مقدّمة المركز

لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.

وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.

ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها، ثم يخضع ذلك الموضوع


الصفحة 6

ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج.

ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً.

كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.

وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان «سلسلة الندوات العقائدية» بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.

وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.

سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.

مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون   


الصفحة 7

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد، الحديث عن الحديث النبوي الشريف، تاريخه وملابساته، حديث مهم، لانه يرتبط بثاني أصل من أصول التشريع الاسلامي، وخصوصاً البحث عن أسباب منع تدوين الحديث وملابساته.

فنحن نذكر أولاً الاقوال في المسألة، ثم نأتي لمناقشتها، وأخيراً نعرض ما توصلنا إليه.

وأهم الاسباب التي قيلت في منع تدوين الحديث هي:

الاول: ما طرحه الخليفة أبوبكر.

الثاني: ما طرحه الخليفة عمر بن الخطاب.

الثالث: ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر.

الرابع: ما قاله السمعاني والقاضي عياض.

الخامس: ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن عبد البر.


الصفحة 8

السادس: ما ذهب إليه بعض المستشرقين.

السابع: ما ذهب اليه غالب كتّاب الشيعة.

الثامن: بيان ما توصلنا إليه.


الصفحة 9

السبب الاوّل:
ما نقل عن الخليفة أبي بكر

أما ما طرحه الخليفة الاول، فيمكن أن ننتزعه من نصّين ذكرهما الذهبي في تذكرة الحفاظ:

أحدهما:

عن عائشة أنهاقالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمس مائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً.

قالت: فغمني.

فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك ؟

فلمّا أصبح، قال: أي بنية، هلمي الاحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها.

فقلت: لم أحرقتها ؟

قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت [ به ] ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك(1) .

ثانيهما:

وهو من مراسيل ابن أبي مُليكة وفيه: أن الصدّيق جمع

____________

1 ـ تذكرة الحفاظ 1/5، الاعتصام بحبل الله المتين 1/30، حجيّة السنة: 394.


الصفحة 10

الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه(1) .

ويمكننا فهم النص الاول من خلال طرح بعض الاسئلة، وهي:

الاول:

هل الخليفة جمع هذه الاحاديث في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) أم من بعده ؟

الثاني:

لماذا بات الخليفة ليلة جمعه للاحاديث يتقلب، ألِعلة كان يشكو منها أم لشيء بلغه من أمر الحروب ؟ !

الثالث:

كيف ينقلب المؤتمن الثقة إلى غير مؤتمن وغير ثقة ؟ !

الرابع:

لماذا الاحراق، وليس الاماتة والدفن ؟ !

أما الجواب عن السؤال الاول:

فأولاً:

يمكن أن ننتزعه من جملة عائشة: (جمع أبي الحديث عن رسول الله)، فهذه الجملة غير جملة: (جمع أبي حديث رسول الله)، فلو كان الخليفة قد جمع أحاديث رسول الله على عهده لقالت عائشة: جمع أبي حديث رسول الله، أو أملى رسول الله على أبي الحديث فكتبه، أو ما شابه ذلك.

وحيث رأيناها قد جاءت بكلمة (عن) و(الحديث) نفهم أن الجمع كان بعد حياته (صلى الله عليه وآله وسلم).

وثانياً:

لم نر اسم الخليفة ضمن من دوّن الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلو كان لذكره أصحاب السير والتاريخ، فإنهم قد عدّوا رجالاً قد دوّنوا الحديث على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي بكر بن عمرو بن حزم وزيد بن ثابت وغيرهم، فلو

____________

1 ـ تذكرة الحفاظ 1/32، حجيّة السنة: 394.


الصفحة 11

كان الخليفة منهم لعُدّ ضمنهم.

نعم جاء القول: أنّه كتب إلى بعض عمّاله فرائض الصدقة عن رسول الله.

وهذا لا يثبت كونه من المدونين على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كلّما في الامر هو عبارة عن تدوين أمر الصدقة وجباية الاموال للولاة، وهو مما يقوّم أمر الدولة، ولا يمكن للخليفة أن يتناساه، وهذا لا يثبت أنه كتبها عن كتاب له.

وثالثاً:

لو كان الخليفة قد سمع هذه الاحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)شفاهاً فكيف يبيح لنفسه حرقها أو التشكيك فيها لاحقاً ؟

ورابعاً:

نحن بقرينة صدر الخبر وذيله نفهم أن الاحاديث قد جمعت بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، لقول الخليفة في ذيل الخبر: (ولم يكن كما حدثني)، فلو كان الخليفة قد جمع هذه الاحاديث على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما حق له أن يشك فيها، لوجود المقوّم والمصحح بينهم، بل كان على الخليفة أن يعرض المشكوك عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) للتثبت من النقل، وحيث لم نره يفعل ذلك وبقاءه على حالة الشك حتى الممات، عرفنا عدم إمكانه التعرف على رسول الله للاخذ منه.

وخصوصاً حينما نقف على أن هذا النص قد صدر عنه في أخريات حياته، لقوله: (خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقته ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت ذلك).

وعليه، فقد عرفنا أن الخليفة قد جمع الاحاديث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي أواخر خلافته.

أما الجواب عن السؤال الثاني:

أن التقلب لم يكن لشكوى أو شيء بلغ الخليفة عن أمر الغزوات والحروب، بل لما وجده في تلك الصحيفة من روايات وأخبار، لقول عائشة:


الصفحة 12

(فلما أصبح قال: أي بنية هلمّي الاحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها)، وهذا المقطع يوضح لنا بأن نتيجة التقلب قد ظهر في الصباح وهو ما في الصحيفة من أخبار.

لانا نعلم بان الخليفة كان يعمل بالرأي ويفتي على طبقه وقد خالف بعض النصوص، وقد رأينا الصحابة قد خطأوه في وقائع كثيرة، فمما يحتمل في الامر أن يكون الخليفة حين جمعه للاحاديث قد وقف على خطأه فيما أفتاه سابقاً بالارقام، فحصلت في داخله هزة عنيفة لا يمكنه الاباحة بها، لان بقاء هذه الصحيفة بيد الصحابة والاجيال ستكون مدعاة للاختلاف لاحقاً.

وانك قد وقفت في النص الثاني على منع الخليفة الصحابة من التحديث خوفاً من الاختلاف، فكيف به لا يخاف من الاخذ بهذه الصحيفة وهي مدوّنة ومكتوبة بخطه، فرأى أن لا محيص من إحراقها تحاشياً من التمسك بها على خطأه، فتراه يقول: (فأكون قد نقلت ذلك).

نعم بات الخليفة يعتقد بعدم جواز التحديث عن رسول الله دون فرق بين المحدث، سواء كان مسموعاً عن رسول الله بواسطة أو بغير واسطة، لان التحديث سيعارض اجتهاده، وهو ما ستعرفه لاحقاً، فقال: (لاتحدثوا عن رسول الله شيئاً).

أما الجواب عن السؤال الثالث:

كيف ينقلب المؤتمن الثقة إلى غير مؤتمن وثقة ؟ !

وهل يصح طرح روايات مثل تلك بفرض احتمال الكذب عليه ؟ !

ولو قبل الخليفة وثاقة الرجل لقوله: (ائتمنته ووثقته)، فكيف يمكنه طرح كلامه بمجرد احتمال الكذب والسهو عليه ؟


الصفحة 13

إن اعتبار هذا الاصل في التشريع سيقضي على السنة النبوية قضاءاً تاماً، لامكان ورود مثل هذا الاحتمال في جميع الاخبار المعتمدة عند المسلمين.

ولا أدري هل خفي على الخليفة عمل رسول الله بأخبار الصحابة العدول في القضايا الخارجية وأمور الحرب ؟! وما مفهوم آية النبأ إلاّ دليل على أنّ المسلمين كانوا يعملون بخبر العدول ويتوقفون عند خبر الفساق، بل إن السيرة العقلائية قاضية بالاخذ بخبر الثقة العدل، ولا يسقط خبره بمجرد احتمال الكذب والسهو فيه.

ولو سلّمنا أن مجرد الشك والاحتمال يسقط الخبر من الحجية عند الشاك، فلا نسلّم سقوط الخبر عند غير الشاك في تلك المرويات.

فكان على الخليفة اتخاذ عدة أمور:

إما أن ينقل المرويات ويشير إلى موارد شكه وأنه في أي قسم يقع، وللمخبر بالخبر أن يعمل به أو لا يعمل، وفقاً لما يفرضه عليه الدين.

وإما أن يدعو الخليفة أعيان الصحابة ويستفتيهم في مسموعاته كي يعينوه على حذف المشكوك وإبقاء الصحيح السالم، والصحابة لم يكونوا قد ذهبوا بعد في أقطار الارض للغزو والفتح كما حدث في زمن عمر بن الخطاب، وعليه فهذا التعليل لا يرضي الباحث الموضوعي.

أما الجواب على السؤال الرابع:

فيمكن أن نعرفه من نتيجة الامر، لان الخليفة ـ وكما عرفت ـ كان يخاف أن تبقى هذه الصحيفة بيد الصحابة لاحقاً (فدعا بنار فحرقها)، لان دفن الاوراق تحت الارض لا يفيد، لامكان الحصول عليها لاحقاً، ولاحتمال بقاءها سالمة بعد زمن تحت الارض، وهذا ما حصل بالفعل، إذ يقف الاثريون


الصفحة 14

ـ عادة ـ في حفرياتهم على أمثال ذلك.

ومثله الحال بالنسبة إلى عدم محوه بالماء، لاحتمال أن يبقى فيه أثر من الكتابة، وهذ ما لا يريده الخليفة، فاتخذ أسلوب الحرق لكي لا تبقى جذور لتلك المرويات عند المسلمين.

وبنظرنا أن الخليفة لم يبد الاحاديث الخمسمائة الموجودة عنده فحسب، بل رسم منهجاً يسير عليه الخلفاء وقسم من الصحابة من بعده، إذ قال الزهري: (كنّا نكره التدوين حتى أكرهنا السلطان على ذلك)(1) ، أي أن المنع والتدوين كلاهما كانا بيد السلطان، فالشيخان نهيا عنه فصار مكروهاً، والخليفة عمر بن عبد العزيز أمر به فصار محبذاً، فترى الامر يختلف عندهم بنسبة مائة وثمانين درجة من مكروه إلى محبذ لموقف السلطان ! !

ونحن نترك النص الثاني دون أي شرح وتفسير، لقلّة الوقت، مكتفين بالتعليق على ما قاله الذهبي بعد أن أتى بمرسلة ابن أبي مليكة، فقال: (إن مراد الصدّيق التثبت في الاخبار والتحرّي، لا سد باب الرواية)(2) .

وهذا الكلام باطل، لانا نعلم أن منهج المتثبت والمحتاط هو الاصلاح والسعي إلى الامثل، لا الابادة والفناء، والخليفة بعمله وضح أنه لا يريد التثبت والتحري، لان الذي يريد تعمير عجلة ما لا يحق له إبادتها بدعوى إصلاحها، فالاصلاح يبتني على تعمير العجلة وإعدادها للعمل مرّة أخرى، لا إبادتها.

____________

1 ـ سنن الدارمي 1/110، وانظر: تقييد العلم: 107، الطبقات الكبرى 2/389، البداية والنهاية 9/341.

2 ـ راجع: تذكرة الحفاظ 1/32.


الصفحة 15

ومثله الحال بالنسبة إلى قرار الحاكم، فلو قرر قاضي بتعزير شخص ما تاديباً له، فهل يحق قتله بدعوى إصلاحه ؟! كلا والف كلا.

فموقف الخليفة يشابه هذين الامرين، لانه بفعله أكّد عدم إرادته التثبت والتحري، فلو كان يريد التثبت لا يجوز له إرشاد الناس إلى عدم التحدّث مطلقاً بقوله: (لاتحدثوا عن رسول الله شيئاً)، فمجيء النكره (شيئاً) بعد النهي (لا تحدثوا) تفهم أن الخليفة لا يريد التحدث بأي شي عن رسول الله، أي أنه يريد الاكتفاء بالقرآن، وهو ما صرح به بالفعل بقوله: (بيننا وبينكم كتاب الله).

ومثله الحال بالنسبة إلى موقفه من صحيفته، فالحرق لا يتفق مع التثبت، فلو كان يريد التثبت لاشار إلى ضوابط ومعايير علمية في التثبت، أو لاحال الامر على الصحابة الموجودين عنده للبت والتثبت فيما رواه، أو لاتخذ ما اتخذه رسول الله مع الذين كانوا يتحدثون عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)(1) .

____________

1 ـ روى رافع بن خديج قال: مر علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً ونحن نتحدث، فقال: ما تحدثون ؟

فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله.

قال: تحدثوا، وليتبوأ مقعده من كذب عليّ من جهنم ! ومضى لحاجته، وسكت القوم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شأنهم لا يتحدثون ؟ !

قالوا: الذي سمعناه منك يا رسول الله !

قال: إني لم أُردْ ذلك، إنما أردت من تعمّد ذلك، فتحدثنا.

قال: قلت: يا رسول الله ! إنا نسمع منك أشياء، افنكتبها ؟

قال: اكتبوا، ولا حرج.

(تقييد العلم: 73).


الصفحة 16

نعم إن الخليفة أراد الاكتفاء بالقرآن، لقوله: (بيننا وبينكم كتاب الله)، وهذا الموقف يشبه موقف عمر بن الخطاب بمحضر الرسول عند مرضه: (حسبنا كتاب الله)، وهو من أقوال عائشة كذلك، حيث ردّت بعض أحاديث رسول الله بقولها: (حسبكم القرآن).

وقد كان رسول الله قد نبأ في حديث الاريكة بمجيء من يجلس على أريكته يحدّث بحديث رسول الله فيقول: (بيننا وبينكم كتاب الله)(1) ، وقد انطبق هذا التنبأ بالفعل بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخليفة الاول، لقول ابن أبي مليكة في مرسلته: (إن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال... فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه).

إن تقارب هذين النصين، أي قول رسول الله: (يوشك) والذي هو من أفعال المقاربة، وحدوث ذلك بالفعل في أوائل خلافة أبي بكر، لقول ابن أبي ملكية: (جمع الصدّيق الناس بعد وفاة نبيهم...)، يرشدنا إلى وجود سرّ في نقله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الامر، وهو وكما قاله البيهقي في كتاب دلائل النبوة: (إنه من أعظم دلائل النبوة وأوضح اعلامها).

نعم إن رسول الله لم يكن يرتضي هذا الاتجاه، لقوله في بعض تلك الاخبار: (لا اعرفن)، وفي أخرى: (لا الفين)، ثم تعقيبه لها بالقول، (ألا واني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، انها لمثل القران)(2) ، وفي آخر

____________

1 ـ راجع: مسند أحمد 4/132، سنن ابن ماجة 1/6/12، سنن أبي داود 4/200/4604، سنن البيهقي 9/331، دلائل النبوة 1/25، 6/549، الاحكام لابن حزم 2/161، الكفاية في علم الدراية: 9.

2 ـ الاحكام لابن حزم 1/159.


الصفحة 17

(ألا إني أوتيت الكتاب ومثله)(1) ، وفي ثالثة: (ألا إن ما حرمته هو ما حرمه الله)، وغيرها.

وعليه، فان موقف الخليفة في التحديث والتدوين قد أحدث اتجاهاً وتياراً عند الصحابة، فكان البعض لا يرتضي التحديث إلاّ عن القرآن، والاخر يحدّث بالسنة.

فجاء عن عمران بن الحصين أنه كان يحدّث الناس عن رسول الله، فقال له شخص: يا أبا نجيد، حدّثنا بما قاله القرآن، فأجابه ـ بشرح طويل ـ بأن ليس هناك حكم مفصل واحد في القرآن، وأن المكلف يحتاج ويفتقر إلى السنّة كي يعرف الحكم الشرعي، إذ لا ترى حكم المغرب ثلاثاً أو العصر أربعاً في القرآن، بل إنّ السنة هي التي وضحت لك ذلك وأمثاله(2) .

ومثل هذا ما قاله أمية بن عبدالله بن خالد لعبدالله بن عمر:

فقال: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فأجابه ابن عمر: يا ابن أخي إن الله بعث إلينا محمداً ولا نعلم شيئاً، فانا نفعل كما رأينا محمداً يفعل.

ثم امتد هذ الاتجاه من عصر الصحابة إلى عصر التابعين، ثم عصر تابعي التابعين، حتى ذكر الشافعي في كتاب الامّ، كتاب جماع العلم، مذهب بعض العلماء في القرن الثاني الهجري بقوله: (باب حكاية قول الطائفة التي ردت الاخبار كلها)، حتى نرى اليوم مراكز تدعوا إلى الاكتفاء بالقرآن وترك السنة، منهم منكروا السنة في باكستان، فلقد كان ـ ولحد اليوم ـ لهؤلاء

____________

1 ـ مسند أحمد 4/131، سنن أبي داود 4/200/4604.

2 ـ المستدرك للحاكم 1/109، الكفاية للخطيب: 48.


الصفحة 18

كتابات ومجلاّت وكتّاب، منهم غلام أحمد پرويز وغيره(1) .

فموقف هؤلاء قد استوحي من موقف السلف ! !

____________

1 ـ وعلّق السيد المحاضر هنا بقوله:

وقد ذهب إلى هذا الرأي كذلك بعض المشايخ في الازهر والكتّاب في مصر، كالشيخ محمد عبده (حسب نقل الشيخ أبو ريه في الاضواء)، والشيخ محمد رشيد رضا كما في مجلة المنار العدد العاشر والسنة العاشرة، وكان الدكتور توفيق صدقي قد كتب مقالاً في مجلة المنار بعنوان (الاسلام هو القرآن وحده) وقد طبع في العددين السابع والثاني عشر من السنة التاسعة، وأضاف في التعليق: إن الخليفةـ وكما عرفت ـ كان قد أرجع الناس إلى الاخذ بالقرآن الكريم ونهى الناس من التحديث عن رسول الله، ثم عاد ليستدل بحديث ـ نحن معاشر الانبياء لا نورث ـ على عدم ملكية الزهراء لفدك، لان الزهراء كانت قد استدلّت عليه بعمومات القرآن في الميراث والوصية، فالخليفة لما رأى عدم قوام الحجة عنده بالقرآن استدل بالحديث المذكور، أي أن الضرورة ألزمته الاستدلال بما هو منهي عنه.

فلو كان منهج الخليفة هو التثبت في الاخبار ولزوم توثيق ما سمعه فلماذا لا يتثبت فيما نقله عن رسول الله، وخبره: (نحن معاشر الانبياء) من أخبار الاحاد، ألم يحتمل الخطأ في نقله وفهمه ؟


الصفحة 19

السبب الثاني:
ما نقل عن الخليفة عمر بن الخطاب

وينحصر تعليل الخليفة بأمرين:

الاول: الخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره.

الثاني: الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.

أما الاول، فبعضه صحيح وبعضه باطل، لان ترك القرآن حرام، وكذا الاشتغال بسواه المؤدي إلى تركه، فهذا صحيح.

أما اعتبار الاشتغال بالسنة هو مما يؤدّي إلى ترك القرآن فهذا باطل، لانا لا يمكننا فهم القرآن إلاّ بالسنة، لان رسول الله هو المكلّف بتبيين الاحكام للناس، لقوله تعالى: (لتبين للناس) .

نعم الاشتغال بسواه، كالاخذ عن التوراة والانجيل المحرفتين هو المنهي عنه، وقد نهى رسول الله عمر بن الخطاب عن ذلك.

فجاء في النهاية لابن الاثير: أن عمر بن الخطاب قال للنبي: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ! أفترى أن نكتبها ؟

فقال النبي: «أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ لقد جئتكم


الصفحة 20

بها بيضاء نقية»(1) .

وفي الاسماء المبهمة ومجمع الزوائد وغيره: أن عمر جاء بجوامع من التوراة إلى النبي فقال: مررت على أخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة أفلا أعرض عليك ؟

فتغير وجه رسول الله، فقال الانصاري: أما ترى ما بوجه رسول الله ؟ قال عمر: رضيت بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد رسولاً، فذهب ما بوجه رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفسي بيده لو أن موسى أصبح فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم أنتم حظي من الامم وأنا حظكم في النبيين»(2) .

وهناك نصوص أخرى مختلفة في المتن والسند تدل على ما قلناه، يمكن للباحث أن يراجعها.

مما يحتمل في الامر أن يكون الخليفة قد حدثت في نفسه هزة عنيفة من جراء هذا النهي، فمثله مثل أسامة بن زيد الذي قتل امرءاً مسلماً ظناً منه أنه أسلم خوفاً من السيف، وحين نزلت الاية: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً)(3) خاف أسامة بعد ذلك وصار وجلاً وامتنع من الخروج والقتال مع علي بن أبي طالب ضد الناكثين والقاسطين والمارقين، متذرعاً أنه لا يقتل المسلمين، متناسياً أوامر الباري في لزوم مقاتلة الباغين والمارقين و...

____________

1 ـ النهاية لابن الاثير 5/282، لسان العرب 12/400.

2 ـ مجمع الزوائد 1/174، ونحوه المصنف لعبدالرزاق 10/313 رقم 19213، وتقييد العلم: 52.

3 ـ النساء: 94.

وانظر تفسير الفخر الرازي 11/3، والكشاف 1/552، وتفسير ابن كثير 1/851.


الصفحة 21

ويؤيد ما احتملناه هو ما جاء في تقييد العلم في خبر خالد بن عرفطة: أن رجلاً من عبد قيس مسكنه السوس جاء إلى عمر بن الخطاب، فسأله عمر: أنت فلان بن فلان العبدي ؟

قال: نعم.

قال: أنت النازل بالسوس ؟

قال: نعم.

فضربه ثم تلا عليه الايات الثلاث الاول من سورة يوسف.

فقال: لم ضربتني ؟

فقال: ألم تكن الذي دوّن كتاب دانيال ؟

قال: نعم.

قال: إذهب وامحه بالحميم والصوف الابيض ثم لا تقرأه ولا تقريه أحداً من الناس، ولو سمعت بذلك لانهكتك عقوبة.

ثم حكى له حكايته مع رسول الله وكتابته جوامع من التوراة وغضب الرسول عليه(1) .

فمما يحتمل في الامر أن يكون الخليفة قد تأثر بهذا النهي واستفاد منه لاحقاً لتطبيق ما يهدف إليه.

مع الاشارة إلى أن عمر بن الخطاب كان أول من أطلق لفظ (المشناة) على السنة النبوية، وأنتم تعلمون أن اليهود كانت لهم توراة ومشناة، فالتوراة هو الكتاب المكتوب عندهم، أما المشناة فهو كلمات وأقوال الاحبار والرهبان.

____________

1 ـ تقييد العلم: 52.


الصفحة 22

فمما يمكن احتماله هنا كذلك هو أن الخليفة قد تصور ـ والعياذ بالله ـ أن أقوال الرسول هي ككلمات الرهبان والاحبار ـ المسببة لانحراف اليهود ـ فأراد أن يبعد الامة عن هذا الانحراف بنهيه تدوين كلام رسول الله ـ العياذ بالله ـ.

وأنت تعرف أن هناك فرق واضح بين الامرين، فكلام الرسول ليس يشبه كلام الرهبان في شيء، فكلام الرسول هو المبين لاحكام الله، أما كلام الرهبان وموقفهم فهم الذين حرفوا كلام الله.

أما التعليل الثاني، وهو الخوف من الاختلاط بالقرآن، فهو الاخر باطل، لان الاسلوب القرآني يختلف عن الاسلوب الحديثي، لان الحديث ما هو إلاّ توضيح وتفسير لكلام الله وما أراده الوحي، ولم يلحظ فيه الجانب البلاغي بقدر ما لوحظ الجانب التفسيري وأُريد منه، فحمل أحد الامرين على الاخر باطل، لان القرآن جاء على نحو الاعجاز والبلاغة، وقد عرفه مشركوا قريش حتى قالوا عنه: (سِحْرٌ مُسْتَمِرّ)(1) .

ولاجل هذا نرى إمكان تصور الكذب على رسول الله وعدم إمكان ذلك في القرآن، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار)(2) أو: (ستكثر القالة عليّ)، أما إمكان تصوّر ذلك في القرآن فمحال، لقوله تعالى: (فَأْتُوا بِسورَة مِنْ مثلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دونِ اللهِ إن كُنْتُمْ صادِقينَ)(3) ، وفي آخر: (فأتوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيات وَادعوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دونِ اللهِ اِنْ

____________

1 ـ القمر: 2.

2 ـ مسند أحمد 1/165 و2/195 و3/39.

3 ـ البقرة: 23.


الصفحة 23

كُنْتُمْ صادِقينَ)(1) .

إذاً لا يمكن افتراض الكذب في القرآن، لانه جاء على سبيل التحدي والاعجاز، لقوله تعالى: (قُلْ لَئِن اجتَمَعَتِ الانسُ وَالجِنُّ عَلى أن يأتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعْض ظَهيراً)(2) ، هذا أولاً.

وثانياً: أن هذا القول يستلزم منه اتهام الصحابة بفقدانهم القدرة على التمييز بين كلام الله وكلام رسوله.

ولو احتملنا إمكان حصول التباسه على البعض منهم لكان على الخليفة أن يطلب شاهداً آخر كي يثبت أنها من القرآن.

وعليه، فهذا التعليل غير مقنع، لامكان علاجه بالتثبت من الايه، ولا يحتاج إلى تعطيل السنة النبوية من أجله، ولاجله لم نر الخليفة الاول يتخذ هذا التعليل في المنع، بل ذهب إلى تعليل آخر، لكونه واهياً حسب نظره.

وثالثاً: أن المسلمين كانوا قد عرفوا القرآن وحفظوه، فكانوا لا يمسونه بدون طهارة، لقوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرونَ)(3) ، وكانوا يتهادون آياته ويرتلونها آناء الليل وأطراف النهار.

فلو كانت عنايتهم بالقرآن إلى هذا الحد، فهل يمكن التخوف عليه واحتمال اختلاطه بالسنة ؟ !

والان لنطرح سؤالاً طالما سمعناه من الاعلام في كلماتهم وأقوالهم، إذ قال ابن حزم وغيره: (وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه بمن دون عمر من عامة

____________

1 ـ هود: 13.

2 ـ الاسراء: 88.

3 ـ الواقعة: 79.


الصفحة 24

المسلمين فكيف بعمر...).

واستبعد آخرون هذا الامر كذلك وضعفوا تلك الاخبار، لعدم إمكان تطابقها مع مقام الخليفة.

والان لنبحث عن إمكان تطابق هذا الخبر معه أولا، وهل أن منع تدوين الحديث هو نبوي أم جاء من قبل الخلفاء لظروف مرّوا بها ؟! وأن هذا المنع يتجانس مع أي الاتجاهين ؟!

للاجابة عن هذا السؤال وغيره لابد من تقديم مقدمة، وهي: أنا نعلم بأن البحث الاسنادي لا يكفي وحده في الدراسات، بل يلزم دراسة المتن معه كذلك، لان الاسانيد قد خضعت للاهواء، فترى ابن معين وأحمد بن صالح مثلاً يجرحون الامام الشافعي، وفي تاريخ بغداد ج 13 اسم أكثر من 35 شخصاً طعنوا في الامام أبي حنيفة، وفي المجلد الاول منه أسماء الذين طعنوا في الامام مالك، وقد جرح الحافظ العراقي (شيخ ابن حجر) في الامام أحمد بن حنبل، وقد طعن البخاري والنسائي وغيرهم كذلك.

وقال ابن خلدون في مقدمته: (وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالِط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط)(1) .

وقال الشريف المرتضى من علماء الامامية في جواب ما روي في الكافي عن الصادق في قدرة الله: (اعلم أنه لا يجب الاقرار بما تضمنه الروايات، فان

____________

1 ـ مقدمة ابن خلدون: 16 / المقدمة.


الصفحة 25

الحديث المروي في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا يتضمن ضروب الخطأ وصنوف الباطل من محال لا يجوز أن يتصور ومن باطل قد دل الدليل على فساده كالتشبيه و....).

فنحن لو أردنا التوقف وقبول ما صحت روايته سنداً للزمنا القبول بحديث أبي هريرة عن خلقة العالم والمخالف لصريح القرآن في سبع آيات من سبع سور منه بأنّه عزّوجلّ خلق العالم في ستة أيام، إذ جاء عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: «خلق الله التربة يوم السبت وخلق منها الجبال يوم الاحد وخلق الشجر يوم الاثنين»، وأخذ يعدد خلق الاشياء في سبعة أيام.

وعليه، فلا يمكن اعتبار السند هو الضابط الاول والاخير لمعرفة الضعيف والصحيح من الاخبار، بل يجب عرض الخبر على الاصول الثابتة والاخبار المتواترة ولحاظ تطابق ذلك معها أو لا.

وبعد هذه المقدمة نأتي لتوضيح وإجابة ما طرحناه، وهل أن المنع هو نبوي أم جاء من قبل الشيخين، وأن ذلك يتوافق مع أي الاتجاهين ؟

الجواب:

نحن نعلم أن الاسلام يمدح العلم ويدعو إلى التفقه في الدين، وأنه قد بدأ بـ: (اِقْرَء باسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ)(1) وختم بـ: «ائتوني بالدواة والكتف»(2) ، أي أنه كان يدعو إلى التحديث والتدوين.

____________

1 ـ العلق: 1.

2 ـ انظر: صحيح البخاري كتاب العلم 1/39 وكتاب المغازي باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)6/11، الملل والنحل للشهرستاني 1/21، مسند أحمد 1/336، المصنف لعبد الرزاق 5/438.