الصفحة 29

8 - لقد صار مصطلح (مسلم) هوية لكل أفراد المجتمع الإسلامي والأخطر أن الجميع تقريباً صاروا صحابة، وأحيطوا عملياً بالهالة نفسها من التقديس والاحترام من دون فرق يذكر بين مهاجر وطليق ومؤمن ومنافق، وبين من قاتل مع النبي أو قاتل ضده، فقد أسلم الجميع بالنتيجة!! وصحبوا النبي وعفا الله عما مضى.

9 - في هذا المناخ استذكر المجمتع مواقف شخصيات بارزة، من حول الرسول، فصار لكل واحد منها شيعة خاصة به، فنشأت شيعة لأبي بكر وأخرى لعمر، ثالثة لعثمان، ورابعة لطلحة... الخ. وكل شيعة تنادي بتميز صاحبها، وتفتحت أشداق المطامع وتهيأ المناخ لعودة الشيع الجاهلية ولكن معممة بعمامة الإسلام.

10 - والأخطر أن شيعة النبي المخلصة التي قامت الدولة على أكتافها أصبحت كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود.

وكان واضحاً أن كفة تحالف شيع البطون هي الراجحة، وهي المرشحة القوية لقيادة عصر ما بعد النبوة، فأقبل المنافقون وطلاب الدين والراغبون في السلامة على هذا التحالف. وتشابكت أيدي الشيع، فتشكل واقعياً بدون إعلان، أكبر تحالف للشيع في التاريخ الإسلامي كله، وأخذت الشيع تتربص وتنتظر موت الرسول الأعظم لتقتسم الغنيمة!

* * *

الصفحة 30

الصفحة 31

الفصل الثالث
تدبير النبي وتدبير الشيع العربية

علم النبي اليقيني بما تدبره الشيع العربية

كان النبي الكريم على علم يقيني بكليات ما يجري في الخفاء وتفاصيله وبتوجهات الحركة العامة للأحداث. فقد وضع الله تعالى أمام نبيه صورة متكاملة للماضي والحاضر والمستقبل، وقد حوت هذه الصورة أدق التفاصيل. كان النبي يعلم أن الشيع وفتنتها المظلمة تنتظر موته لتبطش بطشتها الكبرى، فتعيد ترتيب كل شئ حسب سيرته الجاهلية الأولى، ولكن بلباس الإسلام. وكان يعلم أن النوايا الجرمية قد تشكلت بالفعل، وأخذت صورتها النهائية في قلوب قادة الشيع وضمائرهم، وهو يعلم حجم تأثيرها على سير الأحداث، لأن هذه الشيع شكلت الأكثرية الساحقة من أفراد المجتمع الإسلامي. ومما زاد الأمر تعقيداً أن هذه الأكثرية تتلفظ بالشهادتين، وتقوم ظاهرياً بكل ما يطلبه الإسلام منها، وتظهر الرضي بقيادة النبي وولايته وقبولهما، وتتظاهر بالالتزام التام بكل أوامره وتوجيهاته في الوقت الذي تخفي فيه نواياها الجرمية، وتخفي فيه الحقد على محمد وآل محمد، والكفر بكل ما جاء به وما يرمز إليه. ولكن هذا العلم اليقيني الدقيق لم يتأت للنبي نتيجة تحليله الشخصي الدقيق للموقف فحسب، وإنما هو علم إلهي سابق لوقوع الأحداث اختص الله به تعالى نبيه، ما يجعل استعمال القوة - على فرض وجودها - غير مسوغ وفق قواعد العدل الإلهي، فكيف يعاقب النبي على نوايا جرمية!؟ صحيح أن هذه النوايا قد أخذت صورتها النهائية، ولكنها ما زالت مخفية في قلوب أصحابها! وكيف يعاقب النبي الشيع على أفعال لم تدخل حيز التنفيذ ولم تقع بعد!؟ وهذا أمر لا يتفق مع طبيعة العدل الإلهي، ولا مع طبيعة شخصية الرسول، وطبيعة الدولة التي يقودها.

النبي يكشف مؤامرة الشيع ويفضح أهدافها وقياداتها

كشف الرسول لأمته وجود مؤامرة على الشرعية الإلهية، وأن المتآمرين ينتظرون موته لينقضوا الإسلام عروة عروة بدءاً من نظام الحكم وانتهاء بالصلاة.


الصفحة 32
كما روى ذلك ابن حنبل وابن حيان في صحيحه والحاكم (1). والأهم من ذلك أن رسول الله كشف الانقلابيين وسمى قادة الفتن من بعد وفاته وحتى قيام الساعة، كما روى حذيفة برواية ابن أبي شيبة وأبي نعيم (2). وأعلن النبي أنه في حالة نجاح المؤامرة فإن النفاق سيظهر، وترتفع الأمانة وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين (3). وسيبتلى المؤمنون حتى أن المؤمن لا يستطيع أن يصلي إلا سراً (4).

ومع هذا فإذا صلى المؤمن وحده يصلي وهو خائف (5) وأن الإسلام سيعود غريباً (6).

وسيكون هنا لك كفر بعد إيمان (7). وإذا نجحت المؤامرة فإن قيادة الأمة ستؤول إلى أشد الناس بغضاً لمحمد وآل محمد (8) وأنهم سيفتكون بآل محمد فتكاً ذريعاً.

وبالإيجاز، فإن الرسول الله لم يترك أمراً سيفعله المتآمرون، إن نجحوا في مؤامرتهم، إلا وبينة وكشفه للأمة. لقد استبق رسول الله الأفعال قبل وقوعها وحذر الأمة منها، لقد تركهم على المحجة البيضاء، وهذا أقصى ما يستطيع الوالد أن يفعله لأولاده والولي لمواليه والقائد لأتباعه. إنه يكشف لهم بدقة المناطق الملغومة، ويقسم لهم بأغلظ الأيمان أنه قد حدد المنطقة الملغومة وشاهد بأم عينيه كافة الألغام، وأنه مشفق وحريص ومحب لذلك كله حذرهم، ولكن ليس بوسعه إجبارهم على تجنب المنطقة الملغومة أو على الابتعاد عن تلك الألغام. لأنه لا يستطيع ذلك، فضلاً عن أنه لن يكون موجوداً معهم. ولأن الأحداث لم تقع، كان عسيراً على الناس أن يستوعبوا تحذيرات الرسول. وعلى أي حال، لقد بين الرسول أن نجاح المتآمرون سيكون بمثابة طوفان حقيقي يجتاح المجتمع

____________

(1) راجع: كنز العمال، 1 / 238.

(2) راجع كنز العمال، 11 / 216 ومعالم الفتن، 1 / 406.

(3) رواه الحاكم والطبراني والبيهقي، راجع كنز العمال، 11 / 127 - 128، ومعالم الفتن، 1 / 408.

(4) راجع: صحيح مسلم، 2 / 279.

(5) راجع: صحيح البخاري، 2 / 180.

(6) رواه مسلم وابن ماجة والطبراني، راجع: كنز العمال، 2 / 177، ومعالم الفتن 1 / 470.

(7) راجع: صحيح البخاري، 4 / 230.

(8) رواه الحاكم، وأبو نعيم، راجع: كنز العمال، 11 / 169.

الصفحة 33
الإسلامي، ويعمل فيه يد التبديل والتعديل والتحريف في كل ما هو إسلامي وسيؤدي إلى فتنة عمياء مظلمة إذا أخرج المؤمن يده فيها لم يكد يراها.

الخطة الإلهية لإفشال مؤامرة الشيع

التمسك بالثقلين

بعد أن كشف النبي مؤامرة الشيع وفضح قياداتها وبين حقيقة أهدافها أكد، للمؤمنين بخاصة وللمسلمين بعامة، أن الخطة الإلهية لمنع حدوث انقلاب الشيع وإفشاله إفشال غيره إذا وقع. ولتمييز المؤمن من سواه، ولإدراك الهدى وتجنب الضلالة، وضمان قيادة الشيعة المؤمنة للمجتمع تتمثل في التمسك بالثقلين، وهما:

كتاب الله وعترة النبي أهل بيته. ثم بين الرسول هذين الثقلين لن يفترقا إلى يوم القيامة.

من صيغ حديث الثقلين

1 - (كأني قد دعيت فأجبت، وإني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي) (1).

2 - (يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (2).

3 - (إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله... وعترتي أهل بيتي) (3).

4 - (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي) (4).

5 - (يا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله.. وأهل بيتي) (5).

(6) - (ألا وإني تارك فيكم الثقلين: أحدهما كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي) (6).

____________

(1) راجع: الخصائص للنسائي، ص 21 و 93.

(2) راجع: صحيح الترمذي، 5 / 328.

(3) راجع: الدر المنثور للسيوطي، 2 / 60.

(4) راجع: المناقب للخوارزمي الحنفي، ص 23.

(5) راجع: صحيح مسلم، 2 / 362 و 15 / 179 - 180 بشرح النووي.

(6) راجع: صحيح مسلم، 2 / 362 و 15 / 181 بشرح النووي.

الصفحة 34
وقوم ابن حجر حديث الثقلين فقال (1): (ثم اعلم أن لحديث التمسك بالثقلين طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً) (2).

وحديث الثقلين هو مقطع من خطبة الرسول التي ألقاها في غدير خم أمام مئة ألف مسلم على الأقل بعد عودته من حجة الوداع. وقد ورد في هذا المقطع بعد قرار تنصيب الإمام علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين وولياً للمسلمين من بعد النبي.

الربط المحكم بين ولاية النبي وبين التمسك بالقرآن والتمسك بأهل بيت النبوة

في غدير خم، سأل رسول الله الجمع الحاشد الذي ضم أكثرية المسلمين:

1 - (ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال المسلمون: بلى).

2 - قال: (ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قال المسلمون: بلى).

3 - قال: (أيها الناس إني وليكم. قال المسلمون: صدقت).

4 -: (أيها الناس، من وليكم؟ قال المسلمون، ثلاثاً: الله ورسوله).

بعد هذا كله أخذ الرسول بيد علي بن أبي طالب ثم قال:

1 - (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).

2 - (هذا وليي وأنا موال من والاه ومعاد من عاداه).

3 - (من كان الله ورسوله وليه فهذا علي وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).

4 - (أيها الناس، إن الله مولاي وأنا ولي المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (3).

بعد إعلان تنصيب الإمام علي مباشرة جاء مقطع حديث الثقلين، وتلاحظ

____________

(1) الصواعق المحرقة، ص 148.

(2) راجع: ينابيع المودة للقندوزي، ص 296.

(3) راجع: بالترتيب، وعلى سبيل المثال: الرياض النضرة للطبري، 2 / 23، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي، ص 21 و 93، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 24، والحاوي للفتاوي للسيوطي، 1 / 22، والبداية والنهاية لابن الأثير، 5 / 212، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي، ص 37.

الصفحة 35
أن الرسول الله ربط ولاية علي بولايته، وربط ولايته بولاية الله فمن يوالي علياً بعد وفاة النبي فقد والى النبي، ومن والى النبي فقد والى الله. ومن رفض ولاية علي، فقد رفض ولاية رسول الله، من رفض ولاية رسول الله فهو كافر كائناً من كان.

كذلك ربط الولاء للثقلين معاً، فالقرآن ثقل وأهل بيت النبوة ثقل آخر، فالتمسك بالقرآن وحده لا يكفي، فالقرآن له وجوه متعددة، وأئمة أهل بيت النبوة هم وحدهم الذي يعلمون علم اليقين الوجه المطلوب. ومن جهة ثانية، فإن القرآن شريعة وأهل البيت قيادة وعلم ونقطة تجمع للشيعة المؤمنة، والقيادة لا تغني عن الشريعة، والشريعة لا تغني عن القيادة، فأحدهما يكمل الآخر.

تجذير حديث الثقلين

دين الإسلام كله يقوم على ثقلين: الأول رسول الله والثاني كتاب الله.

فليس مسلماً من يؤمن بالرسول ولا يؤمن بالقرآن، وليس مسلماً من يؤمن بالقرآن ولا يؤمن بالرسول فحتى يستقيم إسلام أي شخص مسلم وإيمانه يتوجب عليه أن يؤمن بالاثنين معاً، أي بالقرآن الكريم شريعة أو قانوناً نافذاً، وبمحمد رسولاً ومبلغاً لهذه الشريعة وإماماً وولياً وقائداً له ولجميع المسلمين، فإن لم يؤمن بذلك فإنه ليس مسلماً. فلو قال أحد المسلمين إنه مؤمن بالقرآن، ولكنه لا يؤمن بمحمد فهو كافر، ولو قال أنه مؤمن بمحمد ولكنه لا يؤمن بأن القرآن من عند الله فهو كافر بلا خلاف ولو قال إنه مؤمن بالقرآن، ومؤمن بمحمد رسولاً، ولكنه لا يقبل أن يكون محمد أمامه وقائده ووليه، وهو يفضل ولاية أبي بكر أو عمر أو عثمان أو أبي سفيان على ولاية الرسول فهو كافر أيضاً. فالإسلام الحقيقي يقوم على ركنين:

الركن الشخصي المتمثل بالقيادة أو الإمامة أو الولاية، ويمثلها الرسول حال حياته والقائم الشرعي مقامه بعد وفاته. ومبدأ الثقلين مبدأ عام يشكل امتداداً لمبدأ الرسالة. فكل رسول من الرسل كان في زمانه ثقلاً، وشكلت التعليمات الإلهية الثقل الآخر، وأتباعه المخلصون هم الشيعة المؤمنة. وقد اكتسبوا صفة الشيعة المؤمنة لأنهم آمنوا بالثقلين (أي رسول ذلك الزمان والتعليمات الإلهية) والإسلام الذي جاء به رسول الله محمد يقوم على ثقلين أيضاً: الثقل الشخصي المتمثل برسول الله والثقل التشريعي المتمثل بالتعليمات الإلهية أي القرآن الكريم. وفي كل

الصفحة 36
زمان يوجد الثقلان معاً، ولا غنى لأحدهما عن الآخر فهما متكاملان. فلا بد من وجود شخص يقوم مقام النبي لإمامة الشيعة المؤمنة - التي لم يخل مجتمع منها قط - وقيادتها وولايتها بغض النظر عن القلة أو الكثرة، فيكون هذا الشخص بمثابة علم للهدى ونقطة تجمع واستقطاب لمعتنقيه وطلابه، ورمز لطاعة الله فتكون طاعته كطاعة الله، ومعصية كمعصية (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [ النساء / 80 ] ويكون هو القائم بأمر الله، وقائد الدعوة إليه، والإمام أو الولي أو رئيس الدولة إن تمخضت الدعوة عن دولة. والأهم من ذلك أن هذا الشخص (الرسول أو القائم الشرعي مقامه) هو وحده الذي يفهم التعليمات الإلهية فهماً قائماً على الجزم واليقين، وهو المؤتمن على هذه التعليمات ودقة فهمها وتبليغها، وسياسية الشيعة المؤمنة وفق أحكامها. وبالضرورة فإن هذا الشخص أو (الثقل) (أي الرسول أو القائم الشرعي مقامه) يجب أن يكون الأعلم بالتعليمات الإلهية، في زمانه، والأقرب إلى الله، وأصلح الموجودين وأفضلهم في ذلك الزمان، ليكون جديراً بالإمامة والقيادة ومؤتمناً على الأمر الإلهي. وبتعبير أدق (يجب أن يكون معداً ومؤهلاً إلهياً) للقيام بما هو منوط به. وهذه المؤهلات توافرت في جميع الرسل السابقين وتوافرت في أوصيائهم. وهي متوافرة، بالضرورة، في رسول الله خاتم الرسل وفي وصيه علي بن أبي طالب، والأوصياء الأحد عشر (الأئمة من بعده).

هذا هو الثقل الشخصي في دين الإسلام عبر تاريخه الطويل من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا. أما الثقل الآخر وهو التشريعي المتمثل بالتعليمات الإلهية (يهدون بأمرنا) [ الأنبياء / 73 ] فقد استقر بصورة نهائية في القرآن الكريم.

الثقل الشخصي من بعد الرسول: اثنا عشر إماماً

لقد رأينا أن رسول الله قد أعلن، في غدير خم وأمام جمع من المسلمين لا يقل عن مئة ألف مسلم، أن علياً بن أبي طالب هو الولي من بعد النبي، لأن الله سبحانه وتعالى قد اختاره وأهله وأعده ليكون ولي المؤمنين وأميرهم وإمامهم وقائدهم وسيدهم والمبين لما اختلفوا فيه من بعد النبي، وبالتالي فإنه لن يؤدي عن النبي إلا النبي أو علي كما سنثبت ذلك. ولأن رسول الله آخر الرسل ورسالته آخر

الصفحة 37
الرسالات، ولأنه لا ينبغي أن تخلو الأرض من قائم بأمر الله، وقائد للشيعة المؤمنة فقد بين رسول الله أن الأئمة من بعده اثنا عشر إماماً، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وجميعهم من ذرية النبي ومن صلب علي وقد اختارهم الله، تعالى، وأعدهم وأهلهم للإمامة والولاية، بحيث يكون كل واحد منهم هو الأوحد في زمانه (أي الأعلم والأفهم والأتقى والأقرب لله ولرسوله وأفضل أهل زمانه). وأمر الله رسوله أن يبين للمسلمين أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن علياً بن أبي طالب بعد وفاة الرسول هو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن الحسن من بعد وفاة علي، هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن الحسين من بعد وفاة الحسن هو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن كل واهد من التسعة الآخرين هو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم وأن كل واحد منهم هو أحد الثقلين في زمانه، فلا تدرك الهدى إلا به وبالقرآن معاً، ولا تتجنب الضلالة إلا به وبالقرآن معاً، وإن التمسك بالاثنين معاً فرض عين على كل مؤمن ومؤمنة. ولا يلزم بموالاتهم إلا المؤمنون، فموالاتهم هي مقياس الإيمان والدليل عليه، وأتباعهم هم الشيعة المؤمنة حقاً ومعاداتهم هي مقياس الفسوق والعصيان، وأعداؤهم امتداد لشيع الأولين.

الإجماع على صحة عدد الأئمة

لقد أجمع أهل الملة على أن عدد الأئمة من بعد النبي هو اثنا عشر إماماً ولا خلاف عند شيعة أهل بيت النبوة في صحة هذا العدد وصحة صدوره عن رسول الله، فالشيعة ترسله إرسال المسلمات، كذلك فإن الشيع أو أهل السنة يؤكدون صحة هذا العدد، ويؤكدون صدور الحديث عن رسول الله (1).

لم ينجح أهل السنة في ترويض هذا النص أو تطبيقه على الواقع التاريخي.

أما شيعة أهل بيت النبوة فقد جزموا بأن الأئمة الاثنى عشر الذين عناهم رسول الله هم:

____________

(1) راجع: صحيح البخاري، 6 / 264 ح 2769، وصحيح الترمذي، 4 / 424، وسنن أبي داود، 4 / 106 ح 4279، وكنز العمال، 12 / 24 ح 23861.

الصفحة 38
1 - علي بن أبي طالب.

2 - ابنه الحسن.

3 - وابنه الحسين.

4 - وابنه علي.

5 - وابنه محمد.

6 - وابنه جعفر.

7 - وابنه موسى.

8 - وابنه علي.

9 - وابنه محمد.

10 - وابنه علي.

11 - وابنه الحسن.

12 - وابنه محمد بن الحسن المهدي عليهم السلام. وهم يرون أن كل إمام قد تعين بنص ممن سبقه حسب توجيه رسول الله وأوامره، وأن كل واحد منهم هو الثقل الأصغر في زمانه ولكل واحد منهم قد انتهى علم النبوة.

لقد روى عبد الله بن عباس وأسامة بن زيد وعبد الله بن جعفر أن رسول الله قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأخي علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم ابني الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا استشهد فابنه علي بن الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركهم يا علي، ثم ابني محمد بن علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين) (1).

ولا خلاف عند شيعة أهل بيت النبوة من صحة حديث ابن عباس التالي:

(سمعت رسول الله يقول: (أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين

____________

(1) راجع: إثبات الوصية للمسعودي، ص 190، وأعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي ص 27، وسيرة الرسول وأهل بيته لمؤسسة البلاغ، 2 / 191.

الصفحة 39
مطهرون معصومون) (1). قال جابر بن عبد الله الأنصاري: (لما أنزل الله على نبيه (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) [ النساء / 59 ] قلت: يا رسول الله، عرفنا الله ورسوله فمن هم أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال الرسول: هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي، أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن المهدي) (2).

أهل بيت النبوة هم الثقل الأصغر

أولئك هم ذرية النبي من صلب علي والنبي أبوهم (3)، وهم أولاد النبي (4)، وهم سادة أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، كما هو ثابت في آية التطهير [ الأحزاب / 33 ]، وهم أبناء النبي وأحفاده الذين عناهم تعالى في آية المباهلة [ آل عمران / 61 ]، وهم ذووا القربى الذين عناهم الله في آية المودة [ الشورى / 23 ] وآية الأنفال [ الأنفال / 41 ]. وهم الذين أمر الله عباده بأن لا يتقدموهم فيهلكوا ولا يتأخروا عنه فيهلكوا (5). وهم في الأمة كسفينة نوح في قومه (6). وهم

____________

(1) راجع: ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، 2 / 445، وكفاية الأثر للرازي ص 19، وعيون الأخبار ص 38، وسيرة الرسول وأهل بيته، 2 / 189.

(2) راجع كفاية الأثر للقمي الرازي ص 7، وسيرة الرسول وأهل بيته (لمؤسسة البلاغ) 2 / 190 - 191، وأعلام الوري بإعلام الهدى للطبري ص 27، وكتابنا الوجيز في الإمامة والولاية، ص 214.

(3) راجع كنز العمال، 1 / 152، ح 5210 (أخرجه الطبراني)، والصواعق المحرقة لابن حجر، ص 112، والمستدرك للحاكم، 3 / 164.

(4) راجع المناقب للخوارزمي الحنفي.

(5) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر، 148 و 226، ومجمع الزوائد، 9 / 163، والدر المنثور للسيوطي 2 / 60، وكنز العمال، 1 / 168.

(6) راجع تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك والصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، والمعجم الصغير للطبراني، 2 / 22، وحلية الأولياء لأبي =

الصفحة 40
من وصفهم رسول الله بأنهم أمان للأمة من الاختلاف. ومن يخالفهم يصبح آلياً من حزب إبليس (1)، وهم الذين اختارهم الله للفضل والشرف والرئاسة (2). وقد بين الرسول أن مكانهم في الأمة مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين (3). وقد جعل الله الصلاة عليهم جزءاً لا يتجزأ من الصلاة المفروضة على العباد، فحتى تتم الصلاة يتوجب على المصلي أن يصلي على محمد وعلى آل. فإن لم يكن الأئمة الأطهار من آل محمد فمن يكون إذاً!

* * *

____________

= نعيم 4 / 306، ومقتل الحسين للخوارزمي ص 104.

(1) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر، ص 91، وينابيع المودة للقندوزي ص 298.

(2) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر، ص 147، وينابيع المودة ص 169 و 307.

(3) راجع الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 8، ومجمع الزوائد للهيثمي، 9 / 172.

الصفحة 41

الفصل الرابع
شيعة أهل بيت النبوة: تكون وفرق

الدعوة الإلهية إلى التشيع

أعطى القرآن الكريم أهل بيت النبوة مكانة متميزة لم يعطها لأهل بيت قط، فهم المعنيون بآيات التطهير والمباهلة والمودة في القربى حتى أن الله تعالى حرم عليهم الصدقة، وخصص لهم جزءاً من الأفعال. وهم المبشرون بالجنة (وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً) [ الإنسان / 12 ] قبل أن يبشر بها أحد. ومن الطبيعي أن فاطمة وعلي والحسن والحسين هم سادة أهل بيت النبوة بلا خلاف. فهم أقرب الناس للنبي، وهم أول المعنيين بالآيات التي أشرنا إليها. ثم إن النبي ركز تركيزاً مكثفاً على أهل بيت النبوة بعامة وعلى علي بن أبي طالب والحسن والحسين بخاصة.

وأبرز علياً بن أبي طالب، فقال إنه خليفته وإنه الولي من بعده بل وولي كل مؤمن ومؤمنة، وأنه الإمام، وأنه المبين، وأنه الهادي، ولا أحد يؤدي عن النبي إلا النبي نفسه أو علي، وأن علي من بعد النبي هو أولى بكل مؤمن من نفسه، ومن بعد علي الحسن، ومن بعد الحسن الحسين إلى أن يتم العدد اثنى عشر إماماً بالمهدي المنتظر. والأهم من ذلك أن رسول الله عد القرآن الكريم ثقلاً، واعتبر هؤلاء الأطهار ثقلاً آخر، وجزم رسول الله بأن الهدي لا يدرك إلا بالتمسك بهذين الثقلين معاً، وأن الضلالة لا يمكن تجنبهما إلا بالتمسك بهما معاً. ما يجعل التشيع لأهل بيت النبوة، في هذا المفهوم والتمسك بهم، معادلاً للتشيع للقرآن الكريم والتمسك به لأنهما خلاصة الدين وعنوانه وضمان وجوده واستمراره. والتشيع، في هذا المفهوم، عمل تعبدي من جميع الوجوه خاصة وأن رسول الله لم يأمر بذلك من تلقاء نفسه ولا بمبادرة شخصية منه، بل كان يبين القرآن ويتبع بدقة متناهية ما يوحى إليه (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) [ الأنعام / 50 ]. ومن جهة ثانية، فإن علياً بن أبي طالب لم يكن شخصاً مغموراً، فأبوه عبد مناف بن عبد المطلب (أبو طالب) شيخ البطاح، تعرفه جميع العرب. ثم إن النبي قد ربي علياً، وأتبعه علي

الصفحة 42
أتباع الفصل لأثر أمة، فما رؤي النبي إلا ومعه علي، ثم إنه ابن عم النبي الشقيق وزوج ابنته البتول فاطمة، ووالد سبطيه الحسن والحسين ولا عقب للنبي غير هما، ثم إن علياً هو فارس العرب أجمعين الذي قتل سادات البطون يوم بدر، وقتل حملة ألويتها يوم أحد، وبارز عمرو بن ود يوم الخندق وقتله أمام العرب جميعهم، وهو الذي هزم اليهود في خيبر، ثم إن علياً باب الحكمة والعلم اللدني، لقد اجتمعت له من أسباب المجد والشهرة ما لم تجتمع لأحد من بعد النبي قط فمن الطبيعي جداً أن يحب المؤمنون، الصادقون في حب رسول الله، هذا الرجل العظيم وأن يتشيعوا له لأهل بيته، وأن يعدوا الآيات القرآنية والسنة النبوية الواردة فيهم بمثابة دعوة إلهية لموالاة أهل بيت النبوة والتشيع لهم. وأن التشيع لهم بمثابة تشيع للنبي نفسه، وللدين الذي جاء به، وإلا فما هو المقصود من حديث الثقلين!؟ وليعتبروا التشيع طريق الفوز والعلو والجنة وإلا فكيف يفسرون قول النبي (إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة)، أو بيان النبي لآية (أولئك هم خير البرية) [ البينة / 6 ] (بأنهم علي وشيعته) وقد وثقنا ذلك في الصفحات السابقة!

كلمة شيعة تأخذ معنى خاصاً

رأينا أن كلمة شيعة عنت، لغة واصطلاحاً، وفي القرآن الكريم والسنة والاستعمالات التاريخية فئة أو جماعة، أو طائفة أو أتباع حزب أو شخص ومؤيديه. ولما تكونت شيعة أهل بيت النبوة وشاع أمرها وظهرت حجتها، ونتيجة تضافر الحكام وشيع المجتمع الإسلامي عليها، تكون رأي عام إسلامي مشبع بالنفور والاستياء من شيعة أهل بيت النبوة، وخلصوا إلى نتيجة مفادها أن هؤلاء خطر مشترك يهدد الجميع، فاتحدت الشيع الإسلامية في مواجهة شيعة أهل بيت النبوة، تماماً كما اتحدت شيع المجتمعات السابقة للإسلام في مواجهة الأنبياء وشيعتهم المؤمنة، وضمن سلسلة من الإجراءات الطويلة أقلع الحكام وشيع المجتمع الإسلامي نهائياً عن استعمال كلمة شيعة وتشيع، وتم تخصيص هذه الكلمة لتدل بإطلاقها على شيعة علي وأهل بيت النبوة مثلما تدل بتخصيصها بعدما تكون رأي إسلامي عام صار معه التشيع في هذا المفهوم جريمة وصارت تهمة

الصفحة 43
الكفر والزندقة أخف وطأة على الأسماع والقلوب من تهمة التشيع لأهل بيت النبوة. وما يعنينا أن معنى كلمة شيعة قد تخصص نهائياً بشيعة أهل بيت النبوة، ومن النصوص التي تنير ذلك نقرأ:

قال ابن منظور: (وقد غلب هذا الاسم على من يتوالى علياً وأهل بيته، رضوان الله عليهم أجمعين، حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل: فلان من الشيعة عرف أنه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم، وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة) (1).

قال الأزهري: (والشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويوالونهم) (2).

قال الشيخ أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، في كتابه الفرق والمقالات: (الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمون بشيعة علي في زمن النبي وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته من بعد الرسول).

وقال أبو حاتم السجستاني (3): (إن لفظ الشيعة كان على عهد الرسول) (4).

وباختصار، فإن كلمة الشيعة، إطلاقاً، أو شيعة أهل بيت النبوة، إضافة، صارت تطلق على أولئك الذين يقولون بوجود نص شرعي على خلافة علي بن أبي طالب بالذات والأئمة من ولده من بعد النبي، ويقولون بإمامتهم وولايتهم ويتبعونهم ويقتدون بهم ولا يقتدون بغيرهم، ولا يقرون لأحد غيرهم بالإمامة والولاية.

ومن الغريب والمدهش حقاً أن كافة الفرق والجماعات الإسلامية سلمت لشيعة أهل بيت النبوة ب‍ (مصطلح شيعة) ورضيت بتخصيصه لهم، وتوقفت عن إطلاق لفظ شيعة على غير هم من الفرق والجماعات!

وحتى نبقى ضمن إطار البحث، وبغض النظر عن صحة مقولات شيعة أهل

____________

(1) لسان العرب، مادة (شيع).

(2) المصدر نفسه.

(3) في ج 3، من كتابه الزينة.

(4) راجع: معالم الفلسفة محمد جواد مغنية ص 64، والتشيع والتصوف لهاشم معروف الحسني ص 975، وكتابنا النظام السياسي في الإسلام ص 299 - 300.

الصفحة 44
بيت النبوة أو عدم صحتها، فإن لهذه الشيعة أمرها الواحد، وقيادتها الواحدة، وفكرها الخاص بها الذي تسعى لنشره وتعميمه، وهدفها الوحيد الذي تسعى إلى تحقيقه، ولها ثقافتها وآلياتها الثقافية الخاصة بها. كل هذا يجعلها جماعة أو فئة أو حزباً متميزاً بالكامل من غيره من الأحزاب والفرق والجماعات الإسلامية. وبالرغم من هذا التخصيص (العرفي) لكلمة شيعة فإننا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام المعنى اللغوي والاصطلاحي المستقر في اللغة والقرآن والسنة والتاريخ، وإن تخصص (عرفياً).

التشيع للأشخاص والأفكار من سنن المجتمعات البشرية

التشيع وقيام الشيع، وفق مفهومها اللغوي والاصطلاحي، كان الصفات البارزة التي ميزت المجتمعات البشرية طوال التاريخ. ووجود الشيع الكثيرة مظهر من المظاهر الدائمة لكل مجتمع. والمجتمع الإسلامي لم يشذ عن هذه القاعدة، فقد تكونت للرسول نفسه شيعة أخذت تنمو وتكبر حتى انضم لها أفراد المجتمع كله، فقد تشيع الجميع لرسول الله أو تظاهروا بذلك، وآمنوا بما جاء به، حتى بدا المجتمع الإسلامي شيعة واحدة متميزاً باعتقاداته وقيادته عن غيره من المجتمعات المعاصرة له. وبعد انتقال الرسول إلى جوار ربه تشيع فريق من المسلمين لأبي بكر وفريق آخر لعمر، وثالث لعثمان، ورابع لطلحة وخامس للزبير.. وسادس لمعاوية، وسابع لمروان بن الحكم، وثامن ليزيد بن معاوية... الخ. وكان لكل واحد من أولئك الشخصيات شيعته الخاصة به التي ترى رأيه، ولم يقل أحد من الناس أن التشيع لهذه الشخصية البارزة أو تلك جريمة، ولم تحاصر شيع المجتمع الإسلامي شيع أولئك الشخصيات البارزة بل كان الناس يعدون التشيع لهم أمراً عادياً جداً مألوفاً.

فمعاوية، مثلاً، وأبوه قادا الأحزاب وحاربا رسول الله بجميع وسائل الحرب، وقاوما بجميع فنون المقاومة، ولم يدخلا الإسلام إلا بعد ثلاثة وعشرين عاماً من العناد، وبعد أن أحيط بهم، ومع هذا فلم تر جموع المسلمين غضاضة ولا حرجاً من وجود شيعة لمعاوية، ومن التشيع له مع أنه طليق ومن المؤلفة قلوبهم.

ويزيد بن معاوية، مثال ثان، قتل ابن الرسول في كربلاء وسبعة عشر رجلاً

الصفحة 45
من أهل بيت النبوة، وساق بنات الرسول سبايا من كربلاء في العراق إلى دمشق من دون مسوغ لهذا كله. وهدم الكعبة وهي قبلة المسلمين، واستباح مدينة الرسول، وقتل عشرة آلاف مسلم في يوم واحد وهو يوم الحرة، وحبل جيشة ألف عذراء من بنات مدينة الرسول بالقوة. ومع هذا لم تر جموع المسلمين غضاضة ولا حرجاً في أن تكون له شيعة.

ومثال ثالث، مروان بن الحكم لعنه رسول الله، ولعن أباه، ونفاه من المدينة، وحرم عليه أن يساكنه فيها، وكان من المعروفين بعداوتهم لرسول الله.

ومع هذا كانت له شيعة ترى رأيه ولم تتعجب جموع المسلمين من وجود شيعة له ولم تتعجب لأنه صار خليفة بل ووالد جميع خلفاء بني أمية المروانيين وجدهم.

وليس لدى الجموع المسلة ما يمنع من أن تكون للأمويين شيعة وقد كانت بالفعل، أو لبني تيم أو لبني عدي أو لأي بطن من بطون قريش أو من بطون قبائل العرب، وقد كانت بالفعل، فليس في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب وما يخرج عن المألوف! ولكن ما يثير دهشة الجموع المسلمة وحنقها واستغرابها هو وجود شيعة لأهل بيت النبوة أو وجود من يتشيع لهم. هذا ما يقيم الدنيا ولا يقعدها! قد تتقبل الجموع المسلمة فكرة وجود جماعة شيوعية ينكرون وجود الله! وتتقبل وجود يهود ونصارى ولكنها لا تتقبل وجود شيعة أو حزب يؤيد أهل بيت النبوة! فما هو السبب في هذا النفور العجيب؟ وما هو سر هذه العقيدة؟ إنها ثقافة التاريخ ورواسب الماضي المناقضة تماماً للثقافة القرآنية.

الثقافة المناقضة للثقافة القرآنية

الشيع تنفض وتتبعثر عادة بموت قادتها، أو إفلاس فكرها، أو فشل تجربتها، لتقوم على أنقاضها شيع جديدة بقيادات جديدة وفكر جديد أو معدل تعديلاً جذرياً. هذه قاعدة عامة لم تشذ عنها إلا شيعة أهل بيت النبوة. فقد بقيت هذه الشيعة ثابتة ولم تنقرض، وبقي فكرها كما هو لم يتزعزع ولم يتبدل. فمنذ وفاة النبي وحتى الآن وشيعة أهل بيت النبوة ترى أن ولاية الأمة وإمامتها وقيادتها من بعد النبي وحتى قيام الساعة هي حق شرعي ثابت لعلي بن أبي طالب ولأبنائه

الصفحة 46
وأحفاده الأئمة من بعده، وأنهم قد غصبوا هذا الحق ظلماً. ثم إن هذه الشيعة تزيد ولا تنقص. لقد شعر الحكام بخطورة هذه الحركة على نظم حكمهم وعلى الصيغة الجديدة التي طرحوها للإسلام. وشعرت الشيع الإسلامية جميعها بهذه الخطورة واستاء العامة فالشيعة يخطئون صراحة، أو ضمناً أعداداً كبيرة من الصحابة، ويقولون بكل صراحة إن علياً بن أبي طالب كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر وعثمان، لهؤلاء الثلاثة في نفوس المسلمين مرتبة من القداسة والتقديس تفوق التصور. فشعرت العامة أن شيعة أهل بيت النبوة تهز عقيدتهم بقداسة هؤلاء الثلاثة، ما أثار سخطها وشعورها البالغ بالاستياء، لأن هؤلاء الثلاثة فوق الشبهات فهم أعمدة الحكم التاريخي من بعد النبي، وعصورهم هي العصور الذهبية في الإسلام. والتشكيك بنزاهتهم تشكيك بالدين نفسه، وهدم العصور الذهبية! ومن جهة ثانية، فإن هؤلاء الثلاثة، كما ترى الشيع، أجل وأرفع من أن يعرفوا حق علي والأئمة من أهل بيت النبوة بالإمامة والولاية ثم يغصبوه منهم. ورسخ هذه العقيدة وزاد من خطورتها أن الأمويين الذين طبعوا الدولة الإسلامية التاريخية بطابع المؤسسية والاستقرار التنظيمي وبخاصة معاوية بن أبي سفيان موتورون وحاقدون على آل محمد بعامة وعلى علي بن أبي طالب وذريته بخاصة، فقد قتل علي حنظلة شقيق معاوية واشترك مع الحمزة في مقتل عتبة جد معاوية، والوليد ابن خاله وشيبة شقيق جده وتسعة من شيوخ بني أمية، ومعاوية والأمويون بشر، وتلفظهم بالشهادتين لا يخرج الحقد من قلوبهم وعندما ملك معاوية زمام الأمور، ودانت له البلاد الإسلامية بالطاعة رغبة أو رهبة استغل خليفة العامة وسخر جميع موارد دولته وإعلامها لتثبيت قواعد الملك الأموي، وتقليم أظافر أهل بيت النبوة والتنكيل بهم وبشيعتهم، ليكونوا مجرد رعايا منبوذين لا معين لهم ولا ناصر، فيقضي على أية مخاطر محتملة منهم على ملكه بخاصة وعلى ملك الأمويين بعامة. فما أن استقر عرش معاوية حتى أصدر سلسة من (المراسيم الملكية)، وطلب من جميع عماله في أرجاء الدولة أن ينفذوها بدقة بالغة، وأن يأخذوا الناس بها. ومن أهم هذه (المراسيم).

1 - (برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل البيت).


الصفحة 47
وعملاً، بهذا (المرسوم) فمن يروي حديث الثقلين، أو حديث (من كنت مولاه فهذا علي مولاه ووليه) أو أي حديث آخر مهدور الدم ويمكن لأي شخص أن يتولي إعدامه في الشارع العام ومن دون محاكمة!

2 - طلب معاوية جميع عماله (أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة شهادة) وبناء على هذا (المرسوم) لو حضر الحسين ابن رسول الله عقداً من العقود لما جاز له أن يشهد على هذا العقد، ولا يجوز لأي من موالي أهل بيت النبوة شهادة أيضاً. فهم رسمياً محرومون من كافة الحقوق المدينة والسياسية حسب قوانين دولة معاوية (ومراسيمها) التشريعية.

3 - قال معاوية لعماله: (انظروا من قامت عليه البينة أنه يجب علياً بن أبي طالب وأهل البيت فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه) ونتصور خطورة هذا القرار إذا عرفنا أن العطاء كان هو المصدر الوحيد لرزق أكثرية رعايا الدولة الإسلامية آنذاك.

4 - وقال معاوية لعماله: (من اتهمتموه بموالاة علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوة فنكلوا به واهدموا داره) فصار بإمكان الوالي، في أي بلد أو كورة، أن يهدم دار أي مسلم بجرم موالاة علي بن أبي طالب أو أهل بيت النبوة.

5 - أمر معاوية عماله: (لا تتركوا خبراً رواه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر إلى عيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته)!

وبناء على هذا (المرسوم) يتولى عمال معاوية، إذا شاع قول الرسول لعلي:

(أنت ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعدي)، على سبيل المثال، إيجاد المحدثين الذين يتولون اختلاق حديث عن رسول الله ينفي الحديث السابق، ويعطي مزاياه لصحابي آخر.

فقرأت كتب معاوية (ومراسيمه) على الناس في كل كورة فقام الخطباء، وعلى كل منبر، يلعنون علياً بن أبي طالب ويقعون فيه وفي أهل بيت النبوة (1).

____________

(1) راجع: شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد، 3 / 595، تحقيق حسن =

الصفحة 48
ومع ضغط الدولة، ووسائل إعلامها تكون رأي عام يرى أن الزندقة والكفر أخف جرماً من التشيع لأهل بيت النبوة أو من موالاتهم. وبالفعل، فإن الزنادقة والكفار والمنافقين لم يتعرضوا لعشر معشار ما تعرض له أهل بيت النبوة وشيعتهم. قال المدائني: (ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين، وولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة وولى عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي أنهم من أعدائه) (1).

لم تتوقف الدولة الأموية عن التنقيب المستمر لإيجاد شخصيات إسلامية تأخذ الفضل من علي، أو تسبقه في هذا الفضل، وعن إيجاد جماعات إسلامية تقف على قدم المساواة مع أهل بيت النبوة وتسبقهم، فاخترع الأمويون وأشياعهم " (نظرية عدالة الصحابة) بثوبها الفضفاض، ونسبوا للصحابة جميعاً من الفضائل ما لم يخطر على البال لا حباً بالصحابة، ولكن إرغاماً لأنوف أهل بيت النبوة ومواليهم!

قال ابن عرفة، المعروف بنفطويه، وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم، في تاريخه: (إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم) (2).

واستغل العباسيون حالة التعاطف مع قضية أهل بيت النبوة، وشكلا شيعة خاصة بهم، وغلب العباسيون بني أمية فحكموا، وكان المفترض أن تخف الوطأة عن أهل بيت النبوة وشيعتهم بسقوط الحكم الأموي وقيام حكم بني العباس أبناء عمومة الإمام علي، ولكن حكم بني العباس لم يقل وطأه على أهل البيت وشيعتهم من الحكم الأموي. وغلب العثمانيون بني العباس وأقاموا دولتهم الجديدة على أنقاض الدولة العباسية. وبقيت شيعة أهل بيت النبوة هاجس الدولة التاريخية، وبقي الحصار مفروضاً عليها. ومع أن دولة الخلافة التاريخية قد سقطت رسمياً

____________

= تميم كما نقله عن المدائني في كتابه الأحداث.

(1) المصدر نفسه: 3 / 595 - 596.

(2) المصدر السابق: 3 / 597.

الصفحة 49
بسقوط آخر سلاطين بني عثمان ; إلا أن الثقافة التي زرعتها في نفوس العامة عن الشيعة والتشيع، بمعناه (العرفي) الجديد، لم تسقط بعد، بل ما زالت ضاربة الجذور في نفوس العامة عموماً والحركة الوهابية خصوصاً، وبقيت هذه الثقافة، جزءاً لا يتجزأ من معتقدات العامة. وهذا يتعارض مع توجه الأمة لتوحيد كلمتها وجهدها في مواجهة أعدائها!

إنه لمن المدهش حقاً أن يتمكن أهل بيت النبوة من المحافظة على تواصل بقائهم في هذا المناخ العاصف.

ومن المثير للدهشة، أيضاً، أن يبقي لأهل بيت النبوة شيعة تتبنى قضيتهم وتقول بحقهم بالإمامة والولاية والقيادة أمام هذه الأمواج العاتية من العداء في الوقت الذي تتبعثر فيه كل الشيع ويتحول فكرها وقادتها إلى مجرد كلمات مختصرة في صفحات التاريخ.

صفوة المجتمع

والخلاصة أن التشيع يعني موالاة القيادة الإلهية، أي الصفوة، وأن الشيعة هم قمة الوعي وهم الصفوة والنماذج الإسلامية المتحركة، وبهذا وصفهم الإمام محمد الباقر عليه السلام بقوله: (ما شيعتنا إلا من أتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، وتعهد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء) (1).

فرق الشيعة

استقر معنى كلمة (الشيعة) للدلالة على كل أولئك الذين يؤمنون بحق أهل بيت النبوة بالإمامة أو القيادة أو الولاية أو المرجعية من بعد النبي، بغض النظر عن درجات هذا الإيمان ودوافعه. والشيعة متفاوتون في هذا الإيمان. وهذا التفاوت

____________

(1) راجع: تحف العقول للحراني، حكم ومواعظ للإمام الباقر عليه السلام ص 215.

الصفحة 50
ينجم عن قربهم من الأئمة أو بعدهم عنهم، ومعرفتهم أو جهلهم بالمنظومة الشرعية الإلهية التي عالجت حق أهل بيت النبوة بالإمامة أو القيادة أو الولاية أو المرجعية من بعد النبي.

فرق الشيعة في عهد الرسول

لقد بذر الرسول أول بذور التشيع لأهل بيت النبوة بأمر من ربه وتظافرت السنة النبوية مع القرآن الكريم لرسم إطار التشيع وتحديد الغاية منه، فالقرآن الكريم يعلن طهارة أهل بيت النبوة، ويسأل المؤمنين عن المودة في القربى، ويؤكد أن أهل بيت النبوة هم أبناء النبي وبناته، وهم كنفسه. والقرآن الكريم يخصص جزءاً من واردات الدولة الإسلامية: الخمس من الأنفال لأهل بيت النبوة، ليضمن لهم مورداً كريماً ودائماً في جمع الأزمان ليستعينوا به على الحياة وفي تأليف القلوب من حولهم، وجاءت السنة النبوية لتجعل من علي وفاطمة والحسن والحسين الرموز الحية لعائلة أهل بيت النبوة أو مؤسستهم، ولتبين أن هؤلاء الأربعة هم أول المقصودين من اصطلاح أهل بيت النبوة، ومنعاً للالتباس، قدم رسول الله علياً بن أبي طالب ليكون وزيره الأول، وخليفته من بعده، وأعلن هذا النبأ في اليوم نفسه الذي أعلن فيه أبناء النبوة والرسالة والكتاب، ولم تحمل البطون نبأ ولاية علي من بعد النبي وخلافته له على محمل الجد، لأنها استبعدت أن ينجح محمد وأن يكون له ملك، وخليفة له على هذا الملك، لذلك تجاهلت نبأ الولاية من بعد النبي.

وتابع النبي دعوته ونجح في تكوين دولته في الوقت الذي كان يتصدى فيه لعدوان بطون قريش. وخلال هذه الآونة لم يتوقف النبي عن تقديم علي بن أبي طالب للأمة، فسماه الإمام، وسماه الهادي، وسماه القائد، وسماه الولي، وسماه الخليفة. وفي غدير خم، أعلن أمام المسلمين أن علياً بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو ولي ومولى كل من كان النبي وليه ومولاه، وسأل الله أن يوالي من يوالي علياً وأن يعادي من عاداه، فبايعت جموع المسلمين علياً بن أبي طالب ولياً وأميراً وإماماً وخليفة من بعد النبي. وكان أول المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وبقية التسعة الذين انتشر خبر تبشيرهم بالجنة. بعد ذلك وفي المقام نفسه أعلن