الصفحة 26

وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن العزيز داعية إلى الكتابة والقراءة، كقوله تعالى: (ن وَالقَلَمِ وَما يَسْطُرونَ)(1) وقوله: (فَاكْتُبوه)(2) أو: (لا تَسْئَمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغيراً أو كَبيراً)(3) ، وغيرها.

وقد أحصى الشيخ محمد عزت دروز الايات التي تتعلّق بالكتابة وأدواتها من قلم وسجل وصحف فوجدها ثلاثمائة آية، كما أحصى كلمات القراءة ومشتقاتها فوجدها قد وردت تسعين مرة.

وأن السنة كانت قد دعت إلى ذلك، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كتب عني علماً»، و: «اكتبوا هذا العلم»، و: «استعن على حفظك بيمناك»، و: «قيدوا»، و: «اكتب ولا حرج»، وغيرها.

وقد جرت السنة العملية عند رسول الله على ذلك، إذ كان له كتّاب يكتبون له الوحي ويراسل بواسطتهم الملوك والروساء.

وجاء عنه أنه أمر بكتابة الاحكام التي قالها يوم فتح مكة لابي شاد اليمني بطلب منه، وأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتابة الفرائض والاحكام فدوّنت وكانت عند أبي بكر بن عمرو بن حزم.

وقد جعل رسول الله عبد الله بن سعيد بن العاص يعلم الراغبين بالكتابة والخط في مسجده (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان قد جعل فداء أسرى بدر تعليم كل واحد منهم عشرة من المسلمين الكتابة والخط.

____________

1 ـ القلم: 1.

2 ـ البقرة: 282.

3 ـ البقرة: 282.


الصفحة 27

وروى حذيفة عن رسول الله أنه قال له: «اكتبوا لي من تلفظ بالاسلام»، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل.

فلو كان الاسلام ينهى عن الكتابة فما هذه المواقف عن الله ورسوله فيها ؟

ولو صح النهي عن تدوين الحديث وكان المنع نبوياً فلم دوّن الخليفة أبوبكر أحاديثه الخمسمائة ؟!

ولم جمع عمر الصحابة عنده واستشارهم، وكيف بهم يشيرون عليه بالكتابة ؟!

ألم تدل كل هذه المواقف عن تخلف هؤلاء عن أوامر الله ورسوله ! ولو صح النهي عن رسول الله فلم لا يجعل الشيخان هذا دليلاً في المنع ؟ فترى كل واحد منهما يأتي بتعليل يختلف عن الاخر، ألم يعلم الشيخان وغيرهما أن النبي كان يبعث أعيان الصحابة معلمين ومنذرين وكان يأمر بعضهم بالكتابة ؟

نعم، إن عرب الجزيرة كانوا بعيدين عن الكتابة، وصرح سبحانه بذلك بقوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)(1) ، وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)قوله: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا»، وقال ابن قتيبة: كان الصحابة أميين لا يكتب منهم إلاّ الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي.

وجاء في المعجم الصغير ومجمع الزوائد: أن رسول الله أرسل إلى قبيلة بكر بن وائل برسالة فلم يجدوا فيها قارئاً، فأرسلوه إلى رجل من بني صبعة ليقرأها، فهم يسمون بني الكاتب لوجود من كان قد قرأ الكتاب عندهم.

فمما يحتمل في الامر أن يكون الخليفة قد استغل هذا الوضع الجاهلي عند

____________

1 ـ الجمعة: 2.


الصفحة 28

العرب لتطبيق نهيه عن الحديث لاحقاً، لان الاسلام سعى لرفع مستوى العلم ودعا إلى الكتابة والتحديث، وقد عرفت أن عرب الجزيرة كانوا لا يعرفون الكتابة، فمن المحتمل القوي أن يكون الخليفة قد استغل هذا الامر لتطبيق ما يريده لاحقاً.

وقد عرفت مواقف عمر في عهد رسول الله ثم من بعده، ونهيه عن الكتابة والتحديث، كنهيه رسول الله من كتابة الكتاب الذي أراده حين مرضه، وتمزيقه لكتاب الخليفة الاول والذي أعطاه للمؤلفة قلوبهم، وحرقه لمدونات الصحابة الذين أتوه بكتبهم كي يرى أعدلها وأقومها على طلبه.

ولو لم يكن الشيخان هما الناهين عن الكتابة فمن هو الناهي إذاً ؟ ولماذا نرى الخلفاء يمنعون من الكتابة لاحقاً ؟ حتى استقر أمر التدوين في عهد عمر بن عبد العزيز ؟

هل تطبيقاً لامر النبي أم دفاعاً عن قرار الخليفة ؟ !

فنحن حينما نقف على وحدة التعليل عند الخليفة وما جاء عن الصحابة في النهي عن الحديث نعرف أن هناك اتجاه يدعم رأي الخليفة.

ومن أراد المزيد فليراجع كتابنا (منع تدوين الحديث) و(السنة بعد الرسول).


الصفحة 29

السبب الثالث:
ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر

وقد أرجع هؤلاء سبب إهمال الحديث إلى قلّة الكتّاب وندرة أدوات الكتابة عند العرب لا غير(1) .

وقد أجاب الاعلام ـ كالشيخ عبد الخالق عبد الغني في حجيّة السنة(2) ، وصبحي الصالح في علوم الحديث(3) ، والدكتور مصطفى الاعظمي في كتابه دراسات في الحديث النبوي(4) ، والعجاج الخطيب في السنة قبل التدوين(5) ، وغيرهم ـ عن هذه الشبهة، وملخّص أجوبتهم هو:

أن جملة «لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن» بنفسها دالة على وجود المؤهل للكتابة عند العرب، بل و جود الكتبة عندهم، إذ لا يعقل أن يخاطب

____________

1 ـ تأويل مختلف الحديث: 366، هدى الساري: 4.

2 ـ حجيّة السنة: 430 و444.

3 ـ علوم الحديث ومصطلحه: 6.

4 ـ دراسات في الحديث النبوي: 73.

5 ـ السنة قبل التدوين: 301.


الصفحة 30

الرسول جمعاً ليس لهم قدرة الكتابة بقوله: «لا تكتبوا».

وقد ثبت في التاريخ وجود كتّاب، كزيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي بكر بن عمرو بن حزم وغيرهم، ونحن قد أوصلنا عدد هؤلاء الكتبة في كتابنا وضوء النبي المجلد الثاني إلى 54 شخصاً، وعليه فالكتابة كانت موجودة عند العرب، ويضاف إليه وجود نيف وثلاثين كاتباً ـ وفي آخر أربعين كاتباً ـ للرسول يحسنون الكتابة، وقد كتبوا إلى الروساء والملوك، وأن الاسلام كان يدعو إلى الكتابة وتعلّمها.

إذن، الكتابة كانت في حالة ازدياد، فلا يمكن عزو إهمال الحديث إلى قلّة الكتّاب، لان الكتبة كانوا في حاله ازدياد لا نقصان !

أما ندر أدوات الكتابة، فهو الاخر لم يكن بالشيء القليل، فالذين كتبوا ودوّنوا القرآن كان يمكنهم أن يكتبوا الحديث في تلك الادوات التي كتبوا فيها القرآن، كالعسب والقتاب والاكتاف وقطع الاديم وما شابه ذلك.

وبهذا فقد عرفنا عدم إمكان قبول تعليل ابن قتيبة وابن حجر.

ونحن نترك الكلام عن الاسباب الاخرى(1) من أجل ضيق الوقت، ونكتفي بالاشارة إلى ما قاله غالب كتّاب الشيعة وما توصلنا إليه(2) .

____________

1 ـ لما قرّر المركز طبع هذه المحاضرة رأينا من الضروري أن نطلب من سماحة السيد الاشارة إلى الاسباب الاخرى التي تركها لضيق الوقت مختصراً، ليتكامل البحث ولا يحس المطالع بالاخلال فيه، فقال:


الصفحة 31

السبب الرابع:
ما ذهب إليه السمعاني والقاضي عياض

قال السمعاني: كانوا يكرهون الكتابة أيضاً، لكي لا يعتمد العالم على الكتاب، بل بحفظه... فلما طالت الاسانيد وقصرت الهمم رخصت الكتابة.

وقال مثله القاضي عياض في (الالماع في أصول الرواية وتقييد السماع).

أما الشيخ أبو زهو والشيخ عبد الخالق عبد الغني فقد أرجعا الامر ونسباه إلى رسول الله وقالا: إن رسول الله ـ وحفاظاً على ملكة الحفظ عند العرب ـ نهاهم عن الكتابة، لانهم لو كتبوا لاتكلوا على المكتوب وأهملوا الحفظ فتضيع ملكاتهم بمرور الزمن [ الحديث والمحدّثون: 123، حجيّة السنة: 428 ].

وهذا الكلام باطل صغرىً وكبرىً:

أما الصغرى، فلوجود عدة من الصحابة لا يملكون هذه المقدرة، كما جاء عن المتشددين في الحديث الذين لا يرتضون التحديث، أمثال سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وغيرهما، خوفاً من أن يزيدوا أو ينقصوا.

وجاء عن زيد قوله: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شديد، وهذه النصوص تؤكد لنا سقم المدعى.

ويضاف إليه أنه جاء عن عمر أنه حفظ سورة البقرة في اثني عشر عاماً ولما حفظها نحر جزوراً [ الدرّ المنثور 1/21، سيرة عمر لابن الوزي: 165]، وهذا لا يتفق مع ما قيل عن ملكة الحفظ عند العربي، ولو صح هذا لما أتى أصحاب الجرح والتعديل بأسماء الذين خلطوا من الصحابة.

وقال الاستاذ يوسف العشي: فذاكرة أكثر الناس أضعف من أن تتناول مادة العلم بأجمعه فتحفظها من الضياع وتقيها من الشرود، ومهما قويت عند أناس فلابد أن تهون عند آخرين فتخونهم وتضعف معارفهم [ مقدمة تقييد العلم: 8 ].

إذن، ما قيل عن حافظة العربي لا يتفق مع هذه الاقوال، وخصوصاً حينما نقف على كلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وعند إشارته الى أسباب اختلاف النقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: «ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فلم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذباً...».

وأمّا الكُبرى، فالملائكة هم أكمل من بني الانسان وأقدر منه على الحفظ، فَلِمَ يكلفهم عزوجل بالكتابة ويقول: (كِرَاماً كَاتِبِينَ) [الانفطار: 11]؟ ولو كان للحفظ هذه المنزلة فلماذا لا نجد معشار الايات التي نزلت في الكتابة قد نزلت في الحفظ ؟ ولو كان الحفظ واجباً لكانت الكتابة منهياً عنها ومحرمة، فلماذا نراهم يدوّنون القرآن ولا يدوّنون الحديث ؟ ولو صح هذا التعليل فلماذا يكون حكراً على العرب ؟ وكيف يفعل الفرس والاتراك لو أرادوا التدوين ؟ ألم تكن الشريعة عامة للجميع ؟ وماذا نفعل بقوة الحافظة لو مات الصحابي الحافظ إن لم نسجل كلامه؟ ألا يعني هذا أن منع التدوين بدافع المحافظة على الحديث أشبه شيء بالتناقض ؟ وكيف يتصور أن يحث المعلم تلاميذه على العلم ويحرضهم على صون محفوظاتهم من النسيان ثم يوصيهم ألاّ يدوّنونها ولا يتدارسونها ؟ أليس صون العلم والمحافظة عليه بالكتابة والتدوين أولى وأجدى من حفظه واستظهاره ؟ ولو كان ما كتب قر وما حفظ فر فلم التأكيد على حفظ الحديث وتجويزه من قبل الحفاظ والقول أن منع الكتابة جاء للمحافظة على الذاكرة ؟!


الصفحة 32

السبب الخامس:
ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن عبد البرّ

وملخصه هو أن الخليفة فعل ذلك احتياطاً للدين وخوفاً من أن يعملوا بالاخبار على ظاهرها والحديث فيه المجمل والمفصل، فخشي عمر أن يحمل الحديث على غير وجهه أو يؤخذ بظاهر لفظه [ شرف أصحاب الحديث: 97 ـ 98، السنة قبل التدوين: 106 ].

ويجاب عليه:

هل الخليفة أحرص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على دين الله ؟ وما معنى خوفه واحتياطه ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «حدِّث ولا حرج»، وفي آخر: «اكتبوا ولا حرج» ؟

فكيف يحتاط الخليفة ولا يحتاط أبوذر الغفاري الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء عن ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ؟

وكيف برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرسل الصحابة إلى القبائل والمدن المبشرين والمنذرين والخليفة يجمع الصحابة من أمثال أبي ذر وابن مسعود وأبو مسعود عنده وينهاهم من التحديث ؟

وكيف نرفع هذه الازدواجية ؟ وهل جاء هذا حرصاً على الاسلام والمسلمين ؟

وما معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها عني فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ؟ ألم يعنِ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) سمح بنقل قوله على ما هو عليه إلى من هو أفقه منه ؟

ولو لاحظت سيرة الخليفة لرأيته لا يحتاط، فقد أخذ برداء رسول الله حين صلاته على المنافق ثم ندم، واقترح على الرسول في الحكم بن كيسان أن يضرب عنقه لانه (صلى الله عليه وآله وسلم)قد أطال في وعظه ولم يفد ثم ندم لاسلام الحكم وحسن إسلامه وشهادته في آخر الامر [ طبقات ابن سعد 4/137 ].

والاحتياط يخالف التسرع والاجتهاد، وقد ثبت عن الخليفة أنه كان يجتهد، والعجيب أنهم يدعون أن المنع جاء احتياطاً للدين، ويفوت عليهم أن منع المنع هو الاحتياط، لان المنع معناه الضياع، أما التحديث وإن كان عرضة للخطأ والتصحيف لكنه أعود على المسلمين من بقائهم في الجهل وعدم المعرفة.

ولو كان فعل عمر هو الاحتياط في الدين فلم لم يعمل بمشورة الصحابة حينما ذهبوا إلى تدوين السنة ؟

نعم انفرد برأيه وأحرق المدونات ومنع من التدوين وهو عين الاجتهاد ؟ !

إن الاحتياط في أن يوافق الخليفة رأي أكثر الصحابة، لقوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، ولايمانه هو بمبدأ الشورى، فمخالفة الخليفة للصحابة يعد نقضاً للاحتياط وهدماً لمبدأ الشورى الذي اتخذه عمر بن الخطاب.

وبعد هذا يتجلى ضعف هذا الرأي كذلك وعدم صموده أمام النقد.


الصفحة 33

السبب السادس:
ما ذهب إليه بعض المستشرقين

ذهب شبرنجر إلى أن عمر لم يهدف إلى تعليم العرب البدو فحسب، بل تمنى أن يحافظ على شجاعتهم وإيمانهم الديني القوي ليجعلهم حكاماً للعالم، والكتابة واتساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف الذي سعى من أجله [ تدوين السنة الشريفة: 53، عن دلائل التوثيق المبكّر: 230 ـ 231 ].

ويضيف شاخت أن ليس بين الاحاديث المروية عند المسلمين حديث فقهي صحيح، بل إنها وضعت بعدئذ في اطار المصالح المذهبيه [ أنظر: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للاعظمي، وكتاب (شاخت):

the origins of muhammadanjurispradenee ]

ويمضي جولدتسهر إلى أن صدور الروايات في التدوين جميعها موضوعه، وأن الكتب المؤلفة الجامعة للحديث المنسوبة إلى العصر الاول مفتعلة.

[ من بحوثه: muhammadanische studiee باللغة الالمانية ]

ويذهب إسماعيل بن أدهم في رسالته المطبوعة سنة 1353 إلى أن الاحاديث الصحاح ليست ثابتة الاصول والدعائم، بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع [ دراسات في الحديث النبوي: 27، عن السنة ومكانتها للسباعي: 213 ].

ومن أراد المزيد في دراسة أقوال المستشرقين فليراجع: كتاب السنة ومكانتها للسباعي، ودراسات في الحديث النبوي للاعظمي، والحديث والمحدثون لابي زهو.


الصفحة 34


الصفحة 35

السبب السابع:
ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة

أما ما قاله غالب الشيعة فملخصه: أن النهي جاء للحدّ من نشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، واستنتج هؤلاء رأيهم من هيكلية النظام السياسي والاجتماعي، وأن العمل الثقافي ليس بأجنبي عن العمل السياسي، وحيث أن الخليفة لا يرتضي إعطاء أهل البيت والهاشميين مكاناً في النظام السياسي الجديد، بل سعى لسلب كل ما يتكئون عليه، فلا يبعد أن تكون قرارات عمر في منع التدوين قد شرعت لهذا الغرض.

وذهبوا إلى أن ابن مسعود كان منحرفاً عن علي(1) ، وأنه كان يخالف

____________

1 ـ لما أخرجه الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الاسود عن أبيه قال: جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فاستأذنّا على عبدالله فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة، قال: فدعا الجارية ثم دعا بطست فيه ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن أنظر فيها فان فيها أحاديث حساناً، قال: فجعل يميثها فيها ويقول (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ...) [ يوسف: 3 ]الخبر [ تقييد العلم: 54 ].

إذن المنع جاء لما في الصحيفة من أحاديث حسان في أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ! !


الصفحة 36

التحديث والتدوين، ونحن قد ذكرنا في كتابنا منع تدوين الحديث أنه كان من المحدثين(1) والمدوّنين(2) وجئنا بشواهد على ذلك.

أما ما قيل عن تخلفه عن أهل البيت، فهذا لا يصح، لقول أبي موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى ابن مسعود إلا أنه رجل من أهل بيت النبي، لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(3) .

____________

1 ـ لما رواه عبدالله بن الزبير قال: قلت لوالدي: مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله كما أسمع ابن مسعود وفلاناً وفلاناً [ سنن ابن ماجه: 14 ].

وروى عمرو بن ميمون قال: ما أخطاني ابن مسعود عشية خميس إلاّ أتيته [ سنن ابن ماجه: 421].

وعن الشعبي:... وكان أصحاب عبدالله يقرأون الناس ويعلمونهم السنة كعلقمة ومسروق... [ جامع بيان العلم 1/94 ].

2 ـ فقد جاء عن معن قوله: أخرج عبد الرحمن بن عبدالله بن مسعود كتاباً وحلف له أنه خط أبيه بيده [ جامع بيان العلم وفضله 1/72 ].

وروى الطبراني عن عامر بن عبدالله بن مسعود: أنه كتب بعض الاحاديث النبوية وفقه ابن مسعود وأرسل ذلك إلى يحيى بن كثير [المعجم الكبير للطبراني 5/97، كما في دراسات في الحديث النبوي للاعظمي 154].

3 ـ الاصابة 2/369، وشرح النووي لصحيح مسلم 15 ـ 16: 247 ـ 22 ح2460، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير، والترمذي في سننه.


الصفحة 37

وفي نص آخر: والله لقد رأيت عبدالله وما أراه إلاّ عبد آل محمد(1) .

فكيف يمكن القول بأن المتخلف عن بيعة أبي بكر(2) ، والشاهد دفن الزهراء (عليها السلام)(3) ، والراوي فضائل أصحاب الكساء كعلي(4) والزهراء(5) والحسن(6) والحسين(7) والخلفاء بعدي اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل(8) وفي آخر: الائمة بعدي اثنا عشر تسعة من صلب الحسين تاسعهم المهدي(9) ، أن يكون من المنحرفين عن علي بن أبي طالب وأهل البيت (عليهم السلام) ؟!

وعليه، فنحن لا نقبل أن يكون ما علّله كتّاب الشيعة هو السبب الاساس في ذلك، لمجيء روايات الفضائل عن الشيخين في علي، فلو كان المنع لهذا السبب وحده لما وصلتنا هذه الروايات الكثيرة الدالة على إمامة علي وأهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

نعم إن الشيخين قد رويا في فضائل علي وأهل بيت الرسول، وقد عقد

____________

1 ـ سير أعلام النبلاء 1/468، المعرفة والتاريخ 2/541 ـ 542.

2 ـ أنظر: الخصال 2/464 في أبواب الاثني عشر.

3 ـ أنظر: الخصال 2/361 باب السبعة، تنقيح المقال 2/215، وكشف الغمة.

4 ـ كروايته: (برز الايمان كله إلى الشرك كله) و(النظر إلى وجه علي عباده) و (قسّمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً) و(علي أعلم بالواحد منهم).

5 ـ كروايته: (ان فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار) و...

6 و7 ـ أنظر: مجمع الزوائد 9/179، كامل الزيارات 51 ب 14 ح4 ـ 8.

8 ـ تنقيح المقال 2/215.

9 ـ كفاية الاثر 2/19.


الصفحة 38

محب الدين الطبري باباً بعنوان (ذكر ما رواه أبوبكر في فضائل علي) وباب (ذكر ما رواه عمر في علي)، فلو كانا من رواة فضائل علي فهل يصح أن تكون الفضائل هي السبب الاساس في المنع ؟!


الصفحة 39

السبب الثامن:
بيان ما توصلنا إليه

أما الان فلنشرح ما نذهب إليه:

نحن نعلم بأن مكانة الخليفة كانت تستدعي امتلاكه قدرتين:

الاولى: العلم بالاحكام.

الثانية: قدرته السياسية لادارة الامور.

وهذا ما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، حيث كان من وظائفه (صلى الله عليه وآله وسلم)تبيين الاحكام، كما كان له إدارة أمور البلاد، وبفرق واحد: أن رسول الله كان مشرّعاً، أما الخليفة فيلزم عليه أن يكون محدِّثاً، وحيث لم يعرف أحاديث رسول الله، فقد واجه المشكلة مع الصحابة، إذ كانوا يخطئونه المرة تلو الاخرى(1) بأحاديث الرسول وآيات الذكر الحكيم.

وإن تكرار هذه ا لحالة كانت تؤدي إلى التشكيك في قدراته العلمية، ومنه التشكيك في صلاحيته للخلافة، وفي المقابل تقوية الجناح المقابل له برجوع الناس إليهم.

____________

1 ـ أنظر: منع تدوين الحديث: 114 ـ 125.


الصفحة 40

فكان عليه أن يحدّد التشريع بنفسه، فقام أولاً بسدّ باب التحديث عن رسول الله، وجمع الصحابة عنده(1) وأمرهم بأن يأتوه بمدوناتهم(2) فأحرقها بالنار، ومعه شرّع الاجتهاد لنفسه وللصحابة، ثم جاء ليحدّد التشريع بنفسه والخلفاء من بعده، فقال للصحابة: أنا أعلم منكم آخذ منكم وأرد عليكم، وجاء عنه أنه خطب واعترض على الصحابة لاختلافهم وقوله لهم: من أي فتياكم يصدر المسلمون.

نعم إن الخليفة حدّد الفتيا لنفسه ثم لكل أمير من بعده.

فعن أبي موسى الاشعري أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك، فانك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك حتى يفتيه، فسألته، فقال عمر: قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ولكنّي كرهت أن يظلوا معرّسين بهن في الاراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم(3) .

وقد أنكر عمر بن الخطاب على البعض لافتائه من عند نفسه بقوله: كيف تفتي الناس ولست أميراً ؟ وَلِيَ حارّها من وَلِيَ قارّها(4) .

____________

1 ـ أنظر: تذكرة الحفاظ 1/7، المستدرك على الصحيحين 1/110، مختصر تاريخ دمشق 17/101، حجية السنة: 395.

2 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 1/140، حجية السنة: 395.

3 ـ صحيح مسلم 2/896/157، مسند أحمد 1/50، سنن النسائي 5/153، السنن الكبرى 5/20، تيسير الوصول 1/340، سنن ابن ماجة 3/992.

4 ـ سنن الدارمي 1/61، الطبقات الكبرى لابن سعد 6/179 و258، المصنف للصنعاني 8/301 و11/328، جامع بيان العلم 2/175 و203 و194 و174، كنز العمال 1/185 و189.


الصفحة 41

إذن، الحديث كان هو السبب الاول للوقوف أمام الخليفة، والمحدثون كانوا هم ممن يزيدون في الطين بلة والاختلاف شدة ـ حسب نظر الخليفة ـ ولاجل هذا ترى الخليفة يصرح بجرمهم ـ حين أراد حبسهم عنده في المدينة ـ بأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله أو أفشوا الحديث عن رسول الله، فاكثار الحديث وإفشائه يساوي التوعية عند الناس، والخليفة لا يريد أن يعرف الناس أحاديث رسول الله كي يقفوا بوجهه ويخطئوه فيما يقوله، لان ذلك سيؤثر على قوام خلافته، أما تناقل الاحاديث التي يعرفها الخليفة فلا خوف في تناقلها.

بلى، إن الناس كانوا يريدون الوقوف على سنة رسول الله لا سنة الشيخين، والخليفة لا يعرفها جميعاً، فبدا يواجه مشكلة جديدة ينبغي أن يضع لها الحل، لان المحدثين من الصحابة وبنقلهم الاحاديث عن رسول الله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة، وهذا سيسبب التشكيك في خلافته.

ومن أجل هذا رأى أن لا محيص من أن يمنع من التحديث أولاً ثم يشرع الاجتهاد والرأي، كي يكون أصلاً ثالثاً في التشريع الاسلامي(1) ، وقد اتبع

____________

1 ـ جاء في كنز العمال 2/333 ح4167: عن إبراهيم التيمي أنه قال: خلا عمر بن الخطاب ذات يوم فجعل يحدث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الامة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنّا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل، فيكون لكل قوم رأي، فاذا كان لكل قوم رأي اختلفوا، فاذا اختلفوا اقتتلوا، فزجره عمر (انتهره) وانصرف ابن عباس، ثم دعاه بعد، فعرف الذي قال ثم قال: أيها أعد.

وحكى القاضي نعمان المغربي في شرح الاخبار (1/90): أن سائلاً سأل الصادق فقال: يا ابن رسول الله من أين اختلفت هذه الامة فيما اختلفت فيه من القضايا والاحكام (من الحلال والحرام) ودينهم واحد ونبيهم واحد ؟ فقال (عليه السلام): هل علمت أنهم اختلفوا في ذلك أيام حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال: لا، وكيف يختلفون وهم يردّون إليه ما جهلوه واختلفوا منه ؟ فقال: وكذلك، لو أقاموا فيه بعده من أمرهم بالاخذ عنه لم يختلفوا، ولكنهم أقاموا فيه من لم يعرف كل ما ورد عليه فردوه الى الصحابة يسألونهم عنه فاختلفوا في الجواب فكان سبب الاختلاف، ولو كان الجواب عن واحد والقصد في السؤال عن واحد كما كان ذلك لرسول الله لم يكن الاختلاف.

وجاء في تفسير العياشي 2/331:... فظن هؤلاء الذين يدّعون أنهم فقهاء علماء قد أثبتوا جميع الفقه والدين مما تحتاج إليه الامة ! ! وليس كل علم رسول الله علموه ولا صار اليهم من رسول الله ولا عرفوه، وذلك أن الشيء من الحلال والحرام والاحكام يرد عليهم فيسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبون فيطلب العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله وتركوا الاثار ودانوا بالبدع وقد قال رسول الله: كل بدعة ضلالة، فلو انهم إذا سئلوا عن الشيء من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد....

وجاء عن رسول الله قوله: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهّالاً فسئلو فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا.

(انظر: جامع المسانيد والسنن لابن كثير 26/309 و 331).

وجاء عن الامام علي مثل هذا (راجع: نهج البلاغة 1/95 الخطبة 49).


الصفحة 42


الصفحة 43

رأيه جمع من الصحابة، ولم يرتضه آخرون، فصار هناك اتجاهان:

أحدهما: يستوحي شريعته من النصوص (القرآن والسنة).

والاخر: يعطي لاجتهاد الشيخين الشرعية باعتقاد أنهما أعلم من غيرهما !

وهذا الانقسام أخذ يزداد شيئاً فشيئاً بمرور الايام، في حين لم نر له هذه الشدة في أوائل عهد الشيخين.

فلو صح قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اقتدوا بالذين من بعدي أبابكر وعمر»، فلمَ نراهم يعترضون على الخليفة ولا يرتضون الاخذ منه ؟! وهذا يوضح أنهما لم يكونا يعتقدان بهذا الاصل، بل يعرفان لزوم رجوعهما إلى القرآن والسنة لا غير، لانهما كثيراً ما سألا عن وجود آية أو حديث نبوي في الوقائع التي سئلوا عنها.

بلى، إن الخليفة كان يسأل الصحابة عما لا يعرفه ويتراجع حينما كان يذكّر بالصحيح عن رسول، لكنه بمرور الايام صار داعياً إلى اتباع رأيه وسيرته، فيجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من الصحابة، ويختلف النقل عنه في الواقعة الواحدة، فتراه يقول: تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا(1) .

وبذلك صار عند المسلمين نهجين:

1 ـ فقه النصوص.

____________

1 ـ السنن الكبرى 6/255.


الصفحة 44

2 ـ فقه الرجال.

أي: أنهم بعد أن دعوا إلى الاخذ بسيرة الشيخين جاء عثمان وأضاف سيرته إليهما، فرووا: حديث التفاضيل (ابوبكر، عمر، عثمان) وليس في ذلك اسم علي بن أبي طالب، ثم أدرجوا اسمه وعدوه من الخلفاء الراشدين، ورووا: عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي(1) ، وقد رووا حديث العشرة المبشرة، ثم أصحابي كالنجوم، أي: أن فقه الرجال بدأ باثنين ثم ثلاثة ثم أربعة ثم عشرة ثم إلى جميع الصحابة، أي أنهم شرعوا التعدديه في حين نرى الله سبحانه يؤكد على الوحدوية بقوله: (إنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُبُلَ)(2) ، وإخباره (صلى الله عليه وآله وسلم) بافتراق أمته إلى نيف وسبعين فرقه، فرقه ناجية والباقي في النار.

فشرعوا الاختلاف في الرأي ودعوا إلى حجيته، في حين أن الامام علي كان لا يرتضي ذلك ويذهب إلى وجود جميع الاحكام في الكتاب العزيز والسنة النبوية، فلا داعي للاخذ بالرأي منها، وصرح بعدم جواز الاخذ بقول الرجال والرأي، بقوله: «إعرف الحق تعرف أهله»(3) .

____________

1 ـ مسند أحمد 4/126.

2 ـ الانعام: 153.

3 ـ أمالي المفيد: 5 ح3، روضة الواعظين: 39، مجمع البيان 1/211.


الصفحة 45

خاتمة المطاف

فتلخّص: بأنّ منع التدوين مرّ بثلاث مراحل:

الاولى: فترة الشيخين.

الثانية: فترة من سار على نهجهما، كعثمان ومعاوية.

الثالثة: فترة الحكم الاموي بعد معاوية وحتى عصر التدوين الحكومي.

أما المرحلة الاولى: فجاءت بعد تسليم كون طمس الفضائل دخيلاً في المنع، لعجزهما الفقهي وعدم إحاطتهما بجميع أحاديث رسول الله، إذ قلنا بأنّ مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به رسول الله، والخليفة لم يعرف جميع الاحكام الصادرة عنه، فواجه مشكلة عظيمة، وهي مخالفة فتاواه لاقوال رسول الله، مما يسبب تخطئة الصحابة إياه حتّى ربات الحجال له، وهذا هو الذي دعاه ليمنع تدوين الحديث حسب التفصيل الذي قلناه.

وأما المرحلة الثانية: فجاءت لدعم موقف الشيخين، إذ جاء عن عثمان ابن عفان و معاوية بن أبي سفيان أنهما نهيا عن التحديث عن رسول الله إلاّ بما عمل به على عهد الشيخين.

وأما المرحلة الثالثة: فهي مرحلة الخلفاء الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكومي، حيث إن هؤلاء استغلّوا الافكار السائدة في العهد الاول والثاني لطمس فضائل أهل البيت، ولترسيخ ما يبغون من أهداف.


الصفحة 46

فاتضح لك أن أسباب منع تدوين الحديث، اختلفت بين فترة وأُخرى:

إذ كان المنع في العصر الاسلامي الاول ـ على عهد الشيخين ـ لسدّ العجز الفقهي عند الخليفة وتحكيم ركائز حكمهم ودفع خصمهم.

وأما في العهد الثاني فجاء لتحكيم ما سُنّ على عهد الشيخين وعدم الاخذ بغيرهما.

وأما في العهد الاموي فكان بشكل مفضوح، للمخالفة مع علي بن أبي طالب وأهل بيته.

وقد فصلنا الحديث عن هذه المراحل وغيرها في كتابنا المزبور، فمن شاء المزيد فليراجعه.

وبعد هذا، فلا يمكن حصر سبب منع تدوين الحديث في المخالفة مع فضائل أهل البيت في جميع العصور بعد ما عرفت احتياجات العهود الثلاثة السابقة.

بعد هذا التلخيص نأتي لنستلهم من هذا البحث العلمي موضوعاً مهماً، ألا وهو تقييم السنة عند الفريقين «الشيعة الامامية وأهل السنة والجماعة»، إذ السنة النبوية قد مرت عند أهل السنة والجماعة بمراحل:

1 ـ مرحلة منع تدوين حديث رسول الله.

2 ـ مرحلة تشريع اجتهاد الصحابي، أي: سيرة الشيخين أولاً ثمّ تطويرها إلى تحكيم اجتهادات جميع الصحابة و...

3 ـ جمع موقوفات الصحابة مع مرفوعات الرسول في مدونات، وذلك على عهد المروانيين، الذين كان زمانهم أشدّ الازمنة عداوة لاهل البيت، وهذا يعني أنّهم منعوا تدوين حديث رسول الله، ثمّ شرّعوا الرأي في دائرة الفراغ، ثمّ


الصفحة 47

اختلطت سنة رسول الله بآراء واجتهادات الصحابة، وبعد مائة عام دوّنوا تلك الاحاديث مع اجتهادات الصحابة، وعلى ضوء المحفوظات لا المدوّنات، وفي زمن غلبت فيه العصبية والقبلية، فصارت هذه الاحاديث شريعة يأخذ بها كثير من المسلمين.

وأمّا الحديث عند الشيعة فلم يمرّ إلاّ بمرحلة واحدة، وهي التدوين فقط والاخذ عن رسول الله وما كتبه علي بن أبي طالب «من فيه صلّى الله عليه وآله وسلم ليده» فكان لجميع أهل البيت صحف وكتب(1) .

فأهل البيت لم يكونوا يفتون بالرأي، بل يحكّمون النص وكتاب علي في كلماتهم وأقوالهم واستدلالاتهم على الخصم.

ومن هنا صار عند المسلمين اتجاهان:

أحدهما: يعتبر الرأي.

والاخر: يستقي من النص لا غير.

وبما أنّ أهل البيت كانت عندهم صحف و مدونات (ومنها كتاب علي)، وأنهم كانوا لا يفتون بالرأي والقياس، فقد أمروا أصحابهم بتدوين ما قالوه، فصارت عند أصحاب الائمة مدوّنات وأصول يستقون منها الاحكام، وقد سميت هذه الاصول بـ (الاصول الاربعمائة)، تمثلت بالكتب الاربعة الشيعية

____________

1 ـ لعلي بن أبي طالب عدة كتب منها: الصحيفة، الكتاب، الجامعة،.... وقد جمع أخبار صحيفة علي بن أبي طالب عن رسول الله الاستاذ فوزي عبدالمطلب في كتاب وطبع في حلب عن دارالسلام.

ولو أردت أن تنظر قسماً آخر من صحف أهل البيت، فراجع كتاب منع تدوين الحديث للمحاضر: 397 ـ 465.


الصفحة 48

التي أُخذت عن الاصول الاربعمائة.

فما هذه الاصول الاربعمائة إلاّ مدوّنات لاقوال الائمة الذين كانوا لا يقولون بالرأي، بل يتحدّثون بالنص عن رسول الله طبق الصحف والمدوّنات عندهم عن رسول الله.

وعليه فالاحاديث عند الشيعة الاماميّة هي أقرب إلى سنة رسول الله، لانّها لم تمرّ بمراحل متعدّدة متأثّرة بالظروف والحكومات، بل مرّت بمرحلة واحدة، وهي التدوين فقط، ولم يحكّم فيها الاجتهاد والرأي.

وأمّا الاحاديث عند أهل السنّة والجماعة فقد مرّت بمراحل.

1 ـ المنع.

2 ـ تشريع الرأي والاجتهاد المخالف للنصوص في كثير من الاحيان.

جمع موقوفات الصحابة مع مرفوعات الرسول في مدونات في عصر يغلب عليه العصبية والقبلية.

4 ـ تعميم ذلك للامصار وإجماع الامة عليها من بعد ذلك بمرور الازمان وتعاقب الحكومات.

وبهذا، فإنّ البحث عن منع تدوين الحديث لم يكن بحثاً علمياً مجرداً بقدر ما هو بيان لاثار قد انعكست على واقع المسلمين إلى هذا اليوم، وإنّ الاختلاف في الفقه بنظرنا يرجع إلى اخلاف آراء الصحابة وما شرّع جراء المنع، حتّى في الاصول كان بسبب الروايات المستقاة عند الطرفين.

وأنت حينما تعرف تاريخ السنّة المطهرة وملابساتها وما منيت به من تحريفات، تعرف كل شيء وتتجلى لك صورة الامر وبشكل آخر.

وصلّى الله على محمّد آله الطاهرين.