الخليفة الثاني ألغى هذا الشرع
مورست المتعة وعمل بها طوال عهد النبي، وطوال عهد الخليفة الأول وفي مدة من عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، إذ حملت امرأة في عهده من نكاح المتعة، فاستاء عمر، ورأى أن المتعة غير مناسبة، وأن الأفضل إلغاؤها، فقام بين الناس وقال: (إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموا الحج والعمرة، وأبنوا نكاح هذه النساء، فلئن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة) (1). وتعميماً لأمره، خطب في الناس مرة قائلاً: (إن القرآن هو القرآن، وأن رسول الله هو الرسول، وأنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء..) (2). قال القوشجي، إمام الأشاعرة في آخر شرح التجريد، مبحث الإمامة، أن عمر بن الخطاب قال على المنبر: (أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهن، وأحرمهن وأعاقب عليهن، متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل) قال القوشجي، معتذراً: (ما فعله عمر كان اجتهاداً). قال الإمام مالك في الموطأ، باب نكاح المتعة: أن ربيعة بن أمية بن خلف الثقفي قد استمتع في عهد عمر، فحملت المرأة التي استمتع بها، فعلم عمر وخرج يجر رداءه فقال: هذه المتعة، لو كنت تقدمت في تحريمها لرجمت... كما ذكر ذلك ابن عبد البر في ما نقله الزرقاني عنه في شرح الموطأ.
وما يؤكد أن عمر ألغى تشريع المتعة أن ابنه عبد الله عند ما سئل عن المتعة أجاب:
(والله ما كنا على عهد رسول الله زانين ولا مسافحين، والله لقد سمعت رسول الله يقول: (ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون أو أكثر) (3).
وسئل مرة عن متعة النساء، فقال: (هي حلال). فقيل له: إن أباك نهى عنها! فقال أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أنترك السنة ونتبع قول أبي (4)!؟
ويؤكد إلغاء عمر لتشريع نكاح المتعة قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (لولا
____________
(1) راجع صحيح مسلم في باب المتعة بالحج.
(2) راجع مسند أحمد بن حنبل 1 / 52.
(3) راجع مسند الإمام أحمد 2 / 95.
(4) راجع صحيح الترمذي، كتاب النكاح.
الخليفة الثاني جرئ ومؤهل لإلغاء النصوص الشرعية
من يتعمق في دراسة شخصية الخليفة الثاني وتاريخه، لا تبقى لديه ذرة شك في أن تحريم نكاح المتعة الذي شرعه الله ورسوله إنما كان بقرار منه اتخذه بوصفه الخليفة أو رئيس الدولة، وجعله جزءاً من المنهاج التربوي والتعليمي الذي فرضته دولة الخلافة التاريخية، وسجل هذا الخليفة وتاريخه ينطقان بجرأته النادرة على الله ورسوله. وعلى سبيل المثال لا الحصر:
1 - في صلح الحديبية: وقع رسول الله الصلح بأمر من ربه، لأن هذا الصلح حقق له ما عجزت الحروب الدامية عن تحقيقه، ثم إن الوحي كان ملازماً لرسول الله في الساعات العصيبة التي سبقت التوقيع على الصلح، ومع هذا فإن عمر يعلن أمام الرسول وأمام الحاضرين أن (هذا الصلح دنية في الدين)، وقد بذل كل جهوده لاستقطاب الناس حوله طمعاً بتخريب الصلح الذي عقده الرسول بأمر من ربه لاعتقاده أن هذا الصلح (دنية في الدين). ولما فشل في استقطاب الناس ضد الصلح الذي وقعه الرسول قال كلمته المشهورة: (لو وجدت شيعة ما أعطيت الدنية في ديني) (2).
2 - كتابة توجيهات النبي: أراد النبي، قبيل وفاته، كتابة توجيهاته النهائية للأمة. ولما عرف عمر جمع أولياءه، ودخل إلى حجرة رسول الله، فما إن قال
____________
(1) راجع تفسير آية المتعة في تفسيري الطبري والثعالبي.
(2) راجع على سبيل المثال المغازي للواقدي، صلح الحديبية، وراجع كتابنا المواجهة تجد العشرات من أمثال هذه المواقف التي تتسم بالجرأة على الله ورسوله.
(إن الرسول يهجر حسبنا كتاب الله) (1) ومن يفعل ذلك في مواجهة الرسول وحياته، لن يعجز بعد وفاته عن إلغاء التشريع الذي بينه.
3 - قسمة المال بالسوية: كان الرسول يقسم المال بين الناس بالسوية، وهو لا ينطق عن الهوى ويتبع ما يوحى إليه، ولحكمة ظاهرة مفادها أن الحاجات الأساسية للبشر متشابهة، ولا تختلف من فرد إلى فرد، ومن جهة ثانية فإن الله ورسوله أراد أن يحررا الإنسان من سلطان الحاكم على هذه الأساسيات، وأن يذيبا الفوارق المالية بين الناس إرساء لمبدأ المساواة. والخلاصة أن القسمة بين الناس بالسوية صارت سنة، طبقت طوال عهد النبي الزاهر وطوال عهد الخليفة الأول أبي بكر.
ولما آلت الخلافة إلى عمر رأى أن هذه الطريقة بالقسمة التي أوصاها الله لرسوله، واتبع الرسول فيها ما أوحي إليه غير مناسبة وغير عادلة، والأفضل منها أن يعطي الناس حسب موازين ومعايير أوجدها بنفسه. وبكل بساطة ترك سنة الرسول، النابغة من الوحي الإلهي، واتبع رأيه واجتهاده الشخصي! وبعد تسع سنين، وبعد النتائج المدمرة التي نجمت عن إلغاء سنة المساواة النبوية، واتباع الرأي الشخصي، وبعد أن اختل حبل التوازن، ووجد نظام الطبقات، ووجد الغنى الفاحش والفقر المدقع جنباً إلى جنب، نتيجة فعل عمر هذا، عندئذ أدرك الخليفة أن سنة محمد أهدى وأصوب من رأيه، فعزم قائلاً: (لئن عشت العام القابل لأتبعن سنة رسول الله وصاحبه).
____________
(1) وقد وثقنا هذه الحادثة العجيبة في كتابنا (نظرية عدالة الصحابة) ص 286 وما بعدها، وفي كتابنا المواجهة.
والمؤلفة قلوبهم وعند ما آلت الخلافة لعمر رأى أن يلغي التشريع الإلهي والسنة النبوية التي تعطي للمؤلفة قلوبهم سهماً من الصدقات، بحجة أن الله أعز الإسلام ولم يعد بحاجة للمؤلفة قلوبهم! وبالفعل ألغى هذا السهم، وما زال ملغياً إلى يومنا هذا، مع أنه مفروض في آية محكمة وفي تطبيق عملي طوال عهد الرسول!
موقف الجموع المسلمة من هذه الأعمال
أحب كثير من المسلمين الخليفة الثاني حباً ملك عليهم عقولهم ودينهم حقيقة. ومع أنهم لا يصرحون بأن الخليفة الثاني أفضل من الرسول، لكنهم عملياً، يتعاملون معه كأنه أفضل من الرسول! وكأنه أعقل من الرسول، فما من شئ يعمله عمر إلا لحكمة، وحكمة جليلة يراها. فعند ما ألغى سنة الرسول التي تساوي بيت الناس بالعطاء لم يحتج أصحاب المصلحة من الناس، إنما صفقوا للخليفة الملهم والجرئ! وعند ما أعلن، بعد تسع سنين أنه سيعود في العام المقبل للعمل بسنة الرسول صفقت له الجموع أيضاً! إن الجموع لا تلتفت قطعياً إلى قول عمر لرسول الله: (أنت تجهر ولا حاجة لنا بكتابك، حسبنا كتاب الله) بل تعد هذا القول فناً من فنون العبقرية العمرية! وليس أدل على قوة نفوذ الخليفة الثاني من سهم المؤلفة قلوبهم، فبالرغم من أن السهم محدد في آية محكمة، ومن أن السنة النبوية قد جرت عليه طوال عهد الرسول وجزء من عهد أبي بكر إلا أن الجموع المفتونة بحب الرجل عدت قول عمر عملياً كأنه ناسخ للقرآن والسنة! فلم يصدف على الإطلاق أن تجرأ خليفة لإعطاء سهم المؤلفة قلوبهم، خشية من أن تظن الجموع أنه خالف سنة عمر.
تلك هي طبيعة عمر، وطبيعة الجموع التي أحبته، فهل يستعبد على من كانت هذه طبيعته أن يلغي تشريع المتعة، ويجد آلاف المتبرعين المستعدين للكذب حتى على رسول الله حتى يسوغوا عمل الرجل!
خطة تسوغ فعل الخليفة الثاني
لو ترك أولياء الخليفة الثاني أمره نافذاً في موضوع نكاح المتعة لأطاعته الجموع طاعة تامة، تماماً كما أطاعته عند ما ألغى سهم المؤلفة قلوبهم المحدد في آية محكمة، والموثق بسنة نبوية، وتماماً عندما ألغى السنة النبوية التي ساوت بين الناس بالعطاء، واستبدلها برأيه الشخصي القائم على التمييز بين الناس على أساس معايير أوجدها بنفسه! ولكان سهلاً على أولياء الخليفة أن يقولوا إن الخليفة قد ألغى نكاح المتعة الذي شرعه الله ورسوله من قبيل الاجتهاد، ومن حق المجتهد (الخليفة) أن يخالف مجتهداً آخر (وهو الرسول) لأن المجتهد مأجور أصاب أم أخطأ، وهذا عين الاعتذار الذي اعتذر له كبار المفكرين ممن يتعاطفون مع الخليفة الثاني، كالقوشجي وابن أبي الحديد. فهذا أولى وأقل كلفة من مشقة وضع الأحاديث واختلاق الأخبار لإثبات أن نكاح المتعة قد نسخ من الله ورسوله.
والخليفة الثاني جاء ليحافظ على الحكم الناسخ، ويحول بين الناس وبين ممارسة حكم منسوخ! والله يشهد أن الخليفة الثاني لا علم له باختراع أوليائه هذا، ولو كان حياً لأوسعهم ضرباً بدرته، ولقال لهم: أنه لا داعي للاختلاق للتغطية على ما يؤمن به الخليفة، لأن لديه الجرأة أن يعلن قناعاته الشخصية أمام الله ورسوله، ومن يفعل ذلك لا ينبغي أن يخشى الناس!
الادعاء بنسخ تشريع نكاح المتعة
نثبت في ما يأتي النص الحرفي لرأي الإمام عبد الحسين شرف الدين العاملي في هذا الادعاء كما ورد في كتابه: (مسائل فقهية): (قال أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من فقهاء الجمهور بنسخ هذا النكاح وتحريمه، محتجين بأحاديث أخرجها الشيخان (بخاري ومسلم) وقد أمعنا فيها متجردين متحررين فوجدنا فيها من التعارض في وقت صدور النسخ لا يمكن معه الوثوق بها، فإن بعضها صريح بأن النسخ كان يوم خيبر، وبعضها أن النسخ كان يوم الفتح، وفي بعضها أن النسخ كان في غزوة تبوك، وفي بعضها إنه كان في حجة الوداع، وفي بعضها أنه كان في عمرة القضاء، وفي بعضها أنه كان في عام أوطاس)!
(ثم إن الخليفة نفسه لم يدع النسخ كما بينا، وإنما أسند التحريم إلى نفسه!
ويبدو أن المتأخرين عن زمن الصحابة قد وضعوا أحاديث النسخ تصحيحاً لرأي الخليفة).
(ومن غريب الأمور دعوى بعض المتأخرين أن نكاح المتعة منسوخ بقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) [ المؤمنون / 5 - 6 ].
والجواب أن الزوجة بالمتعة زوجة شرعية، فهي داخلة بالأزواج، ثم إن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة بالاتفاق، فلا يمكن أن تكون ناسخة لإباحة المتعة المشروعة في المدينة بعد الهجرة بالإجماع! ثم إذا كانت هذه الآية ناسخة لزواج المتعة فلماذا لم تنسخ نكاح الإماء إذاً؟ مع أنهن لسن بزوجات للناكح ولا ملك يمين)!
وجاء في صحيح البخاري: حدثنا أبو رجاء عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل قرآن بحرمتها، ولم ينه عنها رسول الله حتى مات). وإلى هذا أشار مسلم في صحيحه بسنده عن عطاء قال: (قدم جابر بن عبد الله الأنصاري معتمراً فجئناه بمنزلة فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة فقال جابر: استمتعنا على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر وعمر، وفيه عن جابر أيضاً حيث يقول: كنا نتمتع بالقبضة من التمر والدقيق لأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. وفيه عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين قال جابر: (فعلناهما مع رسول الله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما) (2).
____________
(1) راجع صحيح مسلم 1 / 467، و 4 / 131 (نكاح المتعة) ومسند أحمد بن حنبل 1 / 52، وراجع الأحاديث التي أوردناه مسبقاً تحت عنوان (الخليفة ألغى هذا الشرع).
(2) راجع صحيح مسلم باب نكاح المتعة 4 / 131، وما بعدها، وباب المتعة بالحج والعمرة =
ثم قيل أن قرار الخليفة هو وحده الصائب والأنسب للأمة، وبناء على هذه المقولة أصبح نكاح المتعة محرماً مسنداً لقرار الخليفة والروايات التي دعمته.
أما الآية المحكمة، والروايات التي دعمتها فأصبحت عملياً معطلة أو غير نافذة
من أحكام نكاح المتعة
1 - ما هو نكاح المتعة؟
نكاح المتعة عقد يتم بين رجل مسلم بالغ عاقل وحر، وبين امرأة حرة وبالغة وعاقلة مسلمة، أو كتابية، لإنشاء علاقة زوجية لمدة محددة، مقابل مهر معين.
وعقد المتعة شأن جميع العقود عقد رضائي يقوم على الاتفاق والتراضي، ويجب أن يكون جامعاً لشرائط الصحة الشرعية وفاقداً لجميع الموانع الشرعية.
2 - الموانع الشرعية
الموانع الشرعية التي تحول دون إجراء عقد زواج المتعة هي عين الموانع الشرعية التي تحول دون عقد الزواج الدائم، كالنسب، أو الرضاع أو الإحصان، أو العدة، أو المعقود عليها لأحد الأبناء وإن كان قد طلقها أو مات عنها قبل الدخول بها، أو أخت الزوجة أو غير ذلك من الموانع الشرعية، فإذا وجد مانع من هذه الموانع، فإن عقد المتعة باطل ومعدوم بنظر الشرع ومحرم.
3 - صيغة عقد المتعة
بعد الاتفاق والتراضي تقول المرأة للرجل: زوجتك أو أنكحتك، أو متعتك نفسي بمهر قدره (تذكره) يوماً أو يومين أو شهراً أو ثلاثاً أو سنة أو عشر سنين (تذكر المدة بالضبط) فيجيبها الرجل، قبلت. عندئذ يتم العقد وتترتب عليه كل آثاره.
____________
= وسنن البيهقي باب نكاح المتعة 7 / 206، ومسند الطيالسي 8 / 247.
4 - آثار العقد
إذا تم القبول والإيجاب يتم العقد وتترتب عليه جميع آثار الزواج. فتصبح المرأة زوجة ويصبح الرجل زوجاً لها إلى منتهى الأجل، فإذا انتهى الأجل تبين المرأة من غير طلاق، وللرجل فراقها قبل انتهاء المدة، وبانتهاء الأجل أو بالفراق يتوجب على المرأة أن تعتد بقرأين إذا كانت ممن تحيض أو بخمسة وأربعين يوماً كالأمة. فإذا توفي عنها زوجها فيجب أن تعتد بأبعد الأجلين، وهي وضع الحمل إن كانت حاملاً، ومضي المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام بعد علمها بموت الزوج، ولا نفقة لها.
وولد زواج المتعة: ذكراً كان أم أنثى يلحق بأبيه ولا يدعى إلا له كغيره من الأبناء والبنات، وله كافة الحقوق الشرعية من الإرث، ولا فرق بين الولد المولود من نكاح المتعة والمولود من النكاح الدائم، وتشمل الاثنين جميع العموميات الشرعية الواردة في الأبناء والآباء والأمهات، والأخوة والأخوات وأبناؤها والأعمام والعمات والأخوال والخالات، ولكن الزوجة بالمتعة لا ترث.
هذا هو نكاح المتعة كما تلقاه أهل بيت النبوة عن النبي الأعظم، وقد أباحه الله ورسوله ومورس وعمل به الراغبون طوال عهد النبوة الزاهر، وطوال عهد الخليفة لأول أبي بكر وجزء من عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ثم لاح للخليفة الثاني أن ينهى عنه ويحرمه. وحيث أنه لا يملك في الحق والحقيقة أن يحرم ما أحل الله، وإشفاقاً من أوليائه ومحبيه عليه، وتصحيحاً لتحريمه قالوا أو تقولوا بالنسخ، واخترعوا حججاً لا يعلمها حتى الخليفة الثاني نفسه ; وذلك تعبيراً عن ولائهم المطلق له ولسننه، وإرغاماً لأنوف أهل بيت النبوة وشيعتهم ; إذ جرت العادة أنه إذا اتخذ الخلفاء موقفاً، واتخذ أهل بيت النبوة موقفاً آخر فإن الأكثرية تقف مع الخلفاء، لأن المال والجاه والسلطة والنفوذ بأيديهم، وأهل بيت النبوة لا يملكون إلا الحكم الشرعي الإلهي القائم على الجزم واليقين، فلا مصلحة لطلاب الدنيا والعيش في أن يتركوا مرضاة الخليفة وماله ليقفوا مع خصومه في معركة معروفة النتائج سلفاً.
5 - نكاح المتعة رخصة شرعية وليست إلزاماً
ولا بد من الإشارة، أخيراً إلى أن نكاح المتعة ليس مفروضاً على المسلم أو المسلمة كالصلاة، أو الصيام، إنما هو رخصة شرعية إلهية أباحها الله لعباده الراغبين، وشجعهم عليها رسول الله باعتبارها من الطيبات التي أحلها الله للمؤمنين، فقد أخرج مسلم والبخاري في صحيحهما، كتاب النكاح (واللفظ للبخاري) عن عبد الله بن مسعود قال: (كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا شئ فقلنا ألا نستخصي، فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثواب إلى أجل معين، ثم قرأ علينا (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [ المائدة / 87 ] لقد أعطى الله سبحانه وتعالى هذه الرخصة لعباده المؤمنين، فإذا لم يحتجها المؤمن فلا أحد يجبره على ممارستها، وهي من قبيل التوسعة على المؤمنين وتضييق دائرة المحرمات، وسد السبل التي تؤدي إلى الحرام. وعملياً فإن المؤمنين بحاجة إلى هذه الرخصة، فقد يغزوا بعضهم في سبيل الله، ويتركون نساءهم مدة قد تصل إلى بضعة شهور أو سنة، والإنسان ثقيل عليه أن يصبر عن النساء هذه المدة فليس أمامه إلا معاناة الحرمان بما فيه من حرج أو الوقوع بالزنا، فأوجد الله تعالى تشريع نكاح المتعة رأفة ورحمته بالمؤمنين، وتيسيراً لهم ورفعاً للحرج عنهم. وقد يمن الله عليه بولد أو أولاد تكثر بهم الأمة، ويتباهى بعددهم رسول الله يوم القيامة أمام الأمم، ومثله إذا سافر المؤمن لطلب العلم أو ضرب في الأرض لطلب الرزق وطالت غيبته. وقد تحدث حروب فتحصد الرجال حصداً ويصبح 4 / 5 المجتمع نساء فإذا تزوج 1 / 5 الناس فإن 3 / 5 النساء تعيش حالات مذهلة من الحرمان والمعاناة فيأتي تشريع نكاح المتعة ليساعد في تخفيف هذه المعاناة، فقد ترزق المرأة التي تتزوج بنكاح المتعة بولد، فيحنو عليها في كبرها ويرعاها، وتتكرر هذه الحالة فتسهم في إيجاد حالة من التكامل والتضامن والتعاطف بين فئات من المجتمع. ففي أوروبا مثلاً أكثر من 4 / 5 المجتمعات نساء، والديانة المسيحة لا تسمح للرجل إلا بزوجة واحدة فتبقى 3 / 5 النساء في حالة من الضياع والحرمان ويتحولن مع الأيام إلى مصدر مدمر من مصادر فساد المجتمع وتآكله. والخلاصة أن نكاح المتعة رخصة لمن
جلسة الحوار التاسعة
قال صاحبنا: لقد قرأت أجوبتكم المتعلقة بالمتعة، وهي مقنعة حقيقة، وأنا مدين لك إذ وضحت لي صورة الشيعة والتشيع على حقيقتها، ومن خلال أجوبتكم عن تساؤلاتي، ومن خلال توضيحاتكم تبين أن الأساس الذي قام عليه التشيع أساس شرعي ومنطقي، ويشكل نظرية متماسكة بالفعل، وأي عاقل ينظر للأمور نظرة حيادية سيصل إلى هذه النتيجة.
وأريد، الآن، أن أطرح عليك مجموعة متكاملة من التساؤلات وهي: لماذا هذا الاختلاف طالما أن للفريقين ديناً واحداً وكتاباً واحداً ونبياً واحداً، ويمارسون العبادات نفسها؟ وهل هنالك وضع أمثل لا اختلاف فيه، وكيف غرست بذور الاختلاف؟ وهل هنالك بذور للاختلاف فعلاً، وهل تأثرت حركة دخول الناس في دين الله بهذا الاختلاف؟ وما هي طريق الرشاد، وما هي الآثار المترتبة على تنكب هذا الطريق؟ وهل لأئمة أهل بيت النبوة من جهد لإرشاد المسلمين؟ وما قصة الخلاف الفقهي؟
وأرجو أن تسوق لي نماذج من هذه الخلافات، أليس بالإمكان الرجوع إلى الشرع مجدداً؟ لماذا هزم بيان أهل بيت النبوة وانتصر بيان الخلفاء، وهل هنالك إئتلاف بالرغم من مظاهر الخلاف، فأرجو أن تتلطف بالإجابة عن هذه الأسئلة بما أمكن من الاختصار.
الباب السادس
الاختلافات الفقهية بين شيعة أهل بيت النبوة،
وشيعة الخلفاء (أهل السنة)
الفصل الأول
الوضع الأمثل وبذور الاختلاف
الوضع الأمثل
بعد جهاد مرير نجحت دعوة الإسلام، وتمخضت تلك الدعوة عن دولة النبي. تلك الدولة التي وحدت العرب سياسياً لأول مرة في تاريخهم ونقلتهم من دين الشرك إلى دين الإسلام، واقتنع العرب أو تظاهروا بالاقتناع بأن محمداً نبي ورسول وإمام وقائد، وأنه المرجع الوحيد، وأنه على صلة مستمرة مع الله عن طريق الوحي.
فكان المسلمون يعرفون الحكم الشرعي من طريق النبي، والنبي لم يتوقف عن الإعلان بأنه على استعداد للإجابة عن كل سؤال جواباً يقينياً قائماً على الجزم واليقين، لأنه يتبع بالضبط ما يوحى إليه من ربه، وأن الله قد علمه بيان القرآن، وأن القرآن فيه تبيان لكل شئ وكان المسلمون يعملون عقولهم في ما خفي عليهم من الأحكام الشرعية، حتى إذا ما التقوا مع الرسول عرضوا عليه نتاج عقولهم فيحكم عليه وفق موازين الوحي الإلهي، فيعدل ويبدل ويقوم هذا النتاج حتى يتفق تماماً مع ما أوحي إليه.
كان بعض المسلمين يتشبث برأيه الشخصي في مقابلة الوحي، ولكنه كان يضطر دائماً لترك رأيه الشخصي والنزول عند حكم النبي، أو يضطر للتظاهر بذلك. وهكذا تبقى الأمة دائماً ضمن إطار الشرعية والمشروعية الإلهية، وتتبنى أحكاماً إلهية واحدة تتفق مع المقصود الإلهي بلا خلاف ولا اختلاف. فالكل مقتنع أو متظاهر بالاقتناع بأن محمداً هو الأعلم، وهو الأفهم بالدين، وهو الأقرب لله، والمتصل معه بالوحي، وهو الأصلح والأفضل، والأقدر على النطق بالصواب، وهو المؤهل إلهياً للإجابة عن كل سؤال جواباً صائباً، ولا أحد في المجتمع يجرؤ على القول بعكس ذلك. واعتراضات عمر بن الخطاب وأمثاله الناتجة عن الرأي، سرعان ما تتداعى أمام القناعات العامة بشخصية الرسول وأهليته
وقد نطق القرآن الكريم بأن النبي ميت لا محالة، وأن الدين الإسلامي هو دين الله الأوحد، وأن محمداً هو رسول الله خاتم النبيين. لذلك وبأمر من الله أوجد الرسول كوادر فنية ومنهاجاً تعليمياً لاثني عشر نقيباً من أهل بيت النبوة، وسمى الرسول هؤلاء النقباء (الأئمة) وأعلنهم بأمر من ربه أئمة من بعده، يتولى كل واحد منهم الإمامة بنص ممن سبقه، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم محمد بن الحسين المهدي. وبين الرسول أن الله تعالى قد أهل الاثنى عشر إماماً للإمامة والمرجعية، ليكون كل واحد منهم في زمانه هو الأعلم وهو الأفهم بالدين، وهو الأقرب لله ولرسوله، وهو المؤهل للإجابة عن كل سؤال يطرحه أي شخص من مكان المعمورة جواباً يقينياً وصائباً ومتفقاً تماماً مع المقصود الشرعي الإلهي.
وحث الرسول الأمة على تنفيذ الأمر الإلهي، وتمكين الأئمة الاثني عشر من قيادة الدعوة والدولة معاً، لأن الله تعالى أهلهم لذلك، ولم يؤهل لهذا المنصب الخطير سواهم. وزيادة في التأكيد بين الرسول لأمته أن الهدى لن يدرك إلا بالقرآن وبأئمة أهل بيت النبوة، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالاثنين معاً، فالأئمة الكرام قيادة ومرجعية ومستودع العلم الإلهي، ومستودع علم بيان النبي للقرآن، والقرآن بمثابة القانون الأبدي النافذ في مجتمع الأمة، والأئمة وحدهم هم الذين يعرفون جواب كل مسألة جواباً شرعياً يقينياً، لأن الله أعدهم وأهلهم لذلك، بمعنى أن هنالك واقعاً شرعياً من التكامل بين قيادة أهل بيت النبوة وبين القرآن الكريم، وأن أحدهما بعد النبي لا يغني عن الآخر. فإذا قبلت الأمة بالقرآن وبيانه قانوناً نافذاً، وبأهل بيت النبوة، قيادة ومرجعية، والتزمت بالاثنين معاً، فلن يكون هنالك هنالك خلاف ولا اختلاف ويصبح الوضع هو الأمثل وهو الأقوم حيث لا خلاف ولا اختلاف.
أسباب الخلاف والاختلاف
1 - البذرة الأولى:
لم يرق هذا الترتيب الإلهي لبطون قريش التي كرهت أن يجمع الهاشميون النبوة والملك، أو الخلافة من بعد النبي على حد تعبير عمر بن الخطاب، لذلك قررت أن تنسف هذا الترتيب الإلهي، خططت لاستبعاد أهل بيت النبوة عن قيادة الأمة، وتجميد جميع النصوص النبوية الشرعية التي أعلنها النبي بأمر من ربه، والتي أعطت أهل بيت النبوة الحق بقيادة الأمة وبالمرجعية معاً.
وقررت البطون القرشية، طالما أن النبوة لبني هاشم لا يشاركهم فيها أحد، أن تجعل القيادة أو خلافة النبي لها تتداولها في ما بينها ولا يشاركهما فيها أحد من بني هاشم، فذلك أوفق وأصوب وأهدى من الترتيب الإلهي وأمنع للإجحاف على حد تعبير عمر بن الخطاب، وعلى ذلك اتفق أبناء بطون قريش مهاجرهم وطليقهم إلا من هدى الله، وأخفوا هذا الاتفاق، وانتظروا موت النبي بفارغ الصبر حتى يضعوه موضع التطبيق.
كانت هذه الأفكار هي البذرة الأولى من بذور الخلاف والاختلاف بين المسلمين، والسبب الأول لدوام هذا الخلاف والاختلاف (1).
2 - البذرة الثانية:
كما زرعت بطون قريش بذرة الاختلاف الأولى بنقلها للقيادة عن أساسها الشرعي، زرعت أيضاً بذرة الخلاف والاختلاف عندما شككت بأحكام رسول الله، وفرقت بين الرسول المرسل والكتاب المنزل. ولضمان نجاح خطتها الانقلابية أشاعت أن محمداً نبي ورسول من الله بلا شك ولا ريب، لكنه ليس معصوماً، فهو بشر يتكلم في الغضب والرضى، ويخطئ ويصيب، ويذكر وينسى وله ميوله وأهدافه الشخصية، وله انجذابه الخاص نحو أهل بيته بخاصة ونحو
____________
(1) وقد ثبتنا ذلك ووثقنا في كتابنا (المواجهة) ويمكن الرجوع إليه للوقوف على التفصيل والمراجع.
هذه الشائعات مع شائعات أخرى إنما بثت للتشكيك بذات الرسول وقوله وفعله وعقله فشقت طريقها إلى أسماع المسلمين وعقولهم وقلوبهم، وجهدت البطون في نشر هذه الشائعات وصولاً إلى إبطال النصوص النبوية الشرعية التي بينت القرآن وعالجت ظاهرة السلطة والقيادة من بعد النبي.
وعند ما مرض النبي مرض الموت واستكملت قيادة البطون استعداداتها لمواجهته قررت أن تعلن شائعاتها علناً، وأن تتبنى رسمياً هذه الشائعات. لذلك، وعندما أراد الرسول أن يكتب توجيهاته النهائية للأمة، تصدى له عمر بن الخطاب وزعماء البطون وقالوا للرسول شخصياً أنه يهجر.
3 - البذرة الثالثة:
وعندما انتشرت شائعات البطون ونجح أبناؤها في إقامة تحالف مع المنافقين والمرتزقة من الأعراب، قررت أن تستولي على منصب الخلافة بالقوة والتغلب والقهر، وأن تفرض إشاعاتها وتخفي آثار جناياتها. وبيسر بالغ استولت على السلطة، وواجهت المسلمين بأمر واقع، فمن قبل بهذا الأمر نجا وحاز نصيباً من المغانم، ومن عارضه عوقب وطرد من رحمها، ومن مغانم دولتها، وقد يهدد بالقتل كما فعلوا بعلي بن أبي طالب، وقد يشرعوا بحرق بيته على ما فيه كما فعلوا ببيت فاطمة بنت رسول الله!! فإذا كان علي بن أبي طالب يهدد بالقتل إن لم يبايع، وبيت بنت الرسول يتعرض للتحريق، فما هي طبيعة الحرمة التي تبقى لغيرهما من معارضي دولة البطون؟!
4 - البذرة الرابعة:
عندما استولت البطون، بالقوة والتغلب والقهر، على الخلافة من بعد النبي كان أول شئ فعله خلفاؤها الأول أن منعوا رواية أحاديث رسول الله وكتابتها.
حتى لقد قام الخليفة الأول بإحراق خمسمئة حديث كتبها بنفسه عن رسول الله، وخطب الناس وحثهم على عدم التحديث عن الرسول لأن الأحاديث تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين على حد تعبيره. وجاء الخليفة الثاني وعمق قرار منع رواية أحاديث الرسول وكتابتها وأضاف بأن طلب من الناس أن يأتوه بالأحاديث التي كتبوها عن رسول الله ولما جاؤوه بها أمر بتحريقها وحرقت فعلاً، وسار الخليفة الثالث على نهج صاحبيه، وصار منع رواية أحاديث الرسول وكتابتها سنة راشدة! وجد الخلفاء اللاحقون أنفسهم ملزمين باتباعها.
5 - البذرة الخامسة:
غلب معاوية الأمة، واستولى على منصب الخلافة بالتقتيل والتشريد والتنكيل والإرهاب، ومعاوية، بتاريخه وطبيعته، حاقد على البيت الهاشمي بعامة وعلى علي بن أبي طالب وذريته بخاصة، وإذا أضفنا إلى هذا تاريخ مقاومة الأمويين للنبي ولدعوته والحروب التي خاضوها ضده يصل الإنسان العادي إلى قناعة بأن الحقد الأموي على علي وأهل بيت النبوة وعلى الهاشميين لا دواء له.
وقد وضع معاوية يده في أيدي الخلفاء الأول وألف بين قلبه وقلوبهم، كراهية الجميع لقيادة أهل بيت النبوة بغض النظر عن الأسباب التي يستند إليها كل واحد منهم، ورفع الخلفاء من شأن معاوية وأعدوه ليحمي قناعاتهم من بعد موتهم وليتصدى لخصوم الجميع. وبعد أن أنشب معاوية أظافره الحديدية في كل عنق الخلافة لم ير ما يوجب التستر فقاد بنفسه حملة وضع الأحاديث على رسول الله وتحريفها واختلاقها وسخر إمكانيات دولة الخلافة ومواردها لتحقيق الغاية من حملته تلك المركزة على محو كل فضل لعلي ولأهل بيت النبوة وللتشكيك بمرجعيتهم وحقهم بالقيادة واختلاق آلاف المرجعيات التي تنافسهم. ولما تجمعت لمعاوية وولاته تلك المرويات الكاذبة، فرض على رعايا دولة الخلافة
وهكذا هدم معاوية علناً كافة الأسس التي بناها رسول الله وأقام بدلاً منها أسساً ومبادئاً مناقضة لها تماماً، وانتصرت أحاديث الرسول على تلك المرويات الكاذبة التي رعى معاوية وولاته روايتها والتي تخدم أهدافه ومطامعه، وتجذر الخلاف والاختلاف بين المسلمين. أما النصوص النبوية الشرعية التي عالجت ظاهرة السلطة والقيادة من بعد النبي فقد اتبع معاوية سنة أسلافه بمنع روايتها وكتابتها وفرض حالة من التعمية عليها، وزاد عنهم بحملته الرهيبة الهادفة إلى محاربتها ونقضها والتشكيك بكل ما فيها وتجنيد كل طاقات دولة الخلافة لخلط الأوراق وتجذير الخلاف والاختلاف، وجاء الخلفاء من بعد معاوية ليجدوا منهاجاً، تربوياً وتعليمياً مستقراً فآمنوا به صدقوه، وساروا عليه وهم يعتقدون صوابه.
لا يصلح العطار ما أفسد الدهر
عند ما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز أدرك خطورة ما فعله الذين سبقوه من الخلفاء بفرضهم الخطر على رواية أحاديث الرسول وكتابتها في الوقت نفسه الذي أباحوا فيه رواية الأساطير والخرافات الإسرائيلية والشركية وكتابتها وتداولها.
وقدر عمر بن عبد العزير أنه إذا ما استمر حظر رواية أحاديث الرسول وكتابتها فإن سنة الرسول ستندرس لا محالة، لذلك أمر واليه على المدينة بأن يباشر على الفور بجمع ما تبقى من أحاديث رسول الله وكتابتها. واهتز مجتمع دولة الخلافة وهاجت الأمة وماجت وتساءلت: كيف يجرؤ عمر بن عبد العزيز على فعل ما يتعارض مع سنة أبي بكر وعمر؟ وتعاضد الملأ الرسمي وأجهضوا مشروع الخليفة، وظلت سنة أبي بكر وعمر سارية بفرض استمرار الحظر على رواية أحاديث الرسول وكتابتها
____________
(1) راجع كتابينا الخطط السياسية لتوحيد الأمة الإسلامية، والمواجهة مع رسول الله وآله (القصة الكاملة) تجد التفصيل والمراجع.
الفصل الثاني
محاولة لتقديم الإسلام
في جو الخلاف والاختلاف
فيض من الزيف والمشكلات
وجد المسلمون أنفسهم أمام مرويات معاوية وولاته التي تحولت بفصل نفوذ دولة البطون إلى منهاج تربوي وتعليمي يتوقف نجاح الفرد والجماعة على استيعابه والإيمان به، أو التظاهر بذلك. ووجد المسلمون أنفسهم سوقاً مفتوحاً لنتاج العقل البشري من ثقافة وعلم وأدب وقصة وخرافة وأساطير يشق طريقه إلى أسماعهم وقلوبهم بلا قيود ولا حواجز. وكان عليهم أن يتعاملوا مع هذا الفيض من النتاج، وأن يصبغوه بصبغتهم، أو يلبسوه زيهم وعباءتهم!.
ووجد المسلمون أنفسهم أمام حالة غريبة وفريدة من نوعها تتمثل في إباحة رواية كل شئ على الإطلاق وكتابته، باستثناء رواية أحاديث نبيهم الرسول الأعظم وكتابتها! ووجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام فيض من المشكلات والوقائع التي لم يعهدوا مثلها في حياة الرسول أو حياة الخلفاء الأوليين ولا وجود لنصوص شرعية قادرة على التعامل مع هذه المشكلات والوقائع! فصارت رواية أحاديث الرسول وكتابتها ضرورة ملحة كجزء من محاولة العثور على حلول شرعية أو قانونية لمواجهتها. ولم تكن هذه المهمة يسيرة فأحاديث الرسول كعقد من الحجارة الكريمة، قطعت خيوطه يد عابثة ونثرته في التيه والرمال. وبعد 95 عاماً اكتشف الذين جاءوا من بعدهم خطورة ما فعله الأولون ثم بدأ اللاحقون بالبحث عن هذه الحجارة الكريمة! واغتنم أعداء الإسلام الفرصة، فأخذوا يختلقون على الرسول الله أحاديثاً ما أنزل الله بها من سلطان لهدم الإسلام بأدواته، فاخترع علم الرواية والدراية، وعلم الجرح والتعديل،.. الخ من تلك العلوم التي تهدف إلى إثبات صدور هذا الحديث أو ذاك عن رسول الله، والتصدي لفيض الرواة الذين انكشفت الأرض عنهم فجأة. متسلحين بالآلية التي نفسها التي أوجدها الصادقون ببحثهم عن
هل كان العلماء يعرفون مؤهلات الإمام؟ ولماذا تجاوزوه إن عرفوها؟
لقد أدرك العلماء بالعقل لا بالنقل أهلية إمام أهل بيت النبوة، لقد حاوره العلماء في كل زمان، وسلم له العاقلون بالإمامة! ولكن إن أعلنوا تسليمهم له، وأشاعوا تميزه وتفرده بالعلوم الإلهية اليقينية. فإن الدولة القائمة ستعد هذا بمثابة تشيع لأهل بيت النبوة، وستقابله بالردع والمحاصرة، وستصب جام غضبها على جميع العلماء الذين يشيعون تفرده وتميزه. وبالتالي ستستعمل دولة البطون نفوذها وتفشل مشروع العلماء الصادقين الهادف إلى تقصي أحاديث الرسول الصحيحة وتدوينها، لذلك رأى العلماء الصادقون أن يتظاهروا بأن إمام أهل بيت النبوة ليس غير عالم من جملة مئات الألوف من العلماء! وقد تظاهروا بذلك بذلك مع إقرارهم له بالأستاذية فالإمام جعفر الصادق مثلاً هو أستاذ أبي حنيفة وأصحاب المذاهب الأربعة، وقد أقروا له بالتفوق والتفرد والتميز من غير ومع هذا نتيجة لنفوذ الدولة وضغوطها تقدم أبو حنيفة وبقية أصحاب المذاهب الأربعة في نظر العامة، وتأخر إمام أهل بيت النبوة وصار المذاهب الأربعة والتمذهب بمذهب الإمام جعفر نقيصة وموضع شبهات، وقد سمى رسول الله الإمام محمد بن علي بالباقر لأنه سيبقر العلوم، وأقر له علماء زمانه بأنه الباقر حقيقة لأنه بقر العلوم وعرف حقيقتها، ومع هذا فإن الإمام محمد الباقر من الناحية الرسمية ليس إلا عالم من جملة آلاف العلماء وإذا تعارض قول أي عالم مع قول الإمام محمد الباقر فإن الراجح هو قول العالم لا قول الباقر!
فالعلماء الصادقون يروون الحديث عن فلان، وهو مجهول، وعن فلان، عن زيد وعن عمرو وعن أبي هريرة مثلاً أنه رأى رسول الله يغسل رجليه في الوضوء!
ويروي العلماء أنفسهم أنهم قد سمعوا الإمام محمد بن علي الباقر يقول عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن جده علي بن أبي طالب أننا عشنا مع الرسول طوال حياته المباركة تحت سقف واحد، وكان يتوضأ أمامنا كل يوم خمس مرات وفي كل مرة من هذه المرات كان يمسح على رجليه في الوضوء ولا يغسلها وكذا أمي فاطمة الزهراء بنت الرسول. ومع هذا يتجاهل العلماء هذا الإجماع من أهل بيت النبوة ويتركون روايتهم ويأخذون برواية أبي هريرة الذي لم يصحب الرسول أكثر من سنتين ونصف! لماذا؟ لأن أبا هريرة مع دولة البطون وهواه هواها! وليس لدولة البطون مصلحة بأن يأخذ الناس دينهم عن أهل بيت النبوة، متجاهلين دولة البطون ومؤسساتها على الحكم الشرعي الذي يبينه أهل بيت النبوة، فالحجاج يعلم أن الحكم الشرعي، في الوضوء هو مسح الرجلين، ولكنه يفرض على الناس أن يغسلوا أرجلهم بالوضوء ليخالفوا فعل علي بن أبي طالب العدو اللدود لدولة البطون. ومع اسمترار فرض الدول لغسل الرجلين بدلاً من مسحهما، واعتبار هذا الحكم جزءاً من المنهاج التربوي والتعليمي لدولة البطون تأتي الأجيال اللاحقة وتعتقد أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي، وأن مقالة أهل بيت النبوة بالمسح شاذة وبدعة على حد تعبير ابن خلدون عنهم!
طريق الرشاد
كل إمام من أئمة أهل بيت النبوة نادى الأمة في زمانه قائلاً: (اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد)، فعلي ابن أبي طالب باب مدينة العلم اللدني، والحسن والحسين،
بمعنى أن الفرصة كانت دائماً مهيأة أمام المسلمين ليأخذوا أحكام الدين الشرعية اليقينية من أئمة أهل بيت النبوة الذين أعدهم الله وأهلهم لهذه الغاية، ولكن دولة البطون وأولياءها قد أبوا ذلك لأنهم لو فعلوه لأذوا أنفسهم، ولأقروا بمرجعية أهل بيت النبوة ولانهار تاريخهم وتهاوت شرعية حكمهم، لذلك ضحوا بالدين الإسلامي ليخفوا آثار أفعالهم وليضمنوا لأنفسهم الاستمرار بقيادة الأمة وتوجيهها بالقوة وفق مناهجهم التربوية والتعليمية التي اخترعوها فسلكوا بالمسلمين الوعر والصعب من الطريق، وتركوا اليسر الإلهي، وكانت النتيجة أن اختفى الجزم واليقين من قاموس الأحكام الشرعية، وحل محلها الظن والتخمين فلا تجد حكماً فقهياً في مسألة إلا وتجد حكماً في المسألة نفسها يناقضه ويتعارض معه!
____________
(1) راجع أعيان الشيعة 3 / 34.
(2) راجع أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني 1 / 51.