الصفحة 71

ونحن... وإن كنا نحتمل المعنى الذي ذكره المنذري، إلا أن ما جعله مؤيدا، لا يصلح للتأييد، إذ ان الظاهر هو: ان هذه الفقرة في صدر بيان كراهة جعل القبور في بيوتهم. وان دفن النبي (ص) في بيت ابنته فاطمة (1) إنما كان لمصلحة خاصة اقتضت ذلك، فليس لهم ان يتخذوا ذلك مؤشرا على رجحان الدفن في البيوت «وذلك لان للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم، وهي انهم يدفنون حيث يقبضون». (2)

فلا يصح ما ذكروه من انه (ص) لم يدفن في الصحراء، لئلا يصلى عند قبره، ويتخذ مسجدا فيتخذ قبره وثنا. (3)

وذلك لما قدمناه من الرواية المقتضية للخصوصية. هذا بالاضافة إلى أن دفنه في بيته أدعى لأن يتخذ مسجدا، خصوصا وأنه متصل بالمسجد النبوي، ولو كان في الصحراء، لأمكن المنع عنه بصورة أسهل... وقد منع عمر من الصلاة عند شجرة بيعة الرضوان، فامتنع الناس، ولذلك نظائر أخرى. (4)

وأما بالنسبة لفقرة: «لا تتخذوا قبري عيدا...».. فيحتمل قويا: أن يكون المراد: أن اجتماعهم عند قبره (ص) ينبغي أن يكون مصحوبا بالخشوع والتأمل والاعتبار، حسبما يناسب حرمته وأحترامه (ص)، فإن حرمته ميتا كحرمته حيا.. فلا يكون ذلك مصحوبا باللهو واللعب والغفلة والمزاح، وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم... ولعل هذا هو مراد السبكي حينما قال:

«ويحتمل: لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك، بل لا يؤتى

____________

1 ـ لقد نشرنا مقالا أثبتنا فيه أنه (ص) دفن في بيت فاطمة، لا في بيت عائشة فراجع كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والاسلام / ج 1.

2 ـ مقدمة شفاء السقام / ص 125 / 126 والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين.

3 ـ راجع: مقدمة شفاء السقام، المسماة: تظهير الفؤاد من دنس الاعتقاد / ص 118، والصارم المنكي / ص 261 / 262، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 151.

4 ـ راجع: الدر المنثور / ج 6 / ص 73، عن منصف ابن أبي شيبة، وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي / ص 144 و 145، والسيرة الحلبية / ج 3 / ص 25، وفتح الباري / ج 1 / ص 469، وج 7 / ص 345، وإرشاد الساري / ج 6 / ص 350، وطبقات ابن سعد / ج 2، قسم 1 / ص 73، وشرح النهج للمعتزلي / ج 1 / ص 178، وراجع الغدير / ج 6 / ص 146 و 147 عن من تقدم وعن غيره، وكذا كتاب التبرك / ص 226 ـ 235 عن من تقدم وغيره.

الصفحة 72
إلا للزيارة والسلام والدعاء». (1)

أما الرقص والغناء وغير ذلك من الحرمات، فهي من الأمور الممنوع عنها من الأساس فلا يبقى مجال للإشكال بها، حسبما ورد في كلام ابن الحاج وابن تيمية...

وأما قوله (ص): وصلوا علي حيث ما كنتم، فهو بيان لأمر ثالث آخر، وهو: أن الصلاة على النبي (ص) لا يجب ان يراعى فيها الحضور عنده، بل هي تصله عن بعد، كما تصله عن قرب.

وأما احتمال: أن يكون المعننى لقوله: لا تتخذوا قبري عيدا.. لا تتخذوا له وقتا مخصوصا (2)، فهو بعيد عن مساق الكلام، وعن ظاهره، بل يكون أشبه بالأحاجي والألغاز، كما ذكره البعض. (3)

وبعد كل ما تقدم، وبعد أن كان الظاهر من العبارة هو المعنى الذي أشرنا إليه، مع احتمال أن يكون كلام المنذري أيضا مرادا.. فلا تبقى الرواية صالحة للاستدلال بها على المنع من الاجتماعات، واقامة الموالد والذكريات والدعاء والزيارة في أوقات معينة، كما يريد ابن تيمية وأتباعه إثباته.. إذ يكفي لرد الاستدلال ورود الاحتمال العقلائي فيه، فكيف إذا كان هذا الاحتمال من القوة بحيث يصير صالحا لأن يدعى أنه هو الظاهر من الرواية دون سواه ؟ ولو سلمنا: أن احتمال إرادة المنع عن الموالد والذكريات والاجتماعات وارد في الرواية، فإنها لا أقل تصير مجملة لا ظهور فيها، فتسقط عن صلاحيتها للاستدلال بها... هاذ كله... بالاضافة الى أن الرواية خاصة بالتجمع عند القبور، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى غيرها من المواضع، ولعل لقبر النبي (ص) خصوصية في المقام، وهي: أنه يمكن أن يؤدي بهم الأمر إلى نحو من العبادة له، فمنع الشارع من التجمع عنده احتياطا لذلك بخلاف قبر غيره (ص)، فان احتمال ذلك أبعد..

____________

1 ـ كشف الارتياب / ص 449 عن السمهودي في وفاء الوفاء، وشفاء السقام / ص 67، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين / ص 122 /، والصارم المنكي م ص 297.

2 ـ المصادر المتقدمة.

3 ـ راجع: عون المعبود / ج 6 / ص 31 / 32، وراجع الصارم المنكي / ص 297.

الصفحة 73

الرواية عن السجاد (ع)، وابن عمه

وأما بالنسبة للرواية المنسوبة للإمام السجاد عليه السلام، وقريب منها الرواية المنسوبة لحسن بن الحسن والتي مفادها: أنه عليه السلام حينما لاحظ ذلك الرجل يأتي كل غداة فيزور قبر النبي (ص) ويصلي عليه حدثه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:

«لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم». (1)

فإن هذه الرواية ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام قد لاحظ: أن ذلك الرجل قد ألزم نفسه بأمر شاق، وهو المجيء يوميا للصلاة عليه صلى الله عليه وآله وزيارته، فأراد عليه السلام التخفيف عنه، وإفهامه: أن بإمكانه الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وآله حيثما كان، فسيبلغه ذلك، فلا داعي لإلزام نفسه بما فيه كلفة ومشقة. ولم ينهه عن الصلاة والدعاء عن قبره صلى الله عليه وآله. (2)

وعلى ذلك يحمل ما ورد عن حسن بن حسن أيضا..

وأما ما ذكره البعض من أن مراده عليه السلام: أن قصد القبر للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا.. كما أن حسن بن حسن شيخ أهل بيته (على حد تعبير هذا البعض) قد كره للرجل أن يقصد القبر للسلام عليه ونحوه، عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا.. إلى أن قال: «.. والعيد إذا جعل أسما للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده، أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام، ومنى، ومزدلفة وعرفة، جعلها الله عيدا مثابة للناس، يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء، والذكر والنسك». (3)

أما.. ما تقدم.. فإنه لا ينسجم مع سياق الحديث، وما ذكرناه هو الظاهر منه، ولا أقل هو محتمل بحيث يبطل به الاستدلال.. حسبما أوضحناه فيما سبق، بالنسبة لخصوص فقرة: لا تجعلوا قبري عيدا... وأما بالنسبة لما أراده الامام

____________

1 ـ قد تقدمت مصادر الرواية في ضمن مصادر رواية ابي داود عن أبي هريرة: لا تتخذوا قبري عيدا.

2 ـ أشار الى ذلك أيضا في شفاء السقام / ص 66، والصارم المنكي م ص 281 و 298.

3 ـ راجع: الصارم المكي / ص 298 عن ابن تيمية، وقد تقدم بعض ما يشير إلى ذلك في ضمن ما نقلناه من استدلالاتهم في الفصل السابق.

الصفحة 74
السجاد (ع)، فإن ما ذكرناه آنفا هو الظاهر الذي لا محيص عنه.

هذا.. بالإضافة الى ما أشرنا إليه سابقا من أن ذلك لا يدل على عدم جواز عمل الموالد، والذكريات.

المعاصي في المناسبات دليل المنع

ونحن لا ننكر أن ارتكاب أي من المعاصي لا يجوز، ولكن عدم جواز ذلك لا يختص بالاحتفالات، بل حرمتها مطلقة، ولا يلزم من تحريمها تحريم إقامة الذكريات والمواسم والاحتفالات، بل يمكن أن تكون هذه محكومة بالحلية، وتلك بالحرمة، ولا ملازمة بينهما، إذ يمكن إقامة الاحتفالات من دون تعرض للمعاصي إطلاقا، كما هو معلوم ومشاهد، وإلا... فلو استغلت الصلاة لخداع الناس مثلا فهل تكون الصلاة محرمة مطلقا أم أن المحرم هو خصوص هذا الذي يضاف الى الصلاة، ويجب الابتعاد عنه وتركه ؟ !

هذا كله عدا عن أن بعض ما ذكروه مما يفعل في المولد، أما ليس حراما واما محل الخلاف. وان كان بعضه لا شك في تحريمه.

إحياء سنن الجاهلية الخ..

وأما أن هذه المواسم إحياء لسنن الجاهلية فهو أول الكلام، فلابد من إثباته، وأما أنها إماتة لشرائع الاسلام من القلوب، فالقائل بجوازها يقول بعكس ذلك تماما، أي إنه يقول: إنها إحياء لشرائع الإسلام في القلوب، ولا سيما ما فيه تذكر للنبي ولأعماله العظيمة، وللإنجازات الكبرى للإسلام وللمسلمين.

ولو كان في هذه الاحتفالات هذا المحذور، بسبب ما يحدث فيه من الفرح واللهو والانصراف عن التفكر في الله وفي دينه وشرعه.. لوجب تحريم كل ما فيه هذه الخصوصية، حتى الزواج، وملاعبة الاطفال، والتجارة ووالخ.. فان ذلك أيضا فيه انصراف والتهاء عن التفكير في الله وفي شرعه وأحكامه.. بل هذه الأمور أدعى لذلك لما فيها من الاستمرار والتكرار لذلك، بخلاف المواسم والاحتفالات والزيارات والأعياد، فإنها قليلة جدا بالنسبة لما ذكرناه وأشباهه.

الصفحة 75

مانعية الاختلاف في المولد

وأما أن الاختلاف في مولده (ص) يوجب عدم جواز اتخاذ يوم مولده عيدا.. فهو عجيب بل وأعجب من عجيب، إذ ان معنى ذلك هو أن الاختلاف في يوم عرفة مثلا، أو في أول شهر رمضان، أو في أول شوال، بسبب الاختلاف في رؤية الهلال وعدمها يوجب عدم جواز الوقوف في عرفة، وصوم أول الشهر وافطاره.. كما أن الاختلاف الحاصل في أكثر المسائل الفقهية يوجب الحكم بالحرمة فيها.. ولا أدري لماذا نشأت الحرمة عن ذلك، ولم ينشأ غيرها من الأحكام.. وكذلك الحال بالنسبة للاختلاف في ليلة القدر، كذلك الاختلاف في أول ما نزل من القرآن... فإنه ينبغي أن يوجب حرمة قراءة ما اختلف فيه في الصلاة، وكذلك ما اختلف في كونه مكيا أو مدنيا أو في السفر، أو الحضر، أو أنه نزل في شأن فلان، أو فلان الآخر، وهكذا..

أضف إلى ذلك.. أن من المعروف عند جميع الفقهاء، والمتشرعة: أن ما يقع فيه الاختلاف، مما كان من هذا القبيل، يمكن أن يؤتى به برجاء إدراك الواقع..

هذا كله... عدا عن أن القائل بجواز إقامة الاحتفالات لا يدعي أنها جزء من الدين، فلابد من مراعاة خصوصياتها لذلك.. بل هو يقول: إنها من جملة الأشياء التي بقيت على الإباحة، حيث لم يرد فيها نهي، فمن شاء فعلها، ومن شاء، تركها، من دون أن يكون كل من الفعل أو الترك، ذا صفة تعبدية إطلاقا.. فتكون كسائر حركات الانسان وأفعاله.. التي لم يرد فيها ما يوجب ترجيحا، أو تقبيحا.

عدم الدليل العقلي.. والشرعي

وأما الاستدلال.. بأن ذلك لم يرد به عقل ولا شرع.. فقد تقدم آنفا الجواب عنه وأن من يدعي المنع هو الذي يحتاج الى الدليل.. وأما الآخرون، فهم لا يدعون أن ذلك ـ اعني الاحتفالات والموالد، ونحوها ـ من الشرع حتى يحتاجوا إلى الدليل المثبت لكونه قد ورد فيه تشريع بخصوصه.. كما أنهم لا يدعون كونها من الأحكام العقلية التي لا مفر منها ولا محيص عنها، بل هم يدعون عدم وجود

الصفحة 76
مانع عقلي ولا شرعي منها، وإنما هي باقية على الإباحة حتى يثبت الرادع أو المعين لأحد الأحكام الأخرى.. هذا كله.. عدا عن أن في هذه المناسبات والمواسم من الفوائد ما يجعلها راجحة عقلا إذا خلت من ارتكاب المعاصي، أضف الى ذلك: أن ثمة بعض الشواهد والدلائل التي تفيد مشروعية هذه المناسبات والاحتفالات.. بعضها ناظر إلى خصوص بعض المواسم.. وبعضها الآخر له صفة الإطلاق والعموم أو الخوص اللفظي، مع ملاحظة عموم العلة وخصوصها كما سنرى.

كما أن ثمة دليلا خاصا بالمولد.. وبغيره مما يرتبط بالأمور الدينية كما سنرى.

إيهام المشروعية

وأما الاستدلال على عدم مشروعية المواسم، بأن الناس العاديين يتوهمون مشروعيتها فيرد عليه:

أولا: إنها لا توهم ذلك، لأن الكل يعلم أنها من باب التكريم والتعظيم، ولا يتوهم أحد صدور أمر خاص بها، وبما لها من العنوان، وإنما يعتبرونها من قبيل الاحتفال بولادة ولد، أو قدوم عزيز.

وثانيا: لو سلم، فان ذلك لا يجعلها بدعة، ولا يلزمنا دفع الوهم المذكور إلا كما يلزمنا تعليم أي جاهل... ولو أوجب الوهم المذكور صيرورتها بدعة، لأوجبت هذه الأوهام تحريم كثير من المستحبات والمباحات، أو استحباب أو إباحة كثير من المحرمات، ونحو ذلك.. إذ قد يتوهم من المداومة على بعض النوافل مثلا وجوبها فهل تصبح من أجل ذلك بدعة محرمة، أم أن على الجاهل أن يتعلم، وعلى العالم أن يعلمه بالطرق العادية والمألوفة.

التخفيف عن الأمة.. والتعظيم بالوجه الشرعي

وأما حكاية ان النبي (ص) أراد التخفيف عن أمته فلم يلزمها بالمواسم والموالد، فقد تقدم وسيأتي أن الشارع قد طلبها بعنوانها العام، ولا أقل من أنها من الأمور المباحة التي لا مانع منها شرعا ولا عقلا.

وأما قولهم: إن التعظيم لابد وأن يكون بالوجه الشرعي.. فلا يختلف

الصفحة 77
الكلام فيه عن سابقة.

وليراجع الوجهان اللذان ذكرناهما حين الكلام على تقسيمات البدعة، ليتضح فساد ما ذكر هنا.

مشابهة النصارى

وأما حديث: أن في ذلك مشابهة للنصارى في أعيادهم الزمانية والمكانية..

فيكفي أن نذكر: أن عيد الفطر وعيد الأضحى يشبهان الأعياد الزمانية للنصارى أيضا، كما أن الحج مثلا ـ حسب تفسيرهم للعيد ـ يشبه أعيادهم المكانية بالإضافة إلى سائر أيام عيد الأضحى.. فينبغي أن يصبح عيد الفطر والأضحى محرمين وكذلك الحج، حسب ما يقتضيه الدليل المذكور. كما وينبغي تحريم بناء المساجد، بل وتحريم الاجتماع فيها للصلاة لأنه يشبه تجمع النصارى في كنائسهم.. كذا ينبغي تحريم الأكل والشرب ولبس الثياب.. وركوب الدابة الى غير ذلك.

وأيضا... فإن المتشابهة للنصارى، إن كانت في أمور تقتضيها طبيعة البشر وحياتهم وتعاملهم العادي والطبيعي، فلا مانع منها، وإن كانت نتيجة لتشريع إلهي يتحرى مصلحة البشر وسعادتهم، فلا مانع من ذلك أيضا.

وأما إذا كانت نتيجة اجتهاد بشري في مقابل التشريع الإلهي، بهدف إبطال الشرع والدين، أو بهدف الزيادة أو إحداث النقص فيه، فذلك هو الذنب، وتلك هي الجريمة بعنها، ولكن ما نحن فيه، إنما هو من القسم الأول.. بل ومن القسم الثاني كما سيتضح، لا من القسم الأخير.

يوم ولادته.. يوم موته (ص)

قال أبو بكر جابر الجزائري ـ تبعا لغيره ـ حول إعلان الفرح بمولده الشريف: «... وإن كان باليوم الذي ولد فيه، فإنه أيضا اليوم الذي مات فيه، ولا أحسب عاقلا يقيم احتفال فرح وسرور باليوم الذي مات فيه حبيبه.. إلى أن قال: أضف الى ذلك: أن الفطرة قاضية: ان الانسان يفرح بالمولود يوم ولادته، ويحزن عليه يوم موته، فسبحان الله، كيف يحاول الإنسان غرورا تغيير

الصفحة 78
الطبيعة...» (1).

ويقول: انه لم يدع أحد، أنه حتى في يوم الوفاة لابد من الفرح والسرور، ولا يلزم من قول المجوزين للمواسم والذكريات ذلك.

بل هم يقولون: إن كل ذكرى، لابد وأن يعمل فيها ما يناسبها، ولأجل ذلك نجد الحملة الشعواء من ابن تيمية، ومن لف لفه، على الروافض على إقامتهم المآتم في عاشوراء، والأفراح في يوم الغدير، ويوم المولد، وأشباهه. أضف الى ذلك.. أنهم كما يقيمون الافراح في مثل يوم مولده، ومبعثه صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك هم يقيمون العزاء، والحزن في مثل يوم وفاه.

وأما كون يوم وفاته هو يوم ولادته فهو ليس مما ينبغي أن يقال هنا، لأن الذكريات إنما تقام لصاحب الذكرى في كل عام مرة، وهذا يتوقف على الاختلاف في تواريخ الذكريات من حيث موقعها من الأشهر، والأيام فيه.

ولا تقام في كل أسبوع مرة، بحيث ينشغل الناس بها باستمرار، وتختل أعمالهم، وتتأثر مصالحهم، حتى يقال: إنه قد اجتمع يوم الحزن وهو والوفاة يوم الاثنين، مع يوم الفرح، وهو الولادة يوم الاثنين.

هذا كله... فضلا عن اعترافه أخيرا، بان الفطرة قاضية بالفرح يوم المولد، وبالحزن يوم الوفاة، والناس قد علموا في هذا الأمر تماما وفق مقتضيات الفطرة، والذين يمنعون من ذلك هم المخالفون لأحكام الفطرة، ولمقتضياتها.. كما هو الظاهر للعيان.

وليس ما نحن فيه إلا أدل دليل على ذلك.

موقف السلف من الأعياد والمواسم

وأما ما ذكروه من أن السلف، لم يقيموا هذه المواسم، ولم يفعلوا شيئا من هذه الأعياد، أو لم ينقل ذلك عنهم، فنقول:

1 ـ لسوف يأتي إن شاء الله تعالى أن السلف قد اختلفوا ببعض الأعياد

____________

1 ـ الانصاف في ما قيل في المولد من العلو والإجحاف / ص 54 / 55، وراجع كلام الفاكهاني ص 85 وفي رسالة حسن المقصد للسيوطي، الموجودة في الحاوي للفتاوي / ج 1 / ص 190 ـ 192، والقول الفصل / ص 51.

الصفحة 79
والمواسم، غير الفطر والأضحى، ولكننا نجد هؤلاء الذين يدعون لأنفسهم التبيعة للسلف، لا يعترفون بتلك الأعياد والمناسبات أيضا.

2 ـ وعلى فرض أن السلف لم يفعلوا بعض الأمور، ومنها الأعياد غير الفطر، والأضحى، فإن عدم فعلهم لا يضر، ما دام قد أنعقد الإجماع بعد ذلك على إقامة هذه المواسم والأعياد، ولا سيما عيد المولد النبوي، وعم ذلك جميع قطاعات الأمة، صغيرها وكبيرها، عالمها وجاهلها، رئيسها ومرؤوسها الخ.. كما تقدم حين الكلام على أول من عمل المولد النبوي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في الفصل الأول وبعده..

وقد استمر عمل الناس على هذه المواسم.. الى قرب ظهور ابن تيمية، الذي أقام الدنيا وأقعدها، في إنكاره أمورا واضحة، وفي دعاواه العريضة.

وهم أنفسهم قد صرحوا: بأن الإجماع معصوم، وبأنه يمكن أنعقاده في كل عصر وزمان، ويكون حجة.

بل لقد صرحوا: بأن الإجماع نبوة بعد نبوة، وليس لهم دليل معصوم سواه، وقد جعله الله في الشريعة خلف النبوة، حيث كان نبيها خاتم الأنبياء، لا يخلفه نبي، فجعل اجتماع أمته بدلا من نبوة بعد نبوة. (1)

نعم.. وقد أنعقد هذا الإجماع أيضا على إقامة مراسم النيروز والمهرجان، وكذا عيد الحجامة، والختان، وغير ذلك في العصور الثلاثة الأول، ثم على إقامة المولد بعد ذلك.

3 ـ وأما بالنسبة لإنكار بعض السلف زيارة القبور ـ قبور أئمة أهل البيت ـ في مواسم معينة، لأسباب سياسية ـ كما ظهر من المنصور، والمتوكل ـ ولتعصبات مذهبية،... إن صلح هذا دليلا، فإنما يصلح دليلا لأتباع ذلك البعض، وهو حجة عليهم، دون غيرهم من سائر الفرق والمذاهب الإسلامية.

4 ـ أضف إلى ذلك كله... أن آراء السلف وأقوالهم، ومواقفهم

____________

1 ـ راجع فيما تقدم: المنتظم لابن الجوزي / ج 9 / ص 210، وبحوث مع أهل السنة والسلفية / ص 27 عنه، عن أبي الوفاء بن عقيل، أحد شيوخ الحنابلة. وراجع (حول عصمة الاجماع أيضا) كتاب: الإلمام / ج 6 / ص 126، والإحكام في أصول الأحكام / ج 1 / ص 204 و 205، وحول حجية الاجماع في كل عصر / ص 208، فما بعدها، وراجع كذلك: تهذيب الأسماء واللغات، القسم الأول / ج 1 / ص 42، وسائر كتب الأصول الباحثة حول الاجماع وحجيته على مذاق أهل السنة.

الصفحة 80
متناقضة، ومتباينة، حتى الصحابة مع بعضهم البعض في كثير من المسائل، فما الذي يكون حجة منها ؟ وكيف ؟ مع انه لم ينقل لهم رأي في ذلك، لا أنه قد نقل لهم رأي مخالف بالنسبة للأعياد.

5 ـ ولو سلم صلاحية منعهم من زيارة القبور للاستدلال به، فإنما يقتصر على مورده، وهو زيارة القبور فحسب، ولا يصلح للاستدلال به على تحريم الاحتفال بعيد الاستقلال مثلا..

6 ـ وأما قولهم: إن السلف كانوا أكثر حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا فهو ينافي قول النبي (ص): إنه سيأتي أقوام يحبونه أكثر من حب أصحابه له، ونقل ذلك أيضا عن عمار بن ياسر. (1)

7 ـ هذا كله... عدا أنه لا يلزم على السلف أن يعملوا بجميع المباحات، أو حتى بجميع المستحبات.

8 ـ أضف إلى ذلك: أن السلف إذا تأولوا ـ خطأ ـ حديث: «لا تتخذوا قبري عيدا» على ذلك، فامتنعوا من عمل الموالد والذكريات. فلو أدركنا نحن خطأهم في فهم النص أو في الاستظهار منه كان لنا مخالفتهم، بعد أن فرضنا: أن باب الاجتهاد كان ولا يزال مفتوحا، حسبما اعترف به ابن تيمية الذي حكم بالأجر لمن اجتهد في هذا الأمر وأخطأ.

9 ـ أما تفسير الآيات القرآنية... فقد جاء النص ليؤكد ويصرح بأن القرآن إنما يفهم مع تمادي القرون والأزمان حيث تتضح مداليله، وتظهر معالمه، فبعد أن روى ابن المبارك حديث: أنه ما من آية في كتاب الله إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع، قال: «سمعت غير واحد في هذا الحديث: ما في كتاب الله آية إلا ولها ظهر وبطن يقول: لها تفسير ظاهر، وتفسير خفي، ولكل حد مطلع. يقول يطلع عليه قوم فيستعملونه على تلك المعاني، ثم يذهب ذلك القرن، فيجيء قرن آخر، فيطلعون منها على معنى آخر، فيذهب ما كان عليه من كان قلهم، فلا يزال الناس على ذلك إلى يوم القيامة... الخ. (2)

____________

1 ـ راجع: مجمع الزوائد / ج 10 / ص 66، عن أحمد والبزار والطبراني، عن ابي ذر وابي هريرة عنه (ص)، وعن عمار بن ياسر، وكنز العمال / ج 2 / ص 374 عن ابن عساكر، عن أبي هريرة.

2 ـ الزهد والرقائق، قسم ما رواه نعيم بن حماد / ص 23، ولتوضيح ذلك لا بأس بمراجعة كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم / ج 1 / ص 200 ـ 216.

الصفحة 81

فلا معنى إذن.. لحصر فهم الآيات القرآنية والنصوص النبوية، التي فيها أيضا المحكم والمتشابه والعام والخاص وو الخ ـ كالقرآن ـ لا وجه لحصر فهمها بطائفة دون طائفة، ولا بفريق دون فريق.. فكل من فهم من القرآن أمرا صحيحا جديدا تعين عليه أن يلتزم به، ويعمل بما فهم.. وكم قد ترك الأول للآخر.. وكم من التفريعات الفقهية التي تنبه إليها المتأخرون، ولم يذكرها السلف، ولا أشار إليها ولا خطرت لهم على بال، ولا احتاجوا إليها إطلاقا.

10 ـ هذا كله.. عدا عما تقدم، من أن المانع هو الذي يحتاج إلى الدليل، وأما الآخرون فلا يدعون ان ذلك جزءا من الشريعة، ليصح الاحتجاج عليهم بفعل السلف، أو بعدم فعلهم.

11 ـ وبعد... فلو كان عمل السلف حجة، لدخل الكثير مما ليس من الدين في الدين، وذلك من قبيل ما أحدثه الأمويون في أيام عاشوراء، ولم يجترئ السلف على معارضتهم، بل اضطروا الى مجاراتهم، فهل يكون عمل السلف هذا حجة على من بعدهم ؟ !

ومثل ذلك كثير في حياة السلف، وأعمالهم، ومواقفهم، يشمل سائر الأحوال والأعمال التي أرادهم الحكام عليها، ولم يمكنهم المخالفة فيها سواء في عهد الأمويين أو العباسيين.

12 ـ بل إن هؤلاء المانعين أنفسهم يعللون إقدام السيوطي على التأليف في مشروعية المولد بقولهم:

«وذلك إرضاء للعامة والخاصة أيضا من جهة. وتبريرا لرضي العلماء بها، وسكوتهم عنها، لخوفهم من الحاكم والعوام من جهة أخرى...» (1).

المواسم والموالد لهدم الإسلام

وأما أن هذه المواسم والموالد قد جعلت لهدم الاسلام، والقضاء على العقيدة الإسلامية، فهو مصادرة على المطلوب.. وذلك لأن من يقيم المولد والموسم يقول: إن هذه المواسم والموالد قد جعلت لأجل إحياء الإسلام، وتركيز العقيدة الاسلامية.. وإذا ما كان هناك من يستغل بعض الأمور المحللة لأمور محرمة فلا

____________

1 ـ الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والاجحاف / ص 57.

الصفحة 82
يوجب تحريم الحلال، كما لم يوجب ذلك إخراج الواجب عن كونه واجبا.

فإن من يحاول أن يخدع الناس عن طريق الصلاة والصوم والعبادة، لا يعني ذلك حرمة هذه العبادات، نعم المحرم هو استغلاله لها بهذه الصورة.

هذا.. كله، عدا عما قدمناه من أننا نرى انها داخلة تحت عنوان التعظيم المطلوب للشارع.

وأما استدلاله على دعواه بمناصرة أهل الباطل لها، ووقوفهم إلى جنبها ومعها.. فهو في غير محله أيضا، فإن أهل الباطل يحاولون خداع الناس، بإظهارهم التقوى والورع، وعدم ضديتهم مع عقائد الناس وعاداتهم وأعرافهم.. من أجل أن يحصلوا على ما هو أعظم وأهم بنظرهم. فهذا الاستدلال على ضد مراد المستدل أدل.. كما هو ظاهر لا يخفى.

عاشوراء.. عيد الشامتين بأهل البيت

وإذا أردنا أن نسلم بما يقال، من أن عمل السلف حجة، وإن لم يكن المعصوم داخلا فيهم، بل وحتى كفاية عمل عمر بن عبد العزيز وأمثاله، ليكون ذلك سنة، ومن الذين. (1)

وإذا كان عصر الصحابة والتابعين هو العصر الذي تنعقد فيه الإجماعات، وتصير حجة وتشريعا متبعا، وإذا كان الإجماع معصوما ونبوة بعد نبوة، حسبما يدعون، وإذا كان يحل لمسلم أن يدعي وجود نبوة بعد نبوة خاتم النبيين، خلافا لنص القرآن الكريم: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اله، وخاتم النبيين» (2).

وإذا كان يجوز أطراح القرآن، وكل ما قاله النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لمجرد أنه انعقد الإجماع بعد عصر النبي على خلافهم.

إذ جاز كل ذلك.. فلقد سب أمير المؤمنين عليه السلام على عشرات الألوف من المنابر في جميع أقطار العالم الإسلامي، من قبل وعاظ السلاطين، طيلة

____________

1 ـ قد تقدم ما يشير إلى ذلك حين الكلام على مشروعية التهنئة في العيد.

2 ـ الاحزاب: 40.

الصفحة 83
العشرات من السنين. ومن قبل العديد من الصحابة..

كما أن بني أمية وكل أتباعهم ومن كان تحت سيطرتهم، ثم بعد ذلك بني أيوب ولمدة عشرات السنين، قد اتخذوا يوم عاشوراء عيدا، وأول من فعل ذلك الحجاج برضا وبمرأى ومسمع من الخليفة عبد الملك بن مروان. وبمرأى ومسمع من بقايا الصحابة، وجميع التابعين.

ولم نجد اعتراضا من أحد منهم، ولا من أي من علماء الأمة، وصلحائها ـ باستثناء أهل البيت الذين كانوا يعملون بمبدأ التقية آنئذ ـ لا في تلك الفترة، ولا في زمان بني أيوب وبعده.

ولا سيما وأنهم يروون أمورا، وحوادث عظيمة، اتفق وقوعها في هذا اليوم، من قبل: توبة الله فيه على آدم، واستواء السفينة على الجودي، ونحو ذلك. (1)

وياليتهم اكتفوا بذلك، بل لقد تعدوا ذلك إلى الافتاء بحرمة لعن يزيد، وعدم جواز تكفيره، وقالوا: إنه من جملة المؤمنين. (2) كما أن الجمهور قد خالفوا في جواز لعنه بالتعيين. (3)

بل يقول الشبراوي الشافعي، عن الغزالي، وابن العربي: «فإن كلاهما قد بالغ في تحريم سبه ولعنه، لكن كلاهما مردود، لأنه مبني على صحة بيعة يزيد لسبقها، والذي عليه المحققون خلاف ما قالاه». (4)

أضف الى ذلك: أن عمر بن عبد العزيز قد ضرب ذلك الذي وصف يزيد بـ «أمير المؤمنين» عشرين سوطا (5) كما أن الإمام أحمد بن حنبل قد حكم أيضا بكفر يزيد. (6)

ثم زادوا في الطنبور نغمة، فقالوا: «يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين، وحكاياته».. قال ذلك الغزالي وغيره. (7) وليس ذلك ببعيد على من

____________

1 ـ راجع على سبيل المثال: عجائب المخلوقات، بهامش حياة الحيوان / ج 1 / ص 114.

2 ـ الصواعق المحرقة / ص 221، وإحياء علوم الدين / ج 3 / ص 125، وراجع العواصم من القواصم، وهوامشه لترى دفاعهم المستميت عن يزيد لعنه الله تعالى.

3 ـ الإتحاف بحب الأشراف / ص 62.

4 ـ الإتحاف بحب الأشراف / ص 68.

5 ـ الصواعق المحرقة / ص 222، وتاريخ الخلفاء، ص 209.

6 ـ الإتحاف بحب الأشراف / ص 68 و 63.

7 ـ الصواعق المحرقة / ص 221.

الصفحة 84
لا يرى بأسا بالسكوت حتى عن لعن إبليس، كما عن ابن ابي شريف، بل قال الرملي: ينبغي لنا أن لا نلعنه. (1)

واما تحريم التحزن والتجمع في يوم عاشوراء.. (2) فلعله أهون تلكم الشرور، بعد أن كانوا وما زالوا يهاجمون مجالس عزاء الامام الحسين عليه السلام، ويقتلون من يقدرون عليه من المشاركين فيها، بل ويحرقون المساجد، ويفعلون الأفاعيل في سبيل ذلك... (3)

وأما اعتبار عاشوراء عيدا، فتوضحه النصوص التالية:

قال زكريا القزويني: «فزعم بنو أمية أنهم اتخذوه عيدا، فتزينوا فيه، وأقاموا الضيافات. والشيعة اتخذوه يوم عزاء ينوحون فيه، ويجتنبون الزينة.

وأهل السنة يزعمون: «أن الاكتحال في هذا اليوم مانع من الرمد في تلك السنة». (4)

«ومن اغتسل فيه لم يمرض ذلك العام، ومن وسع على عياله وسع الله عليه سائر سنته». (5) وقال عن شهر صقر: «اليوم الأول منه عيد بني أمية، أدخلت فيه رأس الحسين رضي الله عنده بدمشق». (6)

وقال البيروني، بعد ذكر ما جرى على الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء:

«فأما بنو أمية، فقد ليسوا فيه ما تجدد، وتزينوا، واكتحلوا، وعيدوا، وأقاموا الولائم والضيافات، وأطعموا الحلاوات والطيبات، وجرى الرسم في العامة على ذلك أيام ملكهم، وبقي فيهم بعد زواله عنهم.

____________

1 ـ الإتحاف بحب الاشراف / ص 67 / 68.

2 ـ إقتضاء الصراط المستقيم / ص 299 / 300 ونظم درر السمطين / ص 228. 3 ـ راجع: المنتظم، وشذرات الذهب، والكامل لابن الأثير، والبداية والنهاية، وهم يتحدثون عن الفتن في بغداد بين أهل السنة والرافضة في مطلع كل عام، بمناسبة عاشوراء.

4 ـ عجاب المخلوقات، بهامش حياة الحيوان م ج 1 / ص 115 ونظم درر السمطين / ص 230.

5 ـ نظم درر السمطين / ص 230.

6 ـ المصدر السابق.

الصفحة 85

وأما الشيعة فإنهم ينوحون ويبكون، أسفا لقتل سيد الشهداء فيه». (1)

ويقول المقريزي: «.. فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم، وينبسطون في المطاعم، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون، ويدخلون الحمام، جريا على عادة أهل الشام، التي سنها الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان، ليرغموا به آناف شيعة علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن على الحسين بن علي، لأنه قتل فيه..».

قال: «وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو أيوب، من اتخاذ عاشوراء يوم سرور وتبسط» (2).

أما ابن حجر الهيثمي والزرندي، فيقولان في معرض نهيهما عن الندب، والنياحة، والحزن يوم عاشوراء، الذي هو من بدع الرافضة ونهيهما عن العمل ببدع الناصبة، المتعصبين على أهل البيت، أو الجهال، المقابلين الفاسد بالفاسد، والبدعة بالبدعة، والشر بالشر، من إظهار غاية الفرح واتخاذه عيدا، وإظهار الزينة فيه، كالخضاب، والاكتحال، ولبس جديد الثياب، وتوسيع النفقات، وطبخ الأطعمة والحبوب الخارجة عن العبادات، واعتقادهم: أن ذلك من السنة والمعتاد..» (3).

وحتى ابن تيمية نجده ينكر هذا الأمر، فيقول: «.. وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء، وتوسيع النفقات فيه هو من البدع المحدثة، المقابلة للرافضة». (4)

هذا.. وقد ورد في زيارة عاشوراء المروية عن الامام الباقر عليه السلام قوله: «اللهم، إن هذا يوم تبركت به بنو أمية، وابن آكلة الأكباد». (5)

____________

1 ـ الكنى والألقاب / ج 1 / ص 431، وراجع: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 1 / ص 137 عن الآثار الباقية، للبيروني ط اوربا / ص 329.

2 ـ الخطط والآثار / ج 1: ص 490، و0الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 1 / ص 138 عنه.

3 ـ الصواعق المحرقة / ص 181 / 182 ونظم درر السمطين ص 228 / 229 / 230.

4 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 301.

5 ـ مصابيح الجنان / ص 291.

الصفحة 86

التزلف الوقح

وأضاف ابن تيمية إلى عبارته آنفة الذكر قوله: «.. وقد وضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه، من الاغتسال والاكتحال الخ..». (1)

وقال: «.. وأحدث فيه بعض الناس أشياء، مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها مثل فضل الاغتسال فيه، أو التكحل، أو المصافحة.

وهذه الأشياء ونحوها من الأمور المبتدعة، كلها مكروهة، وإنما المستحب صومه ونقول: قد عرفت أن صومه مكذوب أيضا.

وقد روي في التوسع فيه على العيال آثار معروفة، أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، قال: «بلغنا، أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته». رواه ابن عيينة.

وهذا بلاغ منقطع لا يعرف قائله. والأشبه ان هذا وضع لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة، فإن هؤلاء أعدوا يوم عاشوراء مأتما، فوضع أولئك فيه آثارا تقتضي التوسع فيه، واتخاذه عيدا». (2)

بل لقد بلغ بهم الأمر: أن رووا في تفسير آية: «موعدكم يوم الزينة» عن ابن عباس «يوم الزينة يوم عاشوراء». (3)

وعن ابن عمر، عنه (ص): «من صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة، ومن تصدق يومئذ بصدقة، أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة» يعني يوم عاشوراء. (4)

بل تقدم أن أهل السنة يزعمون: «أن الاكتحال في هذا اليوم مانع من الرمد في تلك السنة». (5)

____________

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم / ص 301، وراجع: نظم درر السمطين ص 230.

2 ـ إقتضاء الصراط المستقيم / ص 300، وللاطلاع على بعض هذه الأحاديث راجع: نوادر الأصول / ص 246، والسيرة الحلبية / ج 2 / ص 134، واللالى المصنوعة / ج 1 / ص 108 ـ 116، وتذكرة الموضوعات / ص 118 ونظم درر السمطين ص 230.

3 ـ الدر المنثور / ج 4 / ص 303، عن سعيد بن منصور، وعببد بن حميد، وابن المنذر، وراجع عجائب المخلوقات، بهامش حياة الحيوان / ج 1 / ص 114.

4 ـ الدر المنثور / ج 4 / ص 303 عن ابن المنذر.

5 ـ عجائب المخلوقات بهامش حياة الحيوان / ج 1 / ص 115، وراجع / الحضارة الاسلامية في القرن الرابع

الصفحة 87

أما ابن الحاج.. فذكر: أنه يستحب يوم عاشوراء: «التوسعة فيه على الأهل والأقارب، واليتامى، والمساكين، وزيادة النفقة والصدقة مندوب إليها، بحيث لا يجهل ذلك». (1)

وبعد أن ذكر أشياء تفعل في هذا اليوم لم تعرف عن السلف، كذبح الدجاج وطبخ الحبوب، وزيارة القبور، ويدخل النساء الجامع العتيق بمصر، وهن في حال الزينة الحسنة، والتحلي، والتبرج للرجال، وكشف بعض أبدانهن، ويقمن فيه من أول النهار إلى الزوال ـ إلى أن قال:

«ومن البدع التي أحدثها النساء فيه استعمال الحناء على كل حال، فمن لم يفعلها منهن، فكأنها ما قامت بحق عاشوراء.

ومن البدع أيضا محرهن فيه الكتان، وتسريحه، وغزله، وتبييضه في ذلك اليوم بعينه، ويشلنه ليخطن به الكفن. ويزعمن أن منكرا ونكيرا لا يأتيان من كفنها مخيط بذلك الغزل..

إلى أن قال... ومما أحدثوه فيه من البدع: البخور، فمن لم يشتره منهم في ذلك اليوم، ويتبخر به، فكأنه أرتكب أمرا عظيما، وكونه سنة عندهن، لابد من فعلها، وأدخارهن له طول السنة، يتبركن به، ويتبخرن إلى أن يأتي مثله يوم عاشوراء الثاني. ويزعمون أنه إذا بخر به المسجون خرج من سجنه، وأنه يبرئ من العين، والنظرة، والمصاب، والموعوك الخ...» (2) ثم يذكر ما يفعلونه في أول رجب، وأول جمعة، وليلة المعراج، والنصف من شعبان فليراجعه من أراد.

التهافت في كلام ابن الحجاج

وأخيرا.. فبنما نرى ابن الحجاج يشن حملة شعواء على عمل المولد النبوي، على اعتبار أنه بنفسه بدعة لا رخصة فيها من الشارع، فضلا عما يصاحبه من أمور محرمة أو مرجوحة بنظر الشارع، نجده يستحين شعرا لابن السماط يوسف بن علي المتوفى سنة 690 هـ، يصرح فيه بأنه يعتبر يوم المولد النبوي من الأعياد، حيث

الهجري / ج 1 / ص 138، والصواعق المحرقة / ص 182 ونظم درر السمطين ص 230.

____________

1 ـ المدخل لابن الحاج / ج 1 / ص 289.

2 ـ المدخل / ج 1 / ص 291، وراجع ص 290.

الصفحة 88
يقول:

أعلمت أنك يا ربيع الأول * تاج على هام الزمان مكلل
مستعذب الالمام مرتقب اللقا * كل الفضائل حين تقبل تقبل
ما عدت إلا كنت عيدا ثالثا * بل أنت أحلى في العيون وأجمل
شرفا بمولد مصطفى لما بدا * أخفى الأهلة وجهه المتهلل
وحويت من أصبحت ظرف زمانه * ظرفا به في برد حسنك ترفل
وملكت أنفسها بلطف شمائل * بنسيمها نفس العليل تعلل
وإذا حدا الحادي بمنزلة الحمى * فالقصد سكان الحمى لا المنزل
فضل الشهور علا مفاخرها فإن * فخرت بأطولها فأنت الأطول

إلى أن قال:

واستكمل البشرى فإنك لم تزل * لك في القلوب مكانة لا تجهل
لم لا وعشرك واثنتان أريننا * قمرا به شمس الضحى لا تعدل

الابيات (1)

____________

1 ـ راجع المدخل لابن الحاج / ج 2 / ص 44 / 45.

الصفحة 89

الفصل الخامس
الأدلة.. وبعض الشواهد..


الصفحة 90

الصفحة 91

مما سبق

فإننا نستطيع أن نستخلص مما سبق، الأمور التالية:

أولا: إن ما ادعوا: انه يصلح دليلا للمنع عن المواسم والمراسم على اختلافها، لا يصلح للاستدلال به على ذلك، من وجوه مختلفة.. والفصل السابق كله في بيان ذلك، فلا نعيد.

وثانيا: إن الابتكار والابتداع في العادات والتقاليد، وأمور المعاش، والمعاد يمكن أن يكون حسنا تارة، وقبيحا أخرى، وقد تعرض له الاحكام الخمسة، تبعا للعناوين المختلفة التي يمكن أن يتعنون بها، حينما تكون تلك العناوين محكومة بأي من تلك الأحكام.

وما نحن فيه من هذا القبيل.. فإن جاء به على أنه من الدين، فإنه يكون حراما لتعنونه بعنوان البدعة المحرمة، وإن جاء به لا على أنه عبادة ولا من الدين، فلا يكون حراما.

وثالثا: قد تقدم قول ابن تيمية ـ وكذلك قال غيره أيضا ـ ان الاشياء ماعدا العبادات كلها على الإباحة، حتى يرد ما يوجب رفع اليد عنها، ولا سيما ما كان من قبيل العادات.

وما نحن فيه من قبيل العادات أيضا، حيث قد جرت عادة الناس على

الصفحة 92
(إقامة الذكريات والمواسم، بمناسبة يوم الاستقلال وفي الأيام التي هي مثل أيام ولادة عظمائهم، وغير ذلك من مناسبات، وقد تقدم توضيح ذلك.

ورابعا: بل إن ما نحن فيه داخل في قسم ما أمر الله سبحانه، حيث ان الاحتفالات بيوم مولد النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع)، أو الاحتفال بيوم الهجرة أو يوم المبعث، أو حتى يوم عاشوراء، إلى غير ذلك من المناسبات إنما هو داخل تحت عناوين عامة ورد الأمر بها والحث عليها. وتقدم أن اختيار المكلف لمصداق العنوان العام لا يعد ابتداعا، ولا إجداثا في الدين، وادخالا في امره ما ليس منه. وقد تقدم توضيح ذلك في أوائل الفصل السابق فلا نعيد.

وتقدم أن ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «من سن سنة حسنة الخ..» قد طبقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على اختيار البعض لمصداق عنوان عام مأمور به، فيكون من شواهد ما ذكرناه آنفا.

وخامسا: قد تقدم قول بعض المانعين ـ وهو أبو بكر جابر الجزائري.

«ان الفطرة قاضية: ان الانسان يفرح بالمولود يوم ولادته، ويحزن عليه يوم موته، فسبحان الله كيف يحاول الانسان ـ غرورا ـ تغيير طبيعته».

ونحن نوضح هذا الأمر هنا، بمقدار ما تسمح لنا به الفرصة، ويسعفنا به البيان.. فنقول:

قضاء الفطرة والسجية الانسانية

إن مما لا شك فيه هو: أن الناس ـ كل الناس ـ يولون ما يرتبطون به عقائديا وفكريا وعاطفيا أهمية خاصة، وعلى أساس ذلك يتخذون مواقفهم، ويكون الفعل، ورد الفعل... والتأثير والتأثر، بصورة تلقائية، وعفوية وطبيعية.

وكذلك، فان للناس بالنسبة لما يرفضونه، ويدينون به عقائديا، وفكريا، وعاطفيا موقفا آخر، وتأثيرا وتأثرا من نوع آخر كذلك.

وقد اعتاد الناس انطلاقا من احترامهم للمثل والقيم التي يؤمنون بها، على احترام الاشخاص الذين بشروا بها، وضحوا في سبيلها، وارتبطوا بهم عاطفيا وروحيا كذلك.. ورأوا: أن إحياء الذكرى لهؤلاء الاشخاص، لم يكن من أجل ذواتهم كأشخاص، وإنما من أجل أنهم بذلك يحيون تلك القيم والمثل في نفوسهم،

الصفحة 93
وتشد الذكرى من قوة هذا الارتباط فيما بينهم وبينها، وترسخها في نفوسهم وتعيدهم إلى واقعهم.

وهكذا يقال بالنسبة للاحترام الذي يخصون به بعض الأيام، أو بعض الأماكن، وقديما قيل:

مررت على الديار ديار ليلى * أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا

ويلاحظ ك أن الاهتمام بإقامة الذكريات والاحتفال بالمناسبات، التي تمثل تحولا من نوع ما في حياة الناس عامة، لا يقتصر على فئة دون فئة، ولا يختص بفريق دون فريق فالكبير والصغير، والغني والفقير، والملك والسوقة، والعالم والجاهل، والمؤمن والكافر، وغيرهم وغيرهم، الكل يشارك في إقامة الذكريات للمثل والقيم، ومن يمثلها حسب قدراته وإمكاناته.

فهذه الشمولية تعطينا: أن هذا الأمر لا يعدو عن أن يكون تلبية لحاجة فطرية، تنبع من داخل الإنسان، ومن ذاته، وتتصل بفطرته وسجيته، حيثما يشعر: أنه بحاجة إلى أن يعيش مع ذكرياته وآماله، وإلى أن يتفاعل مع ما يجسد له طموحاته.

فيوم ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو يوم فرح للمسلمين، ويوم عيد وبهجة لهم. ولابد وأن يستجيب الإسلام لنداء الفطرة، ويلبي رغباتها ما دامت منسجمة مع منطلقاته وأهدافه، ولا يحرمها من عطاء رحمته وبره، ما دام أ،ه دين الفطرة، الذي يوازن بين جميع مقتضياتها ويعطيها حجمها الطبيعي، من دون أن يكون ثمة إهمال مضر، أو طغيان مدمر.

وهذه هي عظمة تعاليم الاسلام، وهذا هو رمز الخلود له، وفقنا الله للسير على هدى هذا الدين، والالتزام بشرعية رب العالمين، إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول.

توضيح العلامة الأميني رحمه الله

هذا.. وقد قال العلامة الأميني رحمه الله تعالى: «لعل تجديد الذكرى بالمواليد والوفيات، والجري على مواسم النهضات الدينية أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمة، في الطوائف

الصفحة 94
والأحياء بعد سنيها، وأتخاذ رأس كل سنة بتلكم المناسبات أعيادا وأفراحا، أو مآتم وأحزانا، وإقامة الحفل السار، أو التأبين، من الشعائر المطردة، والعادات الجارية منذ القدم، دعمتها الطبيعة البشرية، وأسسها الفكرة الصالحة لدى الأمم الغابرة، عند كل ملة ونحلة، قبل الجاهلية وبعدها، وهلم جرا حتى اليوم.

هذه مواسم اليهود، والنصارى، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الاسلام وقبله، سجلها التاريخ في صفحاته.

وكأن هذه السنة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحب والعاطفة، وتسقى من منابع الحياة، وتتفرع على أصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعظماء الأمة، إحياء لذكرهم وتخليدا لا سمهم. وفيها فوائد تاريخية، إجتماعية، ودروس اخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجع للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات، تولد حنكة الشعب، ولا تختص بجيل دون جيل، ولا بفئة دون اخرى.

وإنما الأيام تقتبس نورا وازدهارا، وتتوسم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعدا ونحسا، وتتخذ صيغة مما وقع فيها من الحوادث المهمة، وقوارع الدهر ونوازله الخ...» (1).

كلام السيد الامين (ره)

وقال السيد الأمين رحمه الله: «.. وأما جعل التذكار لمواليد الأنبياء والأولياء، الذي يسميه الوهابية بالأعياد والمواسم، بإظهار الفرح والزينة في مثل يوم ولادتهم، التي كانت نعمة من الله على خلقه، وقراءة حديث ولادتهم، كما يتعارف قراءة حديث مولد النبي (ص)، وطلب المنزلة والرفعة من الله لهم، وتكرار الصلوات والتسليم على الأنبياء، والترحم على الصلحاء، فليس فيه مانع عقلي ولا شرعي، إذا لم يشتمل على محرم خارجي، كغناء، أو فساد، أو استعمال آلات اللهو، أو غير ذلك، كما يفعل جميع العقلاء، وأهل الملل في مثل أيام ولادة عظمائهم وأنبيائهم، وتبوأ ملوكهم عروش الملك، وكل ذلك نوع من التعظيم الذي

____________

1 ـ سيرتنا وسنتنا / ص 45 / 46.

الصفحة 95
ان كان صاحبه أهلا للتعظيم كان طاعة، وعبادة لله تعالى، وليس كل تعظيم عبادة للمعظم، كما بيناه مرارا، فقياس ذلك بفعل المشركين مع أصنامهم قياس فاسد...» (1). انتهى.

وسادسا: قد تقدم أنهم يقولون: إن الإجماع نبوة بعد نبوة، ولا يختص عندهم زمان الاجماع بوقت دون وقت، ولا بزمان، دون زمان، وقد انعقد الإجماع على إقامة أعياد أخرى غير الفطر والأضحى، مثل عيد النوروز، والمهرجان، وعيد المولد النبوي، ولا سيما في عهد حاكم أربل وبعده إلى قرب ظهور ابن تيمية... حسبما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع... فلا نعيد.

كل يوم عيد

وسابعا: وقد ادعى أولئك المانعون أنه لا يوجد إلا عيدان: الفطر والاضحى، ولكننا نقول: إنه على أساس ما قدمناه، من أن الفرح حيتما يوجد ما يقتضي الفرح، والحزن حينما يوجد ما يقتضي الحزن، هو مقتضى النزعة الانسانية، والسجية والفطرة البشرية.

وبما أن الانسان يفرح ويبتهج، حينما ينتصر في معركة ما..

ولأن خسران المعركة مع الشياطين، معناه خسارة الانسان لأعز شيء يملكه، وإلى الأبد.. ألا وهو نفسه وذاته..

نعم.. من أجل ذلك نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول في بعض الأعياد:

«إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه، وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه، فهو عيد...». (2)

نعم... وهذا بالذات، هو سر تشريع عيد الفطر، وعيد الأضحى، بعد تلك الرحلة التربوية الجهادية مع النفس الأمارة، وضد كل الشياطين، حينما يفترض بالإنسان أن يترك ـ مختارا ـ أمورا تدعوه إليها غرائزه، وتدفعه نحوها شهواته، كما ويزيده شوقا إلى بعضها حنين الإلف والعادة، الناشئ عن طول

____________

1 ـ كشف الارتياب / ص 450.

2 ـ نهج البلاغة، بشرح عبده / ج / 3 / ص 355، الحكمة رقم 428.

الصفحة 96
الممارسة لها..

وقد أشار عليه السلام إلى أن انتصار الإنسان في رحلته الجهادية التربوية تلك في شهر رمضان المبارك، وفي أيام الحج، حيث مراعاة تروك الإحرام، هو الذي جعل يوم أول شوال، ويوم العاشر من ذي الحجة عيدا يفرح به الانسان الصابر المجاهد.

يوم الجمعة.. عيد

ومما يدل ايضا على عدم انحصار العيد في الفطر والأضحى، ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم حول يوم الجمعة: «ان هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا» (1) والروايات المصرحة بكون يوم الجمعة عيدا كثيرة، فليراجعها من أراد. (2)

ويلاحظ: أن عددا من الروايات، قد صرحت بأنه إنما اعتبر عيدا، بسبب ما حصل فيه من الأمور المهمة، مثل خلق آدم، ودخوله الجنة، وخروجه منها، وتوبة الله عليه، وموته، وقيام الساعة فيه الخ. (3)

كما أنه ورد الأمر بالتزين، ولبس الثيات الجديدة وغير ذلك من

____________

1 ـ سنن البيهقي / ج 3 / ص 243، واقتضاء الصراط المستقيم / ص 189، وفتح المجيد / ص 154.

2 ـ راجع: سنن الدرامي / ج 1 / ص 1378، وسنن ابن ماجة / ج 1 / ص 349 و 415 و 416، واقتضاء الصراط المستقيم / ص 197 وسنن النسائي / ج 1 / ص 194، وسنن أبي داود / ج 1 / ص 281، ومسند أحمد / ج 4 / ص 277 و ج 2 ص 303 و 532 والمسند للحميدي / ج 1 / ص 6 / 7، والموطأ، بهامش تنوير الحوالك / ج 1 / ص 190، والمنتفى / ج 2 / ص 34 و 35، ومجمع الزوائد / ج 2 / ص 195، وكشف الاستار / ج 1 / 499، وصحيح البخاري / ج 3 / ص 206، ومنحة المعبود / ج 1 / ص 146، ومسند الطيالسي / ص 194، ونصب الراية / ج 2 / ص 225، ومستدرك الحاكم / ج 1 / ص 288، وتلخيص المستدرك بهامشه.

3 ـ راجع: مسند أحمد / ج 3 / ص 512 و 504 و 486 و 401 و 418 و 540، وراجع: ص 519 صحيح مسلم / ج 3 / ص 6 وسنن النسائي / ج 3 / ص 90 و 91، ومسند الطيالسي / ص 311، والموطأ بهامش تنوير الحوالك / ج 1 / ص 131، وكشف الاستار / ج 1 ص 294، ومجمع الزوائد / ج 2 / ص 163 / 164، ومنحة المعبود / ج 1 / ص 139 و 140، والجامع الصحيح للترمذي / ج 2 / ص 362 و 359، وسنن أبي داود / ج 1 / ص 274، وسنن الدرامي / ج 1 / ص 369، وعجائب المخلوقات بهامش حياة الحيوان / ج 1 / ص 110، والترغيب والترهيب / ج1 / ص 490 / 491 و 495، والمنتفى / ج 2 / ص 14 و 13.

الصفحة 97
مظاهر السرور في هذا اليوم. (1)

ثامنا: عاشوراء في القرون الثلاثة الأولى.

ويقول أتباع ابن تيمية، والمدعون لحرمة المواسم والمراسم: «البدعة وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة مذمومة مطلقا» (2) وتقدم تكرار المانعين لقولهم: إن ذلك لم يكن في القرون الثلاثة الأولى التي هي خير القرون، ومعنى ذلك هو ان ما حدث في القرون الثلاثة الأولى لا يكون مذموما بل هو مقبول عند هؤلاء.. وعليه فنقول:

قد تقدم: أن بني أمية وهم في القرن الأول (!!) قد اتخذوا يوم عاشوراء عيدا..

أما غيرهم.. فقد اتخذوه يوم حزن، وأسى، وعزاء.

وعلى هذا.. فقد انعقد الإجماع المركب من السلف، على موسمية يوم عاشوراء ـ وحسب زعم هؤلاء القائلين بعصمة الإجماع ـ فلابد من قبولهم بكونه موسما، ولا يجوز لهم إحداث قول ثالث فيه.

وقد تقدم الكلام في ذلك، فلا نعيد.

تاسعا: أعياد أخرى في القرون الثلاثة الاولى.

هذا.. وإذا كان ما يحدث في القرون الثلاثة الأولى، ليس من البدع المذمومة، وإذا كانوا يحتجون للمنع عن المواسم والمراسم بأنها لم تكن في تلك القرون..

فإن معنى ذلك هو أن كل ما كان في تلك القرون يكون شرعيا ومقبولا، ويمكن ذكر أمور كثيرة كانت آنئذ، ونكتفي هنا بذكر الأعياد التالية:

____________

1 ـ راجع: سنن ابن ماجة / ج 1 / ص 349، 348، وسنن أبي داود / ج 1 / ص 283 و 282، والترغيب والترهيب / ج 1 / ص 498، والمنتقى / ج 2 / ص 12 و 11، ونجمع الزوائد / ج 2 / ص 171 فما بعدها، والسنن الكبرى للبيهقي / ج 3 / أبواب الجمعة.

2 ـ كشف الارتياب، ص 142 عن رسائل الهدية السنية / ص 47.

الصفحة 98

عيد النوروز

فبالاستناد إلى أبي أسامة، عن حماد بن زيد، عن هشام بن محمد بن سيرين، قال: «أتى علي رضي الله عنه بهدية بمثل النيروز، فقال:

ما هذا؟

قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا يوم النيروز.

قال: فاصنعوا كل يوم نيروزاً.

قال أسامة: كره رضي الله عنه أن يقول: النيروز».

قال البيهقي: وفي هذا، الكراهة لتخصيص يوم لذلك، لم يجعله الشرع مخصوصاً به»(1).

وقال ابن تيمية: «وأما علي رضي الله عنه، فكره موافقتهم في اسم يوم العيد، الذي ينفردون به، فكيف بموافقتهم في العمل؟! (2)

ولكننا بدورنا لم نفهم مما تقدم: أنه عليه السلام كره موافقتهم بالاسم، بل نراه عليه السلام قد صرح باسمه، وأحب أن يطلقه على كل يوم، وإلا لكان عليه أن يقول مثلاً: «فاصنعوا كل يوم مثل هذا».

ونرى أنه عليه السلام قد شجعهم على أعمال من هذا القبيل، ولم ينههم عنها.. وإلا.. فقد كان اللازم عليه أن يصرح لهم بالنهي عن هذا التخصيص، لا أن يكتفي بطلب عمل ذلك في كل يوم.

كما أنه لو كان عليه السلام قد كره ذلك، فقد كان عليه أن يرفض هديتهم النيروزية تلك. ولكنه لم يفعل ذلك.

هذا.. وقد «كانت العادة عامة في الاحتفال بعيد النيروز، وهو مبدأ السنة الشمسية، بتبادل الهدايا، فكان الخليفة في بغداد يفرق على الناس أشياء منها صور مصنوعة من عنبر، منها ورد احمر مثلا» (3).

والمقصود بالخليفة الذي كان يفعل ذلك هو هو الذي يلقبه الحنابلة وأهل

____________

1 ـ إقتضاء الصراط المستقيم/ ص 200، وراجع: ص 250.

2 ـ إقتضاء الصراط المستقيم/ ص 201.

3 ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 2 / ص 293.

الصفحة 99
الحديث بـ «محيي السنة» وكان أحمد بن حنبل من أقرب المقربين إليه.

وأعني به المتوكل العباسي، (1) وقيل إنه أول من أخر النيروز رفقاً بأهل الخراج (2) وقيل: بل أخره المعتضد. (3)

وكذلك الحال بالنسبة لأم المقتدر العباسي. (4) وقبل ذلك في زمن المأمون، (5) والواثق (6) والمنصور. وقبل هؤلاء جميعا الحجاج (7).

ولعيد النيروز في مصر وغيرها مراسم خاصة، لا مجال لذكرها فضلا عن التفصيل فيها.

عيد المهرجان

كما أن عيد المهرجان ـ الذي كان في القرون الثلاثة الأولى ـ قد كانت له أهمية خاصة أيضا، وكانوا يحتفلون به في طول البلاد الإسلامية وعرضها (8).

«وكان الناس يتهادون فيه كما يتهادون في النيروز، وكان القواد، ورجال دار الخلافة تخلع عليهم فيه ملابس الشتاء الخ..» (9).

وأول من رسم هدايا النيروز والمهرجان الحجاج. (10)

والمقصود: أنه رسمها بشكل واسع، وأخذ الناس بالعمل بها، وإلا فقد تقدمت الرواية عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: أنه قبل هدايا النيروز.

____________

1 ـ الديارات / ص 57، وراجع ص 39 / 40 ونشوار المحاضرات / ج 8 / ص 246 والعامة في بغداد / ص 253 / 254 عنهما وعن عجائب المخلوقات / ص 121 وعن صبح الأعشى / ج 2 / ص 420.

ـ محاضرة الأوائل / ص 142.

ـ الكامل لابن الأثير / ج 3 / ص 469 ويؤيده ما في نشوار المحاضرات / ج 1 / ص 293.

ـ نشوار المحاضرات / ج 1 / ص 293، وراجع: المستطرف / ج 2 / ص 52.

ـ العقد الفريد / ج 6 / ص 289، وراجع: روض الأخيار / ص 119.

ـ الأغاني / ج 19 / ص 230.

ـ الأوائل / ج 2 / ص 34.

ـ راجع: محاضرات الأدباء / ج 1 / ص 424.

ـ الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري / ج 2 / ص 296 عن عدد من المصادر، والعامة في بغداد ص 255، والديارات / ص 270. وليراجع ص 231.

ـ الاوائل / ج 2 / ص 34.

الصفحة 100

هذا.. ولا بد من التذكير هنا بأن علياً عليه السلام قد قبل هدية النيروز، وبعد ذلك وابتداء من الحجاج أصبح الاحتفال بالنيروز والمهرجان رسميا عند الخلفاء ورجال الدولة والعامة على حد سواء، حتى عند حامل لقب «محيي السنة» والصديق الحميم لأحمد بن حنبل. وقد كان العلماء، والصلحاء، والفقهاء، وغيرهم حاضرين وناظرين، ولم ينقل لنا أي اعتراض من أحد منهم على ذلك، لا في ذلك الزمان ولا بعده. فاذا كان هؤلاء يستدلون لعدم جواز الاحتفال بعيد المولد النبوي ونحوه بأنه لم يكن في زمن السلف، أعني الذين عاشوا في القرون الثلاثة الاولى، فإن عليهم والحالة هذه: أن يعتبروا عيد النيروز، والمهرجان من الأعياد الإسلامية، لأنها قد كانت في القرون الثلاثة، ولم يعترض عليها أحد، حتى أحمد بن حنبل نفسه، فضلا عن غيره.

عيد الغدير

هذا.. ولا حاجة بنا إلى إثبات أن عيد الغدير إسلامي أصيل، وقد كان في العصور الثلاثة الأولى وعدم صحة قول المقريزي: «أول ما عرف في الإسلام بالعراق، أيام معز الدولة علي بن بويه، فإنه أحدثه في سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا. (1)

فإن هذا القول لا يصح ولا يمكن قبوله، فقد قال المسعودي: «ولد علي رضي الله عنه، وشيعته يعظمون هذا اليوم». (2)

والمسعودي قد توفي قبل التاريخ المذكور، أي في سنة 346 هـ.

وروى قرات بن إبراهيم، وهو من علماء القرن الثالث عن الصادق، عن أبيه عن آبائهم عليهم السلام، قال: قال رسول الله (ص): «يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي الخ...» (3).

ونجد أمير المؤمنين عليا عليه السلام قد اعتبره عيدا، حيث أنه عليه السلام

____________

1 ـ الخطط للمقريزي / ج 1 / ص 288.

ـ التنبية والاشراف / ص 221 / 222.

ـ الغدير / ج 1 / ص 283.