المطلب الاَول
الاِعداد الفكري والتربوي
للاِمام عليّ عليه السلام وتثبيت أحقيّته بالخلافة
نستطيع القول بكلِّ تأكيد: إنَّ الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم، قد قامَ بعملية الاِعداد الرسالي «التربوي والفكري» للاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام والنصّ عليه منذ صدع بالوحي، وكان صلوات الله عليه يضع الخطوات العملية من أجل بلوغ الغاية المتوخاة من ذلك، وهي تولي الاِمام عليّ عليه السلام للمهمة القيادية «الاجتماعية والسياسية» بعده مباشرةً. ويظهر لنا من سير الاَحداث، وما تناقلته كتبُ السيرة والتواريخ، وما نقله الرواة الثقاة، أنَّ ذلك تمَّ بمرحلتين، وهما:
المرحلة الاَُولى:
ابتدأ تاريخ هذه المرحلة ـ باتفاق كتب السيرة والتاريخ ـ قبل بزوغ شمس الاِسلام ثم اتصلت بفجره المبارك إلى أن اتصلت بالمرحلة الثانية والتحمت معها.
فقد تعهد الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بكفالة الاِمام عليّ عليه السلام منذ صغره، وتولي تربيته ورعايته، والحرص البالغ على أن لا يفارقه إلاّ لضرورة.
وهذا من أوضح ما تزخر به سيرته الشريفة(1) ويكفي أن نوردَ ما بيّنه
____________
(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 1: 246.
إنَّ هذه الصورة التي ينقلها لنا الاِمام عليّ عليه السلام نفسه عن كيفية وطريقة التعامل التي كان يتبعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه، تكشف لنا عن حقيقة وأبعاد الهدف الاَعظم من ذلك.
الرعاية النبوية الخاصة للاِمام عليّ عليه السلام
إنَّ هذه التربية المخصوصة للاِمام عليّ عليه السلام، والرعاية الفائقة، والحرص على أن يكون الاِمام عليّ عليه السلام قريباً جداً من أنوار الوحي، وأن يكون متعرضاً لنفحات النبوة، وأن يكون ثالث ثلاثة في بيت الرسول القائد حيثُ مهبط الوحي، إنّما لكي يتلقّى الاِمام عليّ عليه السلام في هذا المكان المشرّف الدروس الاَولى، والتوجيهات النبوية المباشرة، فينعكس ذلك على تكوينه الفكري والعقيدي «فلا يسجد لصنم قط» (2) ولا يخالط عقله
____________
(1) نهج البلاغة، ضبط الدكتور صبحي الصالح: 300 ـ 301 خطبة 192.
(2) مناقب أمير المؤمنين 2: 540 | 1045 عن أبي سعيد الخدري. والروض الآنف، للسهيلي 3 : 16 وفيه: أول من صلّى عليّ، وقال في هامشه: وإليه ذهب سلمان وخباب وجابر وأبو سعيد كذا في الطبراني.
ومما يلاحظ في هذا الصدد أنّ تعهد الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم للاِمام عليّ عليه السلام بالرعاية والعناية الخاصتين لم يقتصر على فترة الطفولة والصبا، ولم يتوقف عند مرحلةٍ معينة، لاَننا نجدُ أنّ الرسول القائد كان حريصاً على أن يكون الاِمام عليّ عليه السلام إلى جانبه دائماً لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً، كما ورد عن الاِمام عليّ عليه السلام قال: كان لي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدخلان، مدخل بالليل، ومدخل بالنهار.. (1) بل نجد الرسول القائد لا يفارق الاِمام عليّ عليه السلام ولايتركه إلاّ لضرورةٍ تتصل بحفظ حياة الرسول نفسه، أو بحفظ الدعوة الاِسلامية وحمايتها من أخطار محتملة.
ونذكر على كلِّ موردٍ مثالاً واحداً، لتأكيد المطلب.
أ ـ المورد الاَول:
وهو ما يتصل بحفظ حياة الرسول القائد نفسه، وذلك عندما تركَ رسولُ الله الاِمام عليّ عليه السلام ليبيت في فراشه ليلة هجرته (2) المباركة إلى المدينة، إيهاماً لقريش المترصدين، وإنجاءً لنفسه صلوات الله عليه وآله وسلّم من مؤامرتهم لقتله (3). وقد نزل في ذلك قوله تعالى:
____________
(1) السنن الكبرى، للنسائي 5: 141 | 8502، كتاب الخصائص.
(2) سيرة ابن هشام 2: 95.
(3) المصدر السابق.
ب ـ المورد الثاني:
وهو ما يتصل بحفظ الرسالة وحمايتها؛ وذلك عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج إلى بعض مغازيه ـ قيل تبوك ـ ترك الاِمام عليّ عليه السلام في المدينة خليفةً (3) عنه، لاَنَّ ابن أُبيّ بن سلول رأس المنافقين كان قد تخلّف في المدينة، فاقتضى الموقف أن يُترك الاِمام عليّ عليه السلام لمواجهة أي تطور غير محسوب قد يهدد دولة الرسول القائد في المدينة، قال الطبري: «إنّه لما سارَ رسول الله ـ إلى تبوك ـ تخلّف عنه ابن أُبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ـ وكان عبدالله بن أُبيّ أخا بني عوف ابن الخزرج ـ وعبدالله بن نَبْتَل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع، وكانوا ـ أي المذكورون ـ من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد الاِسلامَ وأهله.
ـ قال الطبري ـ وفيهم ـ فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن اسحاق، عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري ـ أنزل الله تعالى: (لَقَدِ ابتَغَواْ الفِتْنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الاَُمورَ..) (4)... وهنا أدرك المنافقون أنَّ بقاء عليّ في المدينة سيفوّت الفرصة عليهم ـ قال الطبري في تتمة الخبر ـ فأرجف المنافقون بعليٍّ بن أبي طالب، وقالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالاً له وتخففاً منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ عليٌّ سلاحه ثم
____________
(1) البقرة 2: 207.
(2) التفسير الكبير 5: 204.
(3) سنن الترمذي 5: 596.
(4) التوبة 9: 48.
وقد نقل البخاري (2) ومسلم (3) المنزلة هذا، وفي الرواية عن سعد بن أبي وقاص: قال: «خلّف رسولُ الله عليّاً ـ في بعض مغازيه ـ في المدينة، فقال عليٌّ: يا رسول الله قد خلفتني مع النساء والصبيان؛ فسمعت رسول الله يقول: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوةَ بعدي» (4).
ومن الاَُمور الملفتة للنظر أن الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يعبّرُ عن تلهفه وهواجسه عندما يغيب الاِمام عليّ عليه السلام عنه، ويتطلع إلى رؤيته والاطمئنان عليه، فعن أمّ عطية على ما أخرجه ابن كثير(5) وحسنه، قالت: بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً، وفيهم عليٌّ. قالت: فسمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اللّهم لا تمتني حتى تريني عليّاً (6).
____________
(1) تاريخ الطبري 2: 182 ـ 183. والبداية والنهاية، لابن كثير 7: 340 وما بعدها.
(2) التاج الجامع للاُصول، للشيخ منصور عليّ ناصف 3: 332. قال: رواه الشيخان والترمذي.
(3) صحيح مسلم 4: 1873.
(4) سنن الترمذي 5: 596.
(5) البداية والنهاية، لابن كثير 7: 357.
(6) التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول، للشيخ منصور عليّ ناصف 3: 334.
ويستفاد من هذه الرواية ـ كما هو ظاهر ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يُرسّخ ويؤكد أنَّ الاِمام عليّاً عليه السلام هو أحب الخلق إلى الله تعالى أيضاً (4).
كل ذلك يدلُ بما لا يدعُ مجالاً للشك على أنَّ التربية التي خصَّ بها نبينا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الاِمام عليّ عليه السلام، كانت تهدف إلى إعداده وتهيئته لمسؤولية قيادة الاُمّة، وليس لمجرد أن يكون أحد أركانها ورجالها البارزين. إذ وجدنا الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم يتعهد جمعاً من صحابته بالتربية والتثقيف والرعاية، ولكن ليس بمستوى العناية والرعاية التي اتّبعت مع الاِمام عليٍّ عليه السلام، مما يكشف أن المسؤولية المنوطة بالاِمام عليٍّ عليه السلام هي
____________
(1) البداية والنهاية 7: 351.
(2) التاج الجامع للاُصول 3: 336.
(3) البداية والنهاية 7: 351 ـ 352.
(4) غاية المأمول شرح التاج الجامع للاُصول 3: 336، الهامش (6). قال عن الحديث «وفيه أنَّ علياً رضي الله عنه أحب الخلق إلى الله تعالى».
المرحلة الثانية:
وتبدأ هذه المرحلة بتسليط الاضواء النبوية الشريفة الكاشفة عن شخص الاِمام عليّ عليه السلام ومقامه الشريف ومنزلته الرفيعة من الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد أفرد صلى الله عليه وآله وسلم الاِمام عليّاً عليه السلام من بين أهله وسائر أصحابه، وخصه بعلوم الشريعة كلّها زيادة على المواقف الحاسمة في تاريخ الرسول والرسالة التي تشهد بتقديمه، ومن يراجع كتب الحديث والسيرة والتواريخ(1) يظفر بالكثير جداً.
ونذكر أمثلةً منها تثبيتاً للمطلب:
لقد تولّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وبأمرٍ إلهي مهمة الاِعداد الفكري والعلمي للاِمام عليّ عليه السلام، وتزويده دون سواه بالمعرفة القرآنية الشاملة، وباُصول العلوم وينابيعها، وبالحكمة وآدابها، وأحكام الشريعة الاِسلامية جميعاً.
وقد جاء عن الاِمام عليٍّ عليه السلام ما يؤيد هذا، فقال صلوات الله عليه: علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم، يفتح لي من كلِّ باب ألف باب... (2). وكان الاِمام عليّ عليه السلام تارةً يبادر هو بالحصول على المعارف والعلوم والاَحكام من الرسول الاَعظم، وتارةً يبادر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بذلك؛ قال الاِمام عليّ عليه السلام: كنت إذا سألتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني، وإذا
____________
(1) مختصر تاريخ ابن عساكر، لابن منظور 17: 356 وما بعدها و 18: 51.
(2) الارشاد، للشيخ المفيد، أخرجه عن عبدالله بن مسعود: 22. وفتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي، للحافظ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني المغربي.
وقد صرّح السيوطي أن معمراً روى عن وهب بن عبدالله عن أبي الطفيل قال: «شهدتُ عليّاً يخطب وهو يقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلمُ أبليلٍ نزلت أم في نهار أم في سهل أم في جبلٍ...» (4).
قال السيوطي: «إنَّ أحداً من الصحابة لم يجرؤ على أن يقول سلوني غير عليّ...» (5).
وكل ما تحدّث به الاِمام عليّ عليه السلام، ونقله لنا التاريخ نقلاً أميناً، شهد به
____________
(1) التاج الجامع للاصول 3: 335. وتاريخ الخلفاء، للسيوطي: 170. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 126 ـ 127.
(2) الاتقان، للسيوطي 4: 234.
(3) كمال الدين 1: 284 | 37 باب 24. وبحار الانوار، للمجلسي 92: 99.
(4) الاتقان 4: 233. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 127.
(5) تاريخ الخلفاء: 166.
وعملياً كان أمير المؤمنين عليه السلام مرجع الصحابة في كلِّ ما يعترضهم من المسائل العلمية والمشاكل الاِدارية، والمعضلات القضائية. فلقد ثبتَ عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا عليٌّ لهلك عمر» (4)، وأنه كان يقول: «أعوذ بالله من معضلةٍ، ولا أبو حسن لها..» (5)، وثبتَ عنه أنه قال: «أقضانا عليٌّ..» (6). والقضاء يعني العلم بكلِّ أحكام الشرع. وكذلك غيره من كبار الصحابة، فقد كثر رجوعهم إليه في مختلف القضايا المشكلة حتى قال الحافظ النووي: «سؤال كبار الصحابة له ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات مشهور» (7).
____________
(1) نقله في الاتقان السيوطي 4: 233.
(2) ينابيع المودة، للقندوزي 1: 68 ـ 69.
(3) حلية الاَولياء 1: 68.
(4) البداية والنهاية، لابن كثير 7: 359. وتاريخ الخلفاء، للسيوطي: 171.
(5) البداية والنهاية، لابن كثير 7: 373. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 127.
(6) الطبقات الكبرى، لابن سعد 3: 339.
(7) تهذيب الاَسماء واللغات 1: 344 ترجمة رقم 429.
المطلب الثاني
إعداد الاَُمّة وتهيئتها لتولي
الاِمام عليّ عليه السلام الخلافة وترسيخ النصّ عليه
لقد بدأت عملية إعداد الاَُمة وتربيتها لقبول واستقبال خلافة الاِمام عليّ عليه السلام، وقيادته للمسيرة الاِسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالنصّ عليه منذ وقتٍ مبكّر، وآية الانذار خير دليل على ذلك. إذ من الثابت عند جميع المفسرين ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أُمر في السنة الثالثة من البعثة المشرفة باظهار دعوته جهرة لقوله تعالى: (فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِض عَنِ المُشْرِكينَ)(1) لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان ـ كما يقول ابن قتيبة الدينوري ـ متستراً على دعوته متخفياً في أمره، متوقياً بعض التوقي (2). وقد بدأ بانذار عشيرته الاَقربين لقوله تعالى: (وَأنذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ)(3) وفي الخبر الصحيح عن عبدالله بن عباس عن الاِمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي يا عليّ إنَّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الاَقربين، فضقتُ بذلك ذرعاً، وعرفتُ أني متى أباديهم بهذا الاَمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليه حتى جاءني جبريل، فقال يا محمّد إلاّ تفعل ما
____________
(1) الحجر 15: 94.
(2) المسائل والاَجوبة في الحديث والتفسير، لابن قتيبة: 222.
(3) الشعراء 26: 214.
ومن هذه الرواية يتضح لنا أن أول عملية لاِعداد الاَُمّة من أجل قبول الاِمام عليّ عليه السلام، وصيّاً وخليفةً، قد تمت في الوسط الخاص، (عشيرة النبي المقربين) وكان ذلك جنباً إلى جنب مع التبشير برسالته والاِعلان عن نبوته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
ثم اتخذت عملية إعداد الاَُمة منحىً آخر يوم كان ابن عم الرسول صلوات الله عليهما متفانياً بكلِّ ما يملك من أجل الرسالة، مستبسلاً في
____________
(1) تاريخ الطبري 3: 218 ـ 219. راجع تفصيل الرواية وأسانيدها في: مانزل من القرآن في عليّ، لابي نعيم ـ جمع الشيخ المحمودي: 155. وتفسير الخازن 3: 371.
أخرج ابن عساكر على ما نقله السيوطي: «أنّه ما نزل في أحدٍ من كتاب الله كما نزل في عليٍّ..» (1)، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أيضاً «إنّه نزلت في عليٍّ ثلاثمائة آية»(2).
ونورد هنا بعض الآيات التي ذكر غيرُ واحدٍ أنها نزلت في الاِمام عليّ عليه السلام وهي تدخل في هذا الاِطار، أي تؤشر حقيقة إعداد الاَُمة وتربيتها في هذا الاتجاه بالنصّ عليه عليه السلام.
أ ـ جاء قوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحمنُ وُدّاً) (3) أخرج غير واحد من الحفاظ بأسانيد مختلفة أنها نزلت في الاِمام عليّ عليه السلام، لاَنَّ مامن مسلم إلاّ ولعلي في قلبه محبة... (4).
فعن البراء بن عازب قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب يا عليّ: قل اللّهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة.
فأنزل الله: (إنَّ الَّذِينَ امَنُوا..) قال: نزلت في عليٍّ» (5).
____________
(1) تاريخ الخلفاء: 171. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 127.
(2) المصدران السابقان.
(3) مريم 19: 96.
(4) ما نزل من القرآن في عليٍّ، لابي نعيم الاصبهاني: 130 وما بعدها.
(5) شواهد التنزيل، للحسكاني 1: 360 ـ 361.
جـ ـ قوله تعالى: (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خيْراً وَكَفَى اللهُ المُؤمِنِينَ القِتَالَ..) (3) روى غير واحدٍ أن عبدالله بن مسعود كان يقرأ هذه الآية هكذا: (وَكَفَى اللهُ المُؤمِنِينَ القِتَالَ) بعليّ بن أبي طالب (4).
د ـ قوله تعالى: (يَآ أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(5).
ذكر غير واحدٍ من الحفاظ والمحدّثين عن ابن عباس قال: هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام خاصةً (6).
هـ ـ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنينَ وَالمُؤمِنَاتِ بَغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَاناً وَإثَماً مُبِيناً) (7).
____________
(1) الحج 22: 19.
(2) التاج الجامع للاصول 4: 181، وقال رواه الشيخان (البخاري ومسلم) كتاب التفسير.
(3) الاَحزاب 33: 25.
(4) ما نزل من القرآن في عليٍّ، لاَبي نعيم ـ تحقيق المحمودي: 172.
(5) التوبة 9: 119.
(6) ما نزل من القرآن في عليٍّ، لابي نعيم: 104. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 152.
(7) الاَحزاب 33: 58.
إنَّ مما يؤكد أن الآيات السابقة قد جاءت لبيان منزلة الاِمام عليّ عليه السلام وعظمة شخصيته، ودوره الكبير في حياة الرسالة والرسول، وأنَّ المؤمنين يلزمهم وعي هذه الحقائق والانقياد إليها؛ هو ما جاء من الاَحاديث النبوية في تثبيت هذه المعاني.
فقد روى الصحابي سعد بن أبي وقاص قال: «أمرني معاوية أن أسبَّ أبا تراب، فقلت: أمّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله، فلن أسبّه، لاَن تكون لي واحدة منهنّ أحبُّ إليَّ من حُمر النّعم، قد خلّفه رسولُ الله في بعض مغازيه، فقال عليٌّ: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فسمعتُ رسول الله يقول: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبوةَ بعدي (2)، وسمعته يقول يوم خيبر: لاَعطين الرايةَ رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه اللهُ ورسوله، قال: فتطاولنا لها (3)فقال: ادعو لي عليّاً، فأُتي به أرمد، [ فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بريقه الشريف عينَ الاِمام علي عليه السلام ] (4)ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ ما جَآءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدعُ أبنَآءَنَا
____________
(1) تفسير الكشاف 3: 559.
(2) التاج الجامع للاُصول 3: 332 قال رواه الشيخان والترمذي.
(3) عن أبي هريرة قال: قال عمر: «ما أحببتُ الاِمارة إلاّ يومئذٍ فتساورت لها..» التاج الجامع للاُصول 3: 331 رواه الشيخان.
(4) ما بين القوسين أثبتناه من طرقنا تأدباً مع مقام الوصي وفي رواية مسلم وغيره من العامّة ورد التعبير بهذا المعنى ولكن بغير هذا اللفظ !!
إنَّ هذه الرواية التي رواها سعد تؤكد أموراً منها:
أ ـ نزول آية المباهلة ـ وهي الآية المذكورة في نص الرواية ـ في الاِمام عليّ وفاطمة الزهراء وولديهما الحسن والحسين عليهم السلام.
ب ـ تؤكد أن هؤلاء هم أهل البيت دون سواهم (4). وبالتالي نفهم أنهم هم المقصودون في آية التطهير التي هي قوله تعالى: (... إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً) (5)تلك الآية التي بينت لنا نزاهة الاِمام عليّ عليه السلام وأمانته، وسمو ذاته وطهارته، بل عصمته.
ومن هنا يبدأ الاستحقاق لاَن يحتلَّ الاِمام عليّ عليه السلام مقام الخلافة والولاية وقيادة المسيرة، قال الراغب الاَصفهاني: «لا يصلح لخلافة الله
____________
(1) آل عمران 3: 61.
(2) صحيح مسلم 4: 1873.
(3) سنن الترمذي 5: 596. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 143. والتاج الجامع للاُصول 3: 333.
(4) التاج الجامع للاُصول 4: 207. قال روى الترمذي ومسلم عن عمر بن أُم سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما نزلت هذه الآية ـ التطهير ـ في بيت أُم سلمة دعا رسول الله فاطمة وحسناً وحسيناً وعلياً، فجللهم بكساء ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قالت أُم سلمة، وأنا معهم يا رسول الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: أنتِ على مكانك، وأنتِ على خير.
(5) الاَحزاب 33: 33.
يتبين لنا من ذلك أنَّ القرآن الكريم بعد أن أشادَ بفضل الاِمام عليّ عليه السلام وبفضائله، ارتقى به إلى منزلة التزكية المطلقة «التطهير» ثم صعدَ به إلى منزلةٍ على غاية من الاَهمية، إذ جعل نفسَ الاِمام عليّ عليه السلام كنفس النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كما هو صريح آية المباهلة. وتأسيساً على ذلك، أكدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراراً وكراراً قائلاً: عليٌّ مني وأنا من عليّ (2) وعندما حاول بعض الناس الشكوى من الاِمام عليّ عليه السلام بغيةَ التشويش على مقامه هذا ومنزلته، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما تريدون من عليّ.. ؟ ردّدها ثلاثاً، ثم قال: إنَّ علياً مني وأنا منه (3).
ومن أجل قطع الطريق أمام المتشككين بهذه المنزلة الرفيعة التي أنزل الله تعالى فيها الاِمام عليّ عليه السلام، ولترسيخ وتأكيد ولايته وخلافته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في كلِّ ما يهم المسلمين من أجل ذلك جاء قوله تعالى:
____________
(1) الذريعة إلى مكارم الشيعة، لابن المفضل الراغب الاَصفهاني: 29. والاستدلال على العصمة بآية التطهير ـ الاُصول العامّة للفقه المقارن، لمحمّد تقي الحكيم: 174.
(2) التاج الجامع للاُصول، للشيخ منصور عليّ ناصف 3: 334. وتاريخ الخلفاء، للسيوطي: 169.
(3) سنن الترمذي 5: 594.
____________
(1) المائدة 5: 55.
(2) الكشاف، للزمخشري 1: 649 قال في الهامش في تخريج الحديث: رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن كهيل: قال: تصدّق عليّ بخاتمه وهو راكع فنزلت ـ أي الآية ـ. ولابن مردويه عن سفيان الثوري عن ابن سنان عن الضحاك عن ابن عباس مثله. وقال الواحدي في أسباب النزول: 134 ـ أن الآية نزلت في عليّ.
(3) سنن الترمذي 5: 594 ـ باب فضائل الاِمام عليّ. والتاج الجامع للاُصول 3: 335.
(4) سنن الترمذي 5: 594 ـ باب فضائل الاِمام عليّ. والتاج الجامع للاُصول 3: 335.
(5) مسند الاِمام أحمد بن حنبل 1: 3. وسنن الترمذي 5: 594. وتفسير الكشاف، للزمخشري 2: 243.
وأخيراً ختم القرآن الكريم هذا الموضوع الحيوي والمهم أي عملية الاِعداد الفكري والتربوي في آخر ما نزل منه في آية التبليغ ثم في آية إكمال الدين بعد حديث الغدير المشهور، وعنده لم يعد هناك عذرٌ لمعتذر. وقصة الغدير ـ كما تناقلها الرواة مع بعض الاختلاف ـ هي كما يأتي:
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع، نزل عليه الوحي مُشدِّداً (يآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (2) فحط الركبُ عندَ غدير خمّ، وجمع الناس في منتصف النهار، والحرُّ شديد، وخطب فيهم قائلاً، كأني قد دُعيت فأجبتُ وإني تركتُ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتابَ الله وعترتي ـ وفي رواية مسلم (3) وأهل بيتي ـ فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض... ثم قال: إنَّ الله مولاي، وأنا مولى كلِّ مؤمن، ثم أخذ بيد عليٍّ فقال: من كنتُ مولاه فهذا وليُّه ـ فهذا مولاه (4) ـ اللّهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، واخذُل من خذله،
____________
(1) الكشاف 2: 243.
(2) المائدة 5: 67، قال الواحدي في أسباب النزول: 135، نزلت في غدير خم.
(3) صحيح مسلم 4: 1874.
(4) سنن الترمذي 5: 591. والتاج الجامع للاُصول 3: 333، أخرجه عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ورد في بعض الروايات أن الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد نزول هذه الآية في ذلك اليوم المشهود وهو يوم الثامن عشر من ذي الحجة(4).
يوم الغدير قال: اللهُ أكبر، الحمدُ لله على اكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي بعدي (5).
وفي رواية لاَحمد: «فلقيه عمر بن الخطاب ـ أي لقي الاِمام عليّ ـ بعد ذلك، فقال له هنيئاً أصبحت وأمسيتَ مولى كلّ مؤمن ومؤمنة...» (6).
ومما يؤسف له حقاً أن بعض الناس كان لا يرضيهم أن يُعطى الاِمام عليّ عليه السلام مثل هذه الامتيازات والمقامات، وكان بعض الناس يكثر لغطه واعتراضه عندما يخصُّ الرسول القائد الاِمام عليّاً عليه السلام بذلك، فيضطر الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكرّهم بأنه رسول ربِّ العالمين الذي يصدع بما
____________
(1) مسند الاِمام أحمد بن حنبل 4: 281، 368. وسنن ابن ماجة، المقدمة 1: باب 11. وتفسير ابن كثير 1: 22. والبداية والنهاية، لابن كثير أخرجه بعدة طرق 7: 360 ـ 361.
(2) التاج الجامع للاُصول 3: 337، رواه مستقلاً «رحم الله عليّاً اللّهم أدر الحق معه حيثُ دار..».
(3) المائدة 5: 3.
(4) الاتقان، للسيوطي 1: 75 في رواية نزول الآية يوم الغدير وأنه يوم الثامن عشر من ذيالحجة. وأسباب النزول، للواحدي: 135.
(5) مناقب أمير المؤمنين، للحافظ محمّد بن سليمان الكوفي القاضي 1: 119.
(6) مسند الاِمام أحمد بن حنبل 4: 281، وقد أشهدَ عليٌّ جمعاً من الناس، فشهد له ثلاثون أنهم سمعوا هذا الحديث من رسول الله. والبداية والنهاية، لابن كثير 7: 360.
ومن الشواهد على ذلك، ما رواه الترمذي وحسّنه، عن جابر بن عبدالله قال: «دعا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً يوم الطائف فانتجاه ـ أي كلّمه سرّاًـ فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمّه، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ماانتجيته ولكن الله انتجاه... (2).
وعن ميمون عن زيد بن أرقم قال: «كان لنَفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً: سدّوا هذه الاَبواب إلاّ باب عليّ، قال: فتكلّم في ذلك الناس، قال: فقام رسول الله فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أما بعدُ فإني أُمرتُ بسدِّ هذه الاَبواب، إلاّ باب عليّ، وقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددتُ شيئاً ولا فتحتُهُ، ولكني اُمرتُ بشيء فاتبعتُه... (3).
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّما يخصُّ الاِمامَ عليّاً عليه السلام بموقف ـ دون سواه ـ يصرّحُ ويبين للاَمة أنَّ ذلك إنما هو بأمر من الله تعالى. وقد حدث ذلك في إرسال الاِمام عليّ عليه السلام لتبليغ سورة براءة بدلاً من أبي بكر، وحدث ذلك يوم المناجاة في الطائف، وحدث ذلك يوم الغدير، إلى غير ذلك من الوقائع. ومما يلاحظ أيضاً أن المواقف الحاسمة في تاريخ الاِسلام، وفي حياة الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بما فيها ما يتصل بحماية
____________
(1) النجم 53: 3 ـ 4.
(2) سنن الترمذي 5: 597. والبداية والنهاية، لابن كثير 7: 369. والتاج الجامع للاُصول 3: 336.
(3) مسند الاِمام أحمد 4: 369. وتاريخ ابن كثير 7: 355.
ويكفي ما رواه جملة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال يوم خيبر: لاَعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله... وكان علي عليه السلام ـ بعد ان بات الناس يدركون أيُّهم يعطاها ـ صاحبها إلى أن فتح الله على يديه (2).
وقد يكون من المناسب أن نذكر هنا ما أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم
____________
(1) تاريخ الطبري 2: 25، 65 ـ 66.
(2) مسند أحمد 6: 8. ومغازي الواقدي 2: 654 ـ 655. وتاريخ الطبري 3: 12 ـ 14. وسيرة ابن هشام 3: 349 ـ 350. ومناقب الخوارزمي: 172 | 207. وفرائد السمطين 1: 253 | 196 و 261 | 201.
____________
(1) تاريخ الخلفاء، للسيوطي: 171.