شرك ساميا
ويا نفس ماذا تصنعين بحق منله الحق في يوم يريد التقاضيا (6)
ويا نفس توبي عن هواك واقصريوسحي (7) دموعا بل دماء (8) جواريا
ويا نفس ولى العمر والشيب قد أتىنذيرا بقرب الموت لا شك ناعيا
ويا نفس قومي في الظلام بذلةورقة قلب يجعل الصخر جاريا

____________

(1) في هامش المصباح: قوله: في المعازف، المعازف: الملاهي، وعزفت: لهوت.

(2) في أ: منها.

(3) في هامش المصباح: قوله: اخترمت، أي: استأصلت، واخترمت الدهور: استأصلت.

(4) هي الحصون والقلاع التي يمانعون بها. مجمع البحرين 4: 174 صيص.

(5) في أ: أضحى منه كذلك.

(6) كذا في المصباح، وفي أ: التقاصيا.

(7) أي: سيلي. مجمع البحرين 2: 370 سحح.

(8) في أ: بالدماء.

الصفحة 192

وقولي: إلهي أنت أكرم من عفىوأجدر من يولي (1) والأياديا
إلهي إلهي دق عظمي وانمحى (2)من العالم الأرضي ذكري وشأنيا
إلهي إلهي أقحمتني مآثمي (3)تعمدتها تحكي البحور الطواميا (4)
إلهي أمن أهل الشقاء خلقتنيفأبدي أشجانا تطيل بكائيا
إلهي أهل في الفائزين جعلتنيفأفرح في دار المقام رجائيا
إلهي بباب العفو أصبحت سائلاذليلا أرجي أن تجيب دعائيا
إلهي لئن أقعدت عن سبق طائعفتوحيد ربي قد أقام قواميا
إلهي لسان في ثنائك (5) مدأبفكيف يرى في الحشر للنار صاليا
إلهي لئن أخطأت كل طريقةفإني أصبت الخوف منك إلهيا
إلهي إذا لم تعف إلا عن امرئأطاع فمن للذي (6) جاء خاطيا
إلهي لئن عذبتني فبمأثميوإن جدت لي فالفضل ألقاه فاشيا
إلهي إذا ذنبي أباح عقوبتيأراني ارتجائي حسن صفحك دانيا
إلهي فاجعلني مطيعا أجرتهوإن لم يكن فارحم لمن جاء عاصيا
إلهي أمرت الضيف يقري (7) ضيفهفكن لي بعفو منك يا رب قاريا
نزلت بباب العفو أرجو إجارةفعرب الفلا ناوي النزيل الأمانيا
وحاشاك يا رب البرية كلهاترد عبيدا مستجيرا مواليا

____________

(1) وهو: السائل والطالب. مجمع البحرين 1: 82 جدا.

(2) في أ: وانتحى.

(3) في المصباح: مآثم.

(4) قال ابن منظور في اللسان 12: 370 طمم: طم الماء يطم طما وطموما: علا وغمر.

(5) في أ: ثناياك.

(6) في أ: فمن ذا الذي.

(7) أي: يضيف ويحسن إليه. مجمع البحرين 1: 340 قرا.

الصفحة 193

وحاشاك في يوم القيامة أن أرىوحظي من نبل المراحم خاليا
وحاشاك في يوم التغابن أن يرىبي الغبن أو أضحى من العفو عاريا
وإن يقيني فيك إنك منقذيمن النار في يوم تشيب النواصيا
وكيف أذوق النار يا خالق الورىوذلي قد أمسى بعزك لاجيا
وكيف أذوق النار يا رافع السماوطرفي قد أضحى ببابك باكيا (1)
سليل الجباعي جاء نحوك تائباذليلا يرى في حندس الليل (2) داعيا
سليل الجباعي يشتكي من جرائمصغائرها تحكي الجبال الرواسيا (3)
؟؟؟ يبلى اللكام (4) بحملهالذل وأضحى بالثبور مناديا
بعثت الأماني نحو جودك سيديفرد الأماني العاطلات حواليا
وأرسلت آمالي خماصا عواريابحقك فارجعها بطانا كواسيا
أقلني أجرني أجزني يا مؤمليمكارمك العظمى فقد جئت راجيا
وصل على خير (5) النبي وآلهوعترته ما أصبح الدهر باقيا

____________

(1) في أ: باقيا.

(2) أي: في شدة ظلام الليل. مجمع البحرين 4: 61 حندس.

(3) أي: الجبال الثابتة. مجمع البحرين 1: 153 رسا.

(4) في هامش المصباح: جبل اللكام هو: جبل الفرح الذي بين مكة والمدينة يمضي إلى الشام حتى يتصل بلبنان ثم يتصل بجبال أنطاكية ويسمى هناك اللكام، قاله القزويني في عجائبه.

(5) في المصباح: على المولى.


الصفحة 194


الصفحة 195

الصفحة 196

الصفحة 197

الصفحة 198

الصفحة 199

الصفحة 200

الصفحة 201